الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فصل:قال: الدرجة الثالثة: اجتباء الحق عبده واستخلاصه إياه بخالصته كما ابتدأ موسى وقد خرج يقتبس نارا فاصطنعه لنفسه وأبقى منه رسما معارا قلت: الاجتباء الاصطفاء والإيثار والتخصيص وهو افتعال من جبيت الشيء: إذا حزته وأحرزته إليك كجباية المال وغيره والاصطناع أيضا الاصطفاء والاختيار يعني أنه اصطفى موسى واستخلصه لنفسه وجعله خالصا له من غير سبب كان من موسى ولا وسيلة فإنه خرج ليقتبس النار فرجع وهو كليم الواحد القهار وأكرم الخلق عليه ابتداء منه سبحانه من غير سابقة استحقاق ولا تقدم وسيلة وفي مثل هذا قيل:
فانثنى راجعا وقد كلمه الله وناجاه وهو خير مناجي وقوله: وأبقى منه رسما معارا يحتمل أن يريد بالرسم: البقية التي تقدم بها عليه محمد ورفع فوقه بدرجات لأجل بقائها منه ويحتمل وهو الأظهر أنه أخذه من نفسه واصطنعه لنفسه واختاره من بين العالمين وخصه بكلامه ولم يبق له من نفسه إلا رسما مجردا يصحب به الخلق وتجري عليه فيه أحكام البشرية إتماما لحكمته وإظهارا لقدرته فهو عارية معه فإذا قضى ما عليه: استرد منه ذلك الرسم وجعله من ماله فتكملت إذ ذاك مرتبة الاجتباء ظاهرا وباطنا حقيقة ورسما ورجعت العارية إلى مالكها الحق الذي يرجع إليه الأمر كله فكما ابتدأت منه عادت إليه وموسى عليه السلام كان في مظهر الجلال ولهذا كانت شريعته شريعة جلال وقهر أمروا بقتل نفوسهم وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر وغيرها من الطيبات وحرمت عليهم الغنائم وعجل لهم من العقوبات ما عجل وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم وكان موسى من أعظم خلق الله هيبة ووقارا وأشدهم بأسا وغضبا لله وبطشا بأعداء الله وكان لا يستطاع النظر إليه وعيسى: كان في مظهر الجمال وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان وكان لا يقاتل ولا يحارب وليس في شريعته قتال ألبتة والنصارى يحرم عليهم دينهم القتال وهم به عصاة لشرعه فإن الإنجيل يأمرهم فيه أن: من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين ونحو هذا وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال وإنما النصارى ابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولم تكتب عليهم وأما نبينا: فكان في مظهر الكمال الجامع لتلك القوة والعدل والشدة في الله وهذا اللين والرأفة والرحمة وشريعته أكمل الشرائع فهو نبي الكمال وشريعته شريعة الكمال وأمته أكمل الأمم وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات ولذلك تأتي شريعته بالعدل إيجابا له وفرضا وبالفضل ندبا إليه واستحبابا وبالشدة في موضع الشدة وباللين في موضع اللين ووضع السيف موضعه ووضع الندى موضعه فيذكر الظلم ويحرمه والعدل ويوجبه والفضل ويندب إليه في بعض آيات كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فهذا عدل فمن عفى وأصلح فأجره على الله فهذا فضل إنه لا يحب الظالمين فهذا تحريم للظلم وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ندب إلى الفضل وقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رءوس أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279-280] تحريم للظلم {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل وكذلك تحريم ما حرم على أمته صيانة وحمية حرم عليهم كل خبيث وضار وأباح لهم كل طيب ونافع فتحريمه عليهم رحمة وعلى من قبلهم لم يخل من عقوبة وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم ووهب لهم من علمه وحلمه وجعلهم خير أمة أخرجت للناس وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم كما كمل نبيهم من المحاسن بما فرقه في الأنبياء قبله وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله وكذلك في شريعته فهؤلاء الضنائن وهم المجتبون الأخيار كما قال تعالى لهم: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وجعلهم شهداء على الناس فأقامهم في ذلك مقام الأنبياء الشاهدين على أممهم وتفصيل تفضيل هذه الأمة وخصائصها يستدعي سفرا بل أسفارا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. اهـ.
|