الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحاضرات ***
لله الأمر من قبل ومن بعد.
كنت في هذه السفرة التي كتبت فيها هذه الأوراق سافرت زمن البرد، فلما انفصلت منم البلد قلت: أيا رب البرايا يا رحيم *** ويا مولى العطايا يا حفيظ أجرنا من عذابك وامتحان *** تجيش النفس منه أو تفيظ ومن وعثاء في سفر وسوء *** ومن صُرَدٍ وسائر ما يغيظ يقال فاظت نفسه إذا مات، والوعثاء بعين مهملة وثاء مثلثة المشقة، فلما أمسينا وضعت بين أيدينا فاكهة الشتاء فنعمنا بها، فلما رأيت ذلك قلت: سبحان الله من جعل رحمته في عذابه أي النار، وجعل عذابه في رحمته أي المطر، ثم نظمت هذا المعنى فقلت: سبحان من يقدر أن يرحما *** بما به يعذب المجرما وأن يعذب بما يرحم *** العبد به يومًا إذا أنعما فظهر اقتداره واعتلى *** في كلّ أمر شأنه واستمى وظهرت حكمته في الذي *** ركب في الدنيا وما أحكما فمُرُّها لم يخل من حلوها *** وحلوها قد أشرك العلقما في أبيات أخرى أنسيتها الآن، وتقرير هذا المعنى من وجهين: أحدهما أن هذه الأمور التي يباشرها الإنسان ذات وجهين: نافع وضار، ألا ترى أن النار مثلًا تدفئ من البرد وتحرق، والمطر مثلًا ينبت الزرع والنوار، ويخلف المياه الغزار، ولكن يخرب الديار، ويقطع المسافر عن التسيار، وهكذا، والحكمة في ذلك التركيب المشار إليه في الدنيا لما مرّ من الدلالة على ما في الآخرة من النعيم والعذاب والترغيب والترهيب وغير ذلك مما يطول تتبعه. ثانيهما أن كل ما هو نافع فالله تعالى قادر أن يجعله ضارًا وبالعكس، وذلك لما تقرر في العقيدة من أن ما يوجد في هذه الحوادث من الفوائد والخواص ليس ناشئًا عنها لا باختيار ولا علة ولا طبع، بل عن الفاعل المختار تعالى بقدرته ومشيئته، وليس ثم ارتباط عقلي، فيجوز وجود ذلك وعدمه، فلله تعالى أن يجعل النار مثلًا محرقة مرة، ثم يجعلها غير محرقة، وأن يجعل الخبز مثلًا مقتاتًا ثم يجعله غير مقتات كالحجر، وهكذا، ولكن أجرى الله تعالى عادته بما وقع لما مر من الحكمة وكثيرًا ما يخرق ذلك وقد مر كل ذلك. لله الأمر من قبل ومن بعد.
كان الرئيس أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر قد ملك المغرب سنين عديدة، واتسع هو وأولاده واخوته وبنو عمه في الدنيا، فلما قام الشريف السلطان رشيد بن الشريف ولقي جيوشهم ببطن الرمان فهزمهم وذلك أوائل المحرم فاتح سنة تسع وسبعين وألف فدخلنا عليه وكان لم يحضر في المعركة لعجزه من كبر سنّه فإذا بالفَلّ يدخلون فدخل عليه أولاده واخوته وأظهروا جزعًا شديدًا وضيقًا عظيمًا، فلما رأى منهم ذلك قال لهم: ما هذا؟ إن قال لكم حسبكم فحسبكم، يريد الله تعالى، وهذا كلام عجيب، وإليه يساق الحديث، والمعنى: إن قال الله تعالى لكم حسبكم من الدنيا فكفوا راضين مسلمين، والإشارة بهذه إلى أن الله تعالى وضع في الدنيا مائدة لعباده وجعلها دُوَلًا كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ} فكل من جلس على هذه المائدة وتناول منها ما قسم له فلا بد أن يقام عنها بالموت أو العزل ليجلس غيره، ولا تدوم لأحد، بل لا يقام عنها من أقيم غالبًا إلاّ بمرارة وعنف، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: في الولاية «نِعْمَتِ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ». ثم من الناس من لم يشعر بهذا المعنى ولم يتنبه له، فهو يسعى إليها عجبًا بأوائل زبرجها وانخداعًا بظاهر زينتها، كما قيل: الحرب أول ما تكون فتية *** تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها *** عادت عجوزًا غير ذات حليل شمطا تنكّر لونها وتغيرت *** مكروهة للشمّ والتقبيل ومن الناس من علم ذلك وتنبه له، ثم من هؤلاء من نفعه الله بعمله فأوجب له أحوالًا محموده إما قبل ولوجها بالزهد فيها والفرار عنها علمًا بغايتها دينًا وتقوى أو حزمًا في الدنيا، وأما بعد الولوج بالتعفف والعدل والإحسان والرفق ومجانبة البغي والجور إما دينًا وحذارًا من المطالبة في الآخرة، وإما حزمًا دنيويًا وحذار من اختلالها واضمحلالها. لله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد حكي عن فرعون -لعنه الله - أنه دخل عليه بعض أشياعه بمال عظيم فوضعه بين يديه فقال له: من أين هذا؟ فأخبره أن بعض القرى من أعمالهم كان لهم ماء فتبطل، وأنه قد أذن لهم في إحيائه وإجرائه على هذا المال، فقال له فرعون: الماء ماؤهم وقد أجروه، ففيم يدفعون المال؟ هذا ظلم وجور، والملك لا يستقر على الجور، فاردد إلى الناس أموالهم. قال بعض أئمتنا: فانظروا، يا معشر المسلمين، هذا كافر لا يلتفت إلى الدار الآخرة، ثم حافظ بالعدل على دنياه فقط، فكيف بمن يدعي الدين ثم لا يلتفت إلى العدل ولا يحافظ على الدين ولا دنيا. قلت: وقد قال الحكماء: إن الملك يستقر ويستقيم مع الكفر ولا يستقيم مع الجور، والعلة فيه أن الملوك هم خلفاء الله تعالى على عباده مؤمنهم وكافرهم، غير أن المؤمن خليفة في الطرفين، والكافر في الدنيا فقط، والملك هو نظام العالم، والعدل "هو" روحه، فمتى ذهب العدل اختل النظام ووقع الفساد في العالم، ولذلك قال أرسطوطاليس في "ضوابطه": العالم بستان سياجه أي حائطه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك راع يعضده الجيش الجيش أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد تعبدهم العدل، العدل مألوف وهو حياة العالم. ومن كلام الفرس: لا ملك إلاّ برجال، ولا رجال إلاّ بمال، ولا مال إلاّ بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. وقال الإمام علي -كرم الله وجهه-: الدين أس، والملك حارس، وما لا أس له مهدوم. وفي الحديث: «صِنْفَاِن مِنْ أُمَّتي إذّا صَلُحَا صَلُحَ النَاسُ: الأمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ». وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: لا يصلح هذا الأمر إلاّ شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف. وقال عمر -رضي الله عنه-:لا يقيم هذا الأمر إلاّ رجل يخاف الله في الناس، ولا يخاف الناس في الله. وقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حَطوم، خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم، خير من فتنة تدوم. وفي أمثالهم: إذا رغب السلطان عن العدل، رغبت الرعية عن الطاعة.
ولم يزل الحازمون من أهل الدين يهربون منها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنّا لاَ نُوَلِّي أمْرَنَا هَذَا مَن سَألَهُ أوْ مَنْ أرَادَهُ» إما رعيًا للغالب من أنه لا يطلبه إلاّ شهوانيّ أو مضيِّع للحزم، وإما استنانًا ليتبع عند غلبة الشهوة وضعف الديانة كأزمنتنا هذه. وقال أبو عمر بن عبد البر: تكلم يومًا معاوية -رضي الله عنه- فقال: أما أبو بكر فهرب عنها وهربت عنه، وأما عمر فأقبلت إليه فهرب عنها، وأما عثمان فأصاب منها وأصابت منه، وأما أنا فداستني ودُستها، قال أبو عمر: أما علي فأصابت منه ولم يصب منها، قلت إن أبا بكر هرب عنها من أول مرة، وقد قال يوم السقيفة ووضع يديه على عمر وأبي عبيدة: ادفعوا أحد هذين الرجلين، قال عمر: فلم أكره مما قال غيرها، فهما هاربان منها. وقال عمر -رضي الله عنه- بعد ذلك في قصته مع أويس القرني من يأخذها بما فيها؟ يا ليت عمر لم تلده أمه، وقال في آخر رمق: يا ليتني تخلصت منها كفافًا لا لي ولا عليّ، هذا مع استقامته وعدله الشهير، حتى صار يضرب به المثل في متابعة الحق، وقد شهد له صلى الله عليه وسلم بذلك الحديث المشهور، وقال له أيضًا: «مّا سَلَكْتَ فَجًّا إلاّ سَلَكَ الشَيْطَانُ فَجًّا غَيْرَ فَجّكَ» فكيف يكون حال من لم يبلغ أدنى من هذه المرتبة ولا قارب، وهو يتبجح بالولاية، ويستبشر بنيل الدرجة بها عند الله تعالى. وقال علي -كرم الله وجهه- يا بيضاء ويا صفراء غري غيري ولا تغريني. وكل من تعرض لها من السلف فإما أنتهاصًا لنصح المسلمين من نفسه بإقامة الحق لئلاّ يضيع، وإما نزعة بشرية حركها سبب من الأسباب، أما على الثاني فلا يقتدي به، وأما على الأول فيقتدي من بلغ مقامه في التمكين والقوة والنزاهة، وفي مثل زمانه الصالح الذي لم يزل فيه الدين طريًا، والحق جليًا، والأعوان عليه قائمين، وهيهات ذلك في آخر الزمان الذي غلب فيه حب الدنيا واستولى سلطان الهوى على الناس، فلا ترى إلاّ حرصًا على الجمع والمنع، ولا ترى إلاّ نفاقًا ومداهنة وملقًا، فالمرء لا يعدل بالسلامة شيئًا، ومن له بوجودها إن لم يكن له من المولى تعالى لطفًا ظاهر. أنذر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الزمان، وحض فيه على تجنب أمور العامة، وإيثار السلامة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رَأيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوىً مُتَّبَعًا، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأيٍ بِرَأيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيِّصَةِ نَفْسِكَ». ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فمن انتهض اليوم للانتصاب رَوْمًا لإقامة الحق وإنصاف المظلوم من الظالم فهو مغرور، ولعل ذلك لا يتأتى له كما ينبغي في بيته "فضلًا عن قريته" فضلًا عن البلد، فضلًا عن الإقليم، وقد يسمع فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بمصالح المسلمين ودرجة الإمام العادل، وذلك كله حق، ولكن أين يتأتى؟ فيتحرك المسكين لانتقاص الأجر والظفر بعلي الدرجات فلا يفطن إلاّ وقد وقع به العشاء على سرحان، وربما حان فيمن حان، وقد يكون ذلك، وهو الأغلب، دسيسة دنيوية، ونزعة شيطانية، وقد يقع في "بعض" هذه المهاوي بعض أبناء الطريق يحسدهم الشيطان على باب الله والتفرغ للحضور بين يديه وتجنب المعاصي التي هي أقرب شيء إلى الغفران برحمة الله، فلا يزال بهم حتى يضمهم إليه ويجاوز بهم مزالق من كانوا يتبعونه إلى هاوية من يتبعهم كما قال الشاعر: وكنت امرءًا من جند إبليس فانتهى *** بيَ الأمر حتى صار إبليس من جندي نسأل الله العافية، فيجد الواحد قوة إيمانية في قلبه أو حالة جمالية واردة، فيوهمه ذلك أنه قوي على أن يصدع بالحق، وربما أوهمه ذلك أنه هو الحقيق بذلك دون غيره، أو أنه هو المهدي المنتظر، فيتحرك على طمع أن ينقاد له الأمر وينقاد له أبناء الزمان، ويحفر فيُكدي، ولا يعيد ولا يبدي، ثم يصير أشقر إن تقدم نُحِر، وإن تأخر عُقِر، فلا يسعه على زعمه إلاّ فتح أبواب التأويلات والترخصات، وإسعاف الناس بعد أن قام ليتبعوه، ومن شأنك بهدم الدين عوض ما قام ليبنيه، ويخفض الحق مكان ما انتهض ليعليه، فإياك وإياك. إذا أرخى الخمول عليك ذيلًا *** فنم في ظله ليلًا طويلا
وقد رأينا في وقتنا هذا من استولت عليه هذه الوساويس حتى وقع في شبه صاحب المانلخويا بحيث لو اطلع الناس على ما هو فيه رموه في المارستان، ولكن ستر الله تعالى يغطي على عبيده. مهدوية أحمد بن أبي محلى وممن ابتلي بهذا قريبًا أحمد بن عبد الله بن أبي محلى، وكان صاحب ابن مبارك التستاوتي في الطريق حتى حصل له نصيب من الذوق، وألف فيها كتبًا تدل على ذلك، ثم نزعت به هذه النزعة، فحدثونا أنه في أول أمره كان معاشرًا لابن أبي بكر الدلائي المتقدم الذكر، وكان البلد إذ ذاك قد كثرت فيه المناكر وشاعت، فقال لابن أبي بكر ذات ليلة: هل لك أن تخرج غدًا إلى الناس فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلم يساعفه لما رأى من تعذر ذلك لفساد الوقت وتفاقم الشر، فلما أصبحا خرجا، فأما ابن أبي بكر فانطلق إلى ناحية النهر فغسل ثيابه وأزال شَعَثَهُ بالحلق، وأقام صلاته وأوراده في أوقاتها، وأما ابن أبي محلى فتقدم لما هم به من الحسبة فوقع في شر وخصام أدّاه إلى فوات الصلاة عن الوقت ولم يحصل على طائل، فلما اجتمعا بالليل قال له ابن أبي بكر: أما أنا فقد قضيت مآربي، وحفظت ديني، وانقلبت في سلامة وصفاء، ومن أتى منكرًا فالله "هو" حسيبُهُ أو نحو هذا، وأما أنت فانظر ما الذي وقعت فيه. ثم لم ينته إلى أن ذهب إلى بلاد القبلة ودعا لنفسه وادعى أنه المهدي المنتظر، وأنه بصدد الجهاد، فاستخف قلوب العوام واتبعوه، فدخل بلد سجلماسة وهزم عنه والي الملوك السعدية واستولى عليه، ثم أخرجهم من درعة، ثم تبعهم إلى حضرة مراكش، وفيها زيدان بن أحمد المنصور فهزمه. وأخرجه منها، وذهب فاستغاث بأهل السوس الأقصى فخرجوا إلى ابن أبي محلى فقتلوه وهزموا عسكره شذر مذر فكان آخر العهد به، ورجع زيدان إلى ملكه. وحدثونا أنه كان ذات يوم عند أستاذه ابن مبارك قبل ذلك فورد عليه وارد حال فتحرك وجعل يقول: أنا سلطان، أنا سلطان، فقال له الأستاذ: يا أحمد "هب أنك تكون سلطانًا" {إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولًا}. وفي يوم آخر وقع للفقراء سماع فتحرك وجعل يقول: أنا سلطان، فتحرك فقير أخر في ناحية وجعل يقول: ثلاث سنين غير ربع، وهذه هي مدة ملكه، "وقد رمزوا له ذلك" فقالوا: قام طيشًا، ومات كبشًا، أي قام في تسعة عشر بعد ألف، ومات في اثنين وعشرين بعدها. وزعموا أن إخوانه من الفقراء ذهبوا إليه حين دخل مراكش برسم زيارته وتهنئته، فلما كانوا بين يديه أخذوا يهنئونه ويفرحون له بما حاز من الملك، وفيهم رجل ساكت لا يتكلم، فقال: ما شأنك لا تتكلم؟ وألح عليه في الكلام، فقال له الرجل: أنت اليوم سلطان، فإن أمنتني على أن أقول الحق قلته، فقال له: أنت آمن فقل، فقال: إن الكرة التي يلعب بها يتبعها المائتان وأكثر من خلفها، وينكسر الناس وينجرحون، وقد يموتون، ويكثر الصياح والهول فإذا فتشت لم تجد "بداخلها" إلاّ شراويط أي خرقًا بالية ملفوفة فلما سمع ابن أبي محلى هذا المثال وفهمه بكى وقال: رمنا أن نحيي الدين فأتلفناه. واعلم أن هذه الدعوى أعني دعوى الفاطمية بلوى قديمة كما أشار إلى ذلك بعض الأئمة، وكان الشيعة ادعوا ذلك لزيد بن علي، فلما قام على هشام ظفر به يوسف بن عمر فصلبه، فقال بعض شعراء بني مروان يخاطب الشيعة: صلبنا لكم زيدًا على جذع نخلة *** ولم نر مهديًا على الجذع يصلب لله الأمر من قبل ومن بعد.
وأول من تظاهر بهذا جدًا ببلاد المغرب "فيما علمنا" يهدي الموحدين، وهو أبو عبد الله محمد بن تومرت السوسي، وكان رجلًا فقيهًا، له رحلة إلى المشرق ولقي فيها المشايخ كالإمام الغزالي رضي الله عنه، فلما قفل إلى المغرب لقي في طريقه عبد المؤمن بن علي قد ارتحل في طلب العلم وهو شاب صغير، وكان عنده فيما يقال علم من علم الحدثان فلما بصر به توسم فيه أنه صاحب الأمر فقال له: اذهب معي وأنا أعلمك ما تشاء من العلوم، فصحبه عبد المؤمن في دخوله إلى المغرب، فلما وصلوا إلى حضرة مراكش -حرسها الله- وجدوا فيها آخر المرابطين، ووجدوا أمورًا مختلفة كما هو المعهود في أذناب الدول، فدخل ابن تومرت وأظهر شيئًا مما حمل من العلوم العقلية، فأنكر أهل البلد ذلك، وكانوا إذ ذاك أهل بادية، فوشوا به إلى صاحب الوقت، فاستدعى وناظر حتى ظهر عليهم، فخلى السلطان سبيله، وبقي في البلد، ثم جعل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وشاع ذلك، فأنهوا أمره ثانية إلى السلطان وأغروه به، فأمر بإخراجه فخرج إلى تلك الجبال وجعل يدعو إلى الدين، وأقبل عليه الناس، ثم تظاهر بأنه هو المهدي، فلما اجتمع إليه الناس حضهم على إعلاء الدين، وجهاد المفسدين، فتقدم بهم إلى مراكش، وجرت بينهم وبين المرابطين حروب شديدة مات في خلالها بعد أن أوصى بعبد المؤمن وهيأ الأمر له، فولي عبد المؤمن واستوسق الأمر له، ولولده من بعده، وهم أتباع المهدي مع كل من يشايعهم في أنه هو المهدي من الطائفة التومرتية، وقد أنكر الفقهاء عليهم ذلك وضللوهم، ولا شك في ضلالهم في ذلك عند كل من يعترف بوجود المهدي في آخر الزمان. وقد ألف بعد ذلك الجلال السيوطي كتابه: "العرف الوردي، في أخبار المهدي" و"الكشف في مجاوزة هذه الأمة الألف" وبسط القول في ذلك بما فيه غنية من أن المهدي متأخر حتى يكون في آخر الزمان لوقت خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، وأنه ليس هو ابن تومرت ولا أمثاله من كل من يدعي ذلك إلى زماننا.
*** وكنت لا أحسب أن للطائفة التومرتية في دعواهم أزيد من مجرد الدعوى وتقليد شيخهم "المذكور" فكان من غريب الاتفاق أني منذ نظرت في كتب التصوف وقع في يدي كتابان في هذا العلم ينسبان لأبي زيد عبد الرحمن اللجائي، أحدهما "قطب العارفين"، والآخر "شمائل الخصوص"، فكنت أستحسنهما مع العلم من نفسهما أن مؤلفهما ليس من فحول العلماء، ولكن ما فيهما حسن المسلك، سهل المدرك، فكنت أتمنى زيارة المؤلف لاعتقادي أنه من أهل الطريق، وكنت إذا ارتحلت لزيارة الشيخ عبد السلام بن مشيش -رضي الله عنه- أسأل عنه فأجده بعيدًا عني حتى إذا كان الحصار على مدينة فاس- حرسها الله- حين قتلوا القائد زيدان خرجت منها وأخذت على جبل بني زروال، فإذا بجبل لجاية قريبًا مني، فأجمعت زيارته وتركت الركب وانخزلت إليه في نفر من أصحابي، فصعدنا الجبل إليه، وإذا هم يسمونه سيدي عبد الرحمن التراري فلما وصلنا إلى مقامه خرج إلينا أولاده "فأنزلونا" وأكرموا مثوانا، فلما اطمأن بنا المنزل وزرنا قالوا: هل لك في أن نخرج إليك كتب الشيخ لتراها، فقلت: نعم، فأخرجوا الكتابين المذكورين، فلما رأيتهما سررت بهما واستدللت بذلك على أنه هو ذاك، وأنه هو المؤلف لهما، وأخرجوا كتابًا ثالثًا مجلدًا ضخمًا ففتحته فإذا هو يسميه "المقصد الأسنى، في المهدي الأقنى"، فلما رأيت ذلك ظننت أنه يتكلم في المهدي المنتظر على نحو ما تكلم عليه الأئمة وإذا هو يخرج أحاديث لعبد الرزاق ويذكر حسابًا يتضمن ظهوره إثر المائة الخامسة، وإذا هو يصفه ويذكر أحواله، وإذا كلامه في ابن تومرت المذكور، وإذا هو من الطائفة التومرتية، وذكر في أثناء الكتاب المذكور أنه امتحن على يد قضاة الوقت في ذلك حتى دعي إلى فاس ثم إلى مراكش، وأنه أنقذه الله من المحنة ورجع إلى بلده سالمًا، فلما رأيت ذلك استضحكت في نفسي وقلت كما قال أبو علي الفاسي حين وجد الياء منقوطة: ضاعت خطواتنا، واستعجلت القيام، والخروج عن ذلك المقام، ولم أنتظر ما يضعون من طعام، وتخلصت بالاعتذار، بأصحابي الذين خلفت بعدي في الدار، ولما فصلنا عنهم تأملت فقلت: حصل العلم بأن هذا الرجل من تلك الطائفة، والعلم بأن تلك الطائفة قد كان فيها من يحتج لدعواهم الباطلة من أهل العلم، وهاتان فائدتان غريبتان، فلم تضع الخطوات مع أن الخطب سهل، والمجتهد مصيب مأجور، أو مخطئ معذور. لله الأمر من قبل ومن بعد.
