الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
لَهَا مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رَدًّا لِنَفْيٍ يَقَعُ قَبْلَهَا مِنْ مَعَانِي بَلَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} (النَّحْلِ: 28) أَيْ عَمِلْتُمُ السُّوءَ. وَقَوْلِهِ: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى} (النَّحْلِ: 38) وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 75) ثُمَّ قَالَ: {بَلَى} (آلِ عِمْرَانَ: 76) أَيْ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ. وَالثَّانِي أَنْ تَقَعَ جَوَابًا لِاسْتِفْهَامِ، دَخَلَ عَلَيْهِ نَفْيُ حَقِيقَةٍ فَيَصِيرُ مَعْنَاهَا التَّصْدِيقَ مِنْ مَعَانِي بَلَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِمَا قَبْلَهَا، كَقَوْلِكَ: أَلَمْ أَكُنْ صَدِيقَكَ؟ أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ فَتَقُولُ: بَلَى. أَيْ كُنْتَ صَدِيقِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} (الْمُلْكِ: 8- 9) وَمِنْهُ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الْأَعْرَافِ: 172) أَيْ أَنْتَ رَبُّنَا فَهِيَ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَصْدِيقٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَفِي الْأَوَّلِ رَدٌّ لِمَا قَبْلَهَا وَتَكْذِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} (الْحَدِيدِ: 14) أَيْ كُنْتُمْ مَعَنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَنَ النَّفْيُ بِالِاسْتِفْهَامِ مُطْلَقًا، أَعَمُّ مِنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، فَالْحَقِيقِيُّ كَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} (الزُّخْرُفِ: 80) {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى} (الْقِيَامَةِ: 3- 4). ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: التَّقْدِيرُ: بَلْ نُحْيِيهَا قَادِرِينَ، لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْيِ جَمْعِ الْعِظَامِ، وَبَلَى إِثْبَاتُ فِعْلِ النَّفْيِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَعْدَهَا مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ فَلْنُحْيِهَا قَادِرِينَ، لِدَلَالَةِ " أَيَحْسَبُ " عَلَيْهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ بَلَى حِينَئِذٍ لَمْ تُثْبِتْ مَا نُفِيَ مِنْ قَبْلِ التَّقْدِيرِ " بَلْ نَقْدِرُ " وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ مَجِيءِ الْجَوَابِ عَلَى نَمَطِ السُّؤَالِ. وَالْمَجَازِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الْأَعْرَافِ: 172) فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، بَلْ هُوَ لِلتَّقْرِيرِ لَكِنَّهُمْ أَجْرَوُا النَّفْيَ مَعَ التَّقْرِيرِ مَجْرَى النَّفْيِ الْمُجَرَّدِ فِي رَدِّهِ بِبَلَى. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا، وَوَجْهُهُ أَنَّ نَعَمْ تَصْدِيقٌ لِمَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا. وَنَازَعَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الْمَحْكِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهِ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِيَّ إِثْبَاتٌ قَطْعًا، وَحِينَئِذٍ فَنَعَمْ فِي الْإِيجَابِ تَصْدِيقٌ لَهُ، فَهَلَّا أُجِيبَ بِمَا أُجِيبَ بِهِ الْإِيجَابُ! فَإِنَّ قَوْلَكَ: أَلَمْ أُعْطِكَ دِرْهَمًا! بِمَنْزِلَةِ أَعْطَيْتُكَ. وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: ذَكَرَهُ الصَّفَّارُ، أَنَّ الْمُقَرِّرَ قَدْ يُوَافِقُهُ الْمُقَرَّرُ فِيمَا يَدَّعِيهِ، وَقَدْ لَا. فَلَوْ قِيلَ فِي جَوَابِ أَلَمْ أُعْطِكَ؟ " نَعَمْ "، لَمْ يُدْرَ هَلْ أَرَادَ نَعَمْ لَمْ تُعْطِنِي، فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُقَرِّرِ، أَوْ نَعَمْ أَعْطَيْتَنِي فَيَكُونُ مُوَافِقًا، فَلَمَّا كَانَ يَلْتَبِسُ أَجَابُوا عَلَى اللَّفْظِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْمَعْنَى. الثَّانِي: وَبِهِ تَخَلَّصَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إِذَا أَتَتْ بَعْدَ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ فَتَارَةً تَكُونُ جَوَابًا، وَتَارَةً لَا تَكُونُ، فَإِنْ كَانَ جَوَابًا فَوَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْجَوَابِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. قَالَ: وَابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَالَ: لَوْ قَالُوا فِي الْجَوَابِ نَعَمْ كَفَرُوا؛ لَأَنَّ الْجَوَابَ لَسْتَ رَبَّنَا، وَلَوْ قَالُوا فِي التَّصْدِيقِ نَعَمْ، لَكَانَ مَحْضَ الْإِيمَانِ أَيْ نَعَمْ أَنْتَ رَبُّنَا. وَتَلَخَّصَ أَنَّ الَّذِي مَنَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَوْنُ نَعَمْ جَوَابًا، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا فَهِيَ تَصْدِيقٌ لِمَا بَعْدَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالَّذِينَ أَجَازُوا إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جَوَابٍ.
تنبيهاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ بَلَى إِنَّمَا يُجَابُ بِهَا النَّفْيُ هُوَ الْأَصْلُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} (الزُّمَرِ: 59) فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا نَفْيٌ لَفْظًا لَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ، فَإِنَّ مَعْنَى {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} (الزُّمَرِ: 57) مَا هَدَانِي، فَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِبَلَى الَّتِي هِيَ جَوَابُ النَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ، وَلِذَلِكَ حَقَّقَهُ بِقَوْلِهِ: {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} (الزُّمَرِ: 59) وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْهِدَايَاتِ. وَمِثْلُهُ: {بَلَى قَادِرِينَ} (الْقِيَامَةِ: 4) فَإِنَّهُ سَبَقَ نَفْيٌ وَهُوَ{أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} (الْقِيَامَةِ: 4) فَجَاءَتِ الْآيَةُ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ عِظَامَهُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {بَلَى قَادِرِينَ} (الْقِيَامَةِ: 4). وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَقُّ " بَلَى " أَنْ تَجِيءَ بَعْدَ نَفْيٍ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ، وَهَذَا الْقَيْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النَّفْيِ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَأَطْلَقَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهَا جَوَابُ النَّفْيِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ: حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّفْيِ، ثُمَّ حَمْلُ التَّقْرِيرِ عَلَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ، وَأَجَابَهُ بِنَعَمْ. وَسَأَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَلَّا قُرِنَ الْجَوَابُ بِمَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} (الزُّمَرِ: 57)، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ إِنْ تَقَدَّمَ عَلَى إِحْدَى الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ فُرِقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّظْمِ، فَلَمْ يَحْسُنْ، وَإِنْ تَأَخَّرَتِ الْقَرِينَةُ الْوُسْطَى نُقِضَ التَّرْتِيبُ وَهُوَ التَّحَسُّرُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الطَّاعَةِ، ثُمَّ التَّعْلِيلُ بِفَقْدِ الْهِدَايَةِ، ثُمَّ تَمَنِّي الرَّجْعَةِ، فَكَانَ الصَّوَابُ مَا جَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى أَقْوَالَ النَّفْسِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَنَظْمِهَا، ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا اقْتَضَى الْجَوَابُ مِنْ بَيْنِهَا. الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّكَ مَتَى رَأَيْتَ بَلَى أَوْ نَعَمْ بَعْدَ كَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا تَعَلُّقَ الْجَوَابِ، وَلَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ سُؤَالًا مُقَدَّرًا، لَفْظُهُ لَفْظُ الْجَوَابِ، وَلَكِنَّهُ اخْتُصِرَ وَطُوِيَ ذِكْرُهُ، عِلْمًا بِالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (الْبَقَرَةِ: 112) فَقَالَ الْمُجِيبُ: بَلَى، وَيُعَادُ السُّؤَالُ فِي الْجَوَابِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (الْبَقَرَةِ: 81) لَيْسَتْ بَلَى فِيهِ جَوَابًا لِشَيْءٍ قَبْلَهَا، بَلْ مَا قَبْلَهَا دَالٌّ عَلَى مَا هِيَ جَوَابٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ خَالِدًا فِي النَّارِ أَوْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ، فَجَوَابُهُ الْحَقُّ بَلَى. وَقَدْ يُكْتَفَى بِذِكْرِ بَعْضِ الْجَوَابِ دَالًّا عَلَى بَاقِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلَى قَادِرِينَ} (الْقِيَامَةِ: 4) أَيْ بَلَى نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ، فَذِكْرُ الْجُمْلَةِ بِمَثَابَةِ ذِكْرِ الْجَزَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَكَانَ عَنْهَا مِنَ الْقَوَاعِدِ النَّافِعَةِ: أَنَّ الْجَوَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَلْفُوظٍ بِهِ أَوْ مُقَدَّرٍ. فَإِنْ كَانَ لِمُقَدَّرٍ، فَالْجَوَابُ بِالْكَلَامِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ تُقَدِّرُهُ مُسْتَفْهِمًا عَنْ قِيَامِ زَيْدٍ: قَامَ زَيْدٌ، أَوْ لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: " نَعَمْ " وَلَا " لَا " لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَا يَعْنِي بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ لِمَلْفُوظٍ بِهِ فَإِنْ أَرَدْتَ التَّصْدِيقَ قُلْتَ: " نَعَمْ ". وَفِي تَكْذِيبِهِ: " بَلَى " فَتَقُولُ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: أَمَا قَامَ زَيْدٌ؟ نَعَمْ. إِذَا صَدَّقْتَهُ، وَبَلَى إِذَا كَذَّبْتَهُ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَدْخَلْتَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى النَّفْيِ، وَلَمْ تُرِدِ التَّقْرِيرَ، بَلْ أَبْقَيْتَ الْكَلَامَ عَلَى نَفْيِهِ، فَتَقُولُ فِي تَصْدِيقِ النَّفْيِ: نَعَمْ وَفِي تَكْذِيبِهِ: بَلَى، نَحْوُ: أَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ؟ فَتَقُولُ فِي تَصْدِيقِ النَّفْيِ: نَعَمْ وَفِي تَكْذِيبِهِ: بَلَى. وَلَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ تَرِدَ.....مَخَافَةَ اللَّبْسِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَكْذِيبَهُ أَوْ تَصْدِيقَهُ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ بَلَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى تَكْذِيبُهُ، فَإِنْ يَكُنْ جَوَابًا لَبَقِيَ صَرِيحُ " بَلْ " لَا بِجَوَابٍ مَحْضٍ كَانَ رَدًّا وَتَصْدِيقُهُ بِنَعَمْ، فَإِذَا قِيلَ قَامَ زَيْدٌ، فَإِنْ كَذَّبْتَهُ قُلْتَ " لَا " وَإِنْ صَدَّقْتَهُ قُلْتَ: نَعَمْ. الثَّالِثُ: يَجُوزُ الْإِثْبَاتُ وَالْحَذْفُ بَعْدَ بَلَى مِنْ مَعَانِي بَلَى فِي الْقُرْآنِ وَحُكْمِهِ فَالْإِثْبَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} (الْمُلْكِ: 8- 9). وَقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (سَبَأٍ: 3). وَمِنَ الْحَذْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا} (آلِ عِمْرَانَ: 124- 125) فَالْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ بَعْدَ بَلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَكْفِيكُمْ، أَيْ بَلَى يَكْفِيكُمْ إِنْ تَصْبِرُوا. وَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} (الْبَقَرَةِ: 260) أَيْ قَدْ آمَنْتُ. وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} (الْبَقَرَةِ: 80) ثُمَّ قَالَ: بَلَى، أَيْ تَمْسَسْكُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (الْبَقَرَةِ: 111) ثُمَّ قَالَ: بَلَى، أَيْ يَدْخُلُهَا غَيْرُهُمْ. وَقَوْلِهِ: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُو بَلَى} (الْحَدِيدِ: 14). وَقَدْ تُحْذَفُ بَلَى وَمَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (الْكَهْفِ: 75) أَيْ بَلَى قُلْتَ لِي.
لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي، مِنْ مَعَانِي ثُمَّ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وَالْهِدَايَةُ سَابِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَالْمُرَادُ ثُمَّ دَامَ عَلَى الْهِدَايَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} (الْمَائِدَةِ: 93). وَقَدْ تَأْتِي لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْمُخْبَرِ مِنْ مَعَانِي ثُمَّ فِي الْقُرْآنِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} (يُونُسَ: 46). وَقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هُودٍ: 90). وَتَقُولُ: زَيْدٌ عَالِمٌ كَرِيمٌ ثُمَّ هُوَ شُجَاعٌ. قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَدْ تَجِيءُ ثُمَّ كَثِيرًا لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْقُرْآنِ فِيهِ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ مَرْتَبَتَيِ الْفِعْلِ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ تَفَاوُتِ رُتْبَتَيِ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الْأَنْعَامِ: 1) فَثُمَّ هُنَا لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ مِنْ رُتْبَةِ الْعَدْلِ، مَعَ السُّكُوتِ عَنْ وَصْفِ الْعَادِلِينَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} (الْبَلَدِ: 11) إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (الْبَلَدِ: 17) دَخَلَتْ لِبَيَانِ تَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْفَكِّ وَالْإِطْعَامِ مِنْ رُتْبَةِ الْإِيمَانِ، إِلَّا أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ تَعَرُّضٍ لِوَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (الْبَلَدِ: 17). وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الْأَنْعَامِ: 1) أَنَّ ثُمَّ دَخَلَتْ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْكُفْرِ وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكَشَّافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82). وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (الْأَحْقَافِ: 13) قَالَ: كَلِمَةُ التَّرَاخِي دَلَّتْ عَلَى تَبَايُنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ دَلَالَتَهَا عَلَى تَبَايُنِ الْوَقْتَيْنِ فِي: جَاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، أَعْنِي أَنَّ مَنْزِلَةَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْخَيْرِ مُبَايِنَةٌ لِمَنْزِلَةِ الْخَيْرِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا أَعْلَى مِنْهَا وَأَفْضَلُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (الْمُدَّثِّرِ: 18إِلَى20) إِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى ثُمَّ الدَّاخِلَةِ فِي تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ؟ قُلْتُ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَرَّةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الدُّعَاءِ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (الْبَلَدِ: 17) قَالَ: جَاءَ بِثُمَّ لِتَرَاخِي الْإِيمَانِ وَتَبَاعُدِهِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ عَلَى الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ، لَا فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ السَّابِقُ الْمُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (النَّحْلِ: 123) إِنَّ ثُمَّ فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّهُ أَوْلَى وَأَشْرَفُ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَجَلُّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ أَتْبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِلَّتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ يَنْدَفِعُ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّ ثُمَّ قَدْ تَخْرُجُ عَنِ التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ وَتَصِيرُ كَالْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ الزَّمَانِيَّ لُزُومًا، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا تَرِدُ لِقَصْدِ التَّفَاوُتِ وَالتَّرَاخِي عَنِ الزَّمَانِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى الِانْفِصَالِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ، لَا أَنْ تَقُولَ: إِنَّ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فِي الزَّمَانِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُهْلَةِ، وَتَكُونُ لِلتَّبَايُنِ فِي الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مُهْلَةٍ زَمَانِيَّةٍ، بَلْ لِيُعْلَمَ مَوْقِعُ مَا يُعْطَفُ بِهَا وَحَالُهُ، وَأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ كَافِيًا فِيمَا قُصِدَ فِيهِ، وَلَمْ يُقْصَدْ فِي هَذَا تَرْتِيبٌ زَمَانِيٌّ، بَلْ تَعْظِيمُ الْحَالِ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَتَوَقُّعُهُ، وَتَحْرِيكُ النُّفُوسِ لِاعْتِبَارِهِ. وَقِيلَ: تَأْتِي لِلتَّعَجُّبِ، مِنْ مَعَانِي ثُمَّ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الْأَنْعَامِ: 1). وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزْيَدَ كَلَّا} (الْمُدَّثِّرِ: 15- 16). وَقِيلَ: بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} (يُونُسَ: 46) أَيْ هُوَ شَهِيدٌ. وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (الْقِيَامَةِ: 19). وَالصَّوَابُ أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا لِمَا سَبَقَ قَبْلَهُ. وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا} (الْأَعْرَافِ: 11) وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ قَبْلَ خَلْقِنَا، فَالْمَعْنَى: وَصَوَّرْنَاكُمْ. وَقِيلَ عَلَى بَابِهَا، وَالْمَعْنَى: ابْتَدَأْنَا خَلْقَكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ صَوَّرَهُ وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ صَوَّرَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} (الْأَنْعَامِ: 2) وَقَدْ كَانَ قَضَى الْأَجَلَ فَمَعْنَاهُ أُخْبِرُكُمْ أَنِّي خَلَقْتُهُ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنِّي قَضَيْتُ الْأَجَلَ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْجُمَلِ، فَأَمَّا عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ فَلَا تَكُونُ إِلَّا لِلتَّرْتِيبِ. قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ. قِيلَ: وَتَأْتِي زَائِدَةً مِنْ مَعَانِي ثُمَّ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (التَّوْبَةِ: 118) إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} (التَّوْبَةِ: 118) لِأَنَّ تَابَ جَوَابُ إِذَا مِنْ قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ} (التَّوْبَةِ: 118) وَتَأْتِي لِلِاسْتِئْنَافِ مِنْ مَعَانِي ثُمَّ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 111). فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمَانِعُ مِنَ الْجَزْمِ عَلَى الْعَطْفِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عُدِلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْجَزَاءِ، إِلَى حُكْمِ الْإِخْبَارِ ابْتِدَاءً كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ رَفْعِهِ وَجَزْمِهِ فِي الْمَعْنَى؟ قِيلَ: لَوْ جُزِمَ لَكَانَ نَفْيُ النَّصْرِ مُقَيَّدًا بِمُقَاتَلَتِهِمْ كَتَوَلِّيهِمْ، وَحِينَ رُفِعَ كَانَ النَّصْرُ وَعْدًا مُطْلَقًا كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ شَأْنُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ أَنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْهَا، وَأُبَشِّرُكُمْ بِهَا بَعْدَ التَّوْلِيَةِ أَنَّهُمْ مَخْذُولُونَ، مَنَعْتُ عَنْهُمُ النُّصْرَةَ وَالْقُوَّةَ، ثُمَّ لَا يَنْهَضُونَ بَعْدَهَا بِنَجَاحٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَمْرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرْفَ اسْتِئْنَافٍ فَفِيهَا مَعْنَى الْعَطْفِ، وَهُوَ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَكُمْ فَيُهْزَمُونَ، ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى التَّرَاخِي فِي ثُمَّ؟ قِيلَ: التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي تَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِتَوَلِّيهِمُ الْأَدْبَارَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} (الْمُرْسَلَاتِ: 16- 17).
ظَرْفٌ لِلْبَعِيدِ بِمَعْنَى هُنَالِكَ، مِنْ مَعَانِي ثَمَّ الْمَفْتُوحَةِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} (الْإِنْسَانِ: 20). وَقُرِئَ: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثَمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} (يُونُسَ: 46)، أَيْ هُنَالِكَ اللَّهُ شَهِيدٌ، بِدَلِيلِ: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} (الْكَهْفِ: 44). وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} (يُونُسَ: 51) مَعْنَاهُ: أَهُنَالِكَ، وَلَيْسَتْ ثُمَّ الْعَاطِفَةَ، وَهَذَا وَهْمٌ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْمَضْمُومَةُ بِالْمَفْتُوحَةِ.
اسْمٌ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّنْزِيهِ مِنْ مَعَانِي حَاشَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَاشَ لِلَّهِ} (يُوسُفَ: 51) بِدَلِيلِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: حَاشًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ، كَمَا قِيلَ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 1) مِنْ كَذَا، أَيْ حَاشًا لِلَّهِ بِالتَّنْوِينِ كَقَوْلِهِمْ: رَعْيًا لِزَيْدٍ. وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {حَاشَا اللَّهِ} بِالْإِضَافَةِ، فَهَذَا مِثْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى جَانَبَ يُوسُفُ الْمَعْصِيَةَ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} (يُوسُفَ: 31). قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ فَاعِلٌ مِنَ الْحَشَا الَّذِي هُوَ النَّاحِيَةُ، أَيْ صَارَ فِي نَاحِيَةٍ، أَيْ بَعُدَ مِمَّا رُمِيَ بِهِ، وَتَنَحَّى عَنْهُ فَلَمْ يَغْشَهُ وَلَمْ يُلَابِسْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا قُلْنَا بِاسْمِيَّةِ حَاشَا فَمَا وَجْهُ تَرْكِ التَّنْوِينِ فِي قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُضَافَةٍ؟ قُلْتُ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ حَاشَى الْمُشَبَّهَةَ بِحَاشَى الَّذِي هُوَ حَرْفٌ، وَأَنَّهُ شَابَهَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَجَرَى مَجْرَاهُ فِي الْبِنَاءِ.
كَإِلَى لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ، فِي أَنَّ مَا بَعْدَ حَتَّى يَدْخُلَ فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا قَطْعًا، كَقَوْلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ، فَزَيْدٌ هَاهُنَا دَخَلَ فِي الْقِيَامِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي قَامَ الْقَوْمُ إِلَى زَيْدٍ. وَلِهَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ " حَتَّى " تَجْرِي مَجْرَى الْوَاوِ وَثُمَّ فِي التَّشْرِيكِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى دُخُولِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ. وَقَوْلِهِ: أُرِيتُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ. وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ " حَتَّى " تَخْتَصُّ بِالْغَايَةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَمِنْ ثَمَّ جَازَ: أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حَتَّى رَأَسِهَا، وَامْتَنَعَ حَتَّى نِصْفَهَا أَوْ ثُلُثَهَا وَ " إِلَى " عَامَّةٌ فِي كُلِّ غَايَةٍ انْتَهَى. ثُمَّ الْغَايَةُ تَجِيءُ عَاطِفَةً، وَهِيَ لِلْغَايَةِ كَيْفَ وَقَعَتْ، إِمَّا فِي الشَّرَفِ، كَجَاءَ الْقَوْمُ حَتَّى رَئِيسُهُمْ أَوِ الضَّعَةِ، نَحْوَ اسْتَنَّتِ الْفِصَالُ حَتَّى الْقَرْعَى. أَوْ تَكُونُ جُمْلَةً مِنَ الْقَوْلِ عَلَى حَالٍ هُوَ آخِرُ الْأَحْوَالِ الْمَفْرُوضَةِ أَوِ الْمُتَوَهَّمَةِ، بِحَسْبِ ذَلِكَ الشَّأْنِ، إِمَّا فِي الشِّدَّةِ نَحْوُ: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ} (الْبَقَرَةِ: 214) إِذَا أُرِيدَ حِكَايَةُ الْحَالِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَاضِيَّةِ، فَإِنْ أُرِيدَ الِاسْتِقْبَالُ لَزِمَ النَّصْبُ. وَإِمَّا فِي الرَّخَاءِ، نَحْوُ: شَرِبَتِ الْإِبِلُ حَتَّى يَجِيءَ الْبَعِيرُ يَجُرُّ بَطْنَهُ، عَلَى الْحِكَايَةِ. وَلِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ مِنْ مَعَانِي حَتَّى فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (الْقَدْرِ: 5) {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (الْبَقَرَةِ: 235). وَالتَّعْلِيلِ، مِنْ مَعَانِي حَتَّى فِي الْقُرْآنِ وَعَلَامَتُهَا أَنْ تَحْسُنَ فِي مَوْضِعِهَا كَيْ نَحْوُ: حَتَّى تَغِيظَ ذَا الْحَسَدِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} (مُحَمَّدٍ: 31). وَيَحْتَمِلُهَا {حَتَّى تَفِيءَ} (الْحُجُرَاتِ: 9) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 217). {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} (الْمُنَافِقُونَ: 7). قِيلَ: وَلِلِاسْتِثْنَاءِ مِنْ مَعَانِي حَتَّى فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا} (الْبَقَرَةِ: 102) وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْغَايَةِ. وَحَرْفُ ابْتِدَاءٍ، أَيْ تُبْتَدَأُ بِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَوِ الْفِعْلِيَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ} (الْبَقَرَةِ: 214) فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ. وَكَذَا الدَّاخِلَةُ عَلَى " إِذَا " فِي نَحْوِ: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ (آلِ عِمْرَانَ: 152) وَنَظَائِرِهِ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ.
ظَرْفُ مَكَانٍ وَزَمَانٍ مِنْ مَعَانِي حَيْثُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلِلزَّمَانِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الضَّمِّ تَشْبِيهًا بِالْغَايَاتِ، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْجُمْلَةِ كَلَا إِضَافَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الْأَعْرَافِ: 27) مَا بَعْدَ حَيْثُ صِلَةٌ لَهَا وَلَيْسَتْ بِمُضَافَةٍ إِلَيْهِ، يُرِيدُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُضَافَةً لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، فَصَارَتْ كَالصِّلَةِ لَهَا، أَيْ كَالزِّيَادَةِ. وَفَهِمَ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا مَوْصُولَهٌ فَرَدَّ عَلَيْهِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُعْرِبُ حَيْثُ، وَقِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ: {مِنْ حَيْثِ لَا يَعْلَمُونَ} (الْأَعْرَافِ: 182) بِالْكَسْرِ تَحْتَمِلُهَا، وَتَحْتَمِلُ لَفْظَ الْبِنَاءِ عَلَى الْكَسْرِ، وَقَدْ ذَكَرُوا الْوَجْهَيْنِ فِي قِرَاءَةِ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثَ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ} (الْأَنْعَامِ: 124) بِفَتْحِ الثَّاءِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا ظَرْفٌ لَا يَتَصَرَّفُ. وَجَوَّزَ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهَا مَفْعُولًا بِهِ عَلَى السَّعَةِ، قَالُوا: وَلَا تَكُونُ ظَرْفًا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ أَعْلَمَ مِنْهُ فِي مَكَانٍ. وَإِذَا كَانَتْ مَفْعُولًا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا أَعْلَمُ، لِأَنَّ أَعْلَمَ، لَا يَعْمَلُ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ، فَيُقَدَّرُ لَهَا فِعْلٌ. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى ظَرْفِيَّتِهَا مَجَازًا. وَفِيهِ نَظَرٌ.
نَقِيضُ فَوْقَ، وَلَهَا مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ الْمُبْهَمِ لِاحْتِمَالِهَا الْجِهَاتِ السِّتَّ. وَقِيلَ: هِيَ ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى السُّفْلِ فِي الْمَكَانِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا دُونَ فَتَقْصِيرٌ عَنِ الْغَايَةِ. قَالَ الصَّفَّارُ: لَا يُرِيدُ الْغَايَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلِ الْغَايَةَ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَهَا، فَإِذَا قُلْتَ: أَنَا دُونَكَ فِي الْعِلْمِ، مَعْنَاهُ: أَنَا مُقَصِّرٌ عَنْكَ، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ مُتَجَوَّزٌ فِيهِ، أَيْ أَنَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْعِلْمِ لَا يَبْلُغُ مَوْضِعَكَ، وَنَظِيرُهُ فُلَانٌ فَوْقَكَ فِي الْعِلْمِ. الثَّانِي: اسْمٌ نَحْوُ: {مِنْ دُونِهِ} (النِّسَاءِ: 117). الثَّالِثُ: صِفَةٌ نَحْوُ: هَذَا الشَّيْءُ دُونَ أَيِّ رَدِيءٍ، فَيَجْرِي بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ. وَقَدْ تَكُونُ صِفَةً لَا بِمَعْنَى رَدِيءٍ وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ، نَحْوَ رَأَيْتُ رَجُلًا دُونَكَ. ثُمَّ قَدْ يُحْذَفُ هَذَا الْمَوْصُوفُ وَتُقَامُ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، وَحِينَئِذٍ فَلِلْعَرَبِ فِيهِ لُغَتَانِ: أَحَدُهُمَا إِعْرَابُهَا كَإِعْرَابِ الْمَوْصُولِ وَجَرْيِهَا بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ، وَالثَّانِيَةُ: إِبْقَاؤُهَا عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الظَّرْفِيَّةِ، وَعَلَيْهَا جَاءَ قَوْلُهُ: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} (الْجِنِّ: 11) قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَدْنَى مَكَانٍ مِنَ الشَّيْءِ. وَمِنْهُ الدُّونُ لِلْحَقِيرِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْحَالِ نَحْوُ: زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو، أَيْ فِي الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ، وَاتُّسِعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي تَجَاوُزِ حَدٍّ إِلَى حَدٍّ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (النِّسَاءِ: 144) أَيْ لَا يَتَجَاوَزُونَ وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ " دُونَ " فِعْلٌ، يُقَالُ: دَانَ يَدُونُ دَوْنًا، وَأُدِينَ إِدَانَةً، وَالْمَعْنَى عَلَى الْحَقَارَةِ وَالتَّقْرِيبِ. وَهَذَا دُونَ ذَلِكَ، أَيْ قَرِيبٌ مِنْهُ وَدَوَّنَ الْكُتُبَ إِذَا جَمَعَهَا؟ لِأَنَّ جَمْعَ الْأَشْيَاءِ إِدْنَاءُ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَتَقْلِيلُ الْمَسَافَةِ بَيْنَهَا، وَدُونَكَ هَذَا، أَصْلُهُ خُذْهُ مِنْ دُونِكَ، أَيْ مِنْ أَدْنَى مَكَانٍ مِنْكَ فَاخْتُصِرَ.
بِمَعْنَى صَاحِبٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (الْبُرُوجِ: 15) وَقَوْلِهِ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 48) وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا مُضَافًا، وَلَا يُضَافُ إِلَى صِفَةٍ، وَلَا إِلَى ضَمِيرٍ. وَإِنَّمَا وُضِعَتْ وُصْلَةً إِلَى وَصْفِ الْأَشْخَاصِ بِالْأَجْنَاسِ، كَمَا أَنَّ " الَّذِي " وُضِعَتْ وُصْلَةً إِلَى وَصْلِ الْمَعَارِفِ بِالْجُمَلِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّوْضِيحُ وَالتَّخْصِيصُ، وَالْأَجْنَاسُ أَعَمُّ مِنَ الْأَشْخَاصِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَخْصِيصُهَا لَهَا، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَضْلٍ، وَنَحْوِهِ، لَمْ يُعْقَلْ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، فَإِذَا قُلْتَ: بِذِي عِلْمٍ صَحَّ الْوَصْفُ، وَأَفَادَ التَّخْصِيصَ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الصِّفَةُ تَابِعَةً لِلْمَوْصُوفِ فِي إِعْرَابِهِ وَمَعْنَاهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ " وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عَالِمٍ عَلِيمٌ " (يُوسُفَ: 76) فَقِيلَ: الْعَالِمُ هُنَا مَصْدَرٌ، كَالصَّالِحِ وَالْبَاطِلِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ} (يُوسُفَ: 76) فَالْقِرَاءَتَانِ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ. وَقِيلَ: " ذِي " زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ، أَيْ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي شَخْصٍ يُسَمَّى عَالِمًا، أَوْ يُقَالُ لَهُ عَالِمٌ عَلِيمٌ. وَلَا يُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْأَشْخَاصِ، وَلِهَذَا لَحَنُوا قَوْلَ بَعْضِهِمْ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَذَوِيهِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُضَافُ " ذُو " إِلَى ضَمِيرِ الْأَجْنَاسِ، فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ، لِأَنَّ ضَمِيرَ الْجِنْسِ هُوَ الْجِنْسُ فِي الْمَعْنَى. كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ مِنَ النَّاسِ ذَوُوهُ وَعَنِ ابْنِ بَرِّيٍّ أَنَّهَا تُضَافُ إِلَى مَا يُضَافُ إِلَيْهِ صَاحِبٌ، لِأَنَّهَا رَدِيفَتُهُ، وَأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ إِضَافَتُهَا لِلضَّمِيرِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ وُصْلَةً، وَإِلَّا فَلَا يُمْتَنَعُ. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: ذُو بِمَعْنَى الصَّاحِبِ تَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: مَوْصُوفًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ، تَقُولُ: جَاءَنِي رَجُلٌ ذُو مَالٍ، بِالْوَاوِ فِي الرَّفْعِ، وَبِالْأَلْفِ فِي النَّصْبِ، وَبِالْيَاءِ فِي الْجَرِّ، وَمِنْهُ ذُو بَطْنٍ خَارِجَةٍ، أَيْ جَنِينِهَا، وَأَلْقَتِ الدَّجَاجَةُ ذَا بَطْنِهَا، أَيْ بَاضَتْ أَوْ سَلَحَتْ. وَتَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ: امْرَأَةٌ ذَاتُ مَالٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ ذَوَاتَا مَالٍ، وَلِلْجَمَاعَةِ ذَوَاتُ مَالٍ. قَالَ: هَذَا أَصْلُ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ اقْتَطَعُوا عَنْهَا مُقْتَضَاهَا وَأَجْرَوْهَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ التَّامَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ، غَيْرِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَا سِوَاهَا، فَقَالُوا: ذَاتٌ مُتَمَيِّزَةٌ، وَذَاتٌ قَدِيمَةٌ وَمُحْدَثَةٌ، وَنَسَبُوا إِلَيْهَا كَمَا هِيَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ، فَقَالُوا: الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ وَاسْتَعْمَلُوهَا اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ. وَعَنِ أَبِي سَعِيدٍ يَعْنِي السِّيرَافِيَّ كُلُّ شَيْءٍ ذَاتٌ، وَكُلُّ ذَاتٍ شَيْءٌ، وَحَكَى صَاحِبُ التَّكْمِلَةِ قَوْلَ الْعَرَبِ: جَعَلَ مَا بَيْنَنَا فِي ذَاتِهِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: وَيَضْرِبُ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ فَيُوجِعُ *** قَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي الزَّمَخْشَرِيَّ: إِنْ صَحَّ هَذَا فَالْكَلِمَةُ عَرَبِيَّةٌ، وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي اسْتِعْمَالِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (هُودٍ: 5) وَقَوْلِهِ: فُلَانٌ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ. وَالْمَعْنَى الْإِقْلَالُ لِمُصَاحَبَةِ الْيَدِ. وَقَوْلُهُمْ: أَصْلَحَ اللَّهُ ذَاتَ بَيْنِهِ، وَذُو الْيَدِ أَحَقُّ. انْتَهَى. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْإِضَافَةُ لِـ " ذِي " أَشْرَفُ مِنَ الْإِضَافَةِ لِصَاحِبٍ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: " ذُو " يُضَافُ إِلَى التَّابِعِ، وَصَاحِبٌ يُضَافُ إِلَى الْمَتْبُوعِ، تَقُولُ: أَبُو هُرَيْرَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَقُولُ: النَّبِيُّ صَاحِبُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا عَلَى جِهَةٍ مَا، وَأَمَّا ذُو فَإِنَّكَ تَقُولُ فِيهَا: ذُو الْمَالِ، وَذُو الْعَرْشِ، فَتَجِدُ الِاسْمَ الْأَوَّلَ مَتْبُوعًا غَيْرَ تَابِعٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَقْيَالُ حِمْيَرَ بِالْأَذْوَاءِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: ذُو جَدَنَ، وَذُو يَزَنَ وَذُو عَمْرٍو، وَفِي الْإِسْلَامِ أَيْضًا ذُو الْعَيْنِ وَذُو الشَّهَادَتَيْنِ، وَذُو السِّمَاكَيْنِ، وَذُو الْيَدَيْنِ، هَذَا كُلُّهُ تَفْخِيمٌ لِلشَّيْءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي لَفْظَةِ صَاحِبٍ، وَبُنِيَ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: {وَذَا النُّونِ} (الْآيَةَ: 87) فَأَضَافَهُ إِلَى النُّونِ وَهُوَ الْحُوتُ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (الْآيَةِ: 48) قَالَ: وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لَكِنْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَفَاوُتٌ كَبِيرٌ فِي حُسْنِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَالَتَيْنِ، وَتَنْزِيلِ الْكَلَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّهُ حِينَ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ (ذَا النُّونِ) وَلَمْ يَقُلْ: (صَاحِبُ النُّونِ)، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِذِي أَشْرَفُ مِنْ صَاحِبٍ، وَلَفْظُ النُّونِ أَشْرَفُ مِنَ الْحُوتِ، لِوُجُودِ هَذَا الِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَوَائِلَ السُّوَرِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ مَا يُشَرِّفُهُ لِذَلِكَ، فَالْتَفِتْ إِلَى تَنْزِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآيَتَيْنِ يَلُحْ لَكَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْغَرَضِ، فَإِنَّ التَّدَبُّرَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ وَمُفْتَرَضٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الْأَنْفَالِ: 1) أَيِ الْحَالَ بَيْنَكُمْ، وَأَزِيلُوا الْمُشَاجَرَةَ، وَتَكُونُ لِلْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آلِ عِمْرَانَ: 154) أَيِ السَّرَائِرِ.
تَصْغِيرُ رُودٍ، وَهُوَ الْمَهْلُ قَالَ تَعَالَى: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطَّارِقِ: 11) أَيْ قَلِيلًا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا أَمْهِلْهُمْ، كَانَتْ بِمَعْنَى " مَهْلًا "، وَلَا يُتَكَلَّمُ بِهَا إِلَّا مُصَغَّرًا مَأْمُورًا بِهَا.
لَا يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا إِلَّا مَاضِيًا، لِأَنَّ دُخُولَ " مَا " لَا يُزِيلُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا فِي اللُّغَةِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الْحِجْرِ: 2) فَقِيلَ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ، تَقْدِيرُهُ: رُبَّمَا كَانَ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ. قِيلَ: وَتَأْتِي لِلِاسْتِمْرَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} (النِّسَاءِ: 91). وَقَوْلِهِ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} (الْبَقَرَةِ: 142) لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ: {مَا وَلَّاهُمْ} فَجَاءَتِ السِّينُ إِعْلَامًا بِالِاسْتِمْرَارِ لَا بِالِاسْتِقْبَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَفَادَتِ السِّينُ وُجُودَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، فَهِيَ تُؤَكِّدُ الْوَعْدَ كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ إِذَا قُلْتَ: سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الْبَقَرَةِ: 137) مَعْنَى السِّينِ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ إِلَى حِينٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ السِّينَ فِي الْإِثْبَاتِ مُقَابِلَةُ إِنْ فِي النَّفْيِ، وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: السِّينُ تَوْكِيدٌ لِلْوَعْدِ، بَلْ كَانَتْ حِينَئِذٍ تَوْكِيدًا لِلْمَوْعُودِ بِهِ، كَمَا أَنَّ " لَوْ " تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ بِهَا. وَتَأْتِي زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (الْإِسْرَاءِ: 52) أَيْ تُجِيبُونَ. وَقَوْلِهِ: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} (الشُّورَى: 26).
حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّنْفِيسِ، وَزَمَانُهُ أَبْعَدُ مِنْ زَمَانِ السِّينِ لِمَا فِيهَا مِنْ إِرَادَةِ التَّسْوِيفِ. وَمِنْهُ قِيلَ: فُلَانٌ يُسَوِّفُ فُلَانًا، قَالَ تَعَالَى: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزُّخْرُفِ: 44). وَقَالَ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 142) فَقَرَّبَ الْقَوْلَ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ الْخَشَّابِ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ "، وَابْنُ يَعِيشَ، وَابْنُ أَبَانٍ، وَابْنُ بَابَشَاذَ، وَابْنُ عُصْفُورٍ وَغَيْرُهُمْ. وَمَنَعَ ابْنُ مَالِكٍ كَوْنَ التَّرَاخِي فِي " سَوْفَ " أَكْثَرَ بِأَنَّ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ مُتَقَابِلَانِ، وَالْمَاضِي لَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا مُطْلَقُ الْمُضِيِّ دُونَ تَعَرُّضٍ لِقُرْبِ الزَّمَانِ أَوْ بُعْدِهِ، فَكَذَا الْمُسْتَقْبَلُ لِيَجْرِيَ الْمُتَقَابِلَانِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتُعْمِلَا فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ عَمَّ: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} (النَّبَأِ: 4- 5) وَفِي سُورَةِ التَّكَاثُرِ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الْآيَةَ: 3- 4). وَقَوْلِهِ: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النِّسَاءِ: 146). وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} (النِّسَاءِ: 152). قُلْتُ: وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} (النِّسَاءِ: 146) وَقَوْلَهُ: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} (النِّسَاءِ: 175) مُعَبَّرٌ بِهِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ. وَلِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَحْوَالَ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا قُرِنَ بِالسِّينِ لِمَا فِي الدُّنْيَا، وَمَا قُرِنَ بِسَوْفَ لِمَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَخْفَى خُرُوجُ قَوْلِهِ: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} (النَّبَأِ: 4) وَقَوْلِهِ: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التَّكَاثُرِ: 3) عَنْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مَعَ " سَوْفَ " لَا إِسْكَانَ فِيهِ، وَمَعَ السِّينِ لِلْمُبَالَغَةِ وَقَصْدِ تَقْرِيبِ الْوُقُوعِ، بِخِلَافِ (سَيَقُومُ زَيْدٌ)، (وَسَوْفَ يَقُومُ) مِمَّا الْقَصْدُ فِيهِ الْإِخْبَارُ الْمُجَرَّدُ. وَفَرَّقَ ابْنُ بَابَشَاذَ أَيْضًا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ " سَوْفَ " تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَعْدِ. مِثَالُ الْوَعِيدِ: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الْفُرْقَانِ: 42) وَ{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التَّكَاثُرِ: 4). وَأَمْثَالُهَا فِي الْوَعْدِ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضُّحَى: 5) فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (الْمَائِدَةِ: 54) لِتَضَمُّنِهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ جَمِيعًا، فَالْوَعْدُ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحِبِّينَ، وَالْوَعِيدُ لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ جَوَابِ الْمُرْتَدِّينَ بِكَوْنِهِمْ أَعِزَّةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ الْكَافِرِينَ. وَالْأَكْثَرُ فِي السِّينِ الْوَعْدُ، وَتَأْتِي لِلْوَعِيدِ. مِثَالُ الْوَعْدِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (مَرْيَمَ: 96). وَمِثَالُ الْوَعِيدِ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 227).
لِلِاسْتِعْلَاءِ حَقِيقَةً وَالْمُصَاحَبَةِ وَالْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَالظَّرْفِيَّةِ نَحْوُ: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 22). أَوْ مَجَازًا نَحْوُ: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} (الشُّعَرَاءِ: 14). {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (الْبَقَرَةِ: 253). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (الْفُرْقَانِ: 58) فَهِيَ بِمَعْنَى الْإِضَافَةِ وَالْإِسْنَادِ، أَيْ أَضَفْتُ تَوَكُّلِي وَأَسْنَدْتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُهُ هَاهُنَا. وَلِلْمُصَاحَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (الْبَقَرَةِ: 117). {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (الرَّعْدِ: 6). وَتَأْتِي لِلتَّعْلِيلِ نَحْوُ: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (الْحَجِّ: 37) أَيْ لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا ذُكِرَتِ النِّعْمَةُ فِي الْغَالِبِ مَعَ الْحَمْدِ لَمْ تَقْتَرِنْ بِـ " عَلَى " نَحْوُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (الْأَنْعَامِ: 1) {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (فَاطِرٍ: 1) وَإِذَا أُرِيدَتِ النِّعْمَةُ أُتِيَ بِـ " عَلَى "، فَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ثُمَّ أَوْرَدَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَجَابَ بِأَنَّ الْعُلُوَّ هُنَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ. وَتَجِيءُ لِلظَّرْفِيَّةِ نَحْوُ: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} (الْقَصَصِ: 15). وَنَحْوُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (الْبَقَرَةِ: 102) أَيْ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، أَوْ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ، أَيْ زَمَنِ مُلْكِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ " تَتْلُو " ضَمِنَ مَعْنَى " تَقُولُ " فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} (الْحَاقَّةِ: 44). وَبِمَعْنَى " مِنْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} (الْمُطَفِّفِينَ: 2). وَحُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} (الْمَائِدَةِ: 107) أَيْ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (مَرْيَمَ: 71) أَيْ كَانَ الْوُرُودُ حَتْمًا مَقْضِيًّا مِنْ رَبِّكَ. وَبِمَعْنَى (عِنْدَ) نَحْوُ: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} (الشُّعَرَاءِ: 14) أَيْ عِنْدِي. وَ (الْبَاءِ) نَحْوُ: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} (الْأَعْرَافِ: 105) وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِالْبَاءِ. (تَنْبِيهٌ) حَيْثُ وَرَدَتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ فِي جَانِبِ الْفَضْلِ كَانَ مَعْنَاهُ " تَفَضَّلَ " لَا لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الْأَنْعَامِ: 54) وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْقَسَمُ، وَفِي جَانِبِ الْعَدْلِ وَالْوَعِيدِ مَعْنَاهُ الْوُقُوعُ وَتَأْكِيدُهُ كَقَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرَّعْدِ: 40). وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الْغَاشِيَةِ: 26).
تَقْتَضِي مُجَاوَزَةَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ نَحْوَ غَيْرِهِ، وَتَعَدِّيهِ عَنْهُ، تَقُولُ: أَطْعَمْتُهُ عَنْ جُوعٍ، أَيْ أَزَلْتُ عَنْهُ الْجُوعَ، وَرَمَيْتُ عَنِ الْقَوْسِ، أَيْ طَرَحْتُ السَّهْمَ عَنْهَا، وَقَوْلُكَ: أَخَذْتُ الْعِلْمَ عَنْ فُلَانٍ، مَجَازٌ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ، وَوَجْهُ الْمَجَازِ أَنَّكَ لَمَّا تَلَقَّيْتَهُ مِنْهُ صَارَ كَالْمُنْتَقِلِ إِلَيْكَ عَنْ مَحَلِّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النُّورِ: 63) لِأَنَّهُمْ إِذَا خَالَفُوا أَمْرَهُ بَعُدُوا عَنْهُ وَتَجَاوَزُوهُ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ: " عَنْ " تُسْتَعْمَلُ أَعَمَّ مِنْ " عَلَى "؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ مَوْقِعَ " عَلَى " فِي قَوْلِهِ: إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ *** وَلَوْ قُلْتَ: أَطْعَمْتُهُ عَلَى جُوعٍ وَكَسَوْتُهُ عَلَى عُرْيٍ لَمْ يَصِحَّ. وَتَجِيءُ لِلْبَدَلِ نَحْوُ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} (الْبَقَرَةِ: 48). وَلِلِاسْتِعْلَاءِ نَحْوُ: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} (مُحَمَّدٍ: 38). وَقَوْلِهِ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} (ص: 32) أَيْ قَدَّمْتُهُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا أَيْ مُنْصَرِفًا عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَحَكَى الرُّمَّانِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ " أَحْبَبْتُ " مِنْ أَحَبَّ الْبَعِيرُ إِحْبَابًا، إِذَا بَرَكَ فَلَمْ يَقُمْ، فَـ " عَنْ " مُتَعَلِّقَةٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ التَّضْمِينَ، أَيْ تَثَبَّطْتُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، وَعَلَى هَذَا فَـ " حُبَّ الْخَيْرِ " مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَلِلتَّعْلِيلِ، نَحْوُ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} (التَّوْبَةِ: 114). {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} (هُودٍ: 53). وَبِمَعْنَى " بَعْدَ " نَحْوُ: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 40). {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (الْمَائِدَةِ: 13) بِدَلِيلِ أَنَّ فِي مَكَانٍ آخَرَ " مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ". {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} (الِانْشِقَاقِ: 19). وَبِمَعْنَى " مِنْ " نَحْوُ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشُّورَى: 25). {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} (الْأَحْقَافِ: 16) بِدَلِيلِ: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} (الْمَائِدَةِ: 27). وَبِمَعْنَى الْبَاءِ نَحْوُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النَّجْمِ: 3) وَقِيلَ: عَلَى حَقِيقَتِهَا أَيْ وَمَا يَصْدُرُ قَوْلُهُ عَنْ هَوًى، وَقِيلَ: لِلْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّ نُطْقَهُ مُتَبَاعِدٌ عَنِ الْهَوَى وَمُتَجَاوِزٌ عَنْهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَاءِ نُفِيَ عَنْهُ النُّطْقُ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْهَوَى، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَاذَا كَانَتْ عَلَى بَابِهَا نُفِيَ عَنْهُ التَّعَلُّقُ حَالَ كَوْنِهِ مُجَاوِزًا عَنِ الْهَوَى، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النُّطْقُ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْهَوَى وَهُوَ فَاسِدٌ.
لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ، وَالْإِشْفَاقِ فِي الْمَكْرُوهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 216). قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَتَأْتِي لِلْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} (النَّمْلِ: 72) قَالَ: وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَسَى عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ فَهُوَ مُوَحَّدٌ، نَحْوُ: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} (الْحُجُرَاتِ: 11) {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} (الْبَقَرَةِ: 216) وَوُحِّدَ عَلَى " عَسَى الْأَمْرُ أَنْ يَكُونَ كَذَا ". وَمَا كَانَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ يُجْمَعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} (مُحَمَّدٍ: 22). قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ هَلْ عَدَوْتُمْ ذَلِكَ؟ هَلْ جُزْتُمُوهُ؟ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَلُّ " عَسَى " فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُقَالُ: عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ " عَسَى " فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَاجِبَةٌ، إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 8) يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، فَمَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بَلْ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْقَعَ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةَ. وَفِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} (التَّحْرِيمِ: 5) وَلَازَمْنَهُ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَمَّمَ بَعْضُهُمُ الْقَاعِدَةَ، وَأَبْطَلَ الِاسْتِثْنَاءَ، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى شَرْطٍ، أَيْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَلَمَّا زَالَ الشَّرْطُ وَانْقَضَى الْوَقْتُ، وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ، فَعَلَى هَذَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ بَابِهَا الَّذِي هُوَ الْإِيجَابُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} (التَّحْرِيمِ: 5) تَقْدِيرُهُ: وَاجِبٌ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، أَيْ لَبَتَّ طَلَاقَكُنَّ، وَلَمْ يَبُتَّ طَلَاقَهُنَّ، فَلَا يَجِبُ التَّبْدِيلُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {عَسَى رَبُّكُمْ} (التَّحْرِيمِ: 8): إِطْمَاعٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْجَبَابِرَةِ مِنَ الْإِجَابَةِ بِـ " لَعَلَّ " وَعَسَى، وَوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْقَطْعِ وَالْبَتِّ. وَالثَّانِي أَنْ تَجِيءَ تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ وُجُوبَ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.
ظَرْفُ مَكَانٍ بِمَعْنَى لَدُنْ إِلَّا أَنَّ " عِنْدَ " مُعْرَبَةٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ بِنَاءَهَا لِافْتِقَارِهَا إِلَى مَا تُضَافُ إِلَيْهِ كَـ " لَدُنْ " وَ " إِذْ "، وَلَكِنْ أَعْرَبُوا " عِنْدَ " لِأَنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فِيهَا، فَأَوْقَعُوهَا عَلَى مَا هُوَ مِلْكُ الشَّخْصِ حَضَرَهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ، بِخِلَافِ " لَدُنْ "، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: لَدُنْ فُلَانٍ إِلَّا إِذَا كَانَ بِحَضْرَةِ الْقَائِلِ، فَـ " عِنْدَ " بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَعَمُّ مِنْ لَدُنْ وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِقَوْلِهِ: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الْكَهْفِ: 65) أَيْ مِنَ الْعِلْمِ الْخَاصِّ بِنَا وَهُوَ عِلْمُ الْغَيْبِ. وَقَوْلُهُ: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} (آلِ عِمْرَانَ: 8) الظَّاهِرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى " عِنْدَكَ "، وَكَأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ " لَدُنْ " لِمَا ذَكَرْنَا، فَهِيَ أَعَمُّ " مِنْ بَيْنَ يَدَيْ " لِاخْتِصَاصِ هَذِهِ بِجِهَةِ " أَمَامَ "، فَإِنَّ مِنْ حَقِيقَتِهَا الْكَوْنَ مِنْ جِهَتَيْ مُسَامَتَةِ الْبَدَنِ. وَتُفِيدُ مَعْنَى الْقُرْبِ. وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى " وَرَاءَ " وَ " أَمَامَ " إِذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى " قَبْلُ " كَـ " بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ". وَقَدْ تَجِيءُ " وَرَاءَ " بِمَعْنَى " لَدَى " الْمُضَمَّنِ مَعْنَى " أَمَامَ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} (الْكَهْفِ: 79). {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} (إِبْرَاهِيمَ: 16). {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} (الْبَقَرَةِ: 91). وَقَوْلِهِ: {مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} (الْحَشْرِ: 14) وَيَتَنَاوَلُ الْحَالَيْنِ بِالتَّضَايُفِ. وَقَدْ يُطْلَقُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الطَّوَاعِيَةِ وَتَرْكِ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الْحُجُرَاتِ: 1) مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّقْدِيمِ، أَوِ التَّقَدُّمِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَرَةِ بِالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ، أَيْ لَا تُقَدِّمُوا الْقَوْلَ، أَوْ لَا تُقَدِّمُوا بِالْقَوْلِ بَيْنَ يَدَيْ قَوْلِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَمْلَأَ بِالْمَعْنَى. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ " عِنْدَ " وَ " لَدَى " لِلْقُرْبِ، فَتَارَةً يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (النَّجْمِ: 13 إِلَى 15). {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (يُوسُفَ: 25). وَتَارَةً يَكُونُ مَجَازِيًّا، إِمَّا قُرْبَ الْمَنْزِلَةِ وَالزُّلْفَى، كَقَوْلِهِ: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 169). {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} (الْأَعْرَافِ: 206)، إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي وَعَلَى هَذَا قِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. أَوْ قُرْبَ التَّشْرِيفِ، كَقَوْلِهِ: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} (التَّحْرِيمِ: 11) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي، وَهَزْلِي وَجِدِّي، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي أَيْ فِي دَائِرَتِي إِشَارَةً لِأَحْوَالِ أُمَّتِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ. وَتَارَةً بِمَعْنَى الْفَضْلِ وَمِنْهُ: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (الْقَصَصِ: 27) أَيْ مِنْ فَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ. وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النُّورِ: 13). {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النُّورِ: 15) أَيْ فِي حُكْمِهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} (الْأَنْفَالِ: 32) أَيْ فِي حُكْمِكَ، وَقِيلَ بِحَذْفِ " عِنْدَ " فِي الْكَلَامِ، وَهِيَ مُرَادَةٌ لِلْإِيجَازِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} (الْبَقَرَةِ: 147). {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} (الْبَيِّنَةِ: 2). {عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (مَرْيَمَ: 45) أَيْ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ لِظُهُورِ: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} (الْمَائِدَةِ: 15). وَقَدْ تَكُونُ " عِنْدَ " لِلْحُضُورِ، نَحْوُ: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} (النَّمْلِ: 40). وَقَدْ يَكُونُ الْحُضُورُ وَالْقُرْبُ مَعْنَوِيَّيْنِ، نَحْوُ: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} (النَّمْلِ: 40). وَيَجُوزُ وَأَنْزَلَ عِنْدَكَ.
مَتَى مَا حَسُنَ مَوْضِعَهَا " لَا " كَانَتْ حَالًا، وَمَتَى حَسُنَ مَوْضِعَهَا " إِلَّا " كَانَتِ اسْتِثْنَاءً. وَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ صِفَةً لِمَعْرِفَةٍ، إِذَا كَانَ مَضَافُهَا إِلَى ضِدِّ الْمَوْصُوفِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، نَحْوَ مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الصَّادِقِ غَيْرِ الْكَاذِبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَعَرَّفُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الْفَاتِحَةِ: 7) فَإِنَّ الْغَضَبَ ضِدَّ النِّعْمَةِ، وَالْأَوَّلُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالثَّانِي هُمُ الْكُفَّارُ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (فَاطِرٍ: 37) فَإِنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهُوَ ضِدُّ الصَّالِحِ كَأَنَّهُ قِيلَ: " الصَّالِحُ ". وَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَهُ بَعْضَ الصَّالِحِ فَلَمَّ يَتَمَحَّضْ فِيهِمَا.
تَرِدُ عَاطِفَةً، وَلِلسَّبَبِيَّةِ، وَجَزَاءً، وَزَائِدَةً. الْأَوَّلُ: الْعَاطِفَةُ، وَمَعْنَاهَا التَّعْقِيبُ، نَحْوَ قَامَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو، أَيْ أَنَّ قِيَامَهُ بَعْدَهُ بِلَا مُهْلَةٍ، وَالتَّعْقِيبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، نَحْوُ: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} (الْبَقَرَةِ: 36). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} (الْأَعْرَافِ: 4) وَالْبَأْسُ فِي الْوُجُودِ قَبْلَ الْهَلَاكِ، وَبِهَا احْتَجَّ الْفَرَّاءُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ قَدْ يَكُونُ سَابِقًا، فَفِيهِ عَشْرَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَذَفَ السَّبَبَ وَأَبْقَى الْمُسَبِّبَ، أَيْ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْهَلَاكَ عَلَى نَوْعَيْنِ: اسْتِئْصَالٍ، وَالْمَعْنَى: وَكَمْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا بِغَيْرِ اسْتِئْصَالٍ لِلْجَمِيعِ، فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بِاسْتِئْصَالِ الْجَمِيعِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ مَجْهُولًا لِلنَّاسِ، وَالْهَلَاكُ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَذَكَرَهُ عَقِبَ الْهَلَاكِ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَّضِحُ إِلَّا بِالْهَلَاكِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى قَارَبْنَا إِهْلَاكَهَا، فَجَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا. السَّادِسُ: أَنَّ الْهَلَاكَ وَمَجِيءَ الْبَأْسِ لَمَّا تَقَارَبَا فِي الْمَعْنَى، جَازَ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. السَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَى " فَجَاءَهَا " أَنَّهُ لَمَّا شُوهِدَ الْهَلَاكُ عُلِمَ مَجِيءُ الْبَأْسِ، وَحُكِمَ بِهِ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِوُجُودِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا عَاطِفَةٌ لِلْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا} (الْوَاقِعَةِ: 35إِلَى37). التَّاسِعُ: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ. الْعَاشِرُ:...... وَتَجِيءُ لِلْمُهْلَةِ كَـ " ثُمَّ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (الْمُؤْمِنُونَ: 14) وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَهَا وَسَائِطَ. وَكَقَوْلِهِ: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحَوَى} (الْأَعْلَى: 4- 5) فَإِنَّ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ وَالْغُثَاءِ وَسَائِطَ. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} (الْحَجِّ: 63) وَتُؤُوِّلَتْ عَلَى أَنَّ " تُصْبِحُ " مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: " أَتَيْنَا بِهِ فَطَالَ النَّبْتُ فَتُصْبِحُ ". وَقِيلَ: بَلْ هِيَ لِلتَّعْقِيبِ، وَالتَّعْقِيبُ عَلَى مَا بَعُدَ فِي الْعَادَةِ تَعْقِيبًا لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُضَايَفَةِ، فَرُبَّ سِنِينَ بَعْدَ الثَّانِي عَقِبَ الْأَوَّلِ فِي الْعَادَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَزْمَانٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا} قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَقِيلَ: بَلْ لِلتَّعْقِيبِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى بَابِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الِاخْضِرَارِ عِنْدَ زَمَانِهَا، فَإِذَا تَكَامَلَتْ أَصْبَحَتْ مُخْضَرَّةً بِغَيْرِ مُهْلَةٍ، وَالْمُضَارِعُ بِمَعْنَى الْمَاضِي يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى الْمَاضِي، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْصَبْ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، أَيْ قَدْ رَأَيْتُ فَلَا يَكُونُ لَهُ جَوَابٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا يُنْصَبُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ، إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ سَبَبًا لَهُ، وَرُؤْيَتُهُ لِإِنْزَالِ الْمَاءِ لَيْسَتْ سَبَبًا لِاخْضِرَارِ الْأَرْضِ، إِنَّمَا السَّبَبُ هُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} (النَّحْلِ: 98) {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (الْمَائِدَةِ: 6) فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا أَرَدْتَ فَاكْتَفِي بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ. وَنَظِيرُهُ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} (الْأَعْرَافِ: 160) أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (الْمُؤْمِنُونَ: 14) فَقِيلَ: الْفَاءُ فِي {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ} وَفِي فَكَسَوْنَا بِمَعْنَى " ثُمَّ " لِتَرَاخِي مَعْطُوفِهَا. وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ ": طُولُ الْمُدَّةِ وَقِصَرُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ يَقْتَضِي زَمَنًا طَوِيلًا طَالَتِ الْمُهْلَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي التَّحْقِيقِ وُجُودُ الثَّانِي عُقَيْبَ الْأَوَّلِ بِلَا مُهْلَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ يَقْتَضِي زَمَنًا قَصِيرًا ظَهَرَ التَّعْقِيبُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، فَالْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ بَيْنَ النُّطْفَةِ وَبَيْنَ الْعَلَقَةِ، وَبَيْنَ زَمَنِ الْعَلَقَةِ وَزَمَنِ الْمُضْغَةِ طُولًا كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ، وَعِنْدَ انْقِضَاءِ زَمَنِ الْأَوَّلِ يُشْرَعُ فِي الثَّانِي بِلَا مُهْلَةٍ، فَلَا يُنَافِي مَعْنَى الْفَاءِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهْلَةَ بَيْنَ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ الْفِعْلِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ فَوُجُودُ الثَّانِي عَقِبَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ بَيْنَهُمَا، هَذَا كُلُّهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} (الْآيَةَ: 5) فَعَطَفَ الْكُلَّ بِـ " ثُمَّ "، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: " ثُمَّ " لِمُلَاحَظَةِ أَوَّلِ زَمَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْفَاءُ لِمُلَاحَظَةِ آخِرِهِ، وَبِهَذَا يَزُولُ سُؤَالُ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ وَاحِدٌ وَهُوَ مَعَ أَحَدِهِمَا بِالْفَاءِ وَهِيَ لِلتَّعْقِيبِ، وَفِي الْأُخْرَى بِثُمَّ وَهِيَ لِلْمُهْلَةِ وَهُمَا مُتَنَاقِضَانِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ هَذَا السُّؤَالَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزُّمَرِ: 7) وَفِي أُخْرَى: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 60). وَأَجَابَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَا تُحَاسَبُ أُمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ، فَتُحْمَلُ الْفَاءُ عَلَى أَوَّلِ الْمُحَاسَبِينَ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آلِ عِمْرَانَ: 181) وَيُحْمَلُ " ثُمَّ " عَلَى تَمَامِ الْحِسَابِ. فَإِنْ قِيلَ: حِسَابُ الْأَوَّلِينَ مُتَرَاخٍ عَنِ الْبَعْثِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ الْفَاءُ؟ فَيَعُودُ السُّؤَالُ. قُلْنَا نَصَّ الْفَارِسِيُّ فِي الْإِيضَاحِ عَلَى أَنَّ " ثُمَّ " أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنَ الْفَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لَهَا تَرَاخٍ، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ إِلَّا الْمُتَأَخِّرُونَ انْتَهَى. وَتَجِيءُ لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} (الصَّافَّاتِ: 1إِلَى3) تَحْتَمِلُ الْفَاءُ فِيهِ تَفَاوُتَ رُتْبَةِ الصَّفِّ مِنَ الزَّجْرِ، وَرُتْبَةِ الزَّجْرِ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَيُحْتَمَلُ تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الصَّافِّ مِنْ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَفِّهِمْ وَزَجْرِهِمْ، وَرُتْبَةِ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ مِنَ الْجِنْسِ التَّالِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَجْرِهِ وَتِلَاوَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلْفَاءِ مَعَ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ مَعَانِيهَا فِي الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ: يَالَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ *** فَال صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ أَيِ الَّذِي أَصْبَحَ فَغَنِمَ فَآبَ. الثَّانِي: أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: خُذِ الْأَكْمَلَ فَالْأَفْضَلَ، وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ مَوْصُوفَاتِهَا، فَإِنَّهَا فِي ذَلِكَ، نَحْوُ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ. النَّوْعُ الثَّانِي: لِمُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ وَالرَّبْطِ، نَحْوُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ} (الْكَوْثَرِ: 1- 2) وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَفُ الْخَبَرُ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَعَكْسُهُ عَكْسُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ فِيمَا سَبَقَ، مِنْ نَحْوِ: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} (الْأَعْلَى: 5). وَقَدْ تَأْتِي لَهُمَا، نَحْوُ: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (الْقَصَصِ: 15) {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (الْبَقَرَةِ: 37) {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (الْوَاقِعَةِ: 52إِلَى55). وَقَدْ تَجِيءُ فِي ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} (الذَّارِيَاتِ: 26- 27). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الْأَعْرَافِ: 175) فَهَذِهِ ثَلَاثُ فَاءَاتٍ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْفَاءِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا تَرَتَّبَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ، فَتَارَةً يَتَسَبَّبُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَتَارَةً يُقَامُ مَقَامَ مَا تَسَبَّبَ عَنِ الْأَوَّلِ. مِثَالُ الْجَارِي عَلَى طَرِيقِ السَّبَبِيَّةِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (الْأَعْلَى: 6) {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (الصَّافَّاتِ: 148) {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ} (الْأَعْرَافِ: 64). وَمِثَالُ الثَّانِي: {مَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} (الْإِسْرَاءِ: 60) {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} (الْأَحْقَافِ: 26). وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: الْجَزَائِيَّةُ، وَالْفَاءُ تَلْزَمُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا خَبَرِيًّا، أَعْنِي مَاضِيًا وَمُضَارِعًا، فَإِنْ كَانَ فِعْلًا خَبَرِيًّا امْتَنَعَ دُخُولُ الْفَاءِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْعِلَّةِ، وَتَعَاقُبِ الْفِعْلِ الْخَبَرِيِّ، وَالْفَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} (يُوسُفَ: 26- 27) {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} (النَّمْلِ: 90) وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} (الْجِنِّ: 13) وَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ: " إِنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى " (الْبَقَرَةِ: 282). وَعَنِ ارْتِفَاعِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الرُّومِ: 36) وَفِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا *** وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ عِلَّةِ تَعَاقُبِ الْفِعْلِ وَالْفَاءِ، أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، يَجُوزُ اسْتِقْلَالُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِالشَّرْطِ، وَكَوْنِهَا جَوَابًا لَهُ، فَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِعْلِيَّةً صَالِحَةً لِأَنْ تَكُونَ جَزَاءً، اكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا، لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي جَوَابًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَصْلُحُ جَوَابًا وَلَمْ يُؤْتَ بِغَيْرِهَا، فَلَزِمَ كَوْنُهَا جَوَابًا، وَإِذَا تَعَقَّبَتِ الْجَوَابَ امْتَنَعَ دُخُولُ الْفَاءِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ غَيْرَ فِعْلِيَّةٍ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْجَوَابِ بِنَفْسِهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا يَقْتَضِي فِعْلَيْنِ: شَرْطًا وَجَزَاءً، فَمَا لَيْسَ فِعْلًا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، حَتَّى يَدُلَّ اقْتِضَاؤُهَا عَلَى أَنَّهُ الْجَزَاءُ، فَلَا بُدَّ مِنْ رَابِطَةٍ فَجَعَلُوا الْفَاءَ رَابِطَةً، لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ، فَيَدُلُّ تَعْقِيبُهَا الشَّرْطَ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهَا الْجَزَاءُ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَعَاقُبِ الْفِعْلِ وَالْفَاءِ فِي بَابِ الْجَزَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْفِعْلِ وَالْفَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْمُدَّعِي بِتَعَاقُبِهِمَا وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ تَعَاقُبَهُمَا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ صَالِحًا لِأَنْ يُجَازَى بِهِ، وَهُوَ إِذَا مَا كَانَ صَالِحًا لِلِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا. وَقَوْلُهُ: صَدَقَتْ وَ كَذَبَتِ الْمُرَادُ بِالْفِعْلِ فِي الْآيَةِ الْمُضِيُّ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا فَوَجَبَتِ الْفَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ سَقَطَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشُّورَى: 37) قُلْنَا عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إِذَا فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا بَلْ لِمُجَرَّدِ الزَّمَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ هُمْ يَنْتَصِرُونَ زَمَانَ إِصَابَةِ الْبَغْيِ لَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ " هُمْ " زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْفَاءَ حَسَّنَ حَذْفَهَا كَوْنُ الْفِعْلِ مَاضِيًا. وَبِالْأَوَّلِ يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} (الْجَاثِيَةِ: 25) وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ الْفِعْلَ وَالْفَاءَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الرُّومِ: 36) فَهُوَ أَنَّ " إِذَا " قَامَتْ مَقَامَ الْفَاءِ، وَسَدَّتْ مَسَدَّهَا لِحُصُولِ الرَّبْطِ بِهَا، كَمَا يَحْصُلُ بِالْفَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَفِي الْمُفَاجَأَةِ مَعْنَى التَّعْقِيبِ. وَأَمَّا الْأَخْفَشُ فَإِنَّهُ جَوَّزَ حَذْفَ الْفَاءِ حَيْثُ يُوجِبُ سِيبَوَيْهِ دُخُولَهَا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَطْعَمْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الْأَنْعَامِ: 121). وَبِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشُّورَى: 30) فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ إِنْ أَطْعَمْتُمُوهُمْ فَتَكُونُ {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} جَوَابًا لِلْقَسَمِ، وَالْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ سَدَّ جَوَابُ الْقِسْمِ مَسَدَّهُ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَلِأَنَّ (مَا) فِيهِ مَوْصُولَةٌ لَا شَرْطِيَّةٌ، فَلَمْ يَجُزْ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهَا. وَالرَّابِعُ: الزَّائِدَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ} (ص: 57) وَالْخَبَرُ حَمِيمٌ وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ. وَجَعَلَ مِنْهُ الْأَخْفَشُ: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (الْمَاعُونِ: 2). وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِنْ أَرَدْتَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الْكَوْثَرِ: 2) عَلَى قَوْلٍ.
تَجِيءُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ: لِلظَّرْفِيَّةِ: ثُمَّ تَارَةً يَكُونُ الظَّرْفُ وَالْمَظْرُوفُ حِسِّيَّيْنِ نَحْوُ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَمِنْهُ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} (الْمُرْسَلَاتِ: 41) {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الْفَجْرِ: 29- 30) {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النَّمْلِ: 19) {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} (الْأَحْقَافِ: 18). وَتَارَةً يَكُونَانِ مَعْنَوِيَّيْنِ نَحْوُ: رَغِبْتُ فِي الْعِلْمِ، وَمِنْهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (الْبَقَرَةِ: 179). وَتَارَةً يَكُونُ الْمَظْرُوفُ جِسْمًا، نَحْوُ: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الْأَعْرَافِ: 60). وَتَارَةً يَكُونُ الظَّرْفُ جِسْمًا، نَحْوُ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (الْبَقَرَةِ: 10). وَالْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ وَالرَّابِعُ أَقْرَبُ الْمَجَازَاتِ إِلَى الْحَقِيقَةِ. وَتَجِيءُ بِمَعْنَى مَعَ، نَحْوُ: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} (النَّمْلِ: 12) {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (الْفَجْرِ: 29) عَلَى قَوْلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} فَقِيلَ الْأُولَى لِلْمَعِيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ لِلظَّرْفِيَّةِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ دَخَلْتُ الدَّارَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ. وَبِمَعْنَى عِنْدَ، نَحْوُ: {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 18). وَلِلتَّعْلِيلِ: {فَذَالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (يُوسُفَ: 32). وَبِمَعْنَى " عَلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} (يُونُسَ: 22) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 28) وَقَوْلِهِ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71) لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ. وَقِيلَ: ظَرْفِيَّةٌ لِأَنَّ الْجِذْعَ لِلْمَصْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْرِ لِلْمَقْبُورِ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي. وَقِيلَ: إِنَّمَا آثَرَ لَفْظَةَ " فِي " لِلْإِشْعَارِ بِسُهُولَةِ صَلْبِهِمْ، لِأَنَّ " عَلَى " تَدُلُّ عَلَى نُبُوٍّ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَحَرُّكٍ إِلَى فَوْقَ. وَبِمَعْنَى إِلَى، نَحْوُ: {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النِّسَاءِ: 97). {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 9). وَبِمَعْنَى مِنْ {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} (النَّحْلِ: 89). وَلِلْمُقَايَسَةِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ بَيْنَ مَفْضُولٍ سَابِقٍ، وَفَاضِلٍ لَاحِقٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (التَّوْبَةِ: 38). وَلِلتَّوْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَبُوا فِيهَا} (هُودٍ: 41). وَبِمَعْنَى " بَعْدَ ": {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لُقْمَانَ: 14) أَيْ بَعْدَ عَامَيْنِ. وَبِمَعْنَى " عَنْ " كَقَوْلِهِ: {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} (الْإِسْرَاءِ: 72) قِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الْإِسْرَاءِ: 70) لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصَدِّقُوا فَنَزَلَ: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} (الْإِسْرَاءِ: 72) أَيْ عَنِ النَّعِيمِ الَّذِي قُلْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ أَعْمًى إِذْ لَمْ يُصَدِّقْ.
تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي الْمُتَصَرِّفِ وَعَلَى الْمُضَارِعِ بِشَرْطِ تَجَرُّدِهِ عَنِ الْجَازِمِ وَالنَّاصِبِ وَحَرْفِ التَّنْفِيسِ. وَتَأْتِي لِخَمْسِ مَعَانٍ: التَّوَقُّعِ، وَالتَّقْرِيبِ، وَالتَّقْلِيلِ، وَالتَّكْثِيرِ وَالتَّحْقِيقِ. فَأَمَّا التَّوَقُّعُ فَهُوَ نَقِيضُ " مَا " الَّتِي لِلنَّفْيِ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ نَحْوُ: قَدْ يَخْرُجُ زَيْدٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مُتَوَقَّعٌ أَيْ مُنْتَظَرٌ، وَأَمَّا مَعَ الْمَاضِي فَلَا يَتَحَقَّقُ الْوُقُوعُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ وَقَعَ وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ مُنْتَظَرًا، وَلِذَلِكَ اسْتَشْكَلَ بَعْضَهُمْ كَوْنُهَا لِلتَّوَقُّعِ مَعَ الْمَاضِي، وَلَكِنَّ مَعْنَى التَّوَقُّعِ فِيهِ أَنَّ قَدْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَوَقَّعًا مُنْتَظَرًا، ثُمَّ صَارَ مَاضِيًا، وَلِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَرَقَّبَةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّ قَوْلَكَ: قَدْ قَعَدَ، كَلَامٌ لِقَوْمٍ يَنْتَظِرُونَ الْخَيْرَ. وَمِنْهُ: قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مُنْتَظِرُونَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَالِكٍ فِي تَسْهِيلِهِ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى الْمُتَوَقَّعِ لِإِفَادَةِ كَوْنِهِ مُتَوَقَّعًا، بَلْ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ الْحَالِ. انْتَهَى. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا حِينَئِذٍ تُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْوَجْهِ الِابْتِدَاءُ بِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِمُتَوَقَّعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 1) لِأَنَّ الْقَوْمَ تَوَقَّعُوا عِلْمَ حَالِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (الْمُجَادَلَةِ: 1)، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَتَوَقَّعُ إِجَابَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِدُعَائِهَا. وَأَمَّا التَّقْرِيبُ، فَإِنَّهَا تَرِدُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَاضِي فَقَطْ، فَتَدْخُلُ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ تَلْزَمُ قَدْ مَعَ الْمَاضِي إِذَا وَقَعَ حَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 119)، وَأَمَّا مَا وَرَدَ دُونَ قَدْ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} (يُوسُفَ: 65) فَـ " قَدْ " فِيهِ مُقَدَّرَةٌ، هَذَا مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ: لَا يُقَدَّرُ قَبْلَهُ قَدْ. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: إِنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ بِالْمَاضِي الْمُتَصَرَّفِ الْمُثْبَتِ، إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ الْحَالِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَدْ وَاللَّامُ، نَحْوُ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَامَ زَيْدٌ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَمْ تَدْخُلْ، نَحْوُ: وَاللَّهِ لَقَامَ زَيْدٌ. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْ مَعَ الْمَاضِي فِي جَوَابِ الْقَسَمِ لِلتَّوَقُّعِ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (الْآيَةَ: 59) فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَالَهُمْ لَا يَكَادُونَ يَنْطِقُونَ بِاللَّامِ إِلَّا مَعَ قَدْ، وَقَلَّ عِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِ: حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ *** لَنَامُوا فَمَا إِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالٍ قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْقَسَمِيَّةَ لَا تُسَاقُ إِلَّا تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا الَّتِي هِيَ جَوَابُهَا، فَكَانَتْ مَظِنَّةً لِمَعْنَى التَّوَقُّعِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى قَدْ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْمُخَاطَبِ كَلِمَةَ الْقَسَمِ. وَقَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ: إِذَا دَخَلَتْ قَدْ عَلَى الْمَاضِي أَثَّرَتْ فِيهِ مَعْنَيَيْنِ: تَقْرِيبَهُ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ، وَجَعْلَهُ خَبَرًا مُنْتَظَرًا، فَإِذَا قُلْتَ: قَدْ رَكِبَ الْأَمِيرُ فَهُوَ كَلَامٌ لِقَوْمٍ يَنْتَظِرُونَ حَدِيثَكَ، هَذَا تَفْسِيرُ الْخَلِيلِ. انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى التَّقْرِيبِ يُنَافِي مَعْنَى التَّوَقُّعِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْمُفَصَّلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْرِيبَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى التَّوَقُّعِ. وَأَمَّا التَّقْلِيلُ، فَإِنَّهَا تَرِدُ لَهُ مَعَ الْمُضَارِعِ، إِمَّا لِتَقْلِيلِ وُقُوعِ الْفِعْلِ نَحْوُ: قَدْ يَجُودُ الْبَخِيلُ، وَقَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ، أَوْ لِلتَّقْلِيلِ لِمُتَعَلِّقٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (النُّورِ: 64) أَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ سُبْحَانَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَالَ: إِنَّ " قَدْ " إِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ كَانَتْ بِمَعْنَى رُبَّمَا، فَوَافَقَتْ رُبَّمَا فِي خُرُوجِهَا إِلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ جَمِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُخْتَصًّا بِهِ خُلُقًا وَمِلْكًا وَعِلْمًا، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الصَّفِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (الْآيَةَ: 5) قَدْ مَعْنَاهَا التَّوْكِيدُ، كَأَنَّهُ قَالَ: تَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا لَا شُبْهَةَ لَكُمْ فِيهِ. وَنَصَّ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لِلتَّقْلِيلِ صَرَفَتِ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي. وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَنَّ قَدْ تُفِيدُ التَّقْلِيلَ، مَعَ أَنَّهُ مَشْهُورٌ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، فَقَالَ: قَدْ تَدُلُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْفِعْلِ عَمَّنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَتَقْلِيلُ الْمَعْنَى لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ قَدْ، بَلْ لَوْ قِيلَ: الْبَخِيلُ يَجُودُ وَالْكَذُوبُ يَصْدُقُ، فُهِمَ مِنْهُ التَّقْلِيلُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ شَأْنُهُ الْبُخْلُ بِالْجُودِ، وَعَلَى مَنْ شَأْنُهُ الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ، إِنْ لَمْ يُحْمَلْ ذَلِكَ عَلَى صُدُورِ ذَلِكَ قَلِيلًا، كَانَ الْكَلَامُ كَذِبًا، لِأَنَّ آخِرَهُ يَدْفَعُ أَوَّلَهُ. وَأَمَّا التَّكْثِيرُ فَهُوَ مَعْنًى غَرِيبٌ، وَلَهُ مِنَ التَّوْجِيهِ نَصِيبٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (الْبَقَرَةِ: 144). وَجَعَلَهَا غَيْرُهُ لِلتَّحْقِيقِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي أَيْ قَدْ رَأَيْنَا. وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَتَرِدُ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْمُتَعَلِّقِ مَعَ الْمُضَارِعِ وَالْمَاضِي، لَكِنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُضِيُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (الْبَقَرَةِ: 144). {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} (الْأَنْعَامِ: 33) {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (النُّورِ: 64). وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَاضِي اجْتَمَعَتْ لِكُلِّ فِعْلٍ مُتَجَدِّدٍ، نَحْوُ: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} (يُوسُفَ: 90). {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 13). {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} (الْفَتْحِ: 18). {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} (التَّوْبَةِ: 117). وَلِهَذَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي أَوْصَافِ اللَّهِ، لَا يُقَالُ: قَدْ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (الْمُزَّمِّلِ: 20) فَهُوَ مُتَأَوَّلٌ لِلْمَرْضَى فِي الْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ النَّفْيَ فِي قَوْلِكَ: مَا عَلِمَ اللَّهُ زَيْدًا يَخْرُجُ، هُوَ لِلْخُرُوجِ، وَتَقْدِيرُهُ: قَدْ يَمْرَضُونَ فِيمَا عَلِمَ اللَّهُ، وَمَا يَخْرُجُ زَيْدٌ فِيمَا عَلِمَ اللَّهُ، وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُضَارِعِ فَذَلِكَ لِفِعْلٍ يَكُونُ فِي حَالِهِ، نَحْوُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ} (النُّورِ: 63) أَيْ قَدْ يَتَسَلَّلُونَ فِيمَا عَلِمَ اللَّهُ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: لِلتَّشْبِيهِ، نَحْوُ: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (الرَّحْمَنِ: 24) وَهُوَ كَثِيرٌ. وَلِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا} (الْبَقَرَةِ: 151)، قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ لِأَجْلِ إِرْسَالِي فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ فَاذْكُرُونِي. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 198). وَجَعَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (الْقَصَصِ: 82). وَلِلتَّوْكِيدِ: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 259). وَقَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّورَى: 11) أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَهُ، وَإِلَّا لَزِمَ إِثْبَاتُ الْمِثْلِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَإِنَّمَا زِيدَتْ لِتَوْكِيدِ نَفْيِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْحَرْفِ بِمَنْزِلَةِ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ ثَانِيًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْكَافُ زَائِدَةٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ إِثْبَاتُ الْمِثْلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهَا تُفِيدُ نَفْيَ الْمِثْلِ عَنْ مِثْلِهِ لَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا الْحُكْمُ بِزِيَادَتِهَا لَأَدَّى إِلَى مُحَالٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَ شَيْءٍ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ شَيْئًا لِأَنَّ مِثْلَ الْمِثْلِ مِثْلُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِثْلُ الشَّيْءِ ذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: مِثْلِي لَا يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ أَنَا لَا أَفْعَلُ، وَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ زَائِدَةً. وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: هِيَ غَيْرُ زَائِدَةٍ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَإِذَا نَفَيْتَ التَّمَاثُلَ عَنِ الْفِعْلِ فَلَا مِثْلَ لِلَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: وَلِتَأْكِيدِ الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الْإِسْرَاءِ: 24) أَيْ أَنَّ تَرْبِيَتَهُمَا لِي قَدْ وَجَدْتُ، كَذَلِكَ أَوْجِدْ رَحْمَتَكَ لَهُمَا يَا رَبِّ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: تَأْتِي لِلْمُضِيِّ، وَلِلتَّوْكِيدِ، وَبِمَعْنَى الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} (الْبَقَرَةِ: 60) أَيْ مَا قَدَرْتُمْ. وَبِمَعْنَى يَنْبَغِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} (النُّورِ: 16) أَيْ لَمْ يَنْبَغِ لَنَا. وَتَكُونُ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 112) أَيْ بِمَا يَعْمَلُونَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَالِمًا مَا عَلِمُوهُ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِهِ. وَقَدْ سَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ الْأَفْعَالِ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: لِلتَّشْبِيهِ الْمُؤَكَّدِ، وَلِهَذَا جَاءَ: كَأَنَّهُ هُوَ (النَّمْلِ: 48) دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّشْبِيهِ. وَلِلْيَقِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} (الْقَصَصِ: 82) عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَقَدْ تُخَفَّفُ، قَالَ تَعَالَى: {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} (يُونُسَ: 12).
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى كَمْ لِلتَّكْثِيرِ، لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدَدِ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} (الطَّلَاقِ: 8). وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ: كَائِنٌ عَلَى وَزْنِ قَائِلٍ وَ بَائِعٍ، وَكَأَيِّنْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: مَا أَعْلَمُ كَلِمَةً تَثْبُتُ فِيهَا النُّونُ خَطًّا غَيْرَ هَذِهِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَكْثَرُ الْعَرَبِ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا مَعَ مِنْ لِأَنَّهَا تَأْكِيدٌ فَجُعِلَتْ كَأَنَّهَا شَيْءٌ تَمَّ بِهِ الْكَلَامُ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: بِمَعْنَى قَارَبَ وَسَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ الْأَفْعَالِ.
|