الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآيات (126- 127): {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقرير وجوبِ طاعة الله تعالى على أهل السموات والأرضِ ببيانِ أن جميعَ ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقاً ومُلكاً لا يخرُج عن مَلَكوته شيءٌ منها فيجازي كلاًّ بموجب أعمالِه خيراً أو شراً، وقيل: لبيان أن اتخاذَه عز وجل لإبراهيمَ عليه السلام خليلاً ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأنٍ من شؤونه كما هو دأبُ الآدميين فإن مدار خُلَّتِهم افتقارُ بعضِهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمتِه وتشريفِه عليه السلام، وقيل: لبيان أن الخُلة لا تخرجه عن رتبة العبوديةِ، وقيل: لبيان أن اصطفاءَه عليه السلام للخُلّة بمحض مشيئتِه تعالى أي له تعالى ما فيهما جميعاً يختار منهما ما يشاء لمن يشاء وقوله عز وجل: {وَكَانَ الله بِكُلّ شيء مُّحِيطاً} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله على الوجوه المذكورةِ فإن إحاطتَه تعالى علماً وقُدرةً بجميع الأشياءِ التي من جملتها ما فيهما من المكلفين وأعمالِهم مما يقرِّرُ ذلك أكملَ تقرير.{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النساء} أي في حقهن على الإطلاق كما ينبىء عنه الأحكامُ الآتية لا في حق ميراثِهن خاصة فإنه صلى الله عليه وسلم قد سُئل عن أحوال كثيرةٍ مما يتعلق بهن، فما بُيِّن حكمُه فيما سلف أحيل بيانُه على ما ورد في ذلك من الكتاب، وما لم يُبيَّن حُكمُه بعدُ بُيِّن هاهنا، وذلك قوله تعالى: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} بإسناد الإفتاءِ الذي هو بيانُ المُبهم وتوضيحُ المُشكلِ إليه تعالى وإلى ما تُليَ من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولِك: أغناني زيدٌ وعطاؤُه بعطف {مَا} على المبتدأ أو ضميرِه في الخبر لمكان الفصلِ بالمفعول والجارِّ والمجرور، وإيثارُ صيغة المضارعِ للإيذان باستمرار التلاوةِ ودوامِها و{فِى الكتاب} إما متعلقٌ بيُتلى أو بمحذوف وقع حالاً من المستكنّ فيه أي يتلى كائناً فيه ويجوز أن يكون ما يتلى عليكم مبتدأً وفي الكتاب خبرُه على أن المرادَ به اللوحُ المحفوظُ، والجملةُ معترضةٌ مسوقةٌ لبيان عِظَمِ شأن المتلوِّ عليهم وأن العدلَ في الحقوق المبنيّة فيه من عظائم الأمورِ التي يجب مراعاتُها والمحافظةُ عليها فيما يتلى حينئذ متناولٌ لما تُليَ وما سيتلى ويجوز أن يكون مجروراً على القسم المُنبىءِ عن تعظيم المقسَم به وتفخيمِه كأنه قيل: قل الله يُفتيكم فيهن وأُقسِم بما يتلى عليكم في الكتاب، فالمرادُ بقوله تعالى: {يُفْتِيكُمْ} بيانُه السابقُ واللاحقُ ولا مساغَ لعطفه على المجرور من فيهن لاختلاله لفظاً ومعنى، وقولُه تعالى: {فِى يتامى النساء} على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ متعلقٌ بيتلى أي ما يتلى عليكم في شأنهن، وعلى الأخيرين بدلٌ من فيهن، وهذه الإضافةُ بمعنى من لأنها إضافةُ الشيءِ إلى جنسه وقرئ {ييامى} بقلب همزةِ أيامى ياءً.{اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي ما فُرض لهن من الميراث وغيره {وَتَرْغَبُونَ} عطفٌ على الصلة عطفَ جملةٍ مُثبتةٍ على جملة منفية، وقيل: حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون، ولا ريب في أنه لا يظهر لتقييدِ عدمِ الإيتاءِ بذلك فائدةٌ إلا إذا أريد بما كُتب لهن صَداقُهن {أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي في أن تنكِحوهن لا لأجل التمتعِ بهن بل لأكل مالِهن أو في أن تنكوحهن بغير إكمالِ الصَّداقِ وذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها من أنها اليتيمةُ تكون في حِجْر وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويرد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ أو عن أن تنكِحوهن، وذلك ما روي عنها رضي الله عنها أنها