وإذ قد ألممنا بذكر الرياسة والشهرة وضديهما، وذلك مما يبتلى به العام والخاص مع إشكاله والتباسه إلاّ على البصير، فلنشر إلى شرح ذلك باختصار حتى يكون الإنسان منه على محجة واضحة في رشده وغيه، واستقامته وانحرافه في سعيه. فاعلم أن في كل من الرياسة والشهرة وعدم ذلك شهوة للنفس ونفرة، ومصلحة في الدين والدنيا أو مفسدة، فمن أُلهِم المصلحة في الرياسة أو في الشهرة وسلم من المفسدة ومن الشهوة وأصاب الإمكان فقد حصل على الشرف في الدارين، وفي مثله يقال: المؤمنون أو المتقون بخير فكيف بإمامهم! وإن لم يتوفر له ذلك فإن أنفقت له المصلحة والإمكان أصبح كالسراج يضيء للناس وهو يحترق وفيه يقال: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وإن اتفقت له المفسدة والإمكان أصبح من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وفي أمره ورد: «أنَّ هَذَا الأمْرَ يَكُونُ نُبُوءَةً ثُمَّ خِلافَةً ثُمَّ مُلْكًا ثُمَّ عُتُوًّا وَفَسَادًا في الأرْضِ»، وهو الموجود اليوم، وكثير من الحمقى في زماننا يشتكون الجور ويطلبون العدل، ولم يدروا أن الجور قد مضى مع الملوك بعدما مضى العدل مع الخلفاء، ولم يبق إلاّ الفساد، فيا ليت الناس وقف لهم الأمر في الجور فيعيشوا، وإن لم ينفق له الإمكان فهو الفضيحة إن أبدى صفحة عنقه، والغم والوسواس إن شرق بريقه. أما إن لم يلهم المصلحة وإنما جمحت به الشهوة أو قصد المفسدة فلا سؤال عليه.
أما شهوة الناس في الرياسة مثلًا فواضحة لما مر غير مرة من تعشقها لصفات الألوهية، ولذا يقال: دعوى فرعون الألوهية في ضمير كل أحد مع تعشق ما يتوهم من ثمرات ذلك من التنعم والترفه والاحتواء على الدنيا وأهلها، ونفرتها عن ذلك بتوقع ما فيه عادة من المتاعب والمعاطب وإيثار راحة القلب والبدن، وتشتعل الشهوة وتتقوى بعلو الهمة في الدنيا وقوة الحرص وشهامة النفس وتضعف بضعف ذلك، ومصلحة ذلك في الدنيا إطفاء الفتن، وإخماد الإحن، وقمع البغاة، وإغاثة ملهوف، وإنصاف مظلوم، وتهدين السبل، كما قال عبد الله بن مبارك رضي الله عنه: لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل *** وكان أضعفُنا نَهْبًا لأقوانا وجباية الأموال وتحصينًا وقسم الأرزاق على أهلها إلى غير ذلك، وفي الدين إقامة الصلاة والزكاة والجهاد ونشر العلم وكفاية أهله ونحو ذلك. وفي مطلق الشهرة في الدنيا السعي في مصالح الناس والمسادة بينهم وغير ذلك، وفي الدين نصح المستنصحين، وتعليم المتعلمين، وهداية الضالين، وتربية المريدين، وغير ذلك، وفي حديث الهداية يقول صلى الله عليه وسلم لعلي -كرم الله وجهه-: «لأنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ». والمفسدة في ذلك في الجملة ظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، وتضييع الحقوق، وإظهار العقوق، وإضلال الناس، والتحريف والإلباس، وشهوة النفس في الخمول والضعة إيثار الراحة والسلامة كما مر في مقابله: وقائلة ما لي أراك مجانبا *** أمورًا وفيها للتجارة مربح؟ فقلت لها: ما لي بربحك حاجة *** فنحن أناس بالسلامة نفرح ونفرتها عنها لعدم الحظ السابق، والمصلحة في ذلك بانتفاء المفسدة التي في المقابل، وذلك كله واضح، فقد تبين ما هو حظ النفس فس البابين، فقد تدعو إلى جانبٍ موهِمةً أنها تريد استحصال مصلحته والتخلص من المفسدة في مقابله، وهي إنما تريد حظها الطبيعي منه، والشيطان يحثها إلى ذلك طلبًا لحصول المفسدة التي فيه وفوات المصلحة التي في المقابل، وعلى البصير الحازم أن يزُمَّ نفسه بزمام التقوى، ويزينها بميزان العدل، وينتقدها بسراج الهدى، ويصفيها من بهرج الهوى. فإذا دعته مثلًا إلى طلب الرياسة والقيام بالأمر موهمة أنها تريد جمع الكلمة ولإقامة الشريعة وبسط العدل وكف الظلم ونحو ذلك فلا ثق بها في هذه الدعوى حتى يمتحنها فإنها تدعي أنها لم ترد متعة الدنيا وإنما طلبت استحصال الأجر والدرجة عند الله تعالى فيكفيك في امتحانها شيئان: أحدهما أن تعاقدها فيما تدعو إليه بأن تقوم فيه أشعث أغبر لا تنال مما يناله من دخل ذلك من أهل الدنيا عادة من مطعوم ولا ملبوس ولا مركوب ولا منكوح ولا مسكون ولا عظمة، وأنك تكون كواحد من الناس لا تتميز عنهم إلاّ بما تحملت من المشاق والمتاعب والهموم في مصالحهم كما كان حال الخلفاء -رضي الله عنهم- حتى إنك لو كنت في رفاهية قبل ذلك تركتها شغلًا عنها كما كان فعل عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- فقد حكي أنه قبل الخلافة اشتريت له حلة بنحو أربعين أو سبعين ألفًا فجسَّها فقال: ما أحسنها لولا خشونة فيها! ولما ولي الأمر اشتريت له حلة بنحو أربعة دوانق فجسها فقال: ما أحسنها لولا لينها! فقيل له ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن نفسي ذوّاقة تواقة كلما ذاقت مكانة تشوقت إلى غيرها، فلما حصلت الخلافة تاقت إلى ما عند الله تعالى، وسمع البكاء يداره حين ولي، فدخل مسلمة بن عبد الملك إلى أخته فاطمة زوجة أمير المؤمنين فسألها عن ذلك فأخبرته أن أمير المؤمنين دخل عليهن فقال: إني قد شغلني عنكن ما نزل بي، يعني من الخلافة، فمن أحبت منكن أن تصبر على ذلك فلتصبر -رضي الله عنه-، وجعلنا في حماه. ولما انعقد له الأمر وكان قد تعب فيه هم بأن يَقِيلَ فذهب ليدخل الدار، فقال له ابنه عبد الملك بن عمر -رضي الله عنهما-: ما تريد أن تفعل يا أبت؟ فقال له: يا بني إني قد سهرت من هذا الهم، فأردت أن أصيب راحة، فقال له: وأين حقوق الناس؟ فقال: يا بني إلى الظهر، فقال: يا أبت ومن لك بأن تعيش إلى الظهر؟ فأخذه وقبل ما بين عينيه وقال: الحمد لله الذي خلق مني من يعينني على ديني، فترك القيلولة، وخرج إلى الناس وقال: من كانت له مظلمة فليأتنا، وجعل يرد على الناس ضياعهم وأموالهم وينصفهم مما وقع عليهم من الظلم قبله. هكذا هكذا وإلاّ فلا لا *** طرق الجد غير طرق المزاح ومن هذا سئل إمامنا مالك -رضي الله عنه- من يقاتل عن الإمام؟ قال: إن كان كعمر بن عبد العزيز فنعم، وإلاّ فدعه ينتقم الله من الظالم بالظالم حتى ينتقم من الجميع. فإذا عرضت على نفسك هذا الشرط فتنبه إليها، فإن انشرحت له بأول عارض فعسى أن تصدق، وإن رأيت في أديمها انكماشًا ما فهي كذابة تريد أن تتذرع بتسويلتها الباطلة إلى اقتناص اللذات، والانهماك في الشهوات، ولا تغتر بانشراح يظهر منها ثانيَ حالٍ لأنه يكون متكلفًا احتيالًا. الثاني أن تقدر أن لو ظهر غيرك في الوجود ممن يقوم بهذا الأمر مثل ما ترجو أو أفضل هب تكتفي بذلك وتحمد الله تعالى على ما كفاك مئونة ما تريد أم لا. فإن اكتفيت بذلك وعلمت أن المراد انتفاع المسلمين وصلاحهم، وقد حصل بلا شك منك فقد تصدق، وإن وجدت نفسك مع ذلك مضرة على طلب ذلك متنكدة من فواته فاعلم أنها كاذبة إنما تطلب حقها، فإن زعمت أنها إنما طلبت الفوز بدرجة ذلك عند الله تعالى وإنما تنكدت من فواتها فاعرض عليها أنه لو حصل ذلك أو أرفع منه وهي بين يدي الله تعالى في خلوتها مراقبة له لهجة بذكره سارحة في رياض المعارف ليلًا ونهارًا هل تطلب هذه الخطة؟ فإن قالت إذن لا حاجة لي بها إذ أصبت الغنيمة الباردة ووقعت على الدر النفيس فعسى أن تكون صادقة، وإن أصرت على الطلب فهي كاذبة، هذا على أن دسائس النفس أدق شيء وأعمصه فقد تسخو بالحظوظ الحسية كلها حتى تتوهم أنها صادقة وإنما تريد حظوظًا معنوية مثل الصيت والذكر في الدنيا على ما وقع للرهبان، نسأل الله السلامة من شرها. ثم إن ألفيتها صادقة مع الامتحانات، وما أغرب وجود ذلك!، فانظر حينئذ في الإمكان، فإن القيام بذلك متوقف عادة على أمور كالعقل والقوة والعدد والعدة والمال والإخوان والأعوان، فإن تيسر ذلك فمن علامة الإذن التيسير، ولا يكاد يتفق ذلك، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي قل خيره وكثر شره، وإن اتفق فلا يكاد يتفق إلاّ بعد فتن ومفاسد لا يقوم بها ما يرجى من مصلحة، فلا يصل إلى الطاعة على زعمه إلاّ بعد اقتحام معاص عظام، وما أشبهه حينئذ بما شاع في ألسنة المتطببين من أنه لا يكون الرجل طبيبًا حتى يعمل مقبرة، ولكن الناس مبتلون مقودون بسلاسل القدر، لينتظم أمر الدنيا على حسب ما شاء الحكيم العليم، نسأله سبحانه أن يصرفنا فيما فيه رضاه، وكذا ما نحن فيه، وإن لم تر إمكانًا أصلًا أو لم تره على مقتضى المصلحة الشرعية فخل عنها، واعلم أنك لست من أهلها. دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ودع عمار العلى للمقدمين على *** ركوبها واقتنع منهن بالبلل ولا تغتر بصلاح نيتك وتمنيك الخير وتظن أنك تعطى لا محالة ما تتمنى فهيهات! ما كل ما يتمنى المرء يدركه *** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن واعلم أنك متى رمت النهوض إلى هذا الأمر بلا عُدّته تكون كالمجبوب يروم أن يتزوج ليولد له ولد صالح يدعو له أو ليكثر الأمة المحمدية بنسله، فهذا أحمق مبين، وحسبه أن يحتسب على الله تعالى نيته الصالحة فعسى أن يعطى بها خيرًا، وفي الحديث: «نِيَّةُ المُؤْمِنِ أبْلَغُ منْ عَمَلِهِ» وفي الحديث: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة» وكذا أنت في هذا كله.
