الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
ظَرْفٌ لِمَاضِي الزَّمَانِ، يُضَافُ لِلْجُمْلَتَيْنِ وَمَعَانِيهَا وَوُرُودُهُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} (الْأَنْفَالِ: 26) وَتَقُولُ: أَيَّدَكَ اللَّهُ إِذْ فَعَلْتَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (الْأَنْعَامِ: 27) فَـ " تَرَى " مُسْتَقْبَلٌ، " وَإِذْ " ظَرْفٌ لِلْمَاضِي، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ كَائِنٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، وَذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْ كَانَ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهِ سَابِقٌ، وَقَضَاءَهُ بِهِ نَافِذٌ، فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: " وَلَوْ تَرَى نَدَمَهُمْ وَخِزْيَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ وُقُوفِهِمْ عَلَى النَّارِ ". فَـ " إِذَا " ظَرْفٌ مَاضٍ، لَكِنْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَدَمِهِمُ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ فَقَدْ صَارَ وَقْتَ التَّوَقُّفِ مَاضِيًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا بَعْدَهُ، وَالَّذِي بَعْدَهُ هُوَ مَفْعُولُ " تَرَى ". وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ مَجِيئَهَا مَفْعُولًا بِهِ كَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} (الْأَنْفَالِ: 26) وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَجَعَلُوا الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا، وَ " إِذْ " ظَرْفٌ، عَامِلُهُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ، وَالتَّقْدِيرُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 231) إِذًا، وَاذْكُرُوا حَالَكُمْ. وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} (آلِ عِمْرَانَ: 55) قِيلَ: قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمَّا رَفَعَهُ إِلَيْهِ. وَتَكُونُ بِمَعْنَى حِينَ، كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (يُونُسَ: 61) أَيْ حِينَ تُفِيضُونَ فِيهِ. وَحَرْفَ تَعْلِيلٍ، نَحْوُ: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} (الزُّخْرُفِ: 39) {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} (الْأَحْقَافِ: 11). وَقِيلَ: تَأْتِي ظَرْفًا لِمَا يُسْتَقْبَلُ بِمَعْنَى " إِذَا "، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا سَبَقَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} (غَافِرٍ: 70- 71) وَأَنْكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ لِأَنَّ " إِذَا " لَا يَجِيءُ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ مَعَ النَّفْيِ، وَقَدْ تَجِيءُ بَعْدَ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (الْفَجْرِ: 4) لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فِيهِ. وَقِيلَ: تَجِيءُ زَائِدَةً نَحْوَ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} (الْبَقَرَةِ: 30) وَقِيلَ: هِيَ فِيهِ بِمَعْنَى " قَدْ ". وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى " أَنْ " حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ فِي " الرَّوْضِ "، عَنْ نَصِّ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ، قَالَ: وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 80). وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (الزُّخْرُفِ: 39) قَالَ: وَغَفَلَ الْفَارِسِيُّ عَمَّا فِي الْكِتَابِ مِنْ هَذَا، وَجَعَلَ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ الَّذِي بَعْدَ " لَنْ " عَامِلًا فِي الظَّرْفِ الْمَاضِي، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ: سَآتِيكَ الْيَوْمَ أَمْسِ. قَالَ: وَلَيْتَ شِعْرِي مَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الْأَحْقَافِ: 11) فَإِنْ جَوَّزَ وُقُوعَ الْفِعْلِ فِي الظَّرْفِ الْمَاضِي عَلَى أَصْلِهِ، فَكَيْفَ يَعْمَلُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِيمَا قَبْلَهَا لَا سِيَّمَا مَعَ السِّينِ وَهُوَ قَبِيحٌ أَنْ تَقُولَ: غَدًا سَآتِيكَ! فَكَيْفَ إِنْ قُلْتَ: غَدًا فَسَآتِيكَ! فَكَيْفَ إِنْ زِدْتَ عَلَى هَذَا وَقُلْتَ: أَمْسِ فَسَآتِيكَ، وَإِذْ عَلَى أَصْلِهِ بِمَعْنَى أَمْسِ
تَنْبِيهٌ: [وُقُوعُ إِذْ بَعْدَ وَاذْكُرْ] حَيْثُ وَقَعَتْ " إِذْ " بَعْدَ " وَاذْكُرْ "، فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الزَّمَانُ، لِغَرَابَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُنْظَرَ فِيهِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} (مَرْيَمَ: 16). وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} (مَرْيَمَ: 41- 42) وَنَظَائِرِهِ.
تَقَعُ فِي الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ، فَأَمَّا فِي الْخَبَرِ فَلَهَا فِيهِ مَعَانٍ: (الْأَوَّلُ) الشَّكُّ، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو. (وَالثَّانِي) الْإِبْهَامُ وَهُوَ إِخْفَاءُ الْأَمْرِ عَلَى السَّامِعِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى} (سَبَأٍ: 24). وَقَوْلِهِ: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} (يُونُسَ: 24) يُرِيدُ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا، وَأَخَذَ أَهْلُهَا الْأَمْنَ أَتَاهَا أَمْرُنَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. أَيْ فَجْأَةً فَهَذَا إِبْهَامٌ، لِأَنَّ الشَّكَّ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلِهِ: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصَّافَّاتِ: 147). فَإِنْ قُلْتَ: يَزِيدُونَ فِعْلٌ، وَلَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِـ " إِلَى "، فَإِنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ عَلَى الْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ: مَرَرْتُ بِقَائِمٍ وَيَقْعُدُ، عَلَى تَأْوِيلِ: قَائِمٍ وَقَاعِدٍ. قُلْتُ: " يَزِيدُونَ " خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَالتَّقْدِيرُ: " أَوْ هُمْ يَزِيدُونَ ". قَالَهُ ابْنُ جِنِّي فِي " الْمُحْتَسِبِ ". وَجَازَ عَطْفُ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ بِـ " أَوْ " لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُطْلَقِ الْجُمْلَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ تَكُونُ " أَوْ " هُنَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وَالزِّيَادَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَدَّرُوا فِي الْمُبْتَدَأِ ضَمِيرَ الْمِائَةِ أَلْفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ فَقَطْ، أَوْ مِائَةِ أَلْفٍ مَعَهَا زِيَادَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا لِلشَّكِّ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، أَيْ لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. (الثَّالِثُ): التَّنْوِيعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (الْبَقَرَةِ: 74) أَيْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ تَارَةً تَزْدَادُ قَسْوَةً، وَتَارَةً تُرَدُّ إِلَى قَسْوَتِهَا الْأُولَى، فَجِيءَ بِـ " أَوْ " لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ. (الرَّابِعُ) التَّفْصِيلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (الْبَقَرَةِ: 111) أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ نَصَارَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} (الْبَقَرَةِ: 135). (الْخَامِسُ) لِلْإِضْرَابِ كَـ " بَلْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (النَّحْلِ: 77) وَ {مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصَّافَّاتِ: 147) عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النَّجْمِ: 9) (السَّادِسُ) بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} (الْمُرْسَلَاتِ: 5- 6). {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44). {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه: 113). وَأَمَّا فِي الطَّلَبِ فَلَهَا مَعَانٍ (أَوْ) وَوُرُودُهَا فِي الطَّلَبِ: (الْأَوَّلُ) الْإِبَاحَةُ، نَحْوُ: تَعَلَّمْ فِقْهًا أَوْ نَحْوًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} (النُّورِ: 61) الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (الْبَقَرَةِ: 74) يَعْنِي إِنْ شُبِّهَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْحِجَارَةِ فَصَوَابٌ، أَوْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ فَصَوَابٌ. وَقَوْلُهُ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} (الْبَقَرَةِ: 17) {أَوْ كَصَيِّبٍ} (الْبَقَرَةِ: 19). وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّمْثِيلَ مُبَاحٌ فِي الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَبَّهْتُمُوهُمْ بِأَيِّ النَّوْعَيْنِ. قَوْلُهُ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) إِبَاحَةٌ لِإِيقَاعِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. (الثَّانِي) التَّخْيِيرُ، نَحْوُ: خُذْ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ ذَاكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} (الْأَنْعَامِ: 35) الْآيَةَ، فَتَقْدِيرُهُ فَافْعَلْ، كَأَنَّهُ خَيَّرَ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ، أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ فِيمَا أَصْلُهُ الْمَنْعُ، ثُمَّ يَرِدُ الْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَيَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَاحًا، وَيَطْلُبَ الْإِتْيَانَ بِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ بِـ " أَوْ " لِئَلَّا يُوهِمَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا هُوَ الْوَاجِبُ لَوْ ذُكِرَتِ الْوَاوُ، وَلِهَذَا مَثَّلَ النُّحَاةُ الْإِبَاحَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (الْمَائِدَةِ: 89) وَقَوْلِهِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (الْبَقَرَةِ: 196) لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا رِفْقًا بِالْمُكَلَّفِ، فَلَوْ أَتَى بِالْجَمْعِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ بَلْ يَكُونُ أَفْضَلَ. وَأَمَّا تَمْثِيلُ الْأُصُولِيِّينَ بِآيَتَيِ الْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ لِلتَّخْيِيرِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَحْظُورِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، وَالْآخَرَ يَبْقَى مَحْظُورًا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا عَدَا الْوَاجِبَ تَبَرُّعًا، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْإِبَاحَةِ جَازَ صَرْفُهُ إِلَى مَجْمُوعِهِمَا، وَهُوَ مَا كَانَ يَجُوزُ فِعْلُهُ، أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ أَوْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الْإِنْسَانِ: 24) فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ إِطَاعَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، بَلِ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِمَا مُفْرَدَيْنِ أَوَ مُجْتَمِعَيْنِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ " أَوْ " لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ طَاعَةِ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْوَصْفَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: اسْتَشْكَلَ قَوْمٌ وُقُوعَ " أَوْ " فِي النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَوِ انْتَهَى عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَمْتَثِلْ وَلَا يُعَدُّ مُمْتَثِلًا إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ عَنْهُمَا جَمِيعًا. فَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى " الْوَاوِ "، وَالْأَوْلَى أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ التَّعْيِينُ فِيهَا مِنَ الْقَرِينَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى قَبْلَ وُجُودِ النَّهْيِ: " تُطِيعُ آثِمًا أَوْ كَفُورًا "، أَيْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَإِذَا جَاءَ النَّهْيُ وَرَدَ عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْمَعْنَى، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَا تُطِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَيَجِيءُ التَّعْمِيمُ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ الدَّاخِلِ، وَهِيَ عَلَى بَابِهَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الِانْتِهَاءُ عَنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَنْتَهِيَ عَنْهُمَا بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ. قَالَ: فَهَذَا مَعْنًى دَقِيقٌ، يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ " أَوْ " فِي الْآيَةِ عَلَى بَابِهَا، وَأَنَّ التَّعْمِيمَ لَمْ يَجِئْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْمَضْمُومِ إِلَيْهَا. انْتَهَى. وَمِنْ هَذَا- وَإِنْ كَانَ خَبَرًا- قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (النِّسَاءِ: 11) لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَوْ وُجِدَا مَعًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي اللُّبَابِ: إِنِ اتَّصَلَتْ بِالنَّهْيِ وَجَبَ اجْتِنَابُ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الْإِنْسَانِ: 24) وَلَوْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا لَفُعِلَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدُهُمَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ " أَوْ " فِي النَّهْيِ نَقِيضِيَّةٌ، أَوْ فِي الْإِبَاحَةِ، فَقَوْلُكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ، إِذَنْ فِي مُجَالَسَتِهِمَا وَمُجَالَسَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، فَضِدُّهُ فِي النَّهْيِ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}، أَيْ: لَا تُطِعْ هَذَا وَلَا هَذَا، وَالْمَعْنَى لَا تُطِعْ أَحَدَهُمَا، وَمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَمِنْ هَهُنَا كَانَ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ جَاءَ بِالْوَاوِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لَأَوْهَمَ الْجَمْعَ. وَقِيلَ: " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ، لِأَنَّهُ لَوِ انْتَهَى عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَعُدْ مُمْتَثِلًا بِالِانْتِهَاءِ عَنْهُمَا جَمِيعًا. قَالَ الْخَطِيبِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ التَّعْمِيمُ فِيهَا مِنَ النَّهْيِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، لِأَنَّ الْمَعْنَى قَبْلَ وُجُودِ النَّهْيِ: تُطِيعُ آثِمًا أَوْ كَفُورًا، أَيْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَالتَّعْمِيمُ فِيهِمَا، فَإِذَا جَاءَ النَّهْيُ وَرَدَ عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا، فَالْمَعْنَى: لَا تُطِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَسَمَّى التَّعْمِيمَ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ، وَهِيَ عَلَى بَابِهَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الِانْتِهَاءُ عَنْ أَحَدِهِمَا، حَتَّى يَنْتَهِيَ عَنْهُمَا، بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَنْتَهِي عَنْ أَحَدِهِمَا، دُونَ الْآخَرِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي بَابِ الْفِدْيَةِ بِغَيْرِ النَّعَمِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهِ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (الْمَائِدَةِ: 33) لَيْسَ بِمُخَيَّرٍ فِيهِمَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا أَقُولُ. الثَّانِي: مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى عَدَمِ التَّشْرِيكِ أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى مُفْرَدَيْهَا بِالْإِفْرَادِ، بِخِلَافِ الْوَاوِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (النِّسَاءِ: 135) فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ وَلِهَذَا قَالَ: بِهِمَا وَلَوْ كَانَتْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لَقِيلَ بِهِ، وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا، وَمَعْنَى {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} إِنْ يَكُنِ الْخَصْمَانِ غَنِيَّيْنِ أَوْ فَقِيرَيْنِ، أَوْ مِنْهُمَا، أَيِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (النِّسَاءِ: 135) يُشِيرُ لِلْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِاثْنَيْنِ. وَقِيلَ: الْأَوْلَوِيَّةُ الْمَحْكُومُ بِهَا ثَابِتَةٌ لِلْمُفْرَدَيْنِ مَعًا، نَحْوُ: جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَرَأَيْتُهُمَا، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ الْمَعْلُومَيْنِ مِنْ وُجُوهِ الْكَلَامِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. وَيُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ وَغَيْرُهُ، وَلَوْ قِيلَ: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِ، لَمْ يَشْمَلْهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجِ الْمَخْلُوقُونَ عَنِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، صَارَ الْمَعْنَى: افْعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْلَى مِمَّنْ خَلَقَ، وَلَوْ قِيلَ: أَوْلَى بِهِ لَعَادَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الشَّهَادَةُ فَقَطْ.
تَرِدُ لِمَعَانٍ: الْأَوَّلُ: الشَّرْطِيَّةُ وَهُوَ الْكَثِيرُ، نَحْوُ: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (الْأَنْفَالِ: 29). {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} (الْأَنْفَالِ: 38). ثُمَّ الْأَصْلُ فِي عَدَمِ جَزْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} (الْمَائِدَةِ: 116) وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَازِمٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ قَوْلِهِ. وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ وُجُودُهُ إِذَا أُبْهِمَ زَمَانُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 34). وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ، نَحْوُ: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} (الزُّخْرُفِ: 81) وَمِنْ أَحْكَامِهَا " إِنِ " الْمَكْسُورَةُ الْخَفِيفَةُ أَنَّهَا لِلِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهَا تُخَلِّصُ الْفِعْلَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا كَقَوْلِكَ: إِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، وَمَعْنَاهُ: إِنْ تُكْرِمْنِي. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنْ أَكْرَمْتَنِي الْيَوْمَ فَقَدْ أَكْرَمْتُكَ أَمْسِ، وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} (يُوسُفَ: 26) فَقِيلَ: مَعْنَى إِنْ أَكْرَمْتَنِي الْيَوْمَ، يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، وَإِنْ ثَبَتَ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ، يَكُونُ سَبَبًا لِلْإِخْبَارِ بِذَلِكَ. قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَهِيَ عَكْسُ " لَوْ " فَإِنَّهَا لِلْمَاضِي، وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ. (مَسْأَلَةٌ) إِنْ دَخَلَتْ " إِنْ " عَلَى " لَمْ " يَكُنِ الْجَزْمُ بِلَمْ، لَا بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} (الْمَائِدَةِ: 73) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} (الْبَقَرَةِ: 24) وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى " لَا " كَانَ الْجَزْمُ بِهَا لَا بِـ " لَا "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي} (هُودٍ: 47) وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ " لَمْ " عَامِلٌ يَلْزَمُ مَعْمُولَهُ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٌ، وَإِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا مَعْمُولُ مَعْمُولِهَا، نَحْوُ: إِنْ زَيْدًا يَضْرِبْ أَضْرِبْهُ. وَتَدْخُلُ أَيْضًا عَلَى الْمَاضِي فَلَا تَعْمَلُ فِي لَفْظِهِ، وَلَا تُفَارِقُ الْعَمَلَ، وَأَمَّا " لَا " فَلَيْسَتْ عَامِلَةً فِي الْفِعْلِ فَأُضِيفَ الْعَمَلُ إِلَى " إِنْ ". (الثَّانِي): النَّافِيَةُ بِمَنْزِلَةِ " لَا "، وَتَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ إِنِ الْمَكْسُورَةُ الْخَفِيفَةُ مِنْ مَعَانِيهَا كَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} (الْآيَةَ: 29) بِدَلِيلِ " مَا " فِي الْجَاثِيَةِ: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} (الْآيَةَ: 24). وَقَوْلُهُ: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فَاطِرٍ: 23). {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} (الْمُلْكِ: 20). {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطَّارِقِ: 4). {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}. (الْمُجَادَلَةِ: 2) {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (مَرْيَمَ: 93). {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 11). {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (إِبْرَاهِيمَ: 10). وَعَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ نَحْوُ: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} (التَّوْبَةِ: 107) {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الْكَهْفِ: 5). {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} (النِّسَاءِ: 117). {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 52). {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (يس: 29). {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 93). وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ شَرْطَ النَّافِيَةِ مَجِيءُ إِلَّا فِي خَبَرِهَا كَهَذِهِ الْآيَاتِ، أَوْ لَمَّا الَّتِي بِمَعْنَاهَا كَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطَّارِقِ: 4) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ مَا كَانَ نَفْسٌ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ. {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (يس: 32). {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزُّخْرُفِ: 35). وَرُدَّ بِقوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} (الْأَنْبِيَاءِ: 111). {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ} (الْأَنْبِيَاءِ: 109). {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} (يُونُسَ: 68). {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 93). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النِّسَاءِ: 159) فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (فَاطِرٍ: 41) فَالْأُولَى شَرْطِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ نَافِيَةٌ، جَوَابٌ لِلْقَسَمِ الَّذِي أَذِنَتْ بِهِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأُولَى، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ وُجُوبًا. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (الْأَحْقَافِ: 26) فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الشَّجَرِيِّ: إِنْ نَافِيَةٌ، أَيْ فِيمَا مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ إِلَّا أَنَّ " إِنْ " أَحْسَنُ فِي اللَّفْظِ لِمَا فِي مُجَامَعَةِ مِثْلِهَا مِنَ التَّكْرَارِ الْمُسْتَبْشَعِ، وَمِثْلُهُ يُتَجَنَّبُ. قَالَا: وَيَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 6). وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا زَائِدَةٌ قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَفْخَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَإِنْ نَافِيَةٌ وَقَعَتْ مَكَانَ مَا، فَيَخْتَلِفُ اللَّفْظُ وَلَا تَتَّصِلُ مَا بِـ (مَا)، وَالْمَعْنَى لَقَدْ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْغِنَى مَا لَمْ نُعْطِكُمْ، وَنَالَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ هَذَا الْعِقَابُ، فَأَنْتُمْ أَحْرَى بِذَلِكَ إِذَا كَفَرْتُمْ. وَقِيلَ: (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيِ الَّذِي إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ طَغَيْتُمْ. وَقَالَ: وَهَذَا مُطَّرَحٌ فِي التَّأْوِيلِ. وَعَنْ قُطْرُبٍ أَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ. حَكَاهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ. وَيَحْتَمِلُ النَّكِرَةَ الْمَوْصُوفَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَنْكَرَ مَجِيءَ النَّافِيَةِ، وَقَالَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِنَّ (مَا) مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، مَا إِنْ تَدْعُونَ، مَا إِنْ أَدْرِي، وَنَظَائِرُهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ *** مَنَايَانَا وَدُولَةُ آخِرِينَا فَحُذِفَتْ (مَا) اخْتِصَارًا كَمَا حُذِفَ (لَا) فِي {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (يُوسُفَ: 85). (الثَّالِثُ): مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَتَعْمَلُ فِي اسْمِهَا وَخَبَرِهَا، وَيَلْزَمُ خَبَرُهَا اللَّامَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ (هُودٍ: 111). وَيَكْثُرُ إِهْمَالُهَا نَحْوُ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزُّخْرُفِ: 35) (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (يس: 32). {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطَّارِقِ: 4) فِي قِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ لَمَّا، أَيْ أَنَّهُ كُلُّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ. (الرَّابِعُ) لِلتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى (إِذْ) عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 139) قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِعُلُوِّهِمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 278). قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانَتْ لِلْخَبَرِ لَكَانَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَذَا: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} (الْبَقَرَةِ: 23) وَنَحْوَهُ مِمَّا الْفِعْلُ فِيهِ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ كَالْمَعْنَى مَعَ إِذَا. وَأَجَابُوا عَنْ دُخُولِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ لِنُكْتَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّهْيِيجِ نَحْوُ: إِنْ كُنْتَ وَلَدِي فَأَطْعِمْنِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الْفَتْحِ: 27) فَالِاسْتِثْنَاءُ مَعَ تَحَقُّقِ الدُّخُولِ تَأَدُّبًا بِأَدَبِ اللَّهِ فِي الْمَشِيئَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الدَّاخِلِينَ، لَا مِنَ الرُّؤْيَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَتَصْدِيقِهَا سَنَةٌ، وَمَاتَ بَيْنَهُمَا خَلْقٌ كَثِيرٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (الْخَامِسُ): بِمَعْنَى (لَقَدْ) فِي قَوْلِهِ: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} (يُونُسَ: 29) أَيْ لَقَدْ كُنَّا. {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (الْإِسْرَاءِ: 108). وَ{تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} (الصَّافَّاتِ: 56). {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الشُّعَرَاءِ: 97)
فَائِدَةٌ: [عَنِ ابْنِ جِنِّي فِي أَنَّ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّكْثِيرِ] ادَّعَى ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ " الْقَدْ " أَنَّ " (إِنِ) " الشَّرْطِيَّةَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّكْثِيرِ لِمَا كَانَ فِي هَذَا الشِّيَاعُ وَالْعُمُومُ؛ لِأَنَّهُ شَائِعٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ دُخُولُهَا عَلَى أَحَدِ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي النَّفْيِ الْعَامِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) (التَّوْبَةِ: 6) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَاحِدٍ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ " أَحَدٌ " الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ. قَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " أَحَدٌ " هُنَا لَيْسَتِ الَّتِي لِلْعُمُومِ، بَلْ بِمَنْزِلَةِ " أَحَدٍ " مِنْ " أَحَدٍ وَعِشْرِينَ " وَنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَهُ مَعْنَى الْعُمُومِ، لِأَجْلِ " إِنْ " كَمَا فِي قَوْلِهِ: (وَإِنِ امْرَأَةٌ) (النِّسَاءِ: 128) (إِنِ امْرُؤٌ) (النِّسَاءِ: 178)
