الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحلى بالآثار في شرح المجلى بالاختصار **
الْقِرَاضُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَهْلَ تِجَارَةٍ لاَ مَعَاشَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهَا وَفِيهِمْ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لاَ يُطِيقُ السَّفَرَ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ، وَالْيَتِيمُ، فَكَانُوا وَذَوُو الشُّغْلِ وَالْمَرَضِ يُعْطُونَ الْمَالَ مُضَارَبَةً لِمَنْ يَتَّجِرُ بِهِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِنْ الرِّبْحِ فَأَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الإِسْلاَمِ وَعَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَمَلاً مُتَيَقَّنًا لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَلَوْ وُجِدَ فِيهِ خِلاَفٌ مَا الْتَفَتَ إلَيْهِ؛ لأََنَّهُ نَقْلُ كَافَّةٍ بَعْدَ كَافَّةٍ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ. وَقَدْ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاضٍ بِمَالِ خَدِيجَةَ، رضي الله عنها.
وَالْقِرَاضُ إنَّمَا هُوَ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، إِلاَّ بِأَنْ يُعْطِيَهُ الْعَرَضَ فَيَأْمُرُهُ بِبَيْعِهِ بِثَمَنٍ مَحْدُودٍ، وَبِأَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ فَيَعْمَلُ بِهِ قِرَاضًا، لأََنَّ هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلاَ نَصَّ بِإِيجَابِهِ، وَلاَ حُكْمَ لأََحَدٍ فِي مَالِهِ إِلاَّ بِمَا أَبَاحَهُ لَهُ النَّصُّ. وَمِمَّنْ مَنَعَ مِنْ الْقِرَاضِ بِغَيْرِ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ: الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَلاَ يَجُوزُ الْقِرَاضُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَصْلاً إِلاَّ مَا جَاءَ بِهِ نَصٌّ، أَوْ إجْمَاعٌ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَبْدًا يَعْمَلُ مَعَهُ، أَوْ أَجِيرًا يَعْمَلُ مَعَهُ، أَوْ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِفُلاَنٍ؛ لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ: فَتَنَاقَضُوا هَهُنَا فَقَالُوا فِي الْقِرَاضِ كَمَا قلنا، وَقَالُوا فِي " الْمُسَاقَاةِ " لاَ تَجُوزُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " الْمُزَارَعَةِ " فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَجَازُوهَا فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ خِلاَفِهِمْ فِي " الْمُزَارَعَةِ " و " الْمُسَاقَاةِ " السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلاَّ بِأَنْ يُسَمِّيَا السَّهْمَ الَّذِي يَتَقَارَضَانِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبْحِ، كَسُدُسٍ، أَوْ رُبْعٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ نِصْفٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنَا مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ؛ لأََنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ قِرَاضًا، وَلاَ عُرْفًا مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ يَحِلُّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الْمَالِ شَيْئًا، وَلاَ أَنْ يَلْبَسَ مِنْهُ شَيْئًا، لاَ فِي سَفَرٍ، وَلاَ فِي حَضَرٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: مَا أَكَلَ الْمُضَارِبُ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَالْحَسَنِ: أَنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ قَالَ إبْرَاهِيمُ: وَكِسْوَتُهُ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُنَا هَهُنَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: أَمَّا فِي الْحَضَرِ فَكَمَا قلنا، وَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَكْتَسِي مِنْهُ وَيَرْكَبُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَإِلَّا فَلاَ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَهُ فِي الْحَضَرِ أَنْ يَتَغَذَّى مِنْهُ بِالأَفْلُسُ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ لأََنَّهُ بِلاَ دَلِيلٍ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا مِقْدَارُ الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَبَاحُوا هَذَا فِيهِ وَمَا مِقْدَارُ الْقَلِيلِ الَّذِي مَنَعُوهُ فِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ أَيْضًا يَعُودُ الْمَالُ إلَى الْجَهَالَةِ فَلاَ يَدْرِي مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَلاَ مَا يَبْقَى مِنْهُ وَقَلِيلُ الْحَرَامِ حَرَامٌ وَلَوْ أَنَّهُ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ، وَكَثِيرُ الْحَلاَلِ حَلاَلٌ وَلَوْ أَنَّهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. فَإِنْ قَالُوا هُوَ سَاعٍ فِي مَصْلَحَةِ الْمَالِ. قلنا: نَعَمْ، فَكَانَ مَاذَا وَإِنَّمَا هُوَ سَاعٍ لِرِبْحٍ يَرْجُوهُ، فَإِنَّمَا يَسْعَى فِي حَظِّ نَفْسِهِ.
وَكُلُّ رِبْحٍ رَبِحَاهُ فَلَهُمَا أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلاَ وَتَرَكَا الأَمْرَ بِحَسَبِهِ ثُمَّ خَسِرَ فِي الْمَالِ فَلاَ رِبْحَ لِلْعَامِلِ، وَأَمَّا إذَا اقْتَسَمَا الرِّبْحَ فَقَدْ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا صَارَ لَهُ، فَلاَ يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ؛ لأََنَّهُمَا عَلَى هَذَا تَعَامَلاَ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَظٌّ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِذَا اقْتَسَمَاهُ فَهُوَ عَقْدُهُمَا الْمُتَّفَقُ عَلَى جَوَازِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمَاهُ فَقَدْ تَطَوَّعَا بِتَرْكِ حَقِّهِمَا وَذَلِكَ مُبَاحٌ.
وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا تَلِفَ مِنْ الْمَالِ وَلَوْ تَلِفَ كُلُّهُ، وَلاَ فِيمَا خَسِرَ فِيهِ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى أَوْ يُضَيِّعَ فَيَضْمَنُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ.
وَأَيُّهُمَا أَرَادَ تَرْكَ الْعَمَلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ الْعَامِلُ عَلَى بَيْعِ السِّلَعِ مُعَجِّلاً خَسِرَ أَوْ رَبِحَ لأََنَّهُ لاَ مُدَّةَ فِي الْقِرَاضِ، فَإِذْ لَيْسَ فِيهِ مُدَّةٌ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ الآبِي مِنْهُمَا عَلَى التَّمَادِي فِي عَمَلٍ لاَ يُرِيدُهُ أَحَدُهُمَا فِي مَالِهِ، وَلاَ يُرِيدُهُ الآخَرُ فِي عَمَلِهِ، وَلاَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ؛ لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي كَمْ يَكُونُ التَّأْخِيرُ وَقَدْ تَسْمُو قِيمَةُ السِّلَعِ، وَقَدْ تَنْحَطُّ، فَإِيجَابُ التَّأْخِيرِ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ، وَلاَ يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يُبِيحَ مَالَهُ لِغَيْرِهِ لِيُمَوِّلَهُ بِهِ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ أَلْزَمَ هَهُنَا إجْبَارَ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى الصَّبْرِ حَتَّى يَكُونَ لِلسِّلَعِ سُوقٌ لِيُمَوِّلَ بِذَلِكَ الْعَامِلَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَهُوَ لاَ يَرَى إجْبَارَهُ عَلَى تَدَارُكِ مَنْ يَمُوتُ جُوعًا مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يُقِيمُ رَمَقَهُ، وَهَذَا عَكْسُ الْحَقَائِقِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