***
وانظر إلى الملك الذي أشرف على تَلٍّ ونظر إلى جنوده تحته فأعجبوه، فتمنى أن لو كان حاضرًا مع النبي صلى الله عليه وسلم لينصره، فرحمه الله تعالى بفضله على هذه النية، فَانْوِ أنت أيضًا أن لو كانت لك قوة على إظهار الشريعة وإحياء السنة وإخماد البدعة وحسم الباطل وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وإقامة ميزان العدل وإصلاح العباد والبلاد، فعسى أن تنال بهذه النية خيرًا، وقف هاهنا وطب نفسًا عما وراءه، فلا تلج تلك المضايق ولا تتبع تلك الطرائق، وإذا فهمت الدسيسة في هذا القسم فافهمها في غيره والله الموفق. لله الأمر من قبل ومن بعد.
حدثنا شيخنا العلاّمة أبو بكر بن الحسن التطافي رحمه الله "قال: دخلت على شيخنا العلاّمة أبي بكر بن الحسين التطافي رحمه الله" قال: دخلت على شيخنا العلاّمة الزاهد أبي محمد عبد الله "بن علي" بن طاهر الحسني رضي الله عنه يومًا وهو إذ ذاك بقرية أولاد الحاج من بلد مضغرة فقال لي: إن بني يفوس وهم قرية من الخنق وقع بينهم قتال قال: فقلت: يا سيدي أجاء أحد من هنالك؟ قال: لا، ولكن أخبرني بذلك قلبي، وقلبي لا يكذب علي، فقد جربته، وكان بينه وبين هؤلاء مرحلة، قال: فجاء الخبر بعد ذلك بوقوع الأمر كما أخبر به. وقد رأيت أن أثبت في هذا المعنى كلامًا تتميمًا للفائدة كما هو سبيل هذا الكتاب كله، وأنا أبرأ إلى السامع من نفسي، فلا يتوهم أني من أهل هذا المضمار وأني خبرت عن وجدان، وتكلمت عن ذوق، وبينت عن مشاهدة، كلا، وإنما أقرر شيئًا أتعقله فهمًا، أو شيئًا وجدته في كتبهم مشروحًا، ولا أدعي أنه ليس في حكمة الله البالغة، وموهبته السابغة، أزيد من ذلك، بل أذكر ما انتهى إليه فهمي فأقول: إن الغيب المدعى الاطلاع عليه، وهو ما لا يعلمه عامة الناس قسمان: قسم متقرر في نفسه، وللعقول وصول إليه، وقد يدركه بعض العقول دون بعض، وذلك كصفات الله تعالى وأسمائه، وحكمته في أرضه وسمائه، وأحكام المعاد وغير ذلك، وكذا كل علم مستنبط في الأصول والفروع وغير ذلك، فهذا اطلاع صحيح، ولكن لا يسمى في الاصطلاح كشفًا، نعم هو الكشف الصحيح النافع، وسنشير إليه آخر الترجمة إن شاء الله. وقسم مرجعه الموهبة، و"لكن" لا مجال فيه للعقول، ويكون إما بلا تقدم سبب يناسبه كحال مجذوب وهي الرؤيا المستغنية عن التعبير، وإما بمشاهدة مثاله، وهي الرؤيا التي تعبر، وإما بسماع خطاب أو آية أو قراءتها ونحو ذلك، ولا حاجة إلى بيان حقيقة الرؤيا لأن ذلك مستوفى في علم التعبير. وأما الغيبة فأن يشاهد فيها شيء أيضًا أو أمثاله أو يسمع الخطاب أو نحو ذلك، وكون المشاهدة حينئذ بالعين الباصرة أو بعين القلب أمر محتمل، ولا حاجة إلى التعرض لتحقيقه فإنه لا يتعلّق به غرض. وأما اليقظة فبأن يرى الشيء بعينه إن كان مما يرى أو أمثاله، أو يراه بقلبه إما بأن يتجلى له كرؤية البصر أو يخطر فيه أنه كذا، أو يحدث به، وقد يرى الشيء مكتوبًا في اللوح المحفوظ أو في الصحف المستنسخة يقظة أو غيبة أو منامًا أو مكتوبًا على صفحة جدار أو على جبين السائل أو غير ذلك، وقد يفهم ذلك من صوت يسمعه أو فعل أو حال يراه لغيره أو لنفسه أو نحو ذلك، فهذا النوع كله هو الذي يراد بالكشف والمكاشفة في عرف الناس، وقد يختص ذلك يختص ذلك بالقسم الثاني والثالث أو بالثالث فقط. ولما كان أمرًا معشوقًا للإنسان وذلك من وجهين: أحدهما من حيث كونه علمًا، والعلم هو غذاء الروح، وكلما كان أغرب، كان أشهى وأعجب. ثانيهما من حيث كونه غبيًا، والعلم به من أوصاف الربوبية، والعبد مرتاح إلى ذلك كارتياحه إلى القدرة والعلو، فكان للناس ولوع بذلك وتشوف إليه لما ذكرنا وتشوف إلى من يظهر عليه شيء منه لاستلذاذ الغرائب، واستعظام العجائب، واستنجاح المآرب، حتى إن العامة مُطبِقون على جعل ذلك آية لثبوت ولاية الولي من غير تعريج على المستقيم منه والسقيم، وكذا صاحبه في نفسه، فنشأ من ذلك كله لعوام المتوجهين شغف به وحرص عليه لأول قدَمٍ، فكثرت فيه الدعوى، وعمت به البلوى، والتبست السبل بالمنهاج، وغطى على شمس الخصوصية دخان الاستدراج، رأينا أن ننبه على وجوه الغلط في الأوجه السالفة بقدر ما حضر في الفكر ليتأتى للإنسان التحرز من مغالطة نفسه ومغالطة غيره له، "والله أعلم" وسمعت الشيخ أبا عبد الله ابن ناصر -رحمه الله- يقول: قال سيدي أحمد ابن إبراهيم -رحمه الله-: لا تكونوا كذابين ولا يلعب بكم الكذابون. فنقول: أما ما يكون من جهة المنام فيمكن الغلط فيه من جهات: منها أن لا يضبط "أمور" نفسه، فإن أمور النوم قلما تنضبط، فيتوهم أنه رأى صورة الشيء أو المثال الدال عليه أو خوطب به أو نحو ذلك والأمر خلافه. ومنها أن يرى صورته لكونها حاضرة في خياله، فإن من أكثر تصور الشيء لشغفه به أو لاستغرابه أو للخوف منه أو عليه ربما تخيله بذلك السبب، ولا حاصل لذلك كما في قصة الذي بشر الملك بطول العمر وأنه بقي في عمره أربعون سنة وأن أمارة ذلك أن يرى في الليلة القابلة كذا لصورة غريبة صورها له، فظل الملك يقلب تلك الصورة في وهمه، فلما أمسى رآها فأصبح مصدقًا بكلام ذلك الشخص فنال الحظوة منه وهو كذاب، وما زال العامة يقولون: إن فلانًا يحلم بفلان أي لخوف منه أو لمحبته، فيكثر ذكره نهارًا ويحلم به ليلًا. ومنها أن يرى مثالًا فيعبره بذلك ويخطئ في العبارة ويبني على الخطأ، وقد لا يذكر المنامة بل يقتصر على تفسيرها على زعمه إما حُسْنَ ظن بنفسه أن الأمر هو ذلك، وإما إيهامًا للناس "أنه" إنما أخبر عن مشاهدة لا عن منام ليعد من الأولياء أهل الكشف، فإن المنامات لا تختص بهؤلاء بل تقع لسائر الناس حتى الكفرة، ولذا وقع الحديث: «الرُّؤْيَا الصّالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ... وفي الحديث أيضًا: «إذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا المُؤْمِنِ تَكْذِبُ». ومنها أن يسمع خطابًا في منامه ولا يدري ممن سمعه فيبني عليه ظنًا منه أنه من الله تعالى أو من ثقة "من" عباده، وإنما هو شيطان يلعب به، وكذا قد يكون كل ما ذكر شيطانيًا، فقد صح أن «الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ وَالحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ». وقد يرى الشخص المخاطب فيظنه من أولياء الله أو فلانًا بعينه منهم، وإنما هو شيطان يتراءى به، وقد يسمعه من ولي من الأولياء ويبني عليه فيخرج "خطأ" فإن الولي غير معصوم من مثل هذا، وإذا جاز على الولي الوقوع في هفوة من كبار الذنوب عمدًا بلا اضطرار فكيف بالخطأ؟ وسنذكر بعد وجوهًا من الخطأ في الكشف، و"قد" يكون ذلك من الولي تصرفًا في المملكة بتولية أو عزل أو نحو ذلك فينقض عليه ذلك غيره من أهل الحل والعقد بعدما حمله السامع وتحدث به، وقد يحضر أول كلام من مجلس الصالحين في أمر ثم يفوته آخره وهو بخلاف ما سمع إلى غير ذلك. واعلم أن مواقع صدق الرؤيا وشروط اعتبارها مشروحة في فنها، وإنما قصدنا الإشارة إلى بعض ما يقع للناس مما ينبغي التحرز منه. وأمّا ما يرجع إلى حال الغيبة فيمكن أيضًا أن يقع فيها الخطأ بتلاعب الخيال أو تلاعب الشيطان تَرائِيًا وإلقاءً، وقد تكون "غيبته" بوارد رباني أو شيطاني، وذلك مشروح في محله عند أهله.