تَنْبِيهٌ: [وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ " إِنْ " بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ وَشَوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ] قِيلَ: قَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ " إِنْ " بِصِيغَةِ الشَّرْطِ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (النُّورِ: 33) وَقَوْلِهِ: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (النَّحْلِ: 114) وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 283) وَقَوْلِهِ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (النِّسَاءِ: 101) وَقَوْلِهِ: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (الطَّلَاقِ: 4). وَقَدْ يُقَالُ: أَمَّا الْأُولَى فَيَمْتَنِعُ النَّهْيُ عَنْ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ فَإِنَّهُنَّ إِذَا لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ، يُرِدْنَ الْبِغَاءَ، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْمُرَادِ مُمْتَنِعٌ. وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى " إِذَا " لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِكْرَاهُهُنَّ عَلَى الزِّنَا، إِنْ لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ، أَوْ هُوَ شَرْطٌ مُقْحَمٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْإِكْرَاهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُنَّ لَا يُكْرِهْنَهُنَّ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحْصِينِ، وَفَائِدَةُ إِيجَابِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ، فَالْمَعْنَى: إِنْ أَرَدْنَ الْعِفَّةَ فَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِإِرَادَةِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهُوَ يُشْعِرُ بِالْإِتْمَامِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِتْمَامُ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ. وَأَمَّا الْبَوَاقِي فَظَاهِرُ الشَّرْطِ مُمْتَنِعٌ فِيهِ، بِدَلِيلِ التَّعَجُّبِ الْمَذْكُورِ، لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مُخَالَفَةَ الظَّاهِرِ لِعَارِضٍ.
تَرِدُ لِمَعَانٍ: الْأَوَّلُ: حَرْفًا مَصْدَرِيًّا نَاصِبًا لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، " أَنْ " الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةُ النُّونِ وَتَقَعُ مَعَهُ فِي مَوْقِعِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْفَاعِلِ، وَالْمَفْعُولِ، وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. فَالْمُبْتَدَأُ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ نَحْوُ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 184) {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (النِّسَاءِ: 25) {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} (النُّورِ: 60) {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (الْبَقَرَةِ: 237). وَالْفَاعِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا} (التَّوْبَةِ: 120) {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا} (يُونُسَ: 2). {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا}: (الْأَعْرَافِ: 2) فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ " جَوَابَ ". وَتَقَعُ مَعَهُ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ بِهِ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، نَحْوُ: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} (يُونُسَ: 37). {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} (الْمَائِدَةِ: 52). {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (الْكَهْفِ: 79) {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ} (الزُّمَرِ: 12). وَقَوْلِهِ: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا} (الْأَنْعَامِ: 35). {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (النِّسَاءِ: 28). {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ} (نُوحٍ: 1) مَعْنَاهُ (بِأَنْ أَنْذِرْ)، فَلَمَّا حُذِفَتِ الْبَاءُ تَعَدَّى الْفِعْلُ فَنُصِبَ. وَمِنْهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (الْمَائِدَةِ: 117) نُصِبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (الْمَائِدَةِ: 117). وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 65) {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} (الْأَعْرَافِ: 129) أَيْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِكَ. وَإِنَّمَا لَمْ يُنْصَبْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا} (يُونُسَ: 2) وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى: لِوَحْيِنَا لِأَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْإِعْرَابِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا أَنْ تَعْمَلَ فِيهِ الْعَوَامِلُ. وَقَدْ يَعْرِضُ لِـ " أَنْ " هَذِهِ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا} (الْعَنْكَبُوتِ: 1- 2) أَيْ بِأَنْ يَقُولُوا كَمَا قُدِّرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 25) أَيْ بِأَنَّ لَهُمْ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَنَفَاهَا الْخَلِيلُ عَلَى أَصْلِ الْجَرِّ. وَتَقَعُ بَعْدَ عَسَى فَتَكُونُ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ، إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، نَحْوُ: عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ. وَمِثْلُهُ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 8) وَتَكُونُ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ إِنْ كَانَتْ تَامَّةً كَقَوْلِكَ: عَسَى أَنْ يَنْطَلِقَ زَيْدٌ، وَمِثْلُهُ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} (الْبَقَرَةِ: 216). الثَّانِي: مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَتَقَعُ بَعْدَ فِعْلِ الْيَقِينِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، أَنْ " الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةُ النُّونِ وَيَكُونُ اسْمُهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَتَقَعُ بَعْدَهَا الْجُمْلَةُ خَبَرًا عَنْهَا، نَحْوُ: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ} (طه: 89). {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (الْمُزَّمِّلِ: 20) {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (الْمَائِدَةِ: 71). {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ} (الْأَعْرَافِ: 185) {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا} (الْجِنِّ: 16). وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (يُونُسَ: 10). وَجَعَلَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ مِنْهُ: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (الصَّافَّاتِ: 104) أَيْ أَنَّهُ يَا إِبْرَاهِيمُ. الثَّالِثُ: مُفَسِّرَةً بِمَنْزِلَةِ أَيِ الَّتِي لِتَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا، بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَنْ " الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةُ النُّونِ: تَمَامِ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْجُمْلَةِ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِمَا بَعْدَهَا، وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي تُفَسِّرُهُ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (الصَّافَّاتِ: 104) {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (الْمُؤْمِنُونَ: 27) وَ{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} (الْبَقَرَةِ: 125). قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: تَكُونُ هَذِهِ فِي الْأَمْرِ خَاصَّةً وَإِنَّمَا شَرْطُ مَجِيئِهَا بَعْدَ كَلَامٍ تَامٍّ، لِأَنَّهَا تَفْسِيرٌ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا حَرْفٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَعْنَى. وَخَرَجَ بِالْأَوَّلِ: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (يُونُسَ: 10) لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَتِمَّ فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا مُبْتَدَأٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَاصِبَةً، لِوُقُوعِ الِاسْمِ بَعْدَهَا بِمُقْتَضَى أَنَّهَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} (ص: 6) فَقِيلَ: إِنَّهَا مُفَسِّرَةٌ، لِأَنَّ الِانْطِلَاقَ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: يُرِيدُونَ أَنَّهُمُ انْطَلَقُوا فِي الْكَلَامِ بِهَذَا، وَهُوَ امْشُوا أَيِ أَكْثِرُوا يُقَالُ: أَمَشَى الرَّجُلُ وَمَشَى إِذَا كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ، فَهُوَ لَا يُرِيدُ انْطَلِقُوا بِالْمَشْيِ الَّذِي هُوَ انْتِقَالٌ، إِنَّمَا يُرِيدُ قَالُوا هَذَا. وَقِيلَ: عِبَارَةٌ عَنِ الْأَخْذِ فِي الْقَوْلِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ صَرِيحِهِ، وَ " أَنْ " مُفَسِّرَةً وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةً. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَاءَتْ بَعْدَ صَرِيحِ الْقَوْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (الْمَائِدَةِ: 117). (قُلْنَا): لَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَقَالَ الصَّفَّارُ: لَا تُتَصَوَّرُ الْمَصْدَرِيَّةُ هُنَا بِمَعْنَى إِلَّا عِبَادَةَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَقَعُ بَعْدَهُ الْمُفْرَدُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقُولُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَقُولِ نَحْوُ: قُلْتُ خَبَرًا وَشِعْرًا، لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْكَلَامِ، أَوْ يَقُولُ: قُلْتُ زَيْدًا، أَيْ هَذَا اللَّفْظَ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ، فَثَبَتَ أَنَّهَا تَفْسِيرِيَّةٌ أَيِ اعْبُدُوا اللَّهَ. وَقَالَ السِّيرَافِيُّ: لَيْسَتْ " أَنْ " تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ، بَلْ لِلْأَمْرِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَلَوْ كَانَ " مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا قُلْتَ لِي أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ " لَمْ يَجُزْ لِذِكْرِ الْقَوْلِ. الرَّابِعُ: زَائِدَةً وَتَكُونُ بَعْدَ " لَمَّا " التَّوْقِيتِيَّةِ، أَنْ " الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةُ النُّونِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} (الْآيَةَ: 33) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} (الْآيَةَ: 77) فَجَاءَ فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} (يُوسُفَ: 96) فَجِيءَ بِـ " أَنْ " وَلَمْ يَأْتِ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ الْحَذْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَشِيرِ إِلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ طُولِ الْحُزْنِ وَتَبَاعُدِ الْمُدَّةِ، نَاسَبَ ذَلِكَ زِيَادَةُ " أَنْ " لِمَا فِي مُقْتَضَى وَصْفِهَا مِنَ التَّرَاخِي. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّهَا قَدْ تَنْصِبُ الْفِعْلَ، وَهِيَ مَزِيدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 246) {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا} (الْحَدِيدِ: 10) وَ " أَنْ " فِي الْآيَتَيْنِ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} (الْمَائِدَةِ: 84). الْخَامِسُ: شَرْطِيَّةً فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ " أَنْ " الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةُ النُّونِ كَقَوْلِهِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا} (الْبَقَرَةِ: 282) قَالُوا: وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ. السَّادِسُ: نَافِيَةً بِمَعْنَى " لَا " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 73) أَيْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ أَنَّ " يُؤْتَى " مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 73) وَاللَّامُ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ " يُؤْتَى " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ إِنَّ الْهُدَى أَنْ يُؤْتَى. السَّابِعُ: التَّعْلِيلُ بِمَنْزِلَةِ لِئَلَّا أَنْ " الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةُ النُّونِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (النِّسَاءِ: 176). أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا. وَكَذَا قَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} (الْأَنْعَامِ: 165) وَقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى} (الزُّمَرِ: 56). الثَّامِنُ: بِمَعْنَى " إِذْ " مَعَ الْمَاضِي " أَنْ " الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةُ النُّونِ كَقَوْلِهِ: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ} (ق: 2). وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى " لِأَنْ جَاءَهُمْ "، أَيْ مِنْ أَجْلِهِ. قِيلَ: وَمَعَ الْمُضَارِعِ، كَقَوْلِهِ: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} (الْمُمْتَحِنَةِ: 1) أَيْ إِذَا آمَنْتُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَقَعَ " أَنْ " مِثْلَ " مَا " فِي نِيَابَتِهَا عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} (الْبَقَرَةِ: 285) وَقَوْلَهُ: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (النِّسَاءِ: 92). وَرُدَّ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَهَا لِلتَّعْلِيلِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَائِقٌ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ " لِأَنْ آتَاهُ " وَ " لِئَلَّا يَصَّدَّقُوا "
لَهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 1). وَلِلتَّعْلِيلِ أَثْبَتَهُ ابْنُ جِنِّي مِنَ النُّحَاةِ، وَكَذَا أَهْلُ الْبَيَانِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي نَوْعِ التَّعْلِيلِ مِنْ قِسْمِ التَّأْكِيدِ. وَبِمَعْنَى " نَعَمْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (طه: 63) فِيمَنْ شَدَّدَ النُّونَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: عَرَضْتُ هَذَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَرَضِيَاهُ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: كَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا بَعْدَ التَّنَازُعِ عَلَى قَذْفِ النَّبِيِّينَ بِالسِّحْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا! وَعِبَارَةُ غَيْرِهِ هِيَ بِمَعْنَى " أَجَلْ "، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ سُؤَالٌ عَنْ سِحْرِهِمْ فَقَدْ تَقَدَّمَ: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ} (طه: 57) فَتَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَصْرُوفَةً إِلَى تَصْدِيقِ أَلْسِنَتِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنَ السِّحْرِ. وَاسْتَضْعَفَهُ الْفَارِسِيُّ بِدُخُولِ اللَّامِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ. فَإِنْ قُدِّرَتْ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا أَيْ فَهُمَا سَاحِرَانِ فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَلِيقُ بِهِ الْحَذْفُ. وَقِيلَ: دَخَلَتِ اللَّامُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، أَوْ لِمَا كَانَتْ تَدْخُلُ مَعَهَا فِي الْخَبَرِيَّةِ. وَقِيلَ: جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ مُطْلَقًا.
