الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ لَا وَاسْتِخْدَامَاتُهَا وَأَنْوَاعُهَا: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ لِلنَّفْيِ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ، فَالدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ تَكُونُ عَامِلَةً وَغَيْرَ عَامِلَةٍ. فَالْعَامِلَةُ قِسْمَانِ: تَارَةً تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ، وَهِيَ النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ، وَهِيَ تَنْفِي مَا أَوْجَبَتْهُ " إِنَّ "، فَلِذَلِكَ تُشَبَّهُ بِهَا فِي الْأَعْمَالِ، نَحْوُ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ} (يُوسُفَ: 92)، {لَا مُقَامَ لَكُمْ} (الْأَحْزَابِ: 13) {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} (النَّحْلِ: 62). وَيَكْثُرُ حَذْفُ خَبَرِهَا إِذَا عُلِمَ، نَحْوُ: {لَا ضَيْرَ} (الشُّعَرَاءِ: 50) {فَلَا فَوْتَ} (سَبَأٍ: 51) وَتَارَةً تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْمُفَصَّلِ أَنَّهَا غَيْرُ عَامِلَةٍ، وَكَذَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الدُّرَّةِ: إِنَّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا لِنَفْيِ الْوَحْدَةِ. قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُ الْعُمُومَ، كَمَا فِي النَّصْبِ، وَعَلَيْهِ قَالَ: لَا نَاقَةَ لِي فِي هَذَا وَلَا جَمَلَ، يَعْنِي فَإِنَّهُ نَفْيُ الْجِنْسِ لَمَّا عُطِفَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُكَ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَلَا امْرَأَةَ، تُفِيدُ نَفْيَ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْعَطْفَ أَفْهَمُ لِلْعُمُومِ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي الْمُحَصَّلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 254) قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْفَهْمِ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ الْعُمُومُ مِنْهُ، كَمَا فِي الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَبْنِيَّةُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ نَصًّا أَوْ لِكَوْنِهِ أَقْوَى ظُهُورًا، وَسَبَبُ الْعُمُومِ أَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التُّحْفَةِ: قَدْ تَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِلَيْسَ نَافِيَةً لِلْجِنْسِ، وَيُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ إِرَادَةِ الْجِنْسِ وَغَيْرِهِ بِالْقَرَائِنِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْعَامِلَةِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْعَامِلَةِ فَيُرْفَعُ الِاسْمُ بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يُرَدْ نَفْيُ الْعُمُومِ، وَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ. ثُمَّ تَارَةً تَكُونُ نَكِرَةً كَقَوْلِهِ: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (الصَّافَّاتِ: 47). {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} (إِبْرَاهِيمَ: 31). وَتَارَةً تَكُونُ مَعْرِفَةً كَقَوْلِهِ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} (يس: 40). وَلِذَلِكَ يَجِبُ تَكْرَارُهَا إِذَا وَلِيَهَا نَعْتٌ، نَحْوُ: {زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} (النُّورِ: 35) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} (الْبَقَرَةِ: 71). فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ تُكَرِّرْهَا وَقَدْ أَوْجَبُوا تَكْرَارَهَا فِي الصِّفَاتِ؟. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَلَا سَاقِيَةٌ لِلْحَرْثِ، أَيْ لَا تُثِيرُ وَلَا تَسْقِي. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هِيَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَدْخُلُ فِي الْمُتَضَادَّيْنِ، وَيُرَادُ بِهَا إِثْبَاتُ الْأَمْرَيْنِ بِهِمَا جَمِيعًا، نَحْوُ: زَيْدٌ لَيْسَ بِمُقِيمٍ وَلَا ظَاعِنٍ، أَيْ تَارَةً يَكُونُ كَذَا، وَتَارَةً يَكُونُ كَذَا، وَقَدْ يُرَادُ إِثْبَاتُ حَالَةٍ بَيْنَهُمَا، نَحْوُ: زَيْدٌ لَيْسَ بِأَبْيَضَ وَلَا أَسْوَدَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} (النُّورِ: 35) قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَصُونَةٌ عَنِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَأَمَّا الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَتَارَةً تَكُونُ لِنَفْيِ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} (فَاطِرٍ: 14) لِأَنَّهُ جَزَاءٌ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا. وَمِثْلُهُ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} (الْحَشْرِ: 12). وَقَدْ يُنْفَى الْمُضَارِعُ مُرَادًا بِهِ نَفْيُ الدَّوَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (سَبَأٍ: 3). وَقَدْ يَكُونُ لِلْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَةِ: 1) {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ} (الْمَعَارِجِ: 40) {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (الْوَاقِعَةِ: 75) {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (النِّسَاءِ: 65). وَقَوْلُهُ: {وَمَالَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ} (النِّسَاءِ: 75) يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مَا لَكَمَ غَيْرُ مُقَاتِلِينَ. وَقِيلَ: يُنْفَى بِهَا الْحَاضِرُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِمَا، كَقَوْلِكَ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: زَيْدٌ يَكْتُبُ الْآنَ: لَا يَكْتُبُ. وَالنَّفْيُ بِهَا يَتَنَاوَلُ فِعْلَ الْمُتَكَلِّمِ، نَحْوُ: لَا أَخْرُجُ الْيَوْمَ وَلَا أُسَافِرُ غَدًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الشُّورَى: 23). وَفِعْلُ الْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّكَ لَا تَزُورُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (الْأَعْلَى: 6) {فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 33). وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي فِي الْقَسَمِ وَالدُّعَاءِ، نَحْوُ: وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتَ، وَنَحْوَ لَا ضَاقَ صَدْرُكَ. وَفِي غَيْرِهَا، نَحْوُ:} (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (الْقِيَامَةِ: 31). وَالْأَكْثَرُ تَكْرَارُهَا، وَقَدْ جَاءَتْ غَيْرَ مُكَرَّرَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} (الْبَلَدِ: 11). قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَكِنَّهَا مُكَرَّرَةٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا فَكَّ رَقَبَةً، وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ اقْتِحَامَ الْعَقَبَةِ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ دُعَاءٌ أَيْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْعَلَ خَيْرًا. وَقَدْ يُرَادُ الدُّعَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي، كَقَوْلِكَ: لَا فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، وَقَوْلِهِ: لَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي. الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ لِلنَّهْيِ يُنْهَى بِهَا الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ، لَا وَاسْتِخْدَامَاتُهَا وَأَنْوَاعُهَا نَحْوُ: لَا تَقُمْ وَلَا يَقُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الْمُمْتَحِنَةِ: 1). {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 28). {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الْكَهْفِ: 23- 24). {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} (آلِ عِمْرَانَ: 188). {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} (الْحُجُرَاتِ: 11). {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (الْحُجُرَاتِ: 11). {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} (الْأَعْرَافِ: 27). {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} (النَّمْلِ: 18). وَتُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، نَحْوُ: {لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} (الْقَصَصِ: 7). وَتَرِدُ لِلدُّعَاءِ، نَحْوُ: {لَا تُؤَاخِذُنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (الْبَقَرَةِ: 286) وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا الطَّلَبِيَّةُ لِيَشْمَلَ النَّهْيَ وَغَيْرَهُ. وَقَدْ تَحْتَمِلُ النَّفْيَ وَالنَّهْيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (هُودٍ: 2) {وَمَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ} (النِّسَاءِ: 75). الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ جَوَابِيَّةً، لَا وَاسْتِخْدَامَاتُهَا وَأَنْوَاعُهَا أَيْ رَدٌّ فِي الْجَوَابِ، مُنَاقِضٌ لِنَعَمْ أَوْ بَلَى، فَإِذَا قَالَ مُقَرِّرًا: أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ قُلْتَ: لَا أَوْ بَلَى، وَإِذَا قَالَ مُسْتَفْهِمًا: هَلْ زَيْدٌ عِنْدَكَ؟ قُلْتَ: لَا أَوْ نَعَمْ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الْأَعْرَافِ: 172)، {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (الْأَعْرَافِ: 44). الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى لَمْ، لَا وَاسْتِخْدَامَاتُهَا وَأَنْوَاعُهَا وَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي، نَحْوُ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (الْقِيَامَةِ: 31) أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُصَلِّ. وَمِثْلُهُ: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} (الْبَلَدِ: 11). الْخَامِسَةُ: أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً تُشْرِكُ مَا بَعْدَهَا فِي إِعْرَابِ مَا قَبْلَهَا، لَا وَاسْتِخْدَامَاتُهَا وَأَنْوَاعُهَا وَتَعْطِفُ بَعْدَ الْإِيجَابِ، نَحْوُ: يَقُومُ زَيْدٌ لَا عَمْرٌو، وَبَعْدَ الْأَمْرِ، نَحْوُ: اضْرِبْ زَيْدًا لَا عُمْرًا، وَتَنْفِي عَنِ الثَّانِي مَا ثَبَتَ لِلْأَوَّلِ، نَحْوُ: خَرَجَ زَيْدٌ لَا بَكْرٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَلَا بَكْرٌ، فَالْعَطْفُ لِلْوَاوِ دُونَهَا، لِأَنَّهَا أُمُّ حُرُوفِ الْعَطْفِ. السَّادِسَةُ: أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً فِي مَوَاضِعَ لَا وَاسْتِخْدَامَاتُهَا وَأَنْوَاعِهَا: الْأَوَّلُ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ النَّفْيُ أَوِ النَّهْيُ، فَتَجِيءُ مُؤَكِّدَةً لَهُ كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} (سَبَأٍ: 37). {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (الْمَائِدَةِ: 103). وَقَوْلِهِ: {وَلَا الضَّالِّينَ} (الْفَاتِحَةِ: 7). قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَقِيلَ: إِنَّمَا دَخَلَتْ هُنَا مُزِيلَةً لِتَوَهُّمِ أَنَّ الضَّالِّينَ هُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ، وَالْعَرَبُ تَنْعَتُ بِالْوَاوِ، وَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِالظَّرِيفِ وَالْعَاقِلِ. فَدَخَلَتْ لِإِزَالَةِ التَّوَهُّمِ. وَقِيلَ: لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَطْفُ الضَّالِّينَ عَلَى الَّذِينَ. وَمِثَالُ النَّهْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} (الْمَائِدَةِ: 2) فَلَا زَائِدَةٌ، وَلَيْسَتْ بِعَاطِفَةٍ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا يُعْطَفُ بِهَا فِي غَيْرِ النَّهْيِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ هُنَا لِنَفْيِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ مَجِيئِهَا جَمِيعًا، تَأْكِيدًا لِلظَّاهِرِ مِنَ اللَّفْظِ، وَنَفْيًا لِلِاحْتِمَالِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ النَّفْيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَصًّا، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِـ " لَا "، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ عَنْهُمَا عَلَى جِهَةِ الِاجْتِمَاعِ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَقُولُ بِبَقَاءِ الزِّيَادَةِ أَوْلَى لِبَقَاءِ الْكَلَامِ بِإِثْبَاتِهَا عَلَى حَالَةٍ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عِنْدَ مَجِيئِهَا أَقْوَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} (فُصِّلَتْ: 34) فَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْحَسَنَةَ لَا تُسَاوِي السَّيِّئَةَ فَـ " لَا " عِنْدَهُ زَائِدَةٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ جِنْسَ الْحَسَنَةِ لَا يَسْتَوِي إِفْرَادُهُ، وَجِنْسَ السَّيِّئَةِ لَا يَسْتَوِي إِفْرَادُهُ- وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ- فَلَيْسَتْ زَائِدَةً، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا مَزِيدُ كَلَامٍ فِي بَحْثِ الزِّيَادَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (فَاطِرٍ: 19) الْآيَةَ، فَالْأُولَى وَالثَّانِيَةُ غَيْرُ زَائِدَةٍ، وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ زَوَائِدُ. وَقَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: قَدْ تَجِيءُ مُؤَكِّدَةً لِلنَّفْيِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} (غَافِرٍ: 58) لِأَنَّكَ تَقُولُ: مَا يَسْتَوِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، وَلَا تَقُولُ: مَا يَسْتَوِي زَيْدٌ فَتَقْتَصِرُ عَلَى وَاحِدٍ. وَمِثْلُهُ: {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} (فَاطِرٍ: 20- 21) {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 95). وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا هَاهُنَا صِلَةٌ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَالْمَعْنَى: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ، حَتَّى تَقَعَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (غَافِرٍ: 58) وَلَوْ قُلْتَ: مَا يَسْتَوِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو لَمْ يَجُزْ إِلَّا عَلَى زِيَادَةِ لَا. الثَّانِي: بَعْدَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ النَّاصِبَةِ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} (الْأَعْرَافِ: 12). وَقِيلَ: إِنَّمَا زِيدَتْ تَوْكِيدًا لِلنَّفْيِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ: {مَنَعَكَ} بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} (ص: 75). وَقَالَ ابْنُ السِّيدِ: إِنَّمَا دَخَلَتْ لِمَا يَقْتَضِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ لَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الشَّيْءِ بِأَمْرِ الْمَمْنُوعِ بِأَلَّا يَفْعَلَ، مَهْمَا كَانَ الْمَنْعُ فِي تَأْوِيلِ الْأَمْرِ بِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَالْحَمْلُ عَلَى تَرْكِهِ أَجْرَاهُ مَجْرَاهَا. وَمِنْ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (الْحَدِيدِ: 29) أَيْ لَئَنْ يَعْلَمَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتِمُّ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةً وَالْمَعْنَى عَلَيْهَا. وَهَذَا كَمَا تَكُونُ مَحْذُوفَةً لَفْظًا مُرَادَةً مَعْنًى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (النِّسَاءِ: 176) الْمَعْنَى أَلَّا تَضِلُّوا، لِأَنَّ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَقَعُ لِأَجْلِ أَلَّا تَضِلُّوا. وَقِيلَ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا. وَأَمَّا السِّيرَافِيُّ فَجَعَلَهَا عَلَى بَابِهَا حَيْثُ جَاءَتْ، زَعَمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا لِأَمْرٍ مَا قَدْ يَكُونُ فَعَلَهُ لِضِدِّهِ، فَإِذَا قُلْتَ: جِئْتُ لِقِيَامِ زَيْدٍ، فَإِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَجِيءَ وَقَعَ لِأَجْلِ الْقِيَامِ، وَهَلْ هُوَ لِأَنْ يَقَعَ أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ؟ مُحْتَمَلٌ، فَمَنْ جَاءَ لِلْقِيَامِ فَقَدْ جَاءَ لِعَدَمِ الْقِيَامِ، وَمَنْ جَاءَ لِعَدَمِ الْقِيَامِ فَقَدْ جَاءَ لِلْقِيَامِ، بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا نَصَصْتَ عَلَى مَقْصُودِكَ، فَقُلْتَ: جِئْتُ لِأَنْ يَقَعَ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ يَقَعَ، فَقَدْ جِئْتَ لِعَدَمِ الْقِيَامِ أَيْ لِأَنْ يَقَعَ عَدَمُ الْقِيَامِ، وَهُوَ- أَعْنِي عَدَمَ الْوُقُوعِ- طَلَبُ وُقُوعِهِ. وَإِنْ قُلْتَ: وَقَصْدِي أَلَّا يَقَعَ الْقِيَامُ، وَلِهَذَا جِئْتُ فَقَدْ جِئْتَ لِأَنَ يَقَعَ عَدَمُ الْقِيَامِ، فَيُتَصَوَّرُ أَنْ تَقُولَ: جِئْتُ لِلْقِيَامِ وَتَعْنِي بِهِ عَدَمَ الْقِيَامِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (النِّسَاءِ: 176) أَيْ يُبَيِّنُ الضَّلَالَ، أَيْ لِأَجْلِ الضَّلَالِ يَقَعُ الْبَيَانُ، هَلْ هُوَ لِوُقُوعِهِ أَوْ عَدَمِهِ؟ الْمَعْنَى يُبَيِّنُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} (الْحَدِيدِ: 29) أَيْ فَعَلَ اللَّهُ هَذَا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ: هَلْ وَقَعَ أَمْ لَا؟. وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَقَوْلُهُ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ، لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ. الثَّالِثُ: قَبْلَ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَةِ: 1) الْمَعْنَى أُقْسِمُ، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ: " لَأُقْسِمُ " وَهِيَ قِرَاءَةٌ قَوِيمَةٌ لَا يُضْعِفُهَا عَدَمُ نُونِ التَّوْكِيدِ مَعَ اللَّامِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ " أُقْسِمُ " فِعْلُ الْحَالِ، وَلَا تَلْزَمُ النُّونُ مَعَ اللَّامِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا غَيْرُ زَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ. وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا، وَنَفَى بِهَا كَلَامًا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْقِيَامَةِ فَـ{لَا أُقْسِمُ} جَوَابٌ لِمَا حُكِيَ مِنْ جَحْدِهِمُ الْبَعْثَ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (الْقَلَمِ: 2) جَوَابًا لِقَوْلِهِ: {يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الْحِجْرِ: 6) لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَجْرِي مَجْرَى السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ دَعْوَى الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْإِلْغَاءَ، وَكَوْنُهَا صَدْرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي الِاعْتِنَاءَ بِهَا وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَلَيْسَتْ " لَا " فِي قَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (الْوَاقِعَةِ: 75) وَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ} (الْمَعَارِجِ: 40) وَنَحْوِهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَةِ: 1) كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِمَجِيئِهَا بَعْدَ الْفَاءِ، وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ كَلِمَةً عَلَى كَلِمَةٍ تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَةِ:) فَهِيَ إِذَنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَأَجَازَ الْخَارْزَنْجِيُّ فِي: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَةِ: 1)، كَوْنَ لَا فِيهِ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَبَقِيَتْ لَا. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (النِّسَاءِ: 65) مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ كَمَا زِيدَتْ فِي: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} لِتَأْكِيدِ وُجُوبِ الْعِلْمِ، وَ{لَا يُؤْمِنُونَ} جَوَابُ الْقَسَمِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّهَا زِيدَتْ لِتَظَاهُرِ " لَا " فِي {لَا يُؤْمِنُونَ}؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِيهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الْحَاقَّةِ: 38إِلَى40) انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: هَبْ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي آيَةِ الْوَاقِعَةِ فَمَا الْمَانِعُ مَنْ تَأَتِّيهِ فِي النِّسَاءِ؟ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: اسْتَقَرَّ بِآيَةِ الْوَاقِعَةِ أَنَّهَا تُزَادُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ فَقَطْ، وَلَمْ يَثْبُتْ زِيَادَتُهَا مُتَظَاهِرَةً لَهَا فِي الْجَوَابِ. السَّابِعَةُ: تَكُونُ اسْمًا فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ نَقْلَهُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ مَا قَالُوهُ، إِذَا دَخَلَتْ عَلَى نَكِرَةٍ، وَكَانَ حَرْفُ الْجَرِّ دَاخِلًا عَلَيْهَا، نَحْوُ: غَضِبْتُ مِنْ لَا شَيْءٍ، وَجِئْتُ بِلَا مَالٍ، وَجَعَلُوهَا بِمَنْزِلَةِ " غَيْرَ ". وَكَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: جَعَلُوا لَا بِمَعْنَى غَيْرٍ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِيهَا الْإِعْرَابُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِعْرَابُهَا عَلَى مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّتِهَا، وَهُوَ مَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِكَ: جَاءَنِي رَجُلٌ لَا عَالِمٌ وَلَا عَاقِلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} (الْبَقَرَةِ: 68) {وَظَلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} (الْوَاقِعَةِ: 43- 44) وَقَوْلِهِ: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} (الْوَاقِعَةِ: 33).
قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَاتَ مُشَبَّهَةٌ بِلَيْسَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَلَمْ تَتَمَكَّنْ تَمَكُّنَهَا، وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا إِلَّا مُضْمَرًا فِيهَا، لِأَنَّهَا كَلَيْسَ فِي الْمُخَاطَبَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ غَائِبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: لَسْتُ، وَلَيْسُوا، وَعَبْدُ اللَّهِ لَيْسَ ذَاهِبًا، فَتَبْنِي عَلَى الْمُبْتَدَأِوَتُضْمِرُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا فِي لَاتَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص: 3)، أَيْ لَيْسَ حِينَ مَهْرَبٍ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرْفَعُ حِينَ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ لَيْسَ وَالنَّصْبُ بِهَا الْوَجِهُ.
جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مَتْلُوَّةً بِأَنَّ وَاسْمِهَا، وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَهَا فِعْلٌ لَا جَرَمَ وَاسْتِخْدَامَاتُهَا. الْأَوَّلُ فِي هُودٍ، وَثَلَاثَةٌ فِي النَّحْلِ، وَالْخَامِسُ فِي غَافِرٍ، وَفِيهِ فَسَّرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ. وَذَكَرَ اللُّغَوِيُّونَ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّ " لَا " نَافِيَةٌ رَدًّا لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَجَرَمَ فِعْلٌ مَعْنَاهُ حَقٌّ، وَ " أَنَّ " مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا فَاعِلٌ، أَيْ حَقٌّ، وَوَجَبَ بُطْلَانُ دَعْوَتِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا جَرَمَ} مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَدٌّ عَلَى الْكُفَّارِ وَتَحْقِيقٌ لِخُسْرَانِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّ (لَا) زَائِدَةٌ وَ " جَرَمَ " مَعْنَاهُ كَسَبَ، أَيْ كَسَبَ لَهُمْ عَمَلُهُمُ النَّدَامَةَ، وَمَا فِي خَبَرِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. الثَّالِثُ: (لَا جَرَمَ) كَلِمَتَانِ رُكِّبَتَا وَصَارَ مَعْنَاهُمَا حَقًّا، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ يَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهَا لَا بُدَّ وَ " أَنَّ " الْوَاقِعَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ.
عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ فِي اللُّغَةِ وَأَوْجُهُ اسْتِعْمَالَاتِهَا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ: (أَحَدُهَا): الِامْتِنَاعِيَّةُ، وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهَا، فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ حِرَفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ. وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الصَّفَّارُ: أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو دَلَّتْ عَلَى أَنَّ قِيَامَ عَمْرٍو كَانَ يَقَعُ لَوْ وَقَعَ مِنْ زَيْدٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ قِيَامُ زَيْدٍ، هَلْ يَمْتَنِعُ قِيَامُ عَمْرٍو أَوْ يَقَعُ الْقِيَامُ مِنْ عَمْرٍو بِسَبَبٍ آخَرَ؟ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ اللَّفْظُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ لِتَعْلِيقِ مَا امْتَنَعَ بِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هِيَ حَرْفُ شَرْطٍ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ مَا يَلِيهِ وَاسْتِلْزَامَهُ لِتَالِيهِ. وَهِيَ تُسَمَّى امْتِنَاعِيَّةً شَرْطِيَّةً، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (الْأَعْرَافِ: 176) دَلَّتْ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لِرَفْعِهِ مُنْتَفِيَةٌ، وَرَفْعُهُ مُنْتَفٍ إِذْ لَا سَبَبَ لِرَفْعِهِ إِلَّا الْمَشِيئَةُ. الثَّانِي: اسْتِلْزَامُ مَشِيئَةِ الرَّفْعِ لِلرَّفْعِ، إِذِ الْمَشِيئَةُ سَبَبٌ وَالرَّفْعُ مُسَبَّبٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ: لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ (لَمْ يَخَفِ) انْتِفَاءَ (لَمْ يَعْصِهِ)، حَتَّى يَكُونَ خَافَ وَعَصَى، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِصْيَانِ لَهُ سَبَبَانِ: خَوْفُ الْعِقَابِ وَالْإِجْلَالُ، وَهُوَ أَعْلَى، وَالْمُرَادُ أَنَّ صُهَيْبًا لَوْ قُدِّرَ خُلُوُّهُ عَنِ الْخَوْفِ لَمْ يَعْصِ لِلْإِجْلَالِ، كَيْفَ وَالْخَوْفُ حَاصِلٌ. وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالِامْتِنَاعِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ الْجَزَاءَ- وَهُوَ الثَّانِي- امْتَنَعَ لِامْتِنَاعِ الشَّرْطِ- وَهُوَ الْأَوَّلُ- فَامْتَنَعَ الثَّانِي وَهُوَ الرَّفْعُ، لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَمَنْ تَبِعَهُ كَابْنِ جُمُعَةَ الْمَوْصِلِيِّ، وَابْنِ خَطِيبٍ زَمَلْكَا: امْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِامْتِنَاعِ الثَّانِي، قَالُوا: لِأَنَّ امْتِنَاعَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَ الْجَزَاءِ، لِجَوَازِ إِقَامَةِ شَرْطٍ آخَرَ مَقَامَهُ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْجَزَاءِ فَيَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَ الشَّرْطِ مُطْلَقًا. وَذَكَرُوا أَنَّ لَهَا مَعَ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَتَجَرَّدَ مِنَ النَّفْيِ نَحْوُ: لَوْ جِئْتَنِي لَأَكْرَمْتُكَ، وَتَدُلُّ حِينَئِذٍ عَلَى انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ، وَسَمَّوْهَا حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النِّسَاءِ: 82). {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} (التَّوْبَةِ: 46). وَقَوْلِهِ: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (الزُّمَرِ: 57)، أَيْ مَا هَدَانِي بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} (الزُّمَرِ: 59) لِأَنَّ بَلَى جَوَابٌ لِلنَّفْيِ. وَثَانِيهَا: إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا حَرْفُ النَّفْيِ تُسَمَّى حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ نَحْوُ: لَوْ لَمْ تُكْرِمْنِي لَمْ أُكْرِمْكَ، فَيَقْتَضِي ثُبُوتَهُمَا لِأَنَّهُمَا لِلِامْتِنَاعِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِمَا حَرْفُ نَفْيٍ، سُلِبَ عَنْهُمَا الِامْتِنَاعُ فَحَصَلَ الثُّبُوتُ لِأَنَّ سَلْبَ السَّلْبِ إِيجَابٌ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقْتَرِنَ حَرْفُ النَّفْيِ بِشَرْطِهَا دُونَ جَوَابِهَا، وَهِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُوبٍ، نَحْوُ: لَوْ تُكْرِمْنِي أَكْرَمْتُكَ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ انْتِفَاءُ الْجَزَاءِ وَثُبُوتُ الشَّرْطِ. رَابِعُهَا: عَكْسُهُ وَهُوَ حَرْفُ وُجُوبٍ لِامْتِنَاعٍ، نَحْوُ: لَوْ جِئْتَنِي لَمْ أُكْرِمْكَ، فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْجَزَاءِ وَانْتِفَاءَ الشَّرْطِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} (الْمَائِدَةِ: 81). وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ سِيبَوَيْهِ لَهَا مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ عَدَمُ نَفَاذِ كَلِمَاتِ اللَّهِ مَعَ فَرْضِ شَجَرِ الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَالْبَحْرِ مَمْدُودًا بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ مِدَادًا، وَلَا يَلْزَمُ أَلَّا يَقَعَ عَدَمُ نَفَاذِ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ يَجْعَلِ الشَّجَرَ أَقْلَامًا وَالْبَحْرَ مِدَادًا. وَكَذَا فِي نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ عَدَمَ الْعِصْيَانِ كَانَ يَقَعُ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ، وَلَا يَلْزَمُ أَلَّا يَقَعَ عَدَمُ الْعِصْيَانِ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ، وَهَكَذَا الْبَاقِي. وَأَمَّا فِي تَفْسِيرِ مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّهَا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، وَذَكَرَ لَهَا هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْأَرْبَعَةَ فَلَا يَطَّرِدُ، وَذَلِكَ لِتَخَلُّفِ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ؛ وَهُوَ كُلُّ مَوْضُوعٍ دَلَّ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ ثَابِتٌ مُطْلَقًا، إِذْ لَوْ كَانَ مَنْفِيًّا لَكَانَ النَّفَادُ حَاصِلًا، وَالْعَقْلُ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ تَنْفَدْ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلِأَنْ لَا تَنْفَدَ مَعَ قِلَّتِهَا وَعَدَمِ بَعْضِهَا أَوْلَى. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} (الْأَنْعَامِ: 111). وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} (الْأَنْفَالِ: 23) فَإِنَّ التَّوَلِّيَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِسْمَاعِ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ فَنَفْيُ الْعِصْيَانِ ثَابِتٌ إِذْ لَوِ انْتَفَى نَفْيُ الْعِصْيَانِ لَزِمَ وَجُودُهُ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي الْمَدْحِ. وَلَمَّا لَمْ يَطَّرِدْ لَهُمْ هَذَا التَّفْسِيرُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ صِحَّتَهُ، اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِهَا عَلَى طُرُقٍ. الْأَوَّلُ: دَعْوَى أَنَّهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَعْنِي الثَّابِتَ فِيهَا الثَّانِي دَائِمًا، إِنَّمَا جَاءَتْ لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ عَلَى ارْتِبَاطِ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ، لَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَضَابِطُهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مُجَرَّدِ الِارْتِبَاطِ دُونَ امْتِنَاعِ كُلِّ مَوْضِعٍ قُصِدَ فِيهِ ثُبُوتُ شَيْءٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَيُرْبَطُ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِوُجُودِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ لِوُجُودِهِ دَائِمًا، ثُمَّ لَا يُذْكَرُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا النَّقِيضُ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى تَقْدِيرِ وَجُودِهِ، عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ النَّقِيضِ الْآخَرِ فَعَدَمُ النَّفَادِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَاقِعٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا، وَكَوْنِ الْبَحْرِ مَدَّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، فَعَدَمُ النَّفَادِ عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ كَوْنِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى، وَكَذَا عَدَمُ عِصْيَانِ صُهَيْبٍ وَاقِعٌ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ خَوْفِهِ، فَعَدَمُ عِصْيَانِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْخَوْفِ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا يَتَقَرَّرُ جَمِيعُ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا تُفِيدُ امْتِنَاعَ الشَّرْطِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ، وَتَحَصَّلَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: امْتِنَاعُ شَرْطِهَا، وَالْآخَرُ كَوْنُهُ مُسْتَلْزِمًا لِجَوَابِهَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْجَوَابِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا ثُبُوتِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَقَامَ عَمْرٌو، فَقِيَامُ زَيْدٍ مَحْكُومٌ بِانْتِفَائِهِ فِيمَا مَضَى، وَبِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا ثُبُوتَهُ لِثُبُوتِ قِيَامِ عَمْرٍو، وَهَلْ لِقِيَامِ عَمْرٍو وَقْتٌ آخَرُ غَيْرَ اللَّازِمِ عَنْ قِيَامِ زَيْدٍ، أَوْ لَيْسَ لَهُ؟ لَا يُعْرَضُ فِي الْكَلَامِ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ كَوْنُ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ غَيْرَ وَاقِعَيْنِ. وَقَدْ سَلَبَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الدَّلَالَةَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مُطْلَقًا، وَجَعَلَهَا لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} (الْأَنْفَالِ: 23) قَالَ: فَلَوْ أَفَادَتْ " لَوِ " انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ، لَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} يَقْتَضِي أَنَّهُ مَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا وَمَا أَسْمَعَهُمْ، وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَسْمَعَهُمْ وَلَا تَوَلَّوْا، لَكِنَّ عَدَمَ التَّوَلِّي خَيْرٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَمَا عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا. قَالَ: فَعَلِمْنَا أَنَّ كَلِمَةَ " لَوْ " لَا تُفِيدُ إِلَّا الرَّبْطَ. هَذَا كَلَامُهُ. وَقَدْ يُمْنَعُ قَوْلُهُ: " إِنَّ عَدَمَ التَّوَلِّي خَيْرٌ " فَإِنَّ الْخَيْرَ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ التَّوَلِّي، بِتَقْدِيرِ حُصُولِ الْإِسْمَاعِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْإِسْمَاعَ لَمْ يَحْصُلْ، فَلَا يَكُونُ عَدَمُ التَّوَلِّي عَلَى الْإِطْلَاقِ خَيْرًا، بَلْ عَدَمُ التَّوَلِّي الْمُرَتَّبِ عَلَى الْإِسْمَاعِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُمْ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، مَعْنَاهُ أَنَّ مَا كَانَ جَوَابًا لَهَا كَانَ يَقَعُ لِوُقُوعِ الْأَوَّلِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ الْأَوَّلُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي وَاقِعًا لِوُقُوعِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فَلِأَمْرٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لَا يُنْكَرُ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ عَمْرٍو الَّذِي كَانَ يَقَعُ مِنْهُ لَوْ وَقَعَ قِيَامُ زَيْدٍ، لَا عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ عَمْرٍو لِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ، امْتَنَعَ عَدَمُ الْعِصْيَانِ الَّذِي كَانَ سَيَقَعُ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ لَوْ وَقَعَ، وَلَا يَلْزَمُ امْتِنَاعُ عَدَمِ الْعِصْيَانِ عِنْدَ وُجُودِ الْخَوْفِ. الثَّالِثُ: أَنْ تُحْمَلَ " لَوْ " فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مَحْذُوفَةُ الْجَوَابِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} (لُقْمَانَ: 27) مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ هَذَا لَتَكَسَّرَتِ الْأَشْجَارُ، وَفَنِيَ الْمِدَادُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: (مَا نَفِدَتْ) مُسْتَأْنَفٌ أَوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، أَيْ وَمَا نَفِدَتْ. الرَّابِعُ: أَنْ تُحْمَلَ " لَوْ " فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى الَّتِي بِمَعْنَى إِنَّ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: " لَوْ " أَصْلُهَا فِي الْكَلَامِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى وُقُوعِ الشَّيْءِ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، تَقُولُ: لَوْ جِئْتَنِي لَأَعْطَيْتُكَ. وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ هُنَاكَ لَضَرَبْتُكَ، ثُمَّ تَتَّسِعَ فَتَصِيرَ فِي مَعْنَى " إِنِ " الْوَاقِعَةِ لِلْجَزَاءِ، تَقُولُ: أَنْتَ لَا تُكْرِمُنِي وَلَوْ أَكْرَمْتُكَ، تُرِيدُ وَإِنْ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يُوسُفَ: 17). وَقَوْلُهُ: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 71) تَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يُقْبَلُ أَنْ يَتَبَرَّرَ بِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا يُقْبَلُ وَإِنِ افْتَدَى بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسُوغُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ} فَإِنَّ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةَ لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ، وَأَنَّ الْمُشَدَّدَةُ مَعَ مَا عَمِلَتْ فِيهِ اسْمٌ، فَإِذَا كَانَتْ " لَوْ " بِمَنْزِلَةِ " إِنَّ " فَيَنْبَغِي أَلَّا تَلِيَهَا. أَجَابَ الصَّفَّارُ: بِأَنَّهُ قَدْ يَلِي " أَنَّ " الِاسْمُ فِي اللَّفْظِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ فِي إِنْ نَفْسِهَا، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي " لَوِ " الْمَحْمُولَةِ عَلَيْهَا، وَكَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي لَوْ قَبْلَ خُرُوجِهَا إِلَى الشَّرْطِ، مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْحُرُوفِ الطَّالِبَةِ لِلْأَفْعَالِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ " لَوْ " فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ بِمَعْنَى " إِنَّ " أَنَّ الْمَاضِيَ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَوِ الِامْتِنَاعِيَّةُ تَصْرِفُ مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْمَاضِي، فَإِنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ يَفْتَدِ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا تَقْتَضِي امْتِنَاعَ مَا يَلِيهَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا بِالْكَذِبِ. وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بِمَعْنَى " إِنْ "، وَالثَّانِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهُ عَلَى الْفَرْضِ، أَيْ وَلَوْ كُنَّا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ عِنْدَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيمَا أَفْرَدَهُ عَلَى سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: " لَوْ " تَدْخُلُ عَلَى جُمْلَتَيْنِ فِعْلِيَّتَيْنِ تَعَلَّقَ مَا بَيْنَهُمَا بِالْأُولَى تَعَلُّقَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مُخَلَّصَةً بِالشَّرْطِ كَـ " إِنْ " وَلَا عَامِلَةً مِثْلَهَا. وَإِنَّمَا سَرَى فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ اتِّفَاقًا مِنْ حَيْثُ إِفَادَتِهَا فِي مَضْمُونَيْ جُمْلَتِهَا. أَنَّ الثَّانِيَ امْتَنَعَ لِامْتِنَاعِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَنْ تَكْسُوَ النَّاسَ فَيُقَالُ لَكَ: هَلَّا كَسَوْتَ زَيْدًا، فَتَقُولُ: لَوْ جَاءَنِي زَيْدٌ لَكَسَوْتُهُ، افْتَقَرَتْ فِي جَوَابِهَا إِلَى مَا يَنْصِبُ عَلَمًا عَلَى التَّعْلِيقِ، فَزِيدَتِ اللَّامُ، وَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ " إِنْ " لِعَمَلِهَا فِي فِعْلِهَا، وَخُلُوصِهَا لِلشَّرْطِ. وَيَتَعَلَّقُ بِـ " لَوِ " الِامْتِنَاعِيَّةِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: إِنَّهَا كَالشَّرْطِيَّةِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالْفِعْلِ، فَلَا يَلِيهَا إِلَّا فِعْلٌ أَوْ مَعْمُولُ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ظَاهِرٌ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} (الْإِسْرَاءِ: 100) حُذِفَ الْفِعْلُ فَانْفَصَلَ الضَّمِيرُ. وَانْفَرَدَتْ " لَوْ " بِمُبَاشَرَةِ " أَنَّ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} (الْحُجُرَاتِ: 5) وَهُوَ كَثِيرٌ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ " أَنَّ " بَعْدَ " لَوْ " فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي الْخَبَرِ فَقِيلَ مَحْذُوفٌ، وَقِيلَ: لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: فَاعِلٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ، وَهُوَ أَقْيَسُ لِبَقَاءِ الِاخْتِصَاصِ. الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجِبُ كَوْنُ خَبَرِ " أَنَّ " الْوَاقِعَةِ بَعْدَ " لَوْ " فِعْلًا، لِيَكُونَ عِوَضًا عَنِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: هُوَ وَهْمٌ وَخَطَأٌ فَاحِشٌ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} (لُقْمَانَ: 27) وَكَذَا رَدَّهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ بِالْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا ذَاكَ فِي الْخَبَرِ الْمُشْتَقِّ، لَا الْجَامِدِ كَالَّذِي فِي الْآيَةِ. وَأَيَّدَ بَعْضُهُمْ كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} (لُقْمَانَ: 27) لَمَّا الْتَبَسَ بِالْعَطْفِ بِقَوْلِهِ: {مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} صَارَ خَبَرُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ، وَهُوَ " يَمُدُّهُ " كَأَنَّهُ خَبَرُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِالْتِبَاسِهَا بِهَا. قَالَ الشَّيْخُ فِي " الْمُغْنِي ": وَقَدْ وَجَدْتُ آيَةً فِي التَّنْزِيلِ وَقَعَ فِيهَا الْخَبَرُ اسْمًا مُشْتَقًّا وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، كَمَا لَمْ يَتَنَبَّهْ لِآيَةِ لُقْمَانَ، وَلَا ابْنُ الْحَاجِبِ وَإِلَّا لَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَهَذَا عَجِيبٌ فَإِنَّ " لَوْ " فِي الْآيَةِ لِلتَّمَنِّي، وَالْكَلَامُ فِي الِامْتِنَاعِيَّةِ، بَلْ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ مَقَالَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ سَبَقَهُ إِلَيْهَا السِّيرَافِيُّ. وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَمَا اسْتُدْرِكَ بِهِ مَنْقُولٌ قَدِيمًا فِي شَرْحِ الْإِيضَاحِ لِابْنِ الْخَبَّازِ، لَكِنْ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهِ، فَقَالَ فِي بَابِ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا: قَالَ السِّيرَافِيُّ: تَقُولُ: لَوْ أَنَّ زَيْدًا أَقَامَ لَأَكْرَمْتُهُ، وَلَا تَجُوزُ: لَوْ أَنَّ زَيْدًا حَاضِرٌ لَأَكْرَمْتُهُ، لِأَنَّكَ لَمْ تَلْفُظْ بِفِعْلٍ يَسُدُّ مَسَدَّ ذَلِكَ الْفِعْلِ. هَذَا كَلَامُهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} (الْأَحْزَابِ: 20) فَأُوقِعَ خَبَرُهَا صِفَةً. وَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بِأَنَّ هَذِهِ لِلتَّمَنِّي، فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى " لَيْتَ " كَمَا تَقُولُ: لَيْتَهُمْ بَادُونَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
تنبيه: ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ سُؤَالًا، وَهُوَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ لَوْ جَاءَنِي زَيْدٌ لَكَسَوْتُهُ، وَنَظِيرِهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى} (الزُّمَرِ: 4) وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَوْ زَيْدٌ جَاءَنِي لَكَسَوْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} (الْإِسْرَاءِ: 100) وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ زَيْدًا جَاءَنِي لَكَسَوْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} (الْحُجُرَاتِ: 5). وَأَجَابَ بِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْأُولَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ تَعْلِيقُ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ لَا غَيْرَ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى التَّعْلِيقِ السَّاذَجِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنْتُهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْغَرَضَ نَفْيُ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، وَبَيَانُ تَعَالِيهِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَدَاءِ هَذَا الْغَرَضِ إِلَّا تَجْدِيدُ الْفِعْلَيْنِ لِلتَّعَلُّقِ، دُونَ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَقَدِ انْضَمَّ إِلَى التَّعْلِيقِ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، إِمَّا نَفْيُ الشَّكِّ أَوِ الشُّبْهَةِ، أَنَّ الْمَذْكُورَ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ مَكْسُوٌّ لَا مَحَالَةَ لَوْ وَجَدَ مِنْهُ الْمَجِيءَ وَلَمْ يَمْتَنِعْ، وَإِمَّا بَيَانُ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} (الْإِسْرَاءِ: 100) مُحْتَمِلٌ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي أَنَّهُمْ لَا مَحَالَةَ يَمْلِكُونَ، وَأَنَّهُمُ الْمَخْصُوصُونَ بِالْإِمْسَاكِ لَوْ مَلَكُوا، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي هُوَ مَالِكُهَا، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُمْسَكُ. فَإِنْ قُلْتَ: " لَوْ " لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ، وَ " أَنْتُمْ " لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَكِنَّ بِـ " تَمْلِكُ " مُضْمَرًا، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ " لَوْ تَمْلِكُونَ "، وَبَيْنَ " لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ " لِمَكَانِ الْقَصْدِ إِلَى الْفِعْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ دُونَ الِاسْمِ، وَإِنَّمَا يَسُوغُ هَذَا