واعلم أنه في كل من المنام والغيبة يمكن أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسمع في تلك الحالة كلامًا يظنه من النبي صلى الله عليه وسلم سمعه، وهو إنما سمعه من ناحية أخرى فيبني على ذلك ويغر من سمعه، وكون الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم ألا يوجب امتناع أن يحضر الشيطان في ناحية، ولا أن يتكلم هو أو إنسي آخر فيطرق ذلك أذن السامع وهو في حالته يعسر عليه الضبط فيظنه ما ذكرنا، إذا فهمت هذا فمن حدثك بأمر سماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ونحوه فلا تعول عليه ولا بد، ولو كان المحدث صدوقًا، بل حتى يبرز، ثم أخلف ذلك فلا تحكم ولا بد بأن المحدث متحلِّم كاذب، بل قد يكون صادقًا في وقوع الرؤيا وإنما غلط فيما سمع فافهم، وما اشتهر في كلام الناس من "أن" الرؤيا التي يحضر فيها النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا حق لا حلم يسلم في الرؤيا نفسها لا فيما وراء ذلك من كلام وخطاب مثلًا، وإذا أمكن هذا في جانب النبوءة ففي الأولياء أقرب وأولى. وأما ما يكون في اليقظة فيمكن فيه أيضًا الغلط في رؤية البصر بأن يكون المرئي خيالًا لا حاصل له كما يقع ذلك للمحموم وصاحب المَيْدِ وراكب البحر ونحوهم، وفي رؤية القلب كذلك وفي الخاطر بأن يكون شيطانيًا أو مجرد حديث نفس أو قوة رجاء وظن أو نحو ذلك، إذا علمت هذا فأعلم أن الواجب على الإنسان في حق نفسه أن لا يغتر وأن يتهم رأيه، وفي حق غيره أن لا ينخدع لكل مبطل ولا يسيء الظن بكل مسلم، وفي هذا غموض لا يقوم به إلاّ اللبيب الموفق، ولا بد من شرح هذا "كله" بعون الله وتوفيقه. فأما الإنسان في خاصة نفسه ففي باب الرؤيا إن رأى ما يكره فليتعوذ بالله كما جاء في السنة المطهرة وليقل: اللهم إني أعوذ بك من شر ما رأيت أن يضرني في ديني ودنياي فإنها لن تضره، وإن رأى ما يحب فهي مبشرة، وفي الحديث: «ذَهَبَتِ النُّبُوءَةُ، وَبَقِيَتِ المُبَشِّرَاتُ» ومع ذلك لا يغتر لما ذكرنا قبل ولهذا يقال: الرؤيا تسر ولا تغر. وأما تحدثه فإن كان يتقي فيه فتنة أو غرورًا أو عجبًا لنفسه أو نحو ذلك فليكتم ذلك ولا يلتفت إليه، وإن لم يكن به "بأس" لنفسه ولا لغيره فليذكرها إن شاء "الله" بصورتها لا استغناء بمضمونها على زعمه، فإن خرجت على المراد فذاك، وإلا بقي بريء الساحة، وقد يعرض ما يقتضي ذكرها كاستدعاء أستاذه ذلك منه، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول: «مَنْ رَأى رُؤْيَا فَلْيّقُصَّهَا» أو أن يكون في ذلك للإخوان سرور ومزيد، وكان الشيخ أبو مهدي الدغدوغي -رحمه الله - يقول: لا تكتموا عن إخوانكم ما تشهدونه من الكرامات فإن ذلك يحبب إليهم طاعة الله تعالى، غير أن هذا مزلقة للنفس، فالحذر الحذر، والعاقل لا يعدل بالسلامة لنفسه شيئًا. وأما في باب الغيبة فلا اختيار له "في حالتها كما لا اختيار له" في حالة النوم، ولكن بعد السكون يجب عليه أن يتحرز في حق نفسه وفي الإفشاء للغير كما في النوم وأكثر لأنها ملْعَبَة للشيطان إلاّ من عُصم، وليتحرز قبل ذلك من الوقوع في ذلك بتصحيح التقوى، وترك الدعوى، ومجانبة المخلطين والشاطحين المدعين. وقد نقل الأخ أبو العباس زروق -رضي الله عنه- أن من اعتاد من نفسه الغيبة عند السماع أنه لا يحل له تعاطيه لأن حفظ العقل واجب، وبهذا تعلم حال متفقرة الوقت في طلبهم الخمرة، وما مثالهم إلاّ مثال سفيه مسافر وبين يديه قُطّاعٌ ومعه خفير يحميه منهم فَدسوا إليه من أغراه بقتل ذلك الخفير أو طرده عن نفسه، وذلك ليستمكنوا منه بلا مدافع، ففعل ذلك أو سعى في فعله سَفَهًا منه لقلة معرفته بمصالح نفسه ومكايد عدوه.
وهكذا المريدُ خفيرهُ من تلبيس الشياطين عقله مع توفيق الله تعالى، فإذا ذهب "عنه" استمكن منه وهو يطلب ذلك ويحرص عليه لأنه رأى أو سمع أهل الشراب الصافي من أولياء الله تعالى ورأى ما يطلعون عليه من المغيبات وما يدركون من الحقائق وما يتصرفون في المملكة من التصرف، وما يقع للخلق من الإقبال عليهم والتنويه بهم، فيشتهي المسكين تلك الحالة لذلك ولا يدري أن أولئك لم يكونوا أهل شهادات مثله، ولا نالوا ذلك بحولهم "واحتيالهم" ولا قوتهم، ولا بالترَّهات التي يشتغل بها هو، وإنما اختصهم الله بموهبته وأهّلهم لحضرته من غير تدبير منهم ولا اختيار، ولو كان لهم اختيار لاختاروا البقاء في خدمته وأن لا يغيبوا عنها لحظة، فإن أدب العبد وشرفه إنما هو في خدمة مولاه لقيامه فيها بحق سيده لا بحظ نفسه، وما مثال من يطلب الخروج عن ذلك بالولهِ والسكر إلاّ مثال عبد نصبه سيده لخدمته وهو يريد الإباق عنها أو يريد أن يتركها اختيارًا منه ليدخل إلى مجلس سيده، فما أحقه في الحالتين بالعصا تأديبًا أو طردًا نسأل الله تعالى العافية، نعم ما مر من أنه لا ينبغي له تعاطي السماع مثلًا إنما هو ما دام اختياره معه، وأما المغلوب فلا حكم عليه، وبهذا يجمع بين ما نذكر وبين ما يقع للصوفية في باب السماع وباب الوجد. وبلغنا أن جماعة قدموا على سيدي محمد الشرقي التادلاوي المتقدم الذكر فخرج إليهم وتحرك سماع فلم يشعروا به إلاّ وهو في وسطه يتواجد "و" ليس عليه إلاّ القميص، قال بعض الجالسين لآخر سرًا: هذا رجل خفيف، فإذا هو على الفور تكلم على خواطرهم فقال: الله الله يا الله *** الله الله يا لطيف الحب يهز الرجال *** لا والله ماني خفيف ومن هذا قول القطب العارف الشيخ أبى مدين رضي الله عنه: "حيث قال": فقل للذي ينهى عن الوجد أهلَه *** إذا لم تذق معنا شراب الهوى دعنا "إلى أن قال": فإنا إذا طبنا وطابت عقولنا *** وخامرنا خمر العشيق تهتكنا فلا تلم السَّكران في حال سكره *** فقد رفع التكليف في سُكرنا عنا والأبيات مشهورة، غير أن هذه الغلبة لا يتحققها الجهال ولا ينتظرونها، نعم استدعاء حال يرجى عنه رقة القلب وانشراح الصدر وذهاب جساوة النفس ورعونتها بلا زائد مع صحة القصد لا ينبغي أن ينكر، بل يلتحق بما أذن فيه شرعًا، بل حضّ عليه مما يفيد رقة القلب وخشوعا وتذكير الآخرة كحضور مجالس الذكر وقراءة القرآن "بالتدبر" وزيارة القبور والمسح على رؤوس اليتامى ونحو ذلك. وقد انجرَّ بنا الكلام إلى ما لا حاجة بنا إليه في هذا المحل لكثرة أبوابه واتساع شعابه، فلنرجع على ما نحن فيه فنقول: وأما في حال اليقظة فليحذر أيضًا من الغلط في رؤيته كما مر وفي خاطره فلا يثق بكل ما يرد عليه في قلبه "في نفسه" فضلًا عن أن يخبر به الناس، وليفرض ذلك الوارد كأنه شخص مجهول ورد عليه من سفر فأخبره بأمر وقع في بلد آخر فلا يثق به وهو لا يعرف صدقه من كذبه، ولا يخبر أحدًا بخبره حتى ينظر، ولو وثق به وحدث الناس بكلامه دخل في مضمون: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، بل حتى ينظر "هل" صدق ما أخبر به، ثم إن صدق فأخبره كرة أخرى فلا يثق به أيضًا لأنه قد يتفق للكاذب الصدق مرة أو أكثر، ثم إن صدق فأخبره أيضًا فكذلك حتى يحصل "له" اليقين بالتكرار والقرائن أنه صدوق، فعند ذلك يثق به فيقول: حدثني الثقة، وهكذا خاطر القلب، وهيهات تحقق ذلك فيه بمجرد هذا، فإن الشخص في المثال يكون معروفًا بعينه، فإذا ثبت له وصف من الصدق عرف به، أما الخاطر القلبي فمتى يعرف أن هذا الذي أخبره الآن هو الذي صدق قبله وهو يعلم أن القلب ميدان للربّاني والملكي والشيطاني والنفساني فلعل هذا شيطاني أو نفساني، نعم إن كان من جنس من قال: كنت بوابًا على قلبي ثلاثين أو أربعين سنة، فمتى تحرك خاطر سوء صرفته عنه فعسى أن يثق بما حصل في قلبه، وكذا الله أعلم من ربه أنه أعطى الخاطر أو تجريب صادق من أهله في قلبه كما مرّ أو مع ربه أنه يعلمه بما يحدث في المملكة.