تَجِيءُ لِلتَّأْكِيدِ كَالْمَكْسُورَةِ، وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّكَ لَوْ صَرَّحْتَ بِالْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا لَمْ تُفِدْ تَوْكِيدًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا عُلِمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ " أَنَّ وَالْفِعْلِ وَالْمَصْدَرِ ". وَقَالَ فِي الْمُفَصَّلِ: " إِنَّ " وَ " أَنَّ " تُؤَكِّدَانِ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ الْمَكْسُورَةَ، الْجُمْلَةُ مَعَهَا عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِفَائِدَتِهَا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لِأَنَّ وَضْعَ " إِنَّ " تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِمَعْنَاهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِالْفَائِدَةِ بَعْدَ دُخُولِهَا، وَأَمَّا الْمَفْتُوحَةُ فَوَضْعُهَا وَضْعُ الْمَوْصُولَاتِ، فِي أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعَهَا كَالْجُمْلَةِ مَعَ الْمَوْصُولِ، فَلِذَلِكَ صَارَتْ مَعَ جُمْلَتِهَا فِي حُكْمِ الْخَبَرِ، فَاحْتَاجَتْ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ لِيَسْتَقِلَّ مَعَهَا بِالْكَلَامِ، فَتَقُولُ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَتَسْكُتُ. وَتَقُولُ: أَعْجَبَنِي أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا الْجُزْءِ الَّذِي مَعَهَا، لِكَوْنِهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ الْوَاحِدِ، إِذْ مَعْنَاهُ أَعْجَبَنِي قِيَامُ زَيْدٍ، وَلَا يَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَةِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ جُزْءٌ آخَرُ، فَكَذَلِكَ الْمَفْتُوحَةُ مَعَ جُمْلَتِهَا، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ فَاعِلَةً وَمَفْعُولَةً وَمُضَافًا إِلَيْهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَعُ فِيهِ الْمُفْرَدَاتُ. وَمِنْ وُجُوهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا تُصَدَّرُ بِالْمَفْتُوحَةِ الْجُمْلَةُ كَمَا تُصَدَّرُ بِالْمَكْسُورَةِ لِأَنَّهَا لَوْ صُدِّرَتْ لَوَقَعَتْ مُبْتَدَأً، وَالْمُبْتَدَأُ مُعَرَّضٌ لِدُخُولِ إِنَّ فَيُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِهِمَا. وَلِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى " لَعَلَّ " كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} (الْأَنْعَامِ: 109) وَتِلْكَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، فَقَصَدُوا إِلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مُخَالِفَةً لِتِلْكَ فِي الْوَضْعِ. يُقْصَدُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَيْ لَعَلَّهَا.
لِقَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، أَوِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، الْمُفْرَدَاتُ مِنَ الْأَدَوَاتِ وَهِيَ لِلْحَصْرِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ كَالنَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ. وَفَرَّقَ الْبَيَانِيُّونَ بَيْنَهُمَا فَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ إِنَّمَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمُخَاطَبُ وَلَا يُنْكِرُهُ، كَقَوْلِكَ: إِنَّمَا هُوَ أَخُوكَ، وَإِنَّمَا هُوَ صَاحِبُكَ الْقَدِيمُ، لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَيُقِرُّ بِهِ. وَمَا يُسْتَعْمَلُ لَهُ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْعَكْسِ، فَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُ وَيُنْكِرُهُ نَحْوُ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 62). ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُنْزَلُ الْمَعْلُومُ مَنْزِلَةَ الْمَجْهُولِ لِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ فَيُسْتَعْمَلُ لَهُ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ نَحْوُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 144) الْآيَةَ وَنَحْوُ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (إِبْرَاهِيمَ: 10) وَالرُّسُلُ مَا كَانُوا عَلَى دَفْعِ الْبَشَرِيَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَادِّعَاءُ الْمَلَائِكِيَّةِ، لَكِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا الْمَلَائِكَةَ، وَجَعَلُوا أَنَّهُمْ بِادِّعَائِهِمُ النُّبُوَّةَ يَنْفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْبَشَرِيَّةَ، فَأُخْرِجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ مَا يَعْتَقِدُونَ، وَأُخْرِجَ الْجَوَابُ أَيْضًا مَخْرَجَ مَا قَالُوا حِكَايَةً لِقَوْلِهِمْ، كَمَا يَحْكِي الْمُجَادِلُ كَلَامَ خَصْمِهِ، ثُمَّ يَكُرُّ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّنَا بَشَرٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ مِنِ اخْتِصَاصِ الْمَلَائِكَةِ بِالرِّسَالَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ. وَقَدْ يُنَزَّلُ الْمَجْهُولُ مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ لِادِّعَاءِ الْمُتَكَلِّمِ ظُهُورَهُ، فَيُسْتَعْمَلُ لَهُ " إِنَّمَا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 11) فَإِنَّ كَوْنَهُمْ مُصْلِحِينَ مُنْتَفٍ فَهُوَ مَجْهُولٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ بَيْنَهُمْ صَلَاحٌ، فَقَدْ نَسَبُوا الْإِصْلَاحَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ كَذَلِكَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مُؤَكَّدًا مِنْ وُجُوهٍ.
وَهِيَ مُقَابِلَةٌ لِـ " مِنْ "، ثُمَّ لَا يَخْلُوا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا، أَوْ غَيْرُ دَاخِلٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا أَوْ غَيْرُ دَاخِلٍ، فَيُصَارُ إِلَيْهِ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي دُخُولِ مَا بَعْدَهَا فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا عَلَى مَذَاهِبَ. (أَحَدُهَا): لَا تَدْخُلُ إِلَّا مَجَازًا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الشَّيْءِ وَنِهَايَتِهِ الَّتِي هِيَ حَدُّهُ، وَمَا بَعْدَ الْحَدِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (الْبَقَرَةِ: 187). (الثَّانِي): عَكْسُهُ أَيْ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا مَجَازًا، بِدَلِيلِ آيَةِ الْوُضُوءِ. (وَالثَّالِثُ): أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ فِيهِمَا لِوُجُودِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ. (وَالرَّابِعُ): إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا أَوْ جُزْءًا كَالْمَرَافِقِ، دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ فَقَدْ يَدْخُلُ نَحْوُ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (الْمَائِدَةِ: 6) وَقَدْ لَا يَدْخُلُ نَحْوُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (الْبَقَرَةِ: 187). وَقِيلَ فِي آيَةِ الْمَرَافِقِ: إِنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمِرْفَقَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَّكِئُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي رَأْسِ الْعَضُدِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمِفْصَلُ وَفَرِيقُهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مِفْصَلُ الذِّرَاعِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْغَسْلِ أَكْثَرُ مِنْهُ. وَقِيلَ: " إِلَى " تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَلَا يَنْبَغِي وُجُوبُ غَسْلِ الْمِرْفَقِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ، وَلَا يَنْفِيهِ التَّحْدِيدُ، كَقَوْلِكَ: سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ فَلَا يَقْتَضِي دُخُولَهَا وَلَا يَنْفِيهِ، كَذَلِكَ الْمَرَافِقُ إِلَّا أَنَّ غَسْلَهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ أَنَّ " إِلَى " حَرْفٌ مُشْتَرَكٌ، يَكُونُ لِلْغَايَةِ وَالْمَعِيَّةِ، وَالْيَدُ تُطْلَقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: عَلَى الْكَفَّيْنِ فَقَطْ، وَعَلَى الْكَفِّ وَالذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ، فَمَنْ جَعَلَ " إِلَى " بِمَعْنَى " مَعَ "، وَفَهِمَ مِنَ الْيَدِ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ، أَوْجَبَ دُخُولَهُ فِي الْغَسْلِ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ " إِلَى " الْغَايَةَ، وَمِنَ الْيَدِ مَا دُونَ الْمِرْفَقِ لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الْغَسْلِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَيَلْزَمُ مَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى " مَعَ " أَنْ يُوجِبَ غَسْلَهَا إِلَى الْمَنْكِبِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ يَدًا. وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 52). {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هُودٍ: 52). {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (النِّسَاءِ: 2). {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (الْمَائِدَةِ: 6). {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 11). وَقِيلَ: تَرْجِعُ إِلَى الِانْتِهَاءِ، وَالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ: مَنْ يُضِيفُ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ، وَمَوْضِعُهَا حَالٌ أَيْ مَنْ أَنْصَارِي مُضَافًا إِلَى اللَّهِ. وَالْمَعْنَى فِي الْأُخْرَى: وَلَا تُضِيفُوا أَمْوَالَكُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَكُنِّيَ عَنْهُ بِالْأَكْلِ كَمَا قَالَ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (الْبَقَرَةِ: 188) أَيْ لَا تَأْخُذُوا. وَقَدْ تَأْتِي لِلتَّبْيِينِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَهِيَ الْمُعَلَّقَةُ فِي تَعَجُّبٍ أَوْ تَفْضِيلٍ بِحُبٍّ أَوْ بُغْضٍ مُبَيِّنَةً لِفَاعِلِيَّةِ مَصْحُوبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} (يُوسُفَ: 33). وَلِمُوَافَقَةِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} (النَّمْلِ: 33) وَقِيلَ: لِلِانْتِهَاءِ وَأَصْلُهُ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ. وَكَقَوْلِهِ: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (يُونُسَ: 25) وَمُوَافَقَةِ " فِي " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (النَّازِعَاتِ: 18) وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَلْ أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَزَائِدَةً كَقِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوَى إِلَيْهِمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 37) بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَقِيلَ: ضَمَّنَ " تَهْوَى " مَعْنَى " تَمِيلُ ".