الْفَرْقُ لَوِ ارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ. قُلْتُ: التَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَمْثِيلًا لَا يُتَكَلَّمُ بِهِ، يُنَزَّلُ الِاسْمُ فِي الظَّاهِرِ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، بِدَلِيلِ " لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي " فِي ظُهُورِ قَصْدِهِمْ إِلَى الِاسْمِ، لَكِنَّهُ أَهَمُّ فِيمَا سَاقَهُ الْمَثَلُ لِأَجْلِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (التَّوْبَةِ: 6) وَإِنْ كَانَ " أَحَدٌ " مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ فِي التَّقْدِيرِ. وَأَمَّا فِي الثَّالِثِ، فَفِيهِ مَا فِي الثَّانِي مَعَ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ الَّذِي تُعْطِيهِ " أَنَّ " وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ زَيْدًا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَجِيءَ، وَأَنَّهُ بِتَرْكِهِ الْمَجِيءَ قَدْ أَغْفَلَ حَظَّهُ، فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ وَقِسْ عَلَيْهَا نَظَائِرَ التَّرَاكِيبِ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ. الثَّالِثَةُ: الْأَكْثَرُ فِي جَوَابِهَا الْمُثْبَتِ اللَّامُ الْمَفْتُوحَةُ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ هُوَ اللَّازِمُ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ " لَوْ " قَالَ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 22) فَفِي اللَّامِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَازِمَةٌ لِلْأُولَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} (الْوَاقِعَةِ: 65) وَيَجُوزُ حَذْفُهَا} لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} (الْوَاقِعَةِ: 70). الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ حَذْفُ جَوَابِهَا لِلْعِلْمِ بِهِ وَلِلتَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (هُودٍ: 80) وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (الرَّعْدِ: 31) وَهُوَ كَثِيرٌ، سَبَقَ فِي بَابِ الْحَذْفِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} (لُقْمَانَ: 27) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ " لَوْ " مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ: لَنَفِدَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا نَفِدَتْ هُوَ الْجَوَابَ مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ النَّفَادِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ نَفْيُ النَّفَادِ لَازِمًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا وَالْبَحْرِ مِدَادًا كَانَ لُزُومُهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا أَوْلَى. وَقِيلَ: تُقَدَّرُ هِيَ وَجَوَابُهَا ظَاهِرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 91) تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ. وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 48) أَيْ وَلَوْ يَكُونُ وَخَطَطْتَ، إِذَنْ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ أَوْجُهِ " لَوْ " أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَصْلُحَ مَوْضِعَهَا " إِنِ " الْمَكْسُورَةُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَهَا، لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهِيَ مِثْلُهَا فَيَلِيهَا الْمُسْتَقْبَلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الْأَحْزَابِ: 52) {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا} (يس: 66). وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا لَفْظًا صَرَفَهُ لِلِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التَّوْبَةِ: 33). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يُوسُفَ: 17) وَقَوْلِهِ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} (النِّسَاءِ: 9) {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 91) وَنَظَائِرُهُ. قَالُوا: وَلَوْلَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ لَمَا اقْتَضَتْ جَوَابًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَوَابٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُضْمَرٍ، وَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ: إِنَّ تَأْوِيلَهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يُفْتَدَى بِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُقْبَلُ إِنِ افْتَدَى بِهِ. قَالُوا: وَجَوَابُهَا يَكُونُ مَاضِيًا لَفْظًا كَمَا سَبَقَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} (فَاطِرٍ: 14) وَمَعْنًى، وَيَكُونُ بِاللَّامِ غَالِبًا، نَحْوُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 20). وَقَدْ يُحْذَفُ، نَحْوُ: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} (الْوَاقِعَةِ: 70) وَلَا يُحْذَفُ غَالِبًا إِلَّا فِي صِلَةٍ، نَحْوُ: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا....} (النِّسَاءِ: 9) الْآيَةَ. الثَّالِثُ: لَوِ الْمَصْدَرِيَّةُ، وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَصْلُحَ مَوْضِعَهَا " أَنِ " الْمَفْتُوحَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 96). وَقَوْلُهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 109). {وَدَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} (النِّسَاءِ: 102). {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي} (الْمَعَارِجِ: 11) أَيِ الِافْتِدَاءَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمْهُورُ مَصْدَرِيَّةَ " لَوْ " وَتَأَوَّلُوا الْآيَاتِ الشَّرِيفَةَ عَلَى حَذْفِ مَفْعُولِ " يَوَدُّ "، وَحَذْفِ جَوَابِ " لَوْ "، أَيْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ طُولَ الْعُمْرِ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ لِيُسَرَّ بِذَلِكَ. وَأُشْكِلَ قَوْلُ الْأَوَّلِينَ بِدُخُولِهَا عَلَى " أَنَّ " الْمَصْدَرِيَّةِ، فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 30) وَالْحَرْفُ الْمَصْدَرِيُّ لَا يَدْخُلُ عَلَى مِثْلِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: يَوَدُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ بَيْنَهَا، فَانْتَفَتْ مُبَاشَرَةُ الْحَرْفِ الْمَصْدَرِيِّ لِمِثْلِهِ. وَأَوْرَدَ ابْنُ مَالِكٍ السُّؤَالَ فِي: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} (الشُّعَرَاءِ: 102) وَأَجَابَ بِهَذَا، وَبِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَوْكِيدِ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ، نَحْوُ: {فِجَاجًا سُبُلًا} (الْأَنْبِيَاءِ: 31). وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ نَظَرٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ دُخُولُ " لَوْ " عَلَى " ثَبَتَ " مُقَدَّرًا، إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ، وَهُوَ لَا يَرَاهُ فَكَيْفَ يُقَرِّرُهُ فِي الْجَوَابِ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَلَيْسَتْ هُنَا مَصْدَرِيَّةً بَلْ لِلتَّمَنِّي كَمَا سَيَأْتِي، وَلَوْ سَلِمَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ وَصْلُ لَوْ بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِـ " أَنَّ ". وَقَدْ نَصَّ ابْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ، عَلَى أَنَّ صِلَتَهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِعْلِيَّةً بِمَاضٍ أَوْ مُضَارِعٍ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَأَكْثَرُ وُقُوعِ هَذِهِ بَعْدَ " وَدَّ " أَوْ " يَوَدُّ " أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ مُفْهِمٍ تَمَنٍّ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ غَلَطُ مَنْ عَدَّهَا حَرْفَ تَمَنٍّ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فِعْلِ تَمَنٍّ، كَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ لَيْتَ وَفِعْلِ تَمَنٍّ. الرَّابِعُ: لَوِ الَّتِي لِلتَّمَنِّي، وَعَلَامَتُهَا أَنْ يَصِحَّ مَوْضِعَهَا " لَيْتَ "، نَحْوُ: لَوْ تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا، كَمَا تَقُولُ: لَيْتَكَ تَأْتِينَا فَتَحَدِّثُنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} (الشُّعَرَاءِ: 102) وَلِهَذَا نُصِبَ فَيَكُونُ فِي جَوَابِهَا، لِأَنَّهَا أَفْهَمَتِ التَّمَنِّيَ، كَمَا انْتَصَبَ " فَأَفُوزَ " (النِّسَاءِ: 73) فِي جَوَابِ لَيْتَ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} (النِّسَاءِ: 73). وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قِسْمًا آخَرَ وَهُوَ التَّعْلِيلُ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (النِّسَاءِ: 135).
فِي أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ: مُرَكَّبَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مِنْ " لَوْ " وَ " لَا "، حَكَاهُ الصَّفَّارُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ. لِأَنَّ مِنَ التَّرْكِيبِ مَا يُغَيَّرُ، وَمِنْهُ مَا لَا يُغَيَّرُ، فَمِمَّا لَا يُغَيَّرُ " لَوْلَا " وَمِمَّا يَتَغَيَّرُ بِالتَّرْكِيبِ حَبَّذَا صَارَتْ لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَانْفَصَلَ " ذَا " عَنْ أَنْ يَكُونَ مُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعًا أَوْ مُؤَنَّثًا، وَصَارَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ " هَلَّا " زَالَ عَنْهَا الِاسْتِفْهَامُ جُمْلَةً. ثُمَّ هِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُوبٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لِوُجُودٍ بِالدَّالِ. قِيلَ: وَيَلْزَمُ عَلَى عِبَارَةِ سِيبَوَيْهِ فِي " لَوْ " أَنْ تَقُولَ: حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِانْتِفَاءِ مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ رَصْفِ الْمَبَانِي: الصَّحِيحُ أَنَّ تَفْسِيرَهَا بِحَسَبِ الْجُمَلِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ بَعْدَهَا مُوجَبَتَيْنِ، فَهِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُوبٍ نَحْوُ: لَوْلَا زَيْدٌ لَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، فَالْإِحْسَانُ امْتَنَعَ لِوُجُودِ زَيْدٍ، وَإِنْ كَانَتَا مَنْفِيَّتَيْنِ فَحَرْفُ وُجُودٍ لِامْتِنَاعٍ، نَحْوُ: لَوْلَا عَدَمُ قِيَامِ زَيْدٍ لَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانَتَا مُوجَبَةً وَمَنْفِيَّةً فَهِيَ حِرَفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ نَحْوُ: لَوْلَا زَيْدٌ لَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانَتَا مَنْفِيَّةً وَمُوجَبَةً فَهِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ نَحْوُ: لَوْلَا عُدْمُ زَيْدٍ لَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ. انْتَهَى. وَيَلْزَمُ فِي خَبَرِهَا الْحَذْفُ وَيُسْتَغْنَى بِجَوَابِهَا عَنِ الْخَبَرِ، وَالْأَكْثَرُ فِي جَوَابِهَا الْمُثْبَتِ اللَّامِ، نَحْوُ: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (سَبَأٍ: 31) {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الصَّافَّاتِ: 143- 144). وَقَدْ يُحْذَفُ لِلْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (النُّورِ: 10). وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يُوسُفَ: 