وقد روي أن امرأة من تلامذة الشيخ السري -رضي الله عنه- أرسلت ابنًا لها في حاجة فوقع في النهر وغرق، فبلغ الخبر إلى الشيخ قبلها "فقال للجنيد: قم بنا إليها فأتياها فجعل الشيخ يكلمها في مقام الصبر" فقالت: ما أردت بهذا يا أستاذ؟ فقال: إن ابنك من أمره كذا أي مات، فقالت: ابني؟ ما كان الله ليفعل ذلك، ثم ذهبت تهرول إلى الماء فنادت يا فلان فقال: لبيك وخرج إليها يسعى، فنظر السري إلى الجنيد وقال: ما هذا؟ فقال: إن أذن الشيخ تكلمت، قال: تكلم، فقال: هذه امرأة محافظة على ما لله عليها، ومن شأن من كان كذلك أن لا يُحدِثَ الله أمرًا حتى يعلمه، فلما لم يعلمها الله علمت أنه لم يكن. ولذا قال بعض المشايخ للتلامذة: أيكم إذا أراد الله أن يحدث شيئًا في المملكة أعلمه إياه؟ قالوا: لا أحدَ مِناّ، فقال: ابكوا على قلوب لا تجد من الله شيئا أو نحو ذلك، وقد شهد الذوق أنه ما يتفق ذلك عادة على استقامة إلاّ بعد صفاء المداخل كلها، فيعم ما يتصل بمعدته من مطعوم، وبأُذنه من مسموع وبعينه من مَرئيٍّ وبلسانه من مقُولٍ إلاّ كدرًا، ولا يثق أيضًا بما يقع له من التجلي في باطنه، فإن كل ما سوى الأنبياء عليهم السلام معرضًا للخطأ والغلط، وقد يتجلى الشيء بتمامه وقد ينتقص. وضرب "الإمام" حجة الإسلام في الإحياء لذلك مثلًا وهو أن القلب في مطالعته اللوح المحفوظ بواسطة التجلي يكون كما لو كان بينك وبين جدار أو إنسان أو متاع ستر مرخىً، فإذا انسدل لم تر شيئًا من ذلك الجدار فترسله ولا ترى الباقي أو ترسله قبل أن تبين ما رأيت وهكذا. قلت: ومن ثمَّ يقع لأهل الفراسة من الصالحين اختلال أو نقصان فيظن بهم الكذب، وإنما يؤتون من عدم التجلي كما ذكرنا أو من غلط في فهم خطاب أو نحو ذلك، وذلك مشهور. وقد حدثونا عن صلحاء تادلا أنه لما قام على السلطان أحمد المنصور ابن أخيه أو ابن عمه الناصر قال سيدي أحمد بن أبي القاسم الصومعي: إن الناصر يدخل تادلا بمعنى دخول الملك، فلما بلغ الخبر إلى سيدي محمد الشرقي قال: مسكين بابا أحمد رأى الناصر قد دخل تادلا فظنها الناصر يدخل، فكان الأمر كذلك أنه هزم في نواحي تازا ثم قطع رأسه وجلب إلى مراكش فدخل تادلا في طريقه. وعن صلحاء سلا أن رجلًا من رؤساء البحر جاء إلى سيدي علي أبي الشكاوي فشاوره على السفر في البحر فقال له: لا تفعل، وإن فعلت فلا تربح مالك ونفسك، وخرج من عنده فأتى سيدي عبد الله بن حسون فشاوره فقال له: سافر تسلم وتغنم. فسافر فاتفق عند دخولهم البحر أن أسرهم الروم فذهبوا بهم إلى أن لقوا بعض سفن المسلمين فوقع بينهم قتال فظهر المسلمون، فاستمكن هؤلاء من سفينتهم التي أسرتهم فقبضوا عليها وغنموها ورجعوا سالمين غانمين، ومثل هذا من أحوالهم كثير. وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني أنه لا ينبغي لمن يطالع ألواح المحو والإثبات أن يتكلم، وإنما يتكلم من يطالع اللوح بنفسه، وذلك لأن ما في اللوح لا يتبدل بخلاف الصحف فإنه يقع فيها التبديل كما قال تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبتُ} فقد يخبر بما فيها ثم يمحوه الله تعالى فيختلف خبره ويدخل وهنًا على الخرقة وتهمة بالكذب والدعوى.
وذكر في صلحاء مصر في وقته أن فلانًا منهم كان يتكلم عن اللوح فكان كل ما يكون يحتفظ به، وفلانًا كان يتكلم عن الألواح فكان ربما يخير بالشيء ولا يقع، والظاهر أن حكاية الشيخ عبد القادر -رضي الله عنه- من هذا المعنى، وذلك أن رجلًا من التجار شاور بعض المشايخ وأظنه الشيخ الدباس على السفر فقال له: لا تفعل فإنك إن سافرت تقتل وينهب مالك، فلقي الرجل الشيخ عبد القادر فكلمه فقال له: سافر ولا بأس عليك، فسافر الرجل فلما كان ببعض الطريق طرح بضاعته ثم قام فنسيها وتنحى إلى مكان آخر فنام فرأى في منامه أن قد خرج عليهم اللصوص فقتلوه ونهبوا أموالهم، فاستيقظ مذعورًا، وإذا به أثر الدم كأنه أثر الطعنة التي رآها في منامه، ثم ذكر بضاعته فهرول إلى الموضع الذي نسيها فيه فإذا هي سالمة، فأخذها ورجع إلى أهله سالمًا "بماله"، فلما دخلَ لقي الشيخ الأول فقال له ذلك الشيخ: يا ولدي، الشيخ عبد القادر محبوب طلب من الله تعالى كذا وكذا مدة أن يرد القتل منامًا والنهب نسيانًا "ففعل" فهذه الحكاية مع عبارة هذا الشيخ إذا سمعها الجاهل يتوهم أن الله تعالى قضى في أزَلهِ على هذا الشخص أن يقتل في هذه السفرة ويذهب ماله وأنه أطلع الشيخ على ذلك فأخبر به ثم تبدل ذلك بدعاء الشيخ عبد القادر، وذلك باطل لا يكون، فإن علم الله تعالى لا يتبدل، وما قضي في أزله وهو المعبر عنه باللوح المحفوظ لا يتحول، وإنما ذلك يخرج على ما ذكرنا من المحو والإثبات، وهو أن يظهر الله تعالى القتل والنهب ويطلع عليه الشيخ المذكور ويكون قد قضى في علمه أنَّ ذلك منام لا حقيقة، وأن دعاء عبد القادر منوط به، فلما دعا برز ما علمه الله تعالى أن يكون وقضاه، وهو الصحيح، وإظهار المعنى الآخر يكون لحكمة يعلمها الله تعالى كصدور الدعاء والتضرع من الشيخ عبد القادر في هذه الصورة وظهور شفوف منزلته وحظوته عند ربه، وهكذا يفهم كل ما يشبه هذا مما يقع من الكرامات أو المعجزات. واعلم أن كل ما أشرنا إليه من التحذيرات "وقررنا من التحرزات" إنما هو في حال المريدين وعوام المتوجهين المعرَّضين للغلط والزّلق، وأما العارفون الكاملون وإن كانوا أيضًا غير معصومين ولا مستغنين عن التحفظ فلا حديث لنا عنهم لأنهم أعرف بأحوالهم فيما يأتون ويذرون، وما يبدون وما يكتمون، وتوصية أمثالنا لهم حماقة وسوء أدب. وأما الإنسان في حق غيره فهو بين إحدى ثلاث: إما شيء يصدق به لمعرفته له بالبصيرة أو تقليد من يثق به من أستاذ أو نحوه فيقبله، وإما شيء تنكره الشريعة أو الحقيقة أو العقل فينكر بالشروط المقررة في إنكار المنكر في الفقه وفي التصوف مع حسن الظن في الباطن، وإما شيء محتمل "فيسلم" لا ينكر ولا يتبع، ولا تتم هذه الجملة إلاّ بسلامة الصدر للمسلمين وحُسن الظن بهم وتغافل عن مساويهم مع فطنة ويقظة ومعرفة بالزمان وأهله، والمؤمن كيس فطن ثلثاه تغافل، ويقال: اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل، أما الزمان فلا تسأل عنه، وقد مرّ في الحديث: «صِنْفَانِ إذَا صَلُحَا صَلُحَ النّاسُ، وَإذَا فَسَدَا فَسَدَ النّاسُ: الأمَرَاءُ وَالعُلَمَاءُ" وقد فسدا معًا وإلى الله المشتكى. وكان الأمر يصلح بأئمة العدل، وفقه الفقهاء، وأدب الصحابة، وقد فسد هؤلاء الثلاثة بالجور والمداهنة والبدعة ففسد الدين بهم أولًا والدنيا ثانيًا كما قيل: وهل أفسد الدين إلاّ الملوك *** وأحبار سوء ورهبانها وباعوا النفوس ولم يربحوا *** ولم تغل في البيع أثمانها لقد وقع القوم في جيفة *** يبين لذي عقل إنتانها وقيل: يا معشر القراء يا ملح البلد *** ما يُصلحُ المِلْحَ إذا المِلحُ فسد؟ والمراد بالقراء الفقهاء، وبهم يصلح ما فسد كما يصلح الطعام بالملح، فإذا فسدوا تعذر الصلاح. أما التصوف فقد كان شيخ الطائفة أبو القاسم الجنيد في زمانه يقول رضي الله عنه: أهل التصوف قد مضوا *** صار التصوف مخرقه الأبيات المعروفة فما بالك بزماننا؟ فقد صارت هذه المخرقة مخرقة، ولم يزل الخلق ينقص إلى الآن. وقد قيل قبل هذا بزمان: دعوى عريضة، وضعف ظاهر، أما اليوم فالدعوى من وراء حجاب.