تَنْبِيهٌ: [فِي أَنَّ " إِلَى " قَدْ تُسْتَعْمَلُ اسْمًا] مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ " إِلَى " قَدْ تُسْتَعْمَلُ اسْمًا، الْمُفْرَدَاتُ مِنَ الْأَدَوَاتِ فَيُقَالُ: انْصَرَفْتُ مِنْ إِلَيْكَ كَمَا يُقَالُ: غَدَوْتُ مِنْ عَلَيْكَ. حَكَاهُ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي شَرْحِ أَبْيَاتِ الْإِيضَاحِ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَلَمْ يَقِفِ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَلَى هَذَا فَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مَرْيَمَ: 25) وَقَوْلِهِ: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} (الْقَصَصِ: 32) " إِلَى " حَرْفُ جَرٍّ بِالْإِجْمَاعِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهُزِّي. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ، أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ. وَقَدْ يَرْفَعُ الْمُتَّصِلَ وَهُمَا لِمَدْلُولٍ وَاحِدٍ، فَلَا تَقُولُ: ضَرَبْتَنِي وَلَا ضَرَبْتُكَ إِلَّا فِي بَابِ ظَنَّ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عِنْدَهُمْ بِالْحَرْفِ كَالْمَنْصُوبِ الْمُسْتَقِلِّ، فَلَا تَقُولُ: هَزَزْتَ إِلَيَّ وَلَا هَزَزْتُ إِلَيْكَ.
تَأْتِي لِلِاسْتِفْتَاحِ وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ قَلَّ وُقُوعُ الْجُمَلِ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، نَحْوُ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 12). {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (فُصِّلَتْ: 54). {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هُودٍ: 18). {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} (هُودٍ: 68). {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} (هُودٍ: 8). {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} (هُودٍ: 5). وَتَأْتِي مُرَكَّبَةً مِنْ كَلِمَتَيْنِ: هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَ تَحْقِيقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 11). وَقَوْلِهِ: {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} (الذَّارِيَاتِ: 27) وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَّقِينَ وَلَيْسُوا بِآكِلِينَ. وَلِلْعَرْضِ وَهُوَ طَلَبٌ بِلِينٍ، نَحْوُ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النُّورِ: 22) {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 13)
حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُرَكَّبَةٌ مِنْ " أَنَّ " النَّاصِبَةِ وَلَا النَّافِيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} (النَّمْلِ: 31) {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} (النَّمْلِ: 25). ثُمَّ قِيلَ: الْمُشَدَّدَةُ أَصْلٌ وَالْمُخَفَّفَةُ فَرْعٌ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ. وَقِيلَ: الْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ، وَبِالْعَكْسِ، حَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيُّ فِي حَاشِيَةِ سِيبَوَيْهِ.
تَرِدُ لِمَعَانٍ: الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءُ وَيَنْقَسِمُ إِلَى مُتَّصِلٍ، وَهُوَ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَإِلَى مُنْقَطِعٍ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَتُقَدَّرُ بِـ " لَكِنْ " كَقَوْلِهِ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} (الْغَاشِيَةِ: 22- 23). وَقَوْلِهِ: {قُلْ مَا أَسَأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ} (الْفُرْقَانِ: 57). وَقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (الْآيَةَ: 25) فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ. وَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} (الْآيَةَ: 23) فِي آخِرِ الْغَاشِيَةِ. وَكَذَلِكَ: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الْجِنِّ: 27) وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} دَلِيلُ انْقِطَاعِهِ، وَلَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: رَسُولٍ. وَقَوْلِهِ: {إِلَّا تَذْكِرَهً لِمَنْ يَخْشَى} (طه: 3) وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ {تَذْكِرَةً} بَدَلًا مِنْ {لِتَشْقَى} (طه: 2) وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِأَنْزَلْنَا تَقْدِيرُهُ: مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا تَذْكِرَةً. كَقَوْلِكَ: مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ إِلَّا هَاتِيكَ إِلَّا إِكْرَامًا لَكَ وَقَوْلِهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (اللَّيْلِ: 19- 20) فَابْتِغَاءُ وَجْهِ رَبِّهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ الَّتِي تُجْزَى. وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الْحَجِّ: 40). فَقَوْلُهُمْ: {رَبُّنَا اللَّهُ} لَيْسَ بِحَقٍّ يُوجِبُ إِخْرَاجَهُمْ. وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (النِّسَاءِ: 95) أَيْ لَكِنْ أُولِي الضَّرَرِ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي قُعُودِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ الْقَاعِدَ عَنْ ضَرَرٍ- وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةُ الْجِهَادِ- لَيْسَ مُسْتَوِيًا فِي الْأَجْرِ مَعَ الْمُجَاهِدِ، لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ، وَالْمُجَاهِدُ يَعْمَلُ بِبَدَنِهِ وَقَلْبِهِ، وَالْقَاعِدُ بِقَلْبِهِ. وَقَوْلِهِ: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} (يُونُسَ: 98) إِذْ لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا لَكَانَ الْمَعْنَى: فَهَلْ آمَنَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فَلَا يُؤْمِنُونَ! فَيَكُونُ طَلَبُ الْإِيمَانِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِ يُونُسَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطْلُبُ مِنْ كُلِّ شَخْصٍ الْإِيمَانَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: لَكِنْ قَوْمَ يُونُسَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُمْكِنُ اتِّصَالُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلَوْلَا} فِي الْمَعْنَى نَفْيٌ، فَإِنَّ الْخِطَابَ لَمَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ نَفْيًا، كَانَ مَا بَعْدَ " إِلَّا " يُوجَبُ إِنْكَارُهُ. قَالَ: مَا مِنْ قَرْيَةٍ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ بِأَنْ جَعَلَ " إِلَّا " مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا لُغَةً فَصِيحَةً، وَإِنْ كَانَ جَعْلُهَا مُتَّصِلَةً أَكْثَرَ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى لَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (هُودٍ: 43) فَإِنَّ (مَنْ رَحِمَ) بِمَعْنَى الْمَرْحُومِ، لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَاصِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْصُومٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى لَكِنْ. فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ اتِّصَالُهُ عَلَى أَنَّ {مَنْ رَحِمَ} بِمَعْنَى الرَّاحِمِ أَيِ الَّذِي يَرْحَمُ فَيَكُونُ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ. قِيلَ حَمْلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى أَعْنِي قِرَاءَةَ {رُحِمَ} بِضَمِّ الرَّاءِ حَتَّى يَتَّفِقَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ. (الثَّانِي) بِمَعْنَى " بَلْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {طَهَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً} (طه: 1إِلَى3) أَيْ بَلْ تَذْكِرَةً. (الثَّالِثُ) عَاطِفَةً بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي التَّشْرِيكِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} (الْبَقَرَةِ: 150) مَعْنَاهُ: وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} (النَّمْلِ: 10- 11) أَيْ وَمَنْ ظَلَمَ. تَأَوَّلَهَا الْجُمْهُورُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. (الرَّابِعُ) بِمَعْنَى " غَيْرَ " إِذَا كَانَتْ صِفَةً، وَيُعْرَبُ الِاسْمُ بَعْدَ " إِلَّا " إِعْرَابَ " غَيْرَ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 22) وَلَيْسَتْ هُنَا لِلِاسْتِثْنَاءِ. وَإِلَّا لَكَانَ التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ لَيْسَ فِيهِمُ اللَّهُ لَفَسَدَتَا وَهُوَ بَاطِلٌ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} (النُّورِ: 6) فَلَوْ كَانَ اسْتِثْنَاءً لَكَانَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّ أَنْفُسَهُمْ لَيْسَ شُهُودًا عَلَى الزِّنَا، لِأَنَّ الشُّهَدَاءَ عَلَى الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْعَدَدُ، وَلَا يَسْقُطُ الزِّنَا الْمَشْهُودُ بِهِ بِيَمِينِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَإِذَا جُعِلَ وَصْفًا فَقَدْ أُمِنَ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْجِنْسِ فَـ " إِلَّا " هِيَ بِمَنْزِلَةِ " غَيْرَ " لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِمَّا مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَمَنْ تَوَهَّمَ فِي صِفَةِ اللَّهِ وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَبْطَلَ. قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ: هَذَا تَوَهُّمٌ مِنْهُ، وَخَاطِرٌ خَطَرَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ " إِلَّا " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 77) وَقَوْلِهِ: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (الْإِسْرَاءِ: 67) اسْتِثْنَاءً وَأَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ " غَيْرَ "، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، لِأَنَّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ صِفَةً كَانَ إِعْرَابُ الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا إِعْرَابَ الْمَوْصُوفِ بِهَا، وَكَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ. قَالَ: وَالِاسْمُ بَعْدَ " إِلَّا " فِي الْآيَتَيْنِ مَنْصُوبٌ كَمَا تَرَى، وَلَيْسَ قَبْلَ " إِلَّا " فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوبٌ بِإِلَّا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُوصَفُ بِمَا بَعُدَ " إِلَّا " سَوَاءٌ كَانَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا أَوْ مُتَّصِلًا، قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالْجَرْمِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} (هُودٍ: 116) لَوْ قُرِئَ بِالرَّفْعِ " قَلِيلٌ " عَلَى الصِّفَةِ لَكَانَ حَسَنًا وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. (الْخَامِسُ) بِمَعْنَى " بَدَلَ "، وَجَعَلَ ابْنُ الضَّائِعِ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 22) أَيْ بَدَلُ اللَّهِ أَيْ عِوَضُ اللَّهِ، وَبِهِ يَخْرُجُ عَلَى الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَفِي الْوَصْفِ بِـ " إِلَّا " مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ابْنَ مَالِكٍ جَعَلَهَا فِي الْآيَةِ صِفَةً، وَأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلتَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ فَسَدَتَا، لَصَحَّ لَأَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. فَيُقَالُ: مَا فَائِدَةُ الْوَصْفِ الْمُقْتَضَى هَاهُنَا لِلتَّأْكِيدِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ آلِهَةً تَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ، أَوْ عَلَى الْجَمْعِ، فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، فَأَتَى بِقَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّهَ} لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ مُرَتَّبٌ عَلَى التَّعَدُّدِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ فِي {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} (النَّحْلِ: 51) أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا مُخَصَّصٌ لَا مُؤَكَّدٌ، لِأَنَّ {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِيَّةِ وَعَلَى التَّثْنِيَةِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُفْهَمُ النَّهْيُ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَأَتَى بِاثْنَيْنِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ. (السَّادِسُ) لِلْحَصْرِ إِذَا تَقَدَّمَهَا نَفْيٌ. إِمَّا صَرِيحٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الْحِجْرِ: 11). أَوْ مُقَدَّرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (الْبَقَرَةِ: 45) فَإِنَّ " إِلَّا " مَا دَخَلَتْ بَعْدَ لَفْظِ الْإِيجَابِ إِلَّا لِتَأْوِيلِ مَا سَبَقَ إِلَّا بِالنَّفْيِ، أَيْ فَإِنَّهَا لَا تَسْهُلُ، وَهُوَ مَعْنَى " كَبِيرَةٌ "، وَإِمَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ صَادِقٌ مَعَهَا، أَيْ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، بِخِلَافِ (ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا)، فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ. (السَّابِعُ) مُرَكَّبَةً مِنْ " إِنِ " الشَّرْطِيَّةِ، وَ " لَا " النَّافِيَةِ، وَوَقَعَتْ فِي عِدَّةِ مَوَاقِعَ مِنَ الْقُرْآنِ نَحْوُ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} (التَّوْبَةِ: 40). {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} (الْأَنْفَالِ: 73). {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} (التَّوْبَةِ: 39). {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (هُودٍ: 47). {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} (يُوسُفَ: 33). وَلِأَجْلِ الشَّبَهِ الصُّورِيِّ غَلِطَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ فِي: إِلَّا تَفْعَلُوهُ، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَوْ مُتَّصِلٌ. وَعَجِبْتُ مِنَ ابْنِ مَالِكٍ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ، حَيْثُ عَدَّهَا فِي أَقْسَامِ (إِلَّا)، لَكِنَّهُ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ قَالَ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ: لَا حَاجَةَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهَا.