24) لَهَمَّ بِهَا لَكِنَّهُ امْتَنَعَ هَمُّهُ بِهَا لِوُجُودِ رُؤْيَةِ بُرْهَانِ رَبِّهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ هَمٌّ أَلْبَتَّةَ، كَقَوْلِكَ لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ، الْمَعْنَى أَنَّ الْإِكْرَامَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُودِ زَيْدٍ، وَبِهِ يُتَخَلَّصُ مِنَ الْإِشْكَالِ الَّذِي يُورَدُ، وَهُوَ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الْهَمُّ. وَأَمَّا جَوَابُهَا إِذَا كَانَ مَنْفِيًّا فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْحَذْفِ، نَحْوُ: {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} (النُّورِ: 21). وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ ابْنِ عُصْفُورٍ أَنَّ النَّفْيَ بِـ " مَا " الْأَحْسَنُ بِاللَّامِ. الثَّانِي: التَّحْضِيضُ فَتَخْتَصُّ بِالْمُضَارِعِ، نَحْوُ: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} (النَّمْلِ: 46). {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} (الْمَائِدَةِ: 63). {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} (الْمُنَافِقُونَ: 10). وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّنْدِيمُ فَتَخْتَصُّ بِالْمَاضِي، نَحْوُ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (النُّورِ: 13). {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} (الْأَحْقَافِ: 28). {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} (النُّورِ: 16). {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (الْأَنْعَامِ: 43). وَفِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ تَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ التَّحْضِيضَ وَالتَّوْبِيخَ لَا يَرِدَانِ إِلَّا عَلَى الْفِعْلِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. وَقَدْ جَوَّزُوا فِيهَا إِذَا وَقَعَ الْمَاضِي بَعْدَهَا أَنْ يَكُونَ تَحْضِيضًا أَيْضًا، وَهُوَ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَرِينَةً صَارِفَةً لِلْمَاضِي عَنِ الْمُضِيِّ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (التَّوْبَةِ: 122)، يَجُوزُ بَقَاءُ " نَفَرَ " عَلَى مَعْنَاهُ فِي الْمُضِيِّ، فَيَكُونُ " لَوْلَا " تَوْبِيخًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، فَيَكُونُ تَحْضِيضًا. قَالُوا: وَقَدْ تُفْصَلُ مِنَ الْفِعْلِ بِإِذْ وَإِذَا مَعْمُولَيْنِ لَهُ، وَبِجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ مُعْتَرِضَةٍ. فَالْأَوَّلُ: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} (النُّورِ: 16) {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (الْأَنْعَامِ: 43). وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ، نَحْوُ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الْوَاقِعَةِ: 83إِلَى87) الْمَعْنَى: فَهَلَّا تَرْجِعُونَ الرُّوحَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَحَالَتُكُمْ أَنَّكُمْ شَاهِدُونَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُحْتَضَرِ مِنْكُمْ بِعِلْمِنَا، أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ، وَلَكِنَّكُمْ لَا تُشَاهِدُونَ ذَلِكَ، وَ " لَوْلَا " الثَّانِيَةُ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى. الثَّالِثُ لِلِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى " هَلْ "، نَحْوُ: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} (الْمُنَافِقُونَ: 10). {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} (الْأَنْعَامِ: 8). قَالَهُ الْهَرَوِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْجُمْهُورُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأُولَى لِلْعَرْضِ وَالثَّانِيَةَ مِثْلُ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (النُّورِ: 13). الرَّابِعُ: لِلنَّفْيِ بِمَعْنَى " لَمْ " نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} (يُونُسَ: 98) أَيْ لَمْ تَكُنْ. فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ (هُودٍ: 116) أَيْ فَلَمْ يَكُنْ، ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْهَرَوِيُّ فِي الْأَزْهِيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ " فَهَلَّا "، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَهَلَّا كَانَتْ قَرْيَةٌ. نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَاهُ مَعْنَى الْمُضِيِّ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ التَّوْبِيخِ بِالْمَاضِي يُشْعِرُ بِانْتِفَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: هَذَا يُخَالِفُ أَصَحَّ الْإِعْرَابَيْنِ، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّفْيِ يَقْوَى فِيهِ الْبَدَلُ، وَيَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْآيَتَيْنِ إِلَّا النَّصْبُ، أَيْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مُوجَبٌ، وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ. وَجَعَلَ ابْنُ فَارِسٍ مِنْهُ: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} (الْكَهْفِ: 15). الْمَعْنَى اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً وَلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِ بِسُلْطَانٍ. وَنَقَلَ ابْنُ بَرَّجَانَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ هُودٍ، عَنِ الْخَلِيلِ، أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ " لَوْلَا " فَهِيَ بِمَعْنَى " هَلَّا " إِلَّا قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ} (الصَّافَّاتِ: 143- 144) لِأَنَّ جَوَابَهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا. وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ.
هِيَ قَرِيبٌ مِنْ " لَوْلَا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْمَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} (الْحِجْرِ: 7) قَالَ ابْنُ فَارِسٌ: هِيَ بِمَعْنَى " هَلَّا ".
نَفْيٌ لِلْمُضَارِعِ وَقَلْبُهُ مَاضِيًا وَتَجْزِمُهُ، نَحْوُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (الْإِخْلَاصِ: 3) وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَنْصِبُ بِهَا، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ: أَلَمْ نَشْرَحَ (الشَّرْحِ: 1) بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَخَرَجَتْ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، فَفُتِحَ لَهَا مَا قَبْلَهَا ثُمَّ حُذِفَتْ وَنُوِيَتْ.
عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَتَجْزِمُهُ وَتَقْلِبُهُ مَاضِيًا، كَـ " لَمْ "، نَحْوُ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 142) {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: 8) أَيْ لَمْ يَذُوقُوهُ. {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 214) لَكِنَّهَا تُفَارِقُ " لَمْ " مِنْ جِهَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ " لَمْ " لِنَفْيِ فَعَلَ، وَ " لَمَّا " لِنَفْيِ " قَدْ فَعَلَ "، فَالْمَنْفِيُّ بِهَا آكَدُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ: " لَمَّا " مُرَكَّبَةٌ مِنْ " لَمْ " وَ " مَا "، وَهِيَ نَقِيضَةُ " قَدْ "، وَتَنْفِي مَا تُثْبِتُهُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُنْتَظَرِ. وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ أَبِي الْفَتْحِ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَصْلُ " لَمَّا " " لَمْ " زِيدَتْ عَلَيْهَا " مَا "، فَصَارَتْ نَفْيًا، لِقَوْلِهِ: " قَدْ كَانَ " " وَلَمْ " تَنْفِي " فَعَلَ "، تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ، فَيَقُولُ الْمُجِيبُ بِالنَّفْيِ: لَمْ يَقُمْ، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ قَامَ، قَالَ: لَمَّا يَقُمْ، لَمَّا زَادَ فِي الْإِثْبَاتِ " قَدْ " زَادَ فِي النَّفْيِ " مَا " إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا رَكَّبُوا " لَمْ " مَعَ " مَا " حَدَثَ لَهَا مَعْنًى وَلَفْظٌ، أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهَا صَارَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ظَرْفًا، فَقَالُوا: لَمَّا قُمْتَ قَامَ زَيْدٌ، أَيْ وَقْتَ قِيَامِكَ قَامَ زَيْدٌ، وَأَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا دُونَ مَجْزُومِهَا، نَحْوَ جِئْتُكَ وَلَمَّا. أَيْ وَلَمَّا تَجِئْ. انْتَهَى. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِهِ ثَلَاثَةُ فُرُوقٍ: مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَكَوْنُهَا قَدْ تَقَعُ اسْمًا هُوَ ظَرْفٌ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا دُونَ الْمَنْفِيِّ بِخِلَافِ " لَمْ ". وَرَابِعُهَا: يَجِيءُ اتِّصَالُ مَنْفِيِّهَا بِالْحَالِ، وَالْمَنْفِيُّ بِلَمْ لَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا، نَحْوُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (الْإِنْسَانِ: 1) وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا، نَحْوُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (مَرْيَمَ: 4). وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ " لَمَّا " يَجُوزُ حَذْفُهُ اخْتِيَارًا وَهِيَ أَحْسَنُ مَا تُخْرَجُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ " وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا " (هُودٍ: 111)، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ بَعْدَ " لَمْ " إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ وَهَذَا يَرْجِعُ لِلثَّالِثِ. سَادِسُهَا: أَنَّ " لَمْ " تُصَاحِبُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ " لَمَّا " فَلَا يُقَالُ: إِنْ لَمَّا يَقُمْ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} (الْمَائِدَةِ: 67) وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا (الْمَائِدَةِ: 73). سَابِعُهَا: أَنَّ مَنْفِيَّ " لَمَّا " مُتَوَقَّعٌ ثُبُوتُهُ بِخِلَافِ مَنْفِيِّ " لَمْ "، أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: 8) أَنَّهُمْ لَمْ يَذُوقُوهُ إِلَى الْآنَ، وَأَنَّ ذَوْقَهُمْ لَهُ مُتَوَقَّعٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الْحُجُرَاتِ: 14) مَا فِي " لَمَّا " مِنْ مَعْنَى التَّوَقُّعِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ. وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ دَلَالَةَ لَمَّا عَلَى التَّوَقُّعِ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْدُ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ " لَمَّا " لَيْسَتْ لِنَفْيِ الْمُتَوَقَّعِ حَيْثُ يُسْتَبْعَدُ تَوَقُّعُهُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِنَفْيِ الْفِعْلِ الْمُتَوَقَّعِ، كَمَا أَنَّ " قَدْ " لِإِثْبَاتِ الْفِعْلِ الْمُتَوَقَّعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِـ (قَدْ فَعَلَ) أَيْ يُجَابُ بِهَا فِي النَّفْيِ حَيْثُ يُجَابُ بِقَدْ فِي الْإِثْبَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: جَاءَتْ لَمَّا بَعْدَ فِعْلٍ، يَقُولُ الْقَائِلُ: لَمَّا يَفْعَلْ فَتَقُولُ قَدْ فَعَلَ، فَانْظُرْ كَيْفَ أَجَابَ بِقَدِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ النَّافِيَ بِلَمَّا مُتَوَقِّعٌ لِمَا نَفَاهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَاضٍ، فَهِيَ حَرْفُ وُجُودٍ لِوُجُودٍ، أَوْ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، فَيَقْتَضِي وُقُوعَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، عَكْسُ (لَوْ) نَحْوُ: لَمَّا جَاءَنِي زَيْدٌ أَكْرَمْتُهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ وَالْفَارِسِيُّ: ظَرْفٌ بِمَعْنَى " حِينَ ". وَرَدَّهُ ابْنُ عُصْفُورٍ بِقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (الْكَهْفِ: 59) قَالَ: لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَقَعْ حِينَ ظَلَمُوا، بَلْ كَانَ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالْهَلَاكِ إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَإِنْذَارُهُمْ إِيَّاهُمْ، وَبَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ الْإِهْلَاكُ فَلَيْسَتْ بِمَعْنَى " حِينَ "، وَهَذَا الرَّدُّ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا قَدَّرْنَا الْإِهْلَاكَ أَوَّلَ مَا ابْتَدَأَ الظُّلْمُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ: ظَلَمُوا فِي مَعْنَى اسْتَدَامُوا الظُّلْمَ أَيْ وَقَعَ الْإِهْلَاكُ لَهُمْ فِي حِينِ ظُلْمِهِمْ أَيْ فِي حِينِ اسْتِدَامَتِهِمُ الظُّلْمَ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 67) وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} (الْقَصَصِ: 23). {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} (هُودٍ: 77). {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} (يُونُسَ: 98). {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (غَافِرٍ: 85) وَأَمَّا جَوَابُهَا فَقَدْ يَجِيءُ ظَاهِرًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ يَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً مَقْرُونَةً بِالْفَاءِ، نَحْوُ: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} (لُقْمَانَ: 32) أَوْ مَقْرُونَةً بِمَا النَّافِيَةِ كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ} (فَاطِرٍ: 42). أَوْ بِإِذَا الْمُفَاجِئَةِ، نَحْوُ: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 12). {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (الزُّخْرُفِ: 57) {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 65). {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} (الزُّخْرُفِ: 57). وَبِهَذَا رُدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى " حِينَ " فَإِنَّ مَا النَّافِيَةَ وَإِذَا الْفُجَائِيَّةَ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهُمَا فِيمَا قَبْلَهُمَا، فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا. وَقَدْ يَكُونُ مُضَارِعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} (هُودٍ: 74) وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَاضِي أَيْ جَادَلَنَا. وَقَدْ يُحْذَفُ كَقَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ (لُقْمَانَ: 32) قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّقْدِيرُ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ، مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ " مُقْتَصِدٌ " هُوَ الْجَوَابُ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ خَبَرَهَا مَقْرُونٌ بِالْفَاءِ يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (هُودٍ: 80) جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَمَنَعْتُكُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (الْبَقَرَةِ: 89). قِيلَ: جَوَابُ لَمَّا الْأُولَى لَمَّا الثَّانِيَةُ؛ وَجَوَابُهَا، وَرَدَ بِاقْتِرَانِهِ. وَقِيلَ: " كَفَرُوا بِهِ " جَوَابٌ لَهُمَا، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَكْرِيرٌ لِلْأُولَى. وَقِيلَ: جَوَابُ الْأُولَى مَحْذُوفٌ أَيْ أَنْكَرُوهُ. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} (الْبَقَرَةِ: 17) فَقِيلَ: الْجَوَابُ ذَهَبَ اللَّهُ وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ اسْتِطَالَةً لِلْكَلَامِ مَعَ أَمْنِ اللَّبْسِ، أَيْ حُمِدَتْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ (يُوسُفَ: 15) قِيلَ الْجَوَابُ قَوْلُهُ: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ (يُوسُفَ: 15) عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ زَائِدَةً. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَنْجَيْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} (هُودٍ: 74)، قِيلَ: الْجَوَابُ وَجَاءَتْهُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَخَذَ يُجَادِلُنَا. وَقِيلَ: يُجَادِلُنَا مُؤَوَّلٌ بِجَادَلَنَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (الصَّافَّاتِ: 103) أَيْ أَجْزَلَ لَهُ الثَّوَابَ وَتَلَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} (السَّجْدَةِ: 24) فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَجَعَلْنَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْجَوَابِ، لَا أَنَّهُ الْجَوَابُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (الْكَهْفِ: 59) فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَهْلَكْنَاهُمْ يَسُدُّ مَسَدَّ الْجَوَابِ لَا أَنَّهُ الْجَوَابُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} (فَاطِرٍ: 42) فَإِنَّمَا وَقَعَ جَوَابُهَا بِالنَّفْيِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ زَادَهُمْ نُفُورًا أَوِ ازْدَادَ نُفُورُهُمْ. تَنْبِيهٌ: يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بَيْنَ تَجَرُّدِهَا مِنْ " أَنْ " وَدُخُولِهَا عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ نَاصِبُهَا قَدْ تَعَلَّقَ بِعَقِبِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ خَافِضَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، وَإِذَا انْفَتَحَتْ " أَنْ " بَعْدَهَا أَكَّدَتْ هَذَا الْمَعْنَى وَشَدَّدَتْهُ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ، قَالَ: وَنَرَاهُ مَبْنِيًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 33) الْآيَةَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أَبْصَرَهُمْ لَحِقَتْهُ الْمَسَاءَةُ، وَضِيقُ الذَّرْعِ فِي بَدِيهَةِ الْأَمْرِ وَغُرَّتِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطَّارِقِ: 4) عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ الْمِيمِ. وَقَوْلِهِ: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (الزُّخْرُفِ: 35).
مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْنِ: اللَّامِ وَمَا النَّافِيَةِ. وَسِيبَوَيْهِ يَجْعَلُ مَا زَائِدَةً، وَالْفَارِسِيُّ يَجْعَلُ اللَّامَ، وَسَيَأْتِي فِي حَرْفِ الْمِيمِ.
صِيغَةٌ مُرْتَجَلَةٌ لِلنَّفْيِ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَمُرَكَّبَةٌ عِنْدَ الْخَلِيلِ مِنْ لَا وَأَنْ وَاعْتُرِضَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَيْهَا، نَحْوُ: زَيْدًا لَنْ أَضْرِبَ، وَجَوَابُهُ يَجُوزُ فِي الْمُرَكَّبَاتِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَسَائِطِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ جَازِمَةً، وَقَدْ قِيلَ بِهِ، إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ النَّصْبُ. وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ، فَهِيَ لِنَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهَا فِي النَّفْيِ نَقِيضَةُ السِّينِ وَسَوْفَ، وَأَنْ فِي الْإِثْبَاتِ، فَإِذَا قُلْتَ: سَأَفْعَلُ أَوْ سَوْفَ أَفْعَلُ كَانَ نَقِيضُهُ لَنْ أَفْعَلَ. وَهِيَ فِي نَفْيِ الِاسْتِقْبَالِ آكَدُ مِنْ لَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} (يُوسُفَ: 8) آكَدُ مِنْ قَوْلِهِ: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} (الْكَهْفِ: 60). وَلَيْسَ مَعْنَاهَا النَّفْيَ عَلَى التَّأْيِيدِ، خِلَافًا لِصَاحِبِ الْأُنْمُوذَجِ بَلْ إِنَّ النَّفْيَ مُسْتَمِرٌّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِلَّا أَنْ يَطْرَأَ مَا يُزِيلُهُ، فَهِيَ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَ " لَمْ " لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَ " مَا " لِنَفْيِ الْحَالِ. وَمِنْ خَوَاصِّهَا أَنَّهَا تَنْفِي مَا قَرُبَ، وَيَمْتَدُّ مَعْنَى النَّفْيِ فِيهَا كَامْتِدَادِ مَعْنَاهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} (الْجُمُعَةِ: 7) بِحَرْفِ " لَا " فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِهِ حَرْفُ الشَّرْطِ بِالْفِعْلِ، فَصَارَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ يَعُمُّ الْأَزْمِنَةَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: مَتَى زَعَمُوا ذَلِكَ لِوَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَقِيلَ لَهُمْ: تَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ. وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} (الْبَقَرَةِ: 95) فَقَصَرَ مِنْ صِيغَةِ النَّفْيِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} (الْبَقَرَةِ: 94) وَلَيْسَتْ لَنْ مَعَ كَانَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، لِأَنَّ كَانَ لَا تَدْخُلُ عَلَى حَدَثٍ، وَإِنَّمَا هِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِوَالْخَبَرِ، عِبَارَةٌ عَنْ قِصَرِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ذَلِكَ الْحَدَثُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، ثُمَّ قَالَ فِي الْجَوَابِ: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} فَانْتَظَمَ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ. وَأَمَّا التَّأْبِيدُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ، تَقُولُ: زَيْدٌ يَصُومُ أَبَدًا، وَيُصَلِّي أَبَدًا، وَبِهَذَا يَبْطُلُ تَعَلُّقُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ " لَنْ " تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ، وَلَوْ نُفِيَ بِلَا لَكَانَ لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ، إِذْ لَمْ يُخَصَّ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالسُّنَّةِ، وَأَمَّا الْإِدْرَاكُ الَّذِي نُفِيَ بِلَا فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ وَلَمْ يَقُلْ: تُدْرِكُونَ رَبَّكُمْ، وَالْعَرَبُ تَنْفِي الْمَظْنُونَ بِلَنْ، وَالْمَشْكُوكَ بِلَا. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ التَّأْبِيدَ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَنِ الطَّوِيلِ لَا عَنِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ ابْنُ الْخَشَّابِ. وَقَدْ سَبَقَ مَزِيدُ كَلَامٍ فِيهَا فِي فَصْلِ التَّأْكِيدِ وَأَدَوَاتِهِ. قِيلَ: وَقَدْ تَأْتِي لِلدُّعَاءِ كَمَا أَتَتْ لَا لِذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} (الْقَصَصِ: 17). وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، لِأَنَّ فِعْلَ الدُّعَاءِ لَا يُسْنَدُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بَلْ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ، نَحْوُ: يَارَبِّ لَا عَذَّبْتَ فُلَانًا! وَنَحْوَهُ: لَا عَذَّبَ اللَّهُ عَمْرًا.