وقد طرق أسماع العوام من قبل اليوم كلام أهل الصولة كفحول القادرية والشاذلية -رضي الله عنهم- وكلام أرباب الأحوال في كل زمان فتعشقت النفوس ذلك، وأذعن له الجمهور، وفاضوا بالتشبه بهم، فلما شئت أن تلقى جاهلًا مسرفًا على نفسه لم يعرف بعد ظاهر الشريعة فضلًا عن أن يعمل "به" فضلًا عن أن يخلص إلى الباطن فضلًا عن أن يكون صاحب حال فضلًا عن أن يكون صاحب مقام إلاّ وجدته يصول ويقول، وينابذ المنقول والمعقول، وأكثر ذلك في أبناء الفقراء يريد الواحد منهم أن يتحلى بحلية أبيه ويستتبع أتباعه بغير حق ولا حقيقة بل لمجرد حطام الدنيا فيقول: خدام أبي "وزريبة أبي" ويضرب عليهم كمغرم السلطان، ولا يقبل أن يحبوا أحدًا في الله أو يعرفوه أو يقتدوا به غيره، وإذا رأى من خرج يطلب دينه أو من يدله على الله تعالى يغضب عليه ويتوعده بالهلاك في نفسه وماله وقد يقع "له" عليه شيء من المصائب بحكم القضاء والابتلاء فيضيفه إلى نفسه فيزداد بذلك هو وأتباعه ضلالًا، يخترق لهم من الخرافات والأمور المعتادات ما يدعيه سيرة ودينًا يستهويهم به ثم يضمن لهم الجنة على مساوئ أعمالهم والشفاعة يوم الحشر فيقبض على لحمة ذراعه فيقول للجاهل مثله: أنت من هذه اللحمة، فيكتفي ابتهال العوام بذلك ويبقون في خدمته ولدًا عن والِدٍ قائلين: نحن خدام الدار الفلانية، وفي زريبة فلان لا نخرج عنها، وكذا وجدنا آبائنا، وهذا هو الضلال المبين، وهؤلاء قطاع العِباد عن الله وعن دينه داخلون في شبه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ملوك السوء وخصوصًا "في" بني أمية، ففي الحديث: «إذَا بَلَغَ بَنُو أبي العَاصي ثَلاثِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا عِبَادَ اللهِ خَوْلًا وَمَالَ اللهِ دُوَلًا.... الحديث». ولم يعلم الجهال أنهم كيف يكونون من لحمة ذراعه بمجرد دعواه إذا لم يجعلهم الله تعالى منها؟ وبعد أن يجعلهم كيف يغترون بذلك قبل أن يعلموا أين مصير تلك اللحمة؟ ولعله النار، وماذا ينفعهم اجتماعهم في النار؟ نعوذ بالله من البوار، قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أنَّكُمْ في العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} فالناس عند الله ثلاثة: مقبول مقبول له، ومقبول غير مقبول له، ومردود، فالمردود لم ينج بنفسه فكيف ينجو الناس على يده؟ والمقبول لنفسه غايته نفسه، والمقبول له التكلم في الغير هو الذي يرجى الانتفاع به بإذن الله تعالى، إما في العموم أو في الخصوص كثيرًا أو قليلًا، فهذا المدعي الذي يتألّى على الله ويغر عباده ما يُدريه أي الثلاث هو؟ فإن كان مردودًا فيا ويله، وإن كان مقبولًا في خاصة نفسه فما له وللناس؟ وإن كان مقبولًا له الشفاعة فلا يدري أفي كل هؤلاء أم في بعضهم أم في غيرهم؟ فحقه أن يدع الناس ويبكي على نفسه حتى يرى أين هي، وإن قوي رجاؤه حينًا في الله لنفسه أو لغيره فليقل: إن قبلني الله وقبل لي، نسأل الله التوفيق. وأما ما نحن فيه من ادعاء الاطلاع على الغيب والتظاهر بالكشف والتصرف في الوجود فهو الكثير في زماننا في المنتسبين دعوى منهم وتشبعًا بما لم يعطوا إلاّ من عصمه الله وقليل ما هم، فمنهم من يستند إلى مجرد خيالات منامية ويتأولها لنفسه ويحكم بها كما مرّ، ومنهم من يحكم ظنًا وخَرْصًا و"ثم" لا يبالي بالفضيحة ولا ينتهي عن غيه، فإذا اتفق صدقه مرة اتخذ ذلك حجة واتخذه له جهال العوام فيقولون والله لقد سمعنا منه كلامًا حقًا، فصاروا في ذلك كأصحاب الكهان من جاهلية العرب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عنهم بأن الرِّئي من الجن يخطف الكلمة من الملك فيقرها في أُذن وليّه من الإنس ثم يخلط معها مائة كذبة فيقول الناس: ألم يخبرنا يوم كذا بكذا فكان حقًا للكلمة التي تلقفها من الجني، وهكذا المذكورون. وترى الواحد منهم يخبر بأمر أو بعد قضاء حاجة لوقت فإن اتفق صدق ذلك بمصادفة قوله للقضاء الأزلي تبجح بذلك ورعَد على الناس وبَرَق، وإن كذب اكفهر في وجوه الناس وتنكر، أو تغيب أيامًا حتى ينسى ذلك فيعود إلى ترّهاته، وما مثاله في ذلك إلاّ مثال امرأة أيّمِ عندها عدة بنات مشهورة بالملاحة ولكنهن بغايا فاسدات كما قال ذو الرمة: على وجه مَيَّ مَسْحةٌ من ملاحةٍ *** وتحت الثياب العار لو كان باديا
فجعلت تنوه بذكرهن وتستميل إليهن قلوب السفهاء أمثالهن حتى اشتهر أن عند فلانة البنات الحسان، فجاء مغرور فخطب إليها فأنكحته واحدة منهن فانقلب جذلان لا يبالي ما أنفق ولا ما أهدى منشدًا بلسان حاله: ومن طلب الحسناء لم يغله المهر وجعلت للدخول موعدًا فلما دخل أخفق فأصبح بئسًا خاسر الصفقة، وحين أحست العجوز بذلك تنكرت وتعيبت حتى نسي ذلك فرجعت تذكر بناتها أيضًا فيجيء أحمق آخر خاطبًا فإذا قال له النصحاء ويحك أليس لك فيما وقع لفلان مع هذه الفاجرة عبرة؟ يقول من فرط شغفه بما سمع من الحسن: ذلك أمر قد يتفق، ولعله في تلك البنت فقط لا في غيرها، فيتقدم ويقع له كما وقع للآخر، ثم يجيء مغرور آخر لا علم له بما كان وهكذا إلى أن يتفق لواحد أن يجد الأمر كما يجب فتخرج وتطيل لسانها وتقول: من عنده في الوجود مثل بناتي؟ ويقول الناس: والله إن فلانًا تزوج منها بنتًا فوجدها كما يحب وتذهب تلك المساوي كلها في هذه الحسنة الواحدة، فما أظرف هؤلاء الحمقى إذ يحكمون بأن الحسنات وإن قَلّت يذهبن السيئات وإن كثرت، وهكذا الفقير المدعي يتظاهر بإخبارات وتصرفات هي حسنة لذيذة عند العوام لموافقتها لشهواتهم وحاجاتهم وهي فاسدة لبطلانها وانبنائها على غير أساس، فإذا ظهر كذبه في الواحدة قالوا: سبحان الفاعل لما يشاء، والقادر يحنث عبد القادر، وبهذا أيضًا يعتذر هو. وكنت تحدثت مع بعض الأصحاب في هذا المنزع فقلت لهم: إن المدعين لا يدخلون في الإسلام حتى يفتضحوا فاستعجبوا من ذلك وسألوا عن تأويله فقلت لهم: إن المدعي حين تهيج له الظنون الكاذبة والوساويس الباطلة يحكم بوقوع أمور ولا يذكر الله تعالى ولا يعرج على مشيته وسعة علمه وعظيم قهره، حتى إذا افتضح ببطلان ما قال رجع إلى الحق وجعل يقول: الأمر أمر الله والحكم حكمه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فهلا تلا حاميمَ قبل التقدم ومنهم من يتظاهر بالوجد والسكر وأول ما يقول في ذلك، فإن كذب وليم يقول: والله ما أدري "حين تكلمت" ما أقول، وما لي اختيار، ويظن أنه يتخلص بهذا من الملامة، وهيهات ذلك! فإنه إن كان نطقهُ عن عمْد فهو افتراء للكذب، وإلاّ فالشيطان يلعب به ترقيصًا وضربًا واستنطاقًا، وناهيك بها نقيصة. ودخل ذات مرة عليّ الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد الصالح بن المعطي وأنا إذ ذاك بمدينة مراكش حرسها الله ومعه رجل أسود من ناحية المشرق، فتحدث الأسود وقال: إنه من وادي العباس، وزعم أنه كان ذهب إلى بغداد زائرًا للشيخ عبد القادر رضي الله عنه، وأنه بقي في مقامه أيامًا، وأنه رآه فاستتابه ثم أمره بالتوجه إلى شيخ من أهل الوقت في نهر تِيرا يقال له أبو عبد الله، وأن بين بغداد وبين ذلك البلد نحو عشرين مرحلة، كلها قفار معاطش لا يعمرها إلاّ الحيات والثعابين، وأنه قال له: إنك ستبلغ في ثلاث ولا ترى بأسًا، فبلغ في ذلك سالمًا، وأنه بقي عند الشيخ الآخر أيامًا فرده إلى بغداد وبلغها في ذلك أيضًا، وأنه أمره الشيخ عبد القادر بالتوجه إلى بلاد المغرب لزيارة الصالحين، فلما رأيت ذلك طمعت أن تكون له رائحة، وكانت لي حاجة فأردت استنجاده فيها، فحركت الصالح وكانت تعتريه هزّة فتحرك وصاح، فلما تحرك "تحرك" ذلك الرجل وكثر اضطرابه وزعيقه "ثم" وعد بالحاجة لأمد قريب، وزعم أن الشيخ عبد القادر أو الحاكم بذلك، فلم يلبث أن حل الأجل ولم يقع ذلك، وروجع فلم يوجد عنده حاصل، فعلم أن الشيطان استفَزَّه، فقلت للصالح ارتجالًا مطايبة ونصحًا: أين الذي قد قال يا صالح *** من هو عندَ زعمه صالح وإذ بدا ما قاله زائفا *** فهو لعمري الكاذب الطالح يلعب شيطان به جهرةً *** فهو إلى وسواسه جانح يحسبه القطب الذي يدعي *** والقطب لا يكذب يا صالح أنصحه كي يقلع عن غيه *** فحسبه المنتهج تقوى الإله واعتصام به *** في سنة والعمل الصالح هذا لعمري غنية المغتني *** وذا لعمري التجر الرابح يا أيها الناس اعلموا إنما *** عبد الإله الظافر الناجح من يعبد المولى ويعنى بما *** يعنيه لا وانٍ ولا مازح ولا أخو دعوى ولا مفتر *** ولا بمرتع الهوى سارح ولا عنود عن سبيل التقى *** يومًا ولا عن الهدى جانح