فَائِدَةٌ: [عَنِ الرُّمَّانِيِّ فِي مَعْنَى " إِلَّا "] قَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: مَعْنَى " إِلَّا " اللَّازِمُ لَهَا الِاخْتِصَاصُ بِالشَّيْءِ دُونَ غَيْرِهِ، الْمُفْرَدَاتُ مِنَ الْأَدَوَاتِ فَإِذَا قُلْتَ: جَاءَنِيَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَقَدِ اخْتَصَصْتَ زَيْدًا بِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ، وَإِذَا قُلْتَ: مَا جَاءَنِي إِلَّا زَيْدٌ، فَقَدِ اخْتَصَصْتَهُ بِالْمَجِيءِ، وَإِذَا قُلْتَ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا رَاكِبًا، فَقَدِ اخْتَصَصْتَ هَذِهِ الْحَالَ دُونَ غَيْرِهَا، مِنَ الْمَشْيِ وَالْعَدْوِ وَنَحْوِهِ.
كَلِمَةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، بِدَلِيلِ لُزُومِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا. وَقَدَّرَهَا سِيبَوَيْهِ بِمَهْمَا، وَفَائِدَتُهَا فِي الْكَلَامِ أَنَّهَا تُكْسِبُهُ فَضْلَ تَأْكِيدٍ، تَقُولُ: زَيْدٌ ذَاهِبٌ فَإِذَا قَصَدْتَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ ذَاهِبٌ، قُلْتَ: أَمَّا زَيْدٌ فَذَاهِبٌ. وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَزَيْدٌ ذَاهِبٌ. وَفِي إِيرَادِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 26) إِحْمَادٌ عَظِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَنَعْيٌ عَلَى الْكَافِرِينَ لِرَمْيِهِمْ بِالْكَلِمَةِ الْحَمْقَاءِ. وَالِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَهَا إِنْ كَانَ مَرْفُوعًا فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} (الْكَهْفِ: 79) {وَأَمَّا الْغُلَامُ} (الْكَهْفِ: 80) {وَأَمَّا الْجِدَارُ} (الْكَهْفِ: 82). وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فَالنَّاصِبُ لَهُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضُّحَى: 9- 10). وَقُرِئَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} (فُصِّلَتْ: 17) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ بِالِابْتِدَاءِ لِاشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنْهُمْ بِضَمِيرِهِمْ. وَتُذْكَرُ لِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ الْمُخَاطِبُ، وَلِلِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ مَا ادَّعَى. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} (هُودٍ: 106) {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} (هُودٍ: 108)، فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِمَا جُمِعَ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} (هُودٍ: 103) وَبَيَانُ أَحْكَامِ الشَّقِيِّ وَالسَّعِيدِ. وَالثَّانِي: كَمَا لَوْ قِيلَ: زَيْدٌ عَالِمٌ شُجَاعٌ كَرِيمٌ، فَيُقَالُ: أَمَّا زَيْدٌ فَعَالِمٌ أَيْ لَا يُثْبَتُ لَهُ بِمَا ادَّعَى سِوَى الْعِلْمِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعَدُّدِ الْأَقْسَامِ بِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَازِمٌ وَحُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) عَلَى مَعْنَى " وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ " لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ التَّعَدُّدُ بَعْدَهَا، وَقَطْعُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 7). وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ قَدْ يُذْكَرُ فِيهَا قِسْمٌ وَاحِدٌ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْصِيلِ لِمَا فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7). حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ جُمُعَةَ الْمَوْصِلِيُّ فِي شَرْحِ الدُّرَّةِ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ. وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ: وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَكِلُونَ مَعْنَاهُ إِلَى رَبِّهِمْ، وَدَلَّ عَلَيْهِ {وَالرَّاسِخُونَ} الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (الْآيَةَ: 26) إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (الْآيَةَ: 26). وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ: فَالْفَاسِقُونَ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وَهُمُ الضَّالُّونَ بِالتَّمْثِيلِ، ثُمَّ خَالَفَهُ فَقَالَ: وَأَنْتَ إِذَا جَعَلْتَ الْمُتَّبِعِينَ الْمُتَشَابِهَ بِالتَّأْوِيلِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْيَهُودِ الْمُحَرِّفِينَ لَهُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) أَيْ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، وَضَحَ لَكَ الْأَمْرُ وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّاسِخِينَ بِالْمُتَشَابِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آلِ عِمْرَانَ: 7). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ} (الْوَاقِعَةِ: 90- 91) فَقِيلَ: الْفَاءُ جَوَابُ " أَمَّا "، وَيَكُونُ الشَّرْطُ لَا جَوَابَ لَهُ، وَقَدْ سَدَّ جَوَابُ " أَمَّا " مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ. وَقِيلَ بَلْ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ " أَمَّا ". وَتَجِيءُ أَيْضًا مُرَكَّبَةً مِنْ " أَمِ " الْمُنْقَطِعَةِ، وَ " مَا " الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَأُدْغِمَتِ الْمِيمُ فِي الْمِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النَّمْلِ: 84).
تَكُونُ تَخْيِيرًا، نَحْوُ: اشْتَرِ لِي إِمَّا لَحْمًا وَإِمَّا لَبَنًا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} (الْكَهْفِ: 86). {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ} (طه: 65). {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (مُحَمَّدٍ: 4) وَانْتَصَبَ " مَنًّا " وَ " فِدَاءً " عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ مِنْ " مَنَنْتُمْ " وَ " فَادَيْتُمْ ". وَقَالَ صَاحِبُ الْأَزْهِيَةِ: حُكْمُهَا فِي هَذَا الْقِسْمِ التَّكْرِيرُ، وَلَا تَكْرِيرَ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ عِوَضٌ مِنْ تَكْرِيرِهَا، تَقُولُ: إِمَّا تَقُولُ الْحَقَّ وَإِلَّا فَاسْكُتْ، وَإِلَّا بِمَعْنَى إِمَّا. وَبِمَعْنَى الْإِبْهَامِ نَحْوُ: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} (التَّوْبَةِ: 106). {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} (مَرْيَمَ: 75). {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الْإِنْسَانِ: 3). وَتَكُونُ بِمَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ، مُرَكَّبَةً مِنْ " إِنِ " الشَّرْطِيَّةِ وَ " مَا " الزَّائِدَةِ، وَهَذِهِ لَا تُكَرَّرُ. وَالْأَكْثَرُ فِي جَوَابِهَا نُونُ التَّوْكِيدِ نَحْوُ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (مَرْيَمَ: 26). {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 93). {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ} (الْأَنْفَالِ: 57) {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} (الْأَنْفَالِ: 58). وَإِنَّمَا دَخَلَتْ مَعَهَا نُونُ التَّوْكِيدِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الْإِنْسَانِ: 3) فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: لِلتَّخْيِيرِ، فَانْتِصَابُ " شَاكِرًا " وَ " كَفُورًا " إِدِّعَاءٌ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: التَّخْيِيرُ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى إِخْبَارِ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَقِيلَ: حَالٌ مُقَيِّدَةٌ أَيْ إِمَّا أَنْ تَجِدَ عِنْدَهُمَا الشُّكْرَ، فَهُوَ عَلَامَةُ السَّعَادَةِ، أَوِ الْكُفْرَ فَهُوَ عَلَامَةُ الشَّقَاوَةِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لِلتَّفْصِيلِ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَكُونَ هَاهُنَا شَرْطِيَّةً أَيْ إِنْ شَكَرَ وَإِنْ كَفَرَ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذَا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ إِلَّا أَنْ تُضْمِرَ بَعْدَ إِنْ فِعْلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} (التَّوْبَةِ: 6) وَلَا يَجِبُ إِضْمَارُهُ هُنَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ رَفْعُ شَاكِرٍ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الشَّجَرِيِّ، بِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ يُضْمِرُونَ بَعْدَ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ فِعْلًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ لَفْظِهِ، فَيَرْتَفِعُ الِاسْمُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (النِّسَاءِ: 176) {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} (النِّسَاءِ: 128) كَذَلِكَ يُضْمِرُونَ بَعْدَهُ أَفْعَالًا تَنْصِبُ الِاسْمَ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ زَيْدًا أَكْرَمْتَهُ نَفَعَكَ، أَيْ إِنْ أَكْرَمْتَ.