يتيمةٌ يرغب وليُّها عن نكاحها ولا يُنكِحُها فيعضُلها طمعاً في ميراثها، وفي رواية عنها رضي الله عنها هو الرجلُ يكون عنده يتيمةٌ هو وليُّها ووارثُها وشريكُها في المال حتى في العِذْق فيرغب أن ينكِحَها ويكره أن يزوِّجَها رجلاً فيَشرُكَه في ماله بما شرَكَتْه فيعضُلها، فالمرادُ بما كُتب لهن على الوجه الأولِ والأخير ميراثُهن وبما يتلى في حقهن قولُه تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} وقولُه تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَ} ونحوُهما من النصوص الدالةِ على عدم التعرّضِ لأموالهم وعلى الوجه الثاني صَداقُهن وبما يتلى فيهن قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} الآية.{والمستضعفين مِنَ الولدان} عطفٌ على يتامى النساءِ وما يتلى في حقهم وقولِه تعالى: {يُوصِيكُمُ الله} الخ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورِّثونهم كما لا يورِّثون النساءَ، وإنما يورِّثون الرجالَ القوّامين بالأمور. رُوي أن عيينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أُخبرنا بأنك تعطي الابنةَ النصفَ والأختَ النصفَ وإنما كنا نورِّث من يشهدُ القِتالَ ويجوز الغنيمة، فقال عليه الصلاة والسلام: «كذلك أُمِرْتُ» {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} بالجر عطفٌ على ما قبله، وما يتلى في حقهم قولُه تعالى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} ونحوُ ذلك مما لا يكاد يحصُر هذا على تقدير كونِ {فِى يتامى النساء} متعلقاً بيتلى، وأما على تقدير كونِه بدلاً من فيهن فالوجهُ نصبُه عطفاً على موضع {فِيهِنَّ} أي يفتيكم أن تقوموا ويجوز نصبُه بإضمار فعلٍ، أي ويأمركم، وهو خطابٌ للولاة أو الأولياء والأوصياءِ {وَمَا تَفْعَلُواْ} في حقوق المذكورين {مّنْ خَيْرٍ} حسبما أُمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق، فيندرجُ فيه ما يتعلق بهم اندراجاً أولياً {فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} فيجازيكم بحسبه..تفسير الآية رقم (128): {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)}{وَإِنِ امرأة خافت} شروعٌ في بيان ما لم يُبيَّن فيما سلف من الأحكام أي إن توقعت امرأةٌ {مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} أي تجافياً عنها وترفّعاً عن صحبتها كراهةً لها ومنعاً لحقوقها {أَوْ إِعْرَاضاً} بأن يُقِلَّ محادثَتَها ومؤانستَها لما يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} حينئذ {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} أي في أن يصلحا بينهما بأن تحُطَّ عنه المَهرَ أو بعضَه أو القَسْمَ كما فعلت سَودةُ بنتُ زَمعةٍ حين كرِهت أن يفارِقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوهَبت يومَها لعائشة رضي الله عنها أو بأن تهَبَ له شيئاً تستميلُه، وقرئ {يَصّالحا} من يتصالحا و{يصَّلِحا} من يصطلحا و{يُصالِحا} من المفاعلة، وصُلحاً إما منصوبٌ بالفعل المذكورِ على كل تقديرٍ على أنه مصدرٌ منه بحذف الزوائدِ، وقد يُعبّر عنه باسم المصدرِ كأنه قيل: إصلاحاً أو تصَالُحاً أو اصطلاحاً حسبما قرئ الفعل أو بفعل مترتبٍ على المذكور أي فيُصلِح حالَهما صلحاً، وبينهما ظرفٌ للفعل أو حال من صُلحاً، والتعرُّضُ لنفي الجُناحِ عنهما مع أنه ليس من جنابها الأخذُ الذي هو المَظِنَّةُ للجُناح لبيان أن هذا الصلحَ ليس من قبيل الرَّشوةِ المحرمة للمعطي والآخذ.{والصلح خَيْرٌ} أي من الفُرقة أو من سوء العِشرةِ أو من الخصومة فاللامُ للعهد أو هو خيرٌ من الخيور فاللامُ للجنس والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله وكذا قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} أي جعلت حاضرةً له مطبوعةً عليه لا تنفك عنه أبداً، فلا المرأةُ تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجلُ يجود بحسن المعاشرةِ مع دمامتها فإن فيه تحقيقاً للصلح وتقريراً له بحثِّ كلَ منهما عليه لكنْ لا بالنظر إلى حال نفسِه فإن ذلك يستدعي التماديَ في المماسكة والشقاقِ بل بالنظر إلى حال صاحبِه فإن شحَّ نفسِ الرجلِ وعدمَ ميلِها عن حالتها الجِبِلِّية بغير استمالةٍ مما يحمِل المرأةَ على بذل بعض حقوقِها إليه لاستمالته وكذا شحُّ نفسِها بحقوقها مما يحمل الرجلَ على أن يقتنع من قِبَلها بشيء يسير ولا يُكلّفَها بذلَ الكثيرِ فيتحقق بذلك الصلح {وَإِن تُحْسِنُواْ} في العِشرة {وَتَتَّقُواْ} النشوزَ والإعراضَ مع تعاضُد الأسبابِ الداعيةِ إليهما وتصبِروا على ذلك مراعاةً لحقوق الصُّحبةِ ولم تَضْطَرُّوهن إلى بذل شيءٍ من حقوقهن {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي من الإحسان والتقوى أو بما تعملون جميعاً فيدخُل ذلك فيه دخولاً أولياً {خَبِيراً} فيجازيكم ويثبتُكم على ذلك البتةَ لاستحالة أن يُضيِّعَ أجرَ المحسنين. وفي خطاب الأزواجِ بطريق الالتفاتِ والتعبيرِ عن رعاية حقوقِهن بالإحسان ولفظِ التقوى المنبىءِ عن كون النشوزِ والإعراض مما يُتوقى منه وترتيبِ الوعدِ الكريمِ عليه من لطف الاستمالةِ والترغيب في حسن المعاملةِ ما لا يخفى. روي أنها نزلت في عَمرةَ بنتِ محمدِ بنِ مَسلمةَ وزوجِها سعدِ بنِ الربيع تزوّجها وهي شابةٌ فلما علاها الكِبَرُ تزوج شابةً وآثرها عليها وجفاها فأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وشكت إليه ذلك، وقيل: نزلت في أبي السائب، كانت له امرأةٌ قد كبِرَت وله منها أولادٌ فأراد أن يطلقَها ويتزوجَ غيرَها فقالت: لا تُطلِّقَني ودعني على أولادي فاقسِمْ لي من كل شهرين وإن شئت فلا تقسِمْ لي، فقال: إن كان يصلُح ذلك فهو أحبُّ إلي فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت..تفسير الآيات (129- 131): {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)}{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء} أي مُحال أن تقدِروا على أن تعدِلوا بينهن بحيث لا يقع ميلٌ ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشؤون البتةَ وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقسِمُ بين نسائِه فيعدِلُ ثم يقول: «اللهم هذا قَسْمي فيما أملِك فلا تؤاخِذْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ» وفي رواية «وأنت أعلم بما لا أملك» يعني فرطَ محبتِه لعائشة رضي الله عنها {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي على إقامة العدلِ وبالغتم في ذلك {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كلَّ الجَوْرِ واعدِلوا ما استطعتم فإن عجْزَكم عن حقيقة العدلِ إنما يصحح عدمَ تكليفِكم بها لا بما دونها من المراتب الداخلةِ تحت استطاعتِكم {فَتَذَرُوهَا} أي التي مِلْتم عنها كالمعلقة التي ليست ذاتَ بعلٍ أو مطلقة وقرئ {كالمسجونة} وفي الحديث: «مَنْ كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحدُ شِقَّيه مائلٌ» {وَإِن تُصْلِحُواْ} ما كنتم تُفسِدون من أمورهن {وَتَتَّقُواْ} الميلَ فيما يستقبل {فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً} يغفرُ لكم ما فرَط منكم من الميل {رَّحِيماً} يتفضل عليكم برحمته.{وَإِن يَتَفَرَّقَا} وقرئ {يتفارقا} أي وإن يفارقْ كلٌّ منهما صاحبَه بأن لم يتفِقْ بينهما وِفاقٌ بوجه ما من الصلح وغيرِه {يُغْنِ الله كُلاًّ} منهما أي يجعلْه مستغنياً عن الآخَر ويُكْفِه مُهمّاتِه {مّن سَعَتِهِ} من غناه وقُدرته، وفيه زجرٌ لهما عن المفارقة رُغماً لصاحبه {وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً} مقتدراً متْقِناً في أفعاله وأحكامِه، وقولُه تعالى: {وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} أي من الموجودات كائناً ما كان من الخلائق وأرزاقُهم وغيرُ ذلك، جملةٌ مستأنفةٌ منبّهةٌ على كمال سعتِه وعِظَم قدرتِه {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} أي