الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآية رقم (271): .مناسبة الآية لما قبلها: .قال البقاعي: {وإن تخفوها} حتى لا يعلم بها إلا من فعلتموها له. ولما كان المقصود بها سد الخلة قال: {وتؤتوها الفقراء فهو} أي فذلك الإخفاء والقصد للمحتاج {خير لكم} لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات، وفي تعريفها وجمعها ما ربما أشعر بعموم الفرض والنفل لما في إظهار المال الخفي من التعرض للظلم والحسد وفي إفهام السياق أن الصدقة تجوز على الغني. ولما كان التقدير: فإنا نرفع بها درجاتكم، عطف عليه قوله: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} أي التي بيننا وبينكم. ولما كان التقدير: فلا تخافوا من إخفائها أن يضيع عليكم شيء منها فإن الله بكل ما فعلتموه منها عليم، عطف عليه تعميمًا وترغيبًا وترهيبًا: {والله} أي الذي له كل كمال {بما تعملون} أي من ذلك وغيره {خبير} فلم يدع حاجة أصلًا إلى الإعلان فعليكم بالإخفاء فإنه أقرب إلى صلاح الدين والدنيا فأخلصوا فيه وقروا عينًا بالجزاء عليه. اهـ. .قال ابن عاشور: فهذا الاستئناف يدفع توهّمًا من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بُدًّا من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء. اهـ. .قال الفخر: .اللغة: {التعفف} من العفة يقال: عف عن الشيء أمسك عنه وتنزه عن طلبه والمراد التعفف عن السؤال. {بسيماهم} السيما العلامة التي يعرف بها الشيء، ويقال: سيمياء كالكيمياء، وأصلها من السمة بمعنى العلامة، قال تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. {إلحافا} الإلحاف: الإلحاح في السؤال يقال: ألحف: إذا ألح ولج في السؤال والطلب. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال ابن عاشور: وجاء الشرط بإنْ في الصدقتين لأنّها أصل أدوات الشرط، ولا مقتضى للعدول عن الأصل، إذ كلتا الصدقتين مُرض لله تعالى، وتفضيل صدقة السرّ قد وفى به صريح قوله: {فهو خير لكم}. اهـ. .قال الفخر: .قال القرطبي: ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطُنع إليك فانشره. قال دِعْبِل الخُزَاعِيّ: وقال سهل بن هارون: وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيلُه وتصغيرُه وسترهُ؛ فإذا أعجلته هنيّته، وإذا صغّرته عظّمته، وإذا سترته أتْمَمْته. وقال بعض الشعراء فأحسن: .قال الفخر: والثاني: أن هذا على لغة من يقول: {نِعْمَ} بكسر النون والعين، قال سيبويه: وهي لغة هذيل، القراء الثالثة وهي قراءة سائر القرّاء {فَنِعِمَّا هِىَ} بفتح النون وكسر العين، ومن قرأ بهذه القراءة، فقد أتى بهذه الكلمة على أصلها وهي {نِعْمَ} قال طرفة: .قال القرطبي: وقرأ أبو عمرو أيضًا ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل {فنِعْمَا} بكسر النون وسكون العين. وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائيّ {فَنَعِمَّا} بفتح النون وكسر العين، وكلهم سكَّن الميم. ويجوز في غير القرآن فَنِعْمَ مَا هِي. قال النحاس: ولكنه في السّواد متصل فلزم الإدغام. وحكى النحويون في نِعْمَ أربع لغات: نَعِمَ الرجلُ زيدٌ، هذا الأصل. ونِعِمَ الرجل، بكسر النون لكسر العين. ونَعْمَ الرجل، بفتح النون وسكون العين، والأصل نَعِمَ حذفت الكسرة لأنها ثقيلة. ونِعْمَ الرجل، وهذا أفصح اللغات، والأصل فيها نَعِم. وهي تقع في كل مدح، فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين، فمن قرأ: {فَنِعِمّا هِيَ} فله تقديران: أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نِعِم. والتقدير الآخر أن يكون على اللغة الجيّدة، فيكون الأصل نِعْمَ، ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين. قال النحاس: فأمّا الذي حُكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال. حُكي عن محمد بن يزيد أنه قال: أمّا إسكان العين والميم مشدّدة فلا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يَرُوم الجمع بين ساكنين ويحرّك ولا يأبَهُ. وقال أبو عليّ: من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله؛ لأنه جمع بين ساكنين الأوّل منهما ليس بحرف مدّ ولِين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأوّل حرف مَدّ، إذ المدّ يصير عِوضًا من الحركة، وهذا نحو دابّة وضَوَالّ ونحوه. ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في بَارِئِكُم ويَأْمُرُكُمْ فظنّ السامع الإخفاء إسكانًا للطف ذلك في السمع وخفائه. قال أبو عليّ: وأمّا من قرأ: {نَعِمَا} بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر: وقال القرطبي: قال أبو عليّ: وما من قوله تعالى: {نِعِمَّا} في موضع نصب، وقوله: هي تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر، والتقدير نعم شيئًا إبداؤها، والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف وأُقيم المضاف إليه مقامه. ويدلّك على هذا قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي الإخفاء خير. فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات فكذلك، أوّلًا الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأُقيم ضمير الصدقات مثله. اهـ. وقال القرطبي: ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوّع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاءُ أفضل في تطوّعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات. قال الحسن: إظهار الزكاة أحسن، وإخفاء التطوّع أفضل؛ لأنه أدلّ على أنه يراد الله عز وجل به وحده. قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوّع تفضُل علانيتها يقال بسبعين ضِعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سِرِّها يقال بخمسة وعشرين ضِعفًا. قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف؛ وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل صلاة المرء في بيته إِلا المكتوبة» وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عُرضة لذلك وروى «إن الذي يجهر بالقرآن» النَّسائيّ عن عُقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كالذي يجهر بالصدقة والذي يُسِرّ بالقرآن كالذي يُسِرّ بالصدقة» وفي الحديث: «صدقة السرّ تُطْفِئ غضب الربّ». قال ابن العربيّ: وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر، ولا تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت؛ فأمّا صدقة النفل فالقرآن ورد مصرّحًا بأنها في السر أفضل منها في الجهر؛ بَيْدَ أن علماءنا قالوا: إن هذا على الغالب مخرجه، والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المُعْطِي لها والمعطَى إياها والناس الشاهدين لها. أما المعطي فله فيها فائدة إظهار السُّنَّة وثواب القدوة. قلت: هذا لمن قَوِيت حاله وحسنت نيّته وأمِن على نفسه الرياء، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسرّ له أفضل. وأما المُعْطَى إياها فإن السرّ له أسلم من احتقار الناس له، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنَى عنها وتَرَك التعفّف، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطِي لها بالرياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة؛ لكن هذا اليوم قليل. وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما نزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، فكان يأمر بقَسْم الزكاة في السرّ. قال ابن عطيّة: وهذا مردود، لاسيما عند السلف الصالح؛ فقد قال الطبريّ: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل. قلت: ذكر الكِيَا الطبريّ أن في هذه الآية دلالة على قول إخفاء الصدقات مطلقًا أوْلى، وأنها حق الفقير وأنه يجوز لرب المال تفريقها بنفسه، على ما هو أحدُ قولي الشافعيّ. وعلى القول الآخر ذكروا أن المراد بالصدقات هاهنا التطوع دون الفرض الذي إظهاره أوْلى لئلا يلحقَه تُهمة؛ ولأجل ذلك قيل: صلاة النفل فُرَادَى أفضل، والجماعة في الفرض أبعد عن التُّهمَة. وقال المَهْدَوِيّ: المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوّع به، فكان الإخفاء أفضل في مدّة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك، فاستحسن العلماء إظهار الفرائض لئلا يُظَنَّ بأحد المنع. قال ابن عطيّة: وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زماننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عُرضة للرياء. وقال ابن خُوَيزْ مَنْدَاد: وقد يجوز أن يراد بالآية الواجبات من الزكاة والتطوّع؛ لأنه ذَكر الإخفاء ومدَحه والإظهار ومَدحه، فيجوز أن يتوجّه إليهما جميعًا. وقال النقّاش: إن هذه الآية نسخها قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} [البقرة: 274] الآية. اهـ.
|