تَقَدَّمَتْ بِأَقْسَامِهَا فِي قَاعِدَةِ التَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ.
اسْمٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ بِالْحَقِيقَةِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ حَدٌّ لِلزَّمَانَيْنِ، أَيْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي وَظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ يُتَجَوَّزُ بِهَا عَمَّا قَرُبَ مِنَ الْمَاضِي، وَمَا يَقْرُبُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ. حَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي اللُّبَابِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ لِوَقْتٍ حَضَرَ جَمِيعُهُ كَوَقْتِ فِعْلِ الْإِنْشَاءِ حَالَ النُّطْقِ بِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} (الْجِنِّ: 9) {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} (الْأَنْفَالِ: 66). وَهَذَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ فَقَالَ: الْآنَ يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ، ثُمَّ قَدْ تَتَّسِعُ فِيهِ الْعَرَبُ فَتَقُولُ: أَنَا الْآنَ أَنْظُرُ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْيَسِيرِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْغَرَضَ أَنَّهُ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ، وَمَا أَتَى بَعْدَهُ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا الْيَوْمَ خَارِجٌ، تُرِيدُ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي عَقِبَ اللَّيْلَةِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَظَرْفِيَّتُهُ غَالِبَةٌ لَا لَازِمَةٌ.
صَوْتٌ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ التَّكَرُّهِ وَالتَّضَجُّرِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (الْإِسْرَاءِ: 23) فَقِيلَ: اسْمٌ لِفِعْلِ الْأَمْرِ، أَيْ كُفَّا، أَوِ اتْرُكَا. وَقِيلَ: اسْمٌ لِفِعْلٍ مَاضٍ أَيْ كَرِهْتُ وَتَضَجَّرْتُ. حَكَاهُمَا أَبُو الْبَقَاءِ. وَحَكَى غَيْرُهُ ثَالِثًا، أَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُضَارِعٍ أَيْ أَتَضَجَّرُ مِنْكُمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ {أُفٍّ لَكُمْ} (الْآيَةِ: 67) فَأَحَالَ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْإِسْرَاءِ، وَقَضِيَّتُهُ تَسَاوِي الْمَعْنَيَيْنِ. وَقَالَ الْعَزِيزِيُّ فِي غَرِيبِهِ فِي هَذِهِ: أَيْ تَلَفًا لَكُمْ، فَغَايَرَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَفَسَّرَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ " أُفٍّ "، بِمَعْنَى قَذِرًا.
مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ، فَفِي الشَّرْطِ تَكُونُ بِمَعْنَى أَيْنَ، نَحْوُ: أَنَّى يَقُمْ زَيْدٌ يَقُمْ عَمْرٌو. وَتَأْتِي بِمَعْنَى كَيْفَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الْبَقَرَةِ: 259). {فَأَنَّى لَهُمْ} (مُحَمَّدٍ: 18) {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التَّوْبَةِ: 30). {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (الْبَقَرَةِ: 223) أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَتَى شِئْتُمْ. وَيَرُدُّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ، وَهُوَ طِبْقُ سَبَبِ النُّزُولِ. وَتَجِيءُ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ نَحْوُ: {أَنَّى لَكِ هَذَا} (آلِ عِمْرَانَ: 37). وَقَوْلِهِ: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 47). {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 40). قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا أَيْضًا كَيْفَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ. وَقُرِئَ شَاذًّا {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (عَبَسَ: 25) أَيْ مِنْ أَيْنَ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ عِنْدَ قوله: {إِلَى طَعَامِهِ} (عَبَسَ: 25). وَتَكُونُ بِمَعْنَى مَتَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الْبَقَرَةِ: 259) وَقَوْلِهِ: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} (آلِ عِمْرَانَ: 165) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مِنْ أَيْنَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لِلسُّؤَالِ عَنِ الْحَالِ وَعَنِ الْمَكَانِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: " أَنَّى " مُشَاكِلَةٌ لِمَعْنَى " أَيْنَ " إِلَّا أَنَّ " أَيْنَ " لِلْمَوْضِعِ خَاصَّةً، وَأَنَّى تَصْلُحُ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ: فِيهَا مَعْنًى يَزِيدُ عَلَى " أَيْنَ "؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ كَانَ يُقَصِّرُ عَنْ مَعْنَى أَنَّى لَكِ، لِأَنَّ مَعْنَى أَنَّى لَكِ مِنْ أَيْنَ لَكِ؟ فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْجَوَابِ، وَكَذَلِكَ قوله: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 37) وَلَمْ يَقُلْ: هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، وَجَوَابُ أَنَّى لَكِ هَذَا غَيْرُ جَوَابِ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا، فَاعْرِفْهُ.
فِي الْكَشَّافِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، قِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ " أَيِّ " " فِعْلَانِ " مِنْهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَيُّ وَقْتٍ، وَأَيُّ فِعْلٍ مِنْ أَوَيْتُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَعْضَ آوٍ إِلَى الْكُلِّ مُتَسَانِدٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَقِيلَ أَصْلُهُ أَيُّ أَوَانٍ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: جَاءَ " أَيَّانَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا، وَكَسْرُ هَمْزَتِهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا (أَيُّ أَوَانٍ)، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ مِنْ أَوَانٍ، وَالْيَاءُ الثَّانِيَةُ مِنْ " أَيِّ " فَبَعْدَ قَلْبِ الْوَاوِ وَاللَّامِ يَاءً أُدْغِمَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فِيهَا، وَجُعِلَتِ الْكَلِمَتَانِ وَاحِدَةً. وَهِيَ فِي الْأَزْمَانِ بِمَنْزِلَةِ " مَتَى " إِلَّا أَنَّ مَتَى أَشْهَرُ مِنْهَا، وَفِي " أَيَّانَ " تَعْظِيمٌ وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ التَّفْخِيمِ، بِخِلَافِ " مَتَى "، قَالَ تَعَالَى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (الْأَعْرَافِ: 187) {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النَّحْلِ: 21) {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} (الذَّارِيَاتِ: 12) {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَةِ: 6). وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: إِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الشَّيْءِ الْمُعَظَّمِ أَمْرُهُ. قَالَ: وَسَكَتَ الْجُمْهُورُ عَنْ كَوْنِهَا شَرْطًا. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَجِيئَهَا لِدِلَاتِهَا بِمَنْزِلَةِ مَتَى، وَلَكِنْ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ
حَرْفُ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (يُونُسَ: 53) وَلَا يَأْتِي قَبْلَ النَّهْيِ صِلَةً لَهَا.
أَصْلُهُ لِلْإِلْصَاقِ، فِي الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ اخْتِلَاطُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَيَكُونُ حَقِيقَةً، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، نَحْوُ: بِهِ دَاءٌ، وَمَجَازًا كَمَرَرْتُ بِهِ، إِذْ مَعْنَاهُ جَعَلْتُ مُرُورِي مُلْصَقًا بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهُ لَا بِهِ، فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الِاتِّسَاعِ. وَقَدْ جَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}. (الْمَائِدَةِ: 6) وَقَدْ تَأْتِي زَائِدَةً مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَحُكْمِهِ إِمَّا مَعَ الْخَبَرِ، نَحْوُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشُّورَى: 40). وَإِمَّا مَعَ الْفَاعِلِ نَحْوُ: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النِّسَاءِ: 79) فَاللَّهُ فَاعِلٌ وَ " شَهِيدًا " نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَوِ التَّمْيِيزِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَدَخَلَتْ لِتَأْكِيدِ الِاتِّصَالِ، أَيْ لِتَأْكِيدِ شِدَّةِ ارْتِبَاطِ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يَطْلُبُ فَاعِلَهُ طَلَبًا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالْبَاءُ تُوَصِّلُ الْأَوَّلَ إِلَى الثَّانِي، فَكَأَنَّ الْفِعْلَ يَصِلُ إِلَى الْفَاعِلِ، وَزَادَتْهُ الْبَاءُ اتِّصَالًا. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: فَعَلُوا ذَلِكَ إِيذَانًا بِأَنَّ الْكِفَايَةَ مِنَ اللَّهِ، لَيْسَتْ كَالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِهِ فِي عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ، فَضُوعِفَ لَفْظُهَا لِيُضَاعَفَ مَعْنَاهَا. وَقِيلَ: دَخَلَتِ الْبَاءُ لِتَدُلَّ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى اكْتَفُوا بِاللَّهِ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مُقَدَّرٌ، وَالتَّقْدِيرُ كَفَى الِاكْتِفَاءُ بِاللَّهِ، فَحُذِفَ الْمَصْدَرُ وَبَقِيَ مَعْمُولُهُ دَالًّا عَلَيْهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْبَاءَ إِذَا سَقَطَتِ ارْتَفَعَ اسْمُ اللَّهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا *** وَإِمَّا مَعَ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (الْبَقَرَةِ: 195) وَقَوْلِهِ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (الْمُمْتَحِنَةِ: 1) أَيْ تَبْذُلُونَهَا لَهُمْ وَقَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (الْعَلَقِ: 1) قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَهِيَ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: لَا تَقْرَآنَ بِالسُّوَرِ وَقَوْلِهِ: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (الْقَلَمِ: 6) جُعِلَتِ الْمَفْتُونُ اسْمَ مَفْعُولٍ لَا مَصْدَرًا، كَالْمَعْقُولِ وَالْمَعْسُورِ وَالْمَيْسُورِ، وَقَوْلِهِ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الْإِنْسَانِ: 6) {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} (الْحَجِّ: 25) {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 20) وَقَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 6) وَنَحْوِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِيءُ زَائِدَةً، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِزِيَادَتِهَا إِذَا تَأَدَّى الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ بِوُجُودِهَا وَحَالَةِ عَدَمِهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ، فَإِنَّ مَعْنَى {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النِّسَاءِ: 79) كَمَا هِيَ فِي: أَحْسِنْ بِزَيْدٍ! وَمَعْنَى {امْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} اجْعَلُوا الْمَسْحَ مُلَاصِقًا بِرُؤُوسِكُمْ، وَكَذَا: {بِوُجُوهِكُمْ} أَشَارَ إِلَى مُبَاشَرَةِ الْعُضْوِ بِالْمَسْحِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْسُنْ فِي آيَةِ الْغُسْلِ {فَاغْسِلُوا بِوُجُوهِكُمْ} " لِدَلَالَةِ الْغَسْلِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ، وَهَذَا كَمَا تَتَعَيَّنُ الْمُبَاشَرَةُ فِي قَوْلِكَ: أَمْسَكْتُ بِهِ وَتَحْتَمِلُهَا فِي أَمْسَكْتُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 195) فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلِاخْتِصَارِ. وَأَمَّا {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (الْمُمْتَحِنَةِ: 1) فَمَعْنَاهُ تُلْقُونَ إِلَيْهِمُ النَّصِيحَةَ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَالَ ابْنُ النَّحَّاسِ: مَعْنَاهُ تُخْبِرُونَهُمْ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ الرَّجُلُ أَهْلَ مَوَدَّتِهِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: ضُمِّنَ {تُلْقُونَ} مَعْنَى (تَرْمُونَ) مِنَ الرَّمْيِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: أَلْقَى زَيْدٌ إِلَيَّ بِكَذَا، أَيْ رَمَى بِهِ، وَفِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِلْقَاءٌ بِكِتَابٍ أَوْ بِرِسَالَةٍ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَوَدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْمَوَدَّةِ فَلِهَذَا جِيءَ بِالْبَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الْإِسْرَاءِ: 14) فَلَيْسَتْ زَائِدَةً، وَإِلَّا لَلَحِقَ الْفِعْلَ قَبْلَهَا عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ؛ لِأَنَّهُ لِلنَّفْسِ، وَهُوَ مِمَّا يَغْلُبُ تَأْنِيثُهُ. وَجُوِّزَ فِي الْفِعْلِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ تَكُونَ " كَانَ " مُقَدَّرَةً بَعْدَ كَفَى، وَيَكُونَ " بِنَفْسِكَ " صِفَةً لَهُ قَائِمَةً مَقَامَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ الْمَنْصُوبُ بَعْدَهُ، أَعْنِي " حَسِيبًا " كَقَوْلِكَ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ. وَتَجِيءُ لِلتَّعْدِيَةِ، مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَهِيَ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْهَمْزَةِ فِي إِيصَالِ الْفِعْلِ اللَّازِمِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، نَحْوُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 20) أَيْ أَذْهَبَ كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} (الْأَحْزَابِ: 33) وَلِهَذَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَهُمَا مُتَعَاقِبَتَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (الْإِسْرَاءِ: 1)، فَقِيلَ: أَسْرَى وَسَرَى بِمَعْنًى، كَسَقَى وَأَسْقَى، وَالْهَمْزَةُ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَإِنَّمَا الْمُعَدَّى الْبَاءُ فِي بِعَبْدِهِ. وَزَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ مَفْعُولَ أَسْرَى مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْهَمْزَةِ، أَيْ أَسْرَى اللَّيْلَةَ بِعَبْدِهِ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ، لَا تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ، وَذَهَبَ الْمُبَرِّدُ وَالسُّهَيْلِيُّ أَنَّهَا تَقْتَضِي مُصَاحَبَةَ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ فِي الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْهَمْزَةِ. وَرُدَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 17) {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 20) أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَذْهَبُ مَعَ سَمْعِهِمْ، فَالْمَعْنَى لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ. وَقَالَ الصَّفَّارُ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ " ذَهَبَ " الْبَرْقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَكُونَ الذَّهَابُ عَلَى صِفَةٍ تَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الْفَجْرِ: 22). قَالَ: وَإِنَّمَا الَّذِي يُبْطِلُ مَذْهَبَهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: دِيَارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنًى *** تَحِلُّ بِنَا لَوْلَا نَجَاءُ الرَّكَائِبِ أَيْ تَجْعَلُنَا حُلَّالًا لَا مُحْرِمِينَ، وَلَيْسَتِ الدِّيَارُ دَاخِلَةً مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لِكَوْنِ الْبَاءِ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ، فِي الْقُرْآنِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَاءَ {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 20) وَالْهَمْزَةُ فِي أَنْبَتَ لِلنَّقْلِ؟ قُلْتُ: لَهُمْ فِي الِانْفِصَالِ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بَاءُ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: تُنْبِتُ ثَمَرَهَا وَفِيهِ الدُّهْنُ، أَيْ وَفِيهِمَا الدُّهْنُ، وَالْمَعْنَى: تَنْبُتُ الشَّجَرَةُ بِالدُّهْنِ، أَيْ مَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْهُ، وَتَخْتَلِطُ بِهِ الْقُوَّةُ بِنَبْتِهَا، عَلَى مَوْقِعِ الْمِنَّةِ وَلَطِيفِ الْقُدْرَةِ، وَهِدَايَةً إِلَى اسْتِخْرَاجِ صِبْغَةِ الْآكِلِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَبَتَ وَأَنْبَتَ بِمَعْنًى. وَلِلِاسْتِعَانَةِ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى آلَةِ الْفِعْلِ، نَحْوُ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ. وَمِنْهُ فِي أَشْهَرِ الْوَجْهَيْنِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الْفَاتِحَةِ: 1). وَلِلتَّعْلِيلِ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} (الْبَقَرَةِ: 54) {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} (النِّسَاءِ: 160) {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} (الْعَنْكَبُوتِ: 40). وَلِلْمُصَاحَبَةِ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَنْزِلَةِ مَعَ، وَتُسَمَّى بَاءَ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} (النِّسَاءِ: 170) أَيْ مَعَ الْحَقِّ أَوْ مُحِقًّا {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} (هُودٍ: 48). وَلِلظَّرْفِيَّةِ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَنْزِلَةِ " فِي "، وَتَكُونُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ نَحْوُ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} (الصَّافَّاتِ: 137- 138) {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذَّارِيَاتِ: 18) وَمَعَ النَّكِرَةِ نَحْوُ: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 123) {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} (الْقَمَرِ: 34). قَالَ أَبُو الْفَتْحِ فِي التَّنْبِيهِ: وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا مَعَ الْمَعْرِفَةِ، نَحْوُ: كُنَّا بِالْبَصْرَةِ وَأَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ. وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِ الشَّمَّاخِ: وَهُنَّ وُقُوفٌ يَنْتَظِرْنَ قَضَاءَهُ ***بِضَاحِي عَدَاةٍ أَمْرُهُ وَهُوَ ضَامِزُ أَيْ فِي ضَاحِي وَهِيَ نَكِرَةٌ. وَلِلْمُجَاوَزَةِ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَعَنْ نَحْوُ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (الْفُرْقَانِ: 59) {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (الْمَعَارِجِ: 1) {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} (الْفُرْقَانِ: 25) أَيْ عَنِ الْغَمَامِ {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (التَّحْرِيمِ: 8) أَيْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ. وَلِلِاسْتِعْلَاءِ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَعَلَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 75) أَيْ عَلَى قِنْطَارٍ كَمَا قَالَ: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} (يُوسُفَ: 64) وَنَحْوُ: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 30)، أَيْ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} (الصَّافَّاتِ: 137). وَلِلتَّبْعِيضِ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَمِنْ نَحْوُ: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الْإِنْسَانِ: 6) أَيْ مِنْهَا، وَخَرَجَ عَلَيْهِ: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 6). وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ، فَإِنَّ " مَسَحَ " يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ الْمُزَالُ عَنْهُ، وَإِلَى آخَرَ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ الْمُزِيلُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ بِرُءُوسِكُمْ.
حَرْفُ إِضْرَابٍ عَنِ الْأَوَّلِ، وَإِثْبَاتٍ لِلثَّانِي مِنْ مَعَانِي بَلْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَتْلُوهُ جُمْلَةٌ وَمُفْرَدٌ. فَالْأَوَّلُ الْإِضْرَابُ فِيهِ، إِمَّا بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَوَّلِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ بِإِبْطَالِهِ، وَتُسَمَّى حَرْفَ ابْتِدَاءٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 26) أَيْ بَلْ هُمْ عِبَادٌ وَكَذَا: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} (الْمُؤْمِنُونَ: 70). وَإِمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ، مِنْ مَعَانِي بَلْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالْخُرُوجُ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ، مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَاطِفَةٌ كَمَا قَالَهُ الصَّفَّارُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الْأَنْعَامِ: 94) {بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} (الْكَهْفِ: 48) وَقَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} (السَّجْدَةِ: 3) انْتَقَلَ مِنَ الْقِصَّةِ الْأُولَى إِلَى مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا. {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} (النَّمْلِ: 65- 66) لَيْسَتْ لِلِانْتِقَالِ، بَلْ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا. وَقَوْلِهِ: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 166) وَفِي مَوْضِعٍ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (النَّمْلِ: 55) وَفِي مَوْضِعٍ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (الْأَعْرَافِ: 81). وَالْمُرَادُ تَعْدِيدُ خَطَايَاهُمْ وَاتِّصَافِهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَ " بَلْ " لَمْ يَنْوِ مَا أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ إِتْيَانِ الذُّكُورِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِنَاثِ، بَلِ اسْتَدْرَكَ بِهَا بَيَانَ عُدْوَانِهِمْ، وَخَرَجَ مِنْ تِلْكَ الْقِصَّةِ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَزَعَمَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ وَابْنُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ، إِبْطَالُ مَا لِلْأَوَّلِ، وَإِثْبَاتُهُ لِلثَّانِي إِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغَلَطِ، فَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي كَلَامٍ فَصِيحٍ. وَإِنْ كَانَ مَا فِي النَّفْيِ نَحْوُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْغَلَطِ، يَكُونُ عَمْرٌو غَيْرَ جَاءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُثْبَتًا لِعَمْرٍو الْمَجِيءُ، فَلَا يَكُونُ غَلَطًا. انْتَهَى. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (الْأَعْلَى: 14 إِلَى 16) وَقَوْلِهِ: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُوَ لَا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} (الْمُؤْمِنُونَ: 62- 63). وَقَوْلُهُ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} (ص: 1- 2) تَرَكَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ، وَأَخَذَ بِبَلْ فِي كَلَامٍ ثَانٍ، ثُمَّ قَالَ حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} (ص: 8) ثُمَّ قَالَ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} (ص: 8) ثُمَّ تَرَكَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ وَأَخَذَ بِبَلْ فِي كَلَامٍ آخَرَ، فَقَالَ: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: 8). وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (ص: 2) بِمَعْنَى أَنْ لَا فَالْقَسَمُ لَابُدَّ لَهُ مِنْ جَوَابٍ وَالثَّانِي أَعْنِي- مَا يَتْلُوهَا مُفْرَدٌ- فَهِيَ عَاطِفَةٌ، ثُمَّ إِنْ تَقَدَّمَهَا إِثْبَاتٌ نَحْوُ: اضْرِبْ زَيْدًا بَلْ عَمْرًا، وَأَقَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، فَقَالَ النُّحَاةُ: هِيَ تَجْعَلُ مَا قَبْلَهَا كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ، فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَيُثْبَتُ مَا بَعْدَهَا. وَإِنْ تَقَدَّمَهَا نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ فَهِيَ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا عَلَى حَالِهِ. وَجَعْلِ ضِدِّهِ لِمَا بَعْدَهَا، نَحْوُ: مَا قَامَ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو، وَلَا يَقُمْ زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو. وَوَافَقَ الْمُبَرِّدُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ أَجَازَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ نَاقِلَةً مَعْنَى النَّهْيِ أَوِ النَّفْيِ إِلَى مَا بَعْدَهَا. وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ قَبْلَهَا النَّفْيُ هَلْ تَنْفِي الْفِعْلَ أَوْ تُوجِبُهُ؟
|