والمرء لا يجني سوى غرسه *** غادٍ إليه كسْبُهُ رائح وهو لما يعتض في نفسه *** من مأرب يقتاده كادح والطبع ملاك زمام الفتى *** وسيره بسره بائح والصدق سيف صارم حدُّهُ *** كشّافُ كل معوص فاتح وكل من أسر مكتومة *** فوجهها في وجهه لائح إن تكُ نورًا فهو منها مُضي *** أو ظلمة فهو بها كالح ومن يُرمْ نيل المنى بالمنى *** فهو عن الفوز بها نازح ومن يخم عنها ولا يقتحم *** أبوابها فهو امرؤ دالح وما على المرء سوى جده *** وجهده وربه المانح وقد انحصرت دعاويهم في الحدثان الكوائن ومآرب الناس، ولم يرتقوا إلى ما فوق ذلك لجهلهم، فاشتغلوا بما يطلبه العوام من الأمور المذكورة، وذلك لو فتح لهم دون ما فوقه لكان أمرًا تافهًا لا يلتفت إليه ذو همة، فإن أولياء الله تعالى يكشف لهم عن الذات والصفات والأسماء كشفًا لا تبلغه العقول، وعن ملكوت السماوات والأرض وعن العرش والكرسي والجنة والنار والملك والروح وغير ذلك، فمن لم يبلغ ذلك واطلع على كون المسافر يقدم غدًا "وفلان يتولى" وفلان ينعزل، وفلان يتزوج ونحو ذلك وفرح به كان بمنزلة من دخل سوقًا فيها صيارفة الذهب والفضة والجوهر والياقوت الحرير وسائر البزّ والعبيد والخيل والإبل "والبر" والأرز فوقع على بائع نبق فاشترى منه النبق وذهب "به" فرحًا وقال إنه قد تسوق "كما تسوق" الناس، ولا ريب أن ما ذهب به يفرح الصبيان به ومن لا عقل له من النسوان، وكذلك الكوائن يفرح بها صبيان العقول وكل من لم يبلغ مبلغ الرجال من عوام الناس. ومنهم من يستخدم جنيًّا فيأتيه بخبر الناس وخبر من يَرِد عليه مثلًا وما أتى به من الهدية وما وقع له في الطريق فيخبر بذلك قبل مجيئه ويخبره إذا ورد فلا يشك العوام أنه كشف ربّاني وأنه من أولياء الله، وقد يكون من أعداء الله، كما أخبرونا عن رجل ممن تصدر للمشيخة والناس مقبلون عليه فأتى رجل إلى مسجده فجلس في زاوية منه فإذا بالمرابط قد دخل فنظر يمينًا وشمالًا فلما لم يرَ أحدًا رفع ثوبه وجعل يبول في المسجد يمينًا وشمالًا حتى نجسه فحينئذ خرجت جنّيّة فمثلت بين يديه فقال لها: أي شيء جئتني به؟ فقالت: ذهبت إلى قبيلة بني فلان فلم أزل حرضهم على الزيارة حتى اتفقوا وجمعوا من الهدية كذا "وكذا" وهم خارجون يوم كذا، فخرج المرابط إلى مجلسه فقال: تهيئوا لبني فلان فإنهم قادمون عليكم بهدية كذا، فلما قدموا قالوا: قد أخبرنا الشيخ بكم وبما جئتم به منذ يوم كذا، فهذا -والعياذ بالله- كافر، والكرامات تحسب له. ومنهم من يستند إلى التنجيم وعلم الاقترانات وإلى خط الرمل أو نيروجات أخرى تشبهه. ومنهم من يحتال احتيالًا فإذا قدم الوفود مثلًا دسّ إليهم من يسألهم فيقولون: قد اطلع الشيخ على أحوالنا، وقد يحتال في ساعته فينظر مثلًا إلى من بين يديه ثم يبتسم أو يحرك رأسه أو يقول: سبحان الله أو لا إله إلاّ الله ويكون ذلك الشخص قد خطر له شيء فيقول: ما فعل الشيخ هذا إلاّ على ما في قلبي، ويفهم من ذلك إمّا تعجبًا وإما استحسانًا، ويعده مطلعًا على ذلك وهو لم يطلع، وقد يتكلم على ما في خاطر السامع صريحًا فلا يشك السامع في أنه كشف، ويكون إنما خطر له ذلك اتفاقًا حين خطر للآخر كما يقع الحافر على الحافر، فتكلم عليه ولا اطلاع له، وقد يتكلم "بكلام" في غرض فيحمله السامع على أنه إشارة إلى ما في قلبه أو حاجته وإنه كوشف بذلك، وأكثر ما يحكى من هذا النوع في أهل الزمان إنما هو من أحد هذه المداخل احتيال من المتبوع أو جهل من التابع، والعوام يستنطقون من لا ينطق ويفسدون من لم يفسد، فهم الشياطين في زي المؤمنين، وما بالك بشيطان في زيّ محب، وإن استعذت منه عاداك، ووقع فيك الغيب بالإذابة زيادة على ما فعل في الحضور، فهو شر من الشيطان الآخر بكثير، فكن منهم على حذر كما قيل: فخف أبناء جنسك واخش منهم *** كما تخشى الضراغم والسَبنْسَى وخالِطهم وزَايِلْهُمْ حِذارًا *** وكن كالسامريّ إذا لَمسْتا
واعلم أن أشرف ما يكاشف به العهد ما يرجع إلى معبوده تعالى من معرفته وما له من الجلال والجمال ومن أسماء علية، وصفات سنية، كما مرّ، ثم ما يرجع إلى حكمته في مملكته، ما يرجع إلى أحكامه من معرفة ما تعبّدَ به عباده أصلًا وفرعًا وكل علم يعين على ذلك. وقد وقع في كلام الشيخ الصالح أبي عبد الله السنوسي -رضي الله عنه- حين تكلم عن مذهب أهل السنة في أفعال الحيوان وأنهم أطلعهم الله تعالى على المعنى الجامع بين الحقيقة والشريعة وجنبهم جانبي القدر والجبر ذلك فقال: هذا هو الكشف الذي ينبغي أن يسمى كشفًا لا ما يبتلى به الجاهلون من أحلام شيطانية يتوهمونها كرامات، وهي استدراجات أو نحو هذا من الكلام، فهذه الجملة كلها "كلما" يزداد فيها العبد ازداد كمالًا لأنه أمر مطلوب منه الاطلاع عليه فطلبه قُرية، وحصوله درَجة، ووجوده منفعة، وأما ما خرج عن هذا من جزيئات الكون التي هي متعلقات القضاء والقدر ولا يتعلق بها حكم فليست مطلوبة من العبد إذا أخفيت عنه، فأدبه أن لا يشتغل بها شغلًا بالله تعالى وبما لله تعالى عليه، فإن رزقه الله معرفته وشغله بما له عليه وغطى عنه مملكته وتركه كذلك حتى يلقاه موفورًا فقد أسبغ عليه النعمة، وحماه من جميع موارد النقمة، وإن أطلعه على شيء من ذلك فليعلم أن ذلك لا جدوى له في باب العبودية، وإنما فيه أمر واحد وهو أن الكرامة كلها في الجملة إن صحت دليل على صدق من ظهرت عليه "وعلامة على الخصوصية" وتثبيت لقدم "من" أريد تثبيته في الطريق مع ما ينضاف إلى ذلك من الشكر ومن الرجاء والخوف، وفيها مع ذلك من المخاطرة خوف الركون والمساكنة لها والمكر، كما قيل إنها خدع من الحق للمتوجهين ليقفوا على الحد الذي أريد بهم ولا يجاوزوا إلى مقام لم يكن لهم، وذلك فيمن أريد بذلك، نسأل الله العافية، فحق العبد التسليم والاعتناء بحقوق الله والإعراض عن حظوظه، وإن طلب شيئًا من ذلك طلبه بإذن ليصير من الحقوق، كما أنه أيضًا لا يهرب منها إلاّ بأدب لئلا يصير الهرب من الحظوظ. وهذا الكلام ربما يحتاج إلى تفسير غير أنا نقتصر فقد خرجنا أو كدنا نخرج عما نحن فيه و«مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ». واعلم أن ما ذكر من أحوال المدعين على وجه النصح لهم ولمن يغتر بهم إنما أردنا تخليده في بطون الأوراق ليقع عليه الخواص أهل الأدب والفقه الذين يضعون الهناء موضع النقب فيعطون كلَّ ذي حق حقه مع حفظ الحُرْمَة وإقامة حق النسبة كما أشرنا إليه في صدر هذا الكلام، ولم نرد أن نفتح الباب لكل جامد على الظاهر أو خبيث جريء على أهل النسبة مسقط للحرمة فيتخذ مثالب المنتسبين إلى الله تعالى فاكهةً ويمزق أديمهم في مجالس السفهاء حتى يدخل الوهن على النسبة والطعن في الخرقة فيُزْري العُرْيانُ باللابس، ويحترق الرطب باليابس. وليعلم الجاهل الجمود أن «هذه الأمَّة المُطَهَّرَة المُشَرَّفَة كَالْمَطَرِ لا يُدْرَى أوَّلُهَا خَيْرٌ أمْ آخِرُهَا». و«لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْهَا ظَاهِرِينَ عَلى الحَقِّ لا يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ» كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي كل زمان سادة، وفي كل قطر قادة، فكم من طالع في الدين كالشمس، وإن لم يبصره العُمْيُ والعُمْشُ، وكم من محبوب يرفل في حلل الأنس والإدلال، ويرتضع كؤوس الجمال والإجلال لو تحمّل الشفاعة في قرنين قبيلًا فقبيلًا لكان ذلك في جنب حظوته من مولاه قليلًا وكم من ولي أرخى عليه الخمول ذيلًا، وصار نهاره في أعين أبناء الدهر ليلًا، فأصبح من ضنائن الله بين أوليائه، يلعب بالدهر كما لعب الدهر بأبنائه. وقال أبو نواس: تسترت من دهري بظل جناحه *** فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام عني ما درت *** وأين مكاني ما عرفن مكاني وقال الآخر فيهم: لله تحت قباب العز طائفة *** أخفاهم في رداء الفقر إجلالا هم السلاطين في أطمار مسكنَةٍ *** جرّوا على فلَك الخضراء أذيالا غُبْرٌ ملابسُهم شم معاطسهم *** استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا هذي المكارم لا قعبان من لبن *** شِيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا هذي المناقب لا ثوبان من عدنٍ *** خيطا قميصًا فعادا بعد أسمالا
والبيت الرابع لأمية بن أبي الصلت في سيف بن ذي يزن، وهو مشهور، وكم من راكع ساجد، أو متورع زاهدٍ، لا يدنيه الجاهل من ساحة المتقربين، لكونه لم يرَ عليه سِيما العارفين، ولا بهجة المحبين، ولم يدر أن الزهر ألوان، والتمر صنوانٌ وغيرُ صِنْوانٍ، والعبيد كلهم عبيد الخضرة، من مسك الكأس إلى مشتري الخضرة، غير أنه لكل حد مرسوم {وَمَا مِنّا إلاّ وَلَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}، فعليك بحسن الظن وسلامة الصدر للمسلمين، وحفظ الحرمة لأهل الدين، والتغافل في عين الحذر، والتبصر فيما تأتي وما تذر، والله الموفق. لله الأمر من قبل ومن بعد.
حدثني الأخ الصالح الفاضل أبو عبد الله محمد الصغير بن أبي عمرو المراكشي رحمه الله ورحم سلفه قال: أخبرني الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدلائي أن شيخ المشايخ سيدي أحمد بن يوسف الراشدي الملياني لم يكن في وقته يطعم في زاويته، فقالوا له في ذلك فقال: نحن أردنا انتفاع المسلمين، فإذا قمت أنا وبناتي وتعبنا واحترقنا في طعام المريد الزائر فأي نفع يحصل له؟ وفي المعنى أيضًا كلام يتشعب، ونحن نختصر منه قدرًا صالحًا إن شاء الله فنقول: إن الزاوية المشتهر اسمها اليوم عند أهل الطريق من إطعام الطعام للوافدين والمساكين والملازمين على الدوام حتى صارت عند العوام كأنها من الفروض أو الشروط لا يعلم لها من حيث خصوصها أصل، ولا يجري لها ذكر في الكتاب ولا السنّة، وإنما مرجعها إلى القرى وإكرام الضيف، ولا شك أنه مأمورٌ به، ففي الحديث: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» ولكنه أمر مشترك بين جميع المؤمنين، لا يختص بالصوفي ولا القدوة، وإن كان هؤلاء أحق بمنازلة كل "خلق" محمود، وكان صلى الله عليه وسلم يقري الضيف ويحض أصحابه على ذلك وربما ورد الضيوف فيذهب ببعضهم ويذهب أصحابه بالباقي ويقول: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ وَاحِدٌ فَلْيَذْهَبْ بِثَانٍ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبُ بِثَالِثٍ» وهكذا، وكان عنده أصحاب الصُّفة: نحو أربعين رجل، وهم أضياف الإسلام، وكان إذا أتته صدقة دفعها إليهم، وإذا أتته هدية أخذ منها معهم، وربما يدخل إلى داره حتى إذا لم يجد شيئًا دفع الضيف إلى غيره، ولا شك أن هذا كله يكون أصلًا للإطعام في الجملة من غير اختصاص بكيفية ولا بدوام ولا تعميم للناس مع أنه صلى الله عليه وسلم اجتمعت له أحوال الظاهر والباطن والولاية والخلافة، فمن حاله "الشريف" يستمد الموفق من كل صنف، ثم كان الخلفاء بعده يطعمون على حسب سيرتهم المعلومة، ثم الملوك بعد ذلك. لله الأمر من قبل ومن بعد.
|