أمرناهم في كتابهم وهم اليهودُ والنصارى ومَنْ قبلهم من الأمم، واللامُ في الكتاب للجنس، و{مِنْ} متعلقة بوصّينا أو بأوتوا {وإياكم} عطف على الموصول {أَنِ اتقوا الله} أي وصينا كلاًّ منكم ومنهم بأن اتقوا الله على أنّ أنْ مصدريةٌ حُذف منها الجارُّ ويجوز أن تكون مفسِّرةً، لأن التوصيةَ في معنى القولِ فقوله تعالى: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} حينئذ من تتمة القولِ المحكيِّ أي ولقد قلنا لهم ولكم: اتقوا الله وإن تكفروا إلى آخر الآية، وعلى تقدير كونِ أنْ مصدرية مبني الكلام وإرادة القول أي أمرناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا الآية، وقيل: هي جملةٌ مستأنفةٌ خوطب بها هذه الأمةُ، وأياً ما كان فالمترتبُ على كفرهم ليس مضمونَ قولِه تعالى: {فَإِنَّ الله} الآية، بل هو الأمرُ بعلمه كأنه قيل: وإن تكفروا فاعلَموا أن لله ما في السموات وما في الأرض من الخلائق قاطبةً مفتقرون إليه في الوجود وسائرِ النعمِ المتفرِّعةِ عليه لا يستغنون عن فيضه طرفةَ عينٍ فحقُّه أن يُطاع ولا يعصى ويتقى عقابُه ويرجى ثوابُه وقد قرر ذلك بقوله تعالى: {وَكَانَ الله غَنِيّاً} أي عن الخلق وعبادتِهم {حَمِيداً} محموداً في ذاته حمِدوه أو لم يحْمَدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم وإنما وصّاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته..تفسير الآيات (132- 134): {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}{وَللَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ للمخاطبين توطئةً لما بعده من الشرطية غيرُ داخلٍ تحت القول المحكيِّ أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقاً ومُلكاً يتصرف فيهم كيفما يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة.{وكفى بالله وَكِيلاً} في تدبير أمورِ الكلِّ وكلِّ الأمور فلابد من أن يُتوكلَ عليه لا على أحد سواه {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} أي يُفْنِكم ويستأصِلْكم بالمرة {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} أي ويوجِدْ دفعةً مكانكم قوماً آخرين من البشر أو خلقاً آخرين مكانَ الإنسِ، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أي إن يشأ إفناءَكم وإيجادَ آخرين يذهبْكم الخ، يعني أن إبقاءَكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلقِ مشيئتِه المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ بإفنائكم لا لعجزه سبحانه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً {وَكَانَ الله على ذلك} أي على إفنائكم بالمدة وإيجاد آخرين دفعة مكانكم {قَدِيراً} بليغَ القدرةِ فيه لاسيما في توسط الخطابِ بين الجزاءِ وما عُطف عليه من تشديد التهديد ما لا يخفى، وقيل: خطاب لمن عادى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من العرب، أي إن يشأ يُمِتْكم ويأتِ بأناس آخرين يوالونه فمعناه هو معنى قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم} ويروى أنها لما نزلت ضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمانَ وقال: «إنهم قومُ هذا يريد أبناءَ فارسَ» {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة} أي فعنده تعالى ثوابُهما له إن أراده فما له يطلُب أخسَّهما فليطلُبْهما كمن يقول: ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً أو لِيَطلُبْ أشرفَهما فإن من جاهد خالصاً لوجه الله تعالى لم تُخطِئْه الغنيمةُ وله في الآخرة ما هي في جنبه كَلاَ شيءٍ أي فعند الله ثوابُ الدارين فيعطي كلاًّ ما يريده كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية، {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} عالماً بجميع المسموعاتِ والمُبصَرات فيندرج فيها ما صدَر عنهم من الأقوال والأعمالِ المتعلقةِ بمراداتهم اندراجاً أولياً.
|