لِلِاسْتِدْرَاكِ مُخَفَّفَةٌ وَمُثَقَّلَةٌ، وَحَقِيقَتُهُ رَفْعُ مَفْهُومِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، تَقُولُ: مَا زَيْدٌ شُجَاعًا وَلَكِنَّهُ كَرِيمٌ، فَرُفِعَتْ بِلَكِنَّ مَا أَفْهَمَهُ الْوَصْفُ بِالشَّجَاعَةِ مِنْ ثُبُوتِ الْكَرَمِ لَهُ لِكَوْنِهِمَا كَالْمُتَضَايِفَيْنِ، فَإِنْ رَفَعْنَا مَا أَفَادَهُ مَنْطُوقُ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَذَاكَ اسْتِثْنَاءٌ، وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُهَا بَيْنَ مُتَوَافِقَيْنِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} (الْأَنْفَالِ: 43) لِكَوْنِهِ جَاءَ فِي سِيَاقِ لَوْ، وَلَوْ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ مُمْتَنِعَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَلَمَّا قِيلَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ عُلِمَ إِثْبَاتُ مَا فُهِمَ إِثْبَاتُهُ أَوَّلًا وَهُوَ سَبَبُ التَّسْلِيمِ، وَهُوَ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ مَا أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لِيُسَلِّمَكُمْ فَحُذِفَ السَّبَبُ وَأُقِيمَ الْمُسَبِّبُ مَقَامَهُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْفَرْقُ بَيْنَ بَلْ وَلَكِنْ، وَإِنِ اتَّفَقَا فِي أَنَّ الْحُكْمَ لِلثَّانِي، أَنَّ " لَكِنْ " وَضْعُهَا عَلَى مُخَالَفَةِ مَا بَعْدَهُمَا لِمَا قَبْلَهُمَا، وَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُهُ إِلَّا مُثْبَتًا لِامْتِنَاعِ تَقْدِيرِ النَّفْيِ فِي الْمُفْرَدِ، وَإِذَا كَانَ مُثْبَتًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ نَفْيًا، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، وَلَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا بَلْ فَلِلْإِضْرَابِ مُطْلَقًا، مُوجَبًا كَانَ الْأَوَّلُ أَوْ مَنْفِيًّا. وَإِذَا ثَقُلَتْ فَهِيَ مِنْ أَخَوَاتِ إِنَّ تَنْصِبُ الِاسْمَ وَتَرْفَعُ الْخَبَرَ، وَلَا يَلِيهَا الْفِعْلُ. وَأَمَّا وُقُوعُ الْمَرْفُوعِ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} (الْكَهْفِ: 38) وَهُوَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فَجَوَابُهُ أَنَّهَا هُنَا لَيْسَتِ الْمُثَقَّلَةُ بَلْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ، وَالتَّقْدِيرُ لَكِنْ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، وَلِهَذَا تُكْتَبُ فِي الْمَصَاحِفِ بِالْأَلِفِ، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا بِهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ أَلْقَوْا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى النُّونِ، فَالْتَقَتِ النُّونَانِ فَأُدْغِمَتِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، وَمَوْضِعُ " أَنَا " رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَاللَّهُ مُبْتَدَأٌ ثَالِثٌ، وَرَبِّي خَبَرُ الْمُبْتَدَأِالثَّالِثِ، وَالْمُبْتَدَأُ الثَّالِثُ وَخَبَرُهُ خَبَرُ الثَّانِي، وَالثَّانِي هُوَ خَبَرُ الْأَوَّلِ، وَالرَّاجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ الْيَاءُ. ثُمَّ الْمُخَفَّفَةُ قَدْ تَكُونُ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَهِيَ عَامِلَةٌ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ عَامِلَةٍ فَيَقَعُ بَعْدَهَا الْمُفْرَدُ، نَحْوَ مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، فَتَكُونُ عَاطِفَةً عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ كَانَتْ حَرْفَ ابْتِدَاءٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: إِذَا وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فَهَلْ هِيَ لِلْعَطْفِ أَوْ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ. قَوْلَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ (النِّسَاءِ: 166). قَالَ: وَنَظِيرُ فَائِدَةِ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَعَلَى الْعَطْفِ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى كَوْنِهَا حَرْفَ ابْتِدَاءٍ يَجُوزُ. قَالَ: وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْوَاوُ انْتَقَلَ الْعَطْفُ إِلَيْهَا وَتَجَرَّدَتْ لِلِاسْتِدْرَاكِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْعَرَبِ تَشْدِيدُ النُّونِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالْوَاوِ، وَتَخْفِيفُهَا إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهَا، وَعَلَى هَذَا جَاءَ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الْأَنْعَامِ: 33) {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الْأَعْرَافِ: 131) {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} (النِّسَاءِ: 166) {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (التَّوْبَةِ: 88). {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا} (آلِ عِمْرَانَ: 198). {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} (مَرْيَمَ: 38). وَعَلَّلَ الْفَرَّاءُ ذَلِكَ بِأَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ تَكُونُ عَاطِفَةً فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى وَاوٍ مَعَهَا كَـ " بَلْ "، فَإِذَا كَانَ قَبْلَهَا وَاوٌ لَمْ تُشْبِهْ بَلْ؛ لِأَنَّ بَلْ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُشَدَّدَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ وَلَا تَكُونُ عَاطِفَةً. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} (الْأَحْزَابِ: 40) فَأَكْثُرُهُمْ عَلَى تَخْفِيفِهَا وَنَصْبُ " رَسُولَ اللَّهِ " بِإِضْمَارِ كَانَ أَوْ بِالْعَطْفِ عَلَى أَبَا أَحَدٍ. وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ، لَكِنْ لَيْسَتْ عَاطِفَةً لِأَجْلِ الْوَاوِ، فَالْأَلْيَقُ لَهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْجُمَلِ كَـ " بَلْ " الْعَاطِفَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِتَشْدِيدِهَا عَلَى أَنَّهَا عَامِلَةٌ، وَحُذِفَ خَبَرُهَا، أَيْ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَيْ مُحَمَّدٌ.
تَجِيءُ لَمَعَانٍ: الْأَوَّلُ لِلتَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ نَحْوُ: لَعَلَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَنَا، وَلِلْإِشْفَاقِ فِي الْمَكْرُوهِ، نَحْوُ: لَعَلَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَاصِي. ثُمَّ وَرَدَتْ فِي كَلَامِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْوَصْفَانِ، لِأَنَّ التَّرَجِّيَ لِلْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ وَالْإِشْفَاقُ. فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) مَعْنَاهُ: كُونَا عَلَى رَجَائِكُمَا فِي ذِكْرِهِمَا، يَعْنِي أَنَّهُ كَلَامٌ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى جَانِبِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا جَازِمَيْنِ بِعَدَمِ إِيمَانِ فِرْعَوْنَ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُمَا فِي الْخَوْفِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشُّورَى: 17)، فَإِنَّ السَّاعَةَ مَخُوفَةٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} (الشُّورَى: 18). وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، حَيْثُ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ؟ هَلْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْمَحْبُوبِ أَوْ مُطْلَقًا؟ وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَحْبُوبِ فَهَلْ ذَلِكَ إِخْرَاجٌ لَهَا عَنْ وَضْعِ التَّرَجِّي إِلَى وَضْعِ الْخَبَرِ فَيَكُونُ مَجَازًا أَمْ لَا؟. قُلْتُ: لَيْسَ إِخْرَاجًا لَهَا عَنْ وَضْعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا مِنَ الْكَرِيمِ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَعْرِضُ بِأَنْ يَفْعَلَ إِلَّا بَعْدَ التَّصْمِيمِ عَلَيْهِ، فَجَرَى الْخِطَابُ الْإِلَهِيُّ مَجْرَى خِطَابِ عُظَمَاءِ الْمُلُوكِ مِنَ الْخَلْقِ. وَقَوْلِهِ: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ... الْآيَةَ إِلَى: تَتَّقُونَ} (الْبَقَرَةِ: 21) إِطْمَاعُ الْمُؤْمِنِ بِأَنْ يَبْلُغَ بِإِيمَانِهِ دَرَجَةَ التَّقْوَى الْعَالِيَةَ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِيمَانِ يَفْتَتِحُهَا وَبِالْإِيمَانِ يَخْتَتِمُهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْعُ مُلْزِمٌ. وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، لَكِنَّهُ كَرِيمٌ رَحِيمٌ إِذَا أَطْمَعَ فَعَلَ مَا يُطْمِعُ لَا مَحَالَةَ، فَجَرَى إِطْمَاعُهُ مَجْرَى وَعْدِهِ، فَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. وَهَذَا فِيهِ رَائِحَةُ الِاعْتِزَالِ فِي الْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْإِطْمَاعُ دُونَ التَّحْقِيقِ، كَيْلَا يَتَّكِلَ الْعِبَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (التَّحْرِيمِ: 8). وَقَالَ الرَّاغِبُ: " لَعَلَّ " طَمَعٌ وَإِشْفَاقٌ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، وَفُسِّرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ بِكَيْ وَقَالُوا: إِنَّ الطَّمَعَ وَالْإِشْفَاقَ لَا يَصِحُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: وَلَعَلَّ- وَإِنْ كَانَ طَمَعًا- فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي فِي كَلَامِهِمْ تَارَةً طَمَعَ الْمُخَاطِبِ، وَتَارَةً طَمَعَ الْمُخَاطَبِ، وَتَارَةً طَمَعَ غَيْرِهِمَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} (الشُّعَرَاءِ: 40)، فَذَلِكَ طَمَعٌ مِنْهُمْ فِي فِرْعَوْنَ. وَفِي قَوْلِهِ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) إِطْمَاعُ مُوسَى وَهَارُونَ، وَمَعْنَاهُ: قُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا رَاجِينَ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى. وَقَوْلِهِ: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} (هُودٍ: 12)، أَيْ تَظُنُّ بِكَ النَّاسُ. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} (الشُّعَرَاءِ: 3) وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الْأَنْفَالِ: 45) أَيْ رَاجِينَ الْفَلَاحَ كَمَا قَالَ: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} (الْإِسْرَاءِ: 57). وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتَّرَجِّي إِلَّا فِي الْمُمْكِنِ لِأَنَّهُ انْتِطَارٌ، وَلَا يُنْتَظَرُ إِلَّا فِي مُمْكِنٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (غَافِرٍ: 36) الْآيَةَ، فَاطِّلَاعُ فِرْعَوْنَ إِلَى الْإِلَهِ مُسْتَحِيلٌ، وَبِجَهْلِهِ اعْتَقَدَ إِمْكَانَهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي الْإِلَهِ الْجِسْمِيَّةَ وَالْمَكَانَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. الثَّانِي لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الْأَنْعَامِ: 155). {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (النَّحْلِ: 15) أَيْ كَيْ. وَجَعَلَ مِنْهُ ثَعْلَبٌ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} (طه: 44) أَيْ كَيْ، حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ. الثَّالِثُ: الِاسْتِفْهَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (الطَّلَاقِ: 1) {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (عَبَسَ: 3). وَحَكَى الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْوَاحِدِيِّ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَعَلَّ فَإِنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 129) فَإِنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ. وَكَوْنُهَا لِلتَّشْبِيهِ غَرِيبٌ لَمْ يَذْكُرْهُ النُّحَاةُ، وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أَنَّ لَعَلَّ لِلتَّشْبِيهِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لِلرَّجَاءِ الْمَحْضِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرَجِّيَ وَالتَّمَنِّيَ مِنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ كَيْفَ يَتَعَلَّقَانِ بِالْمَاضِي. وَقَدْ وَقَعَ خَبَرُ لَيْتَ مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} (مَرْيَمَ: 23). وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى مَنْعِ وُقُوعِ الْمَاضِي خَبَرًا لِلَعَلَّ الرُّمَّانِيُّ.
فِعْلٌ مَعْنَاهُ نَفْيُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي الْحَالِ، إِذَا قُلْتَ: لَيْسَ زَيْدًا قَائِمًا نَفَيْتَ قِيَامَهُ فِي حَالِكَ هَذِهِ، وَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا غَدًا لَمْ يَسْتَقِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فَيَكُونُ فِيهَا مُسْتَقْبَلًا. هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهَا لِنَفْيِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عُمُومًا. وَقِيلَ مُطْلَقًا، حَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَرُدَّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} (هُودٍ: 8) وَهَذَا نَفْيٌ لِكَوْنِ الْعَذَابِ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَصِحُّ " لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ " وَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَنْفِي عَنِ الْحَالِ بِالْقَرِينَةِ، نَحْوُ: لَيْسَ خَلْقُ اللَّهِ مِثْلَهُ. وَهَلْ هُوَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ أَوِ الْوَحْدَةِ؟ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ غَيْرَ ابْنِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ شَوَاهِدِ التَّوْضِيحِ، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَفِيهِ شَاهِدٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ لَيْسَ لِلنَّفْيِ الْعَامِّ الْمُسْتَغْرَقِ بِهِ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ مِمَّا يُغْفَلُ عَنْهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} (الْغَاشِيَةِ: 6).
بِمَعْنَى عِنْدَ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْهَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى ابْتِدَائِهَا بِهِ نَحْوُ: أَقَمْتُ عِنْدَهُ مِنْ لَدُنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. فَتُوَضِّحُ نِهَايَةَ الْفِعْلِ وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ " عِنْدَ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} (الْكَهْفِ: 76). {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} (الْأَنْبِيَاءِ: 17). {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النَّمْلِ: 6). {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (مَرْيَمَ: 5). وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي " عِنْدَ ". وَقَدْ تُحْذَفُ نُونُهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (يُوسُفَ: 25). وَ{هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} (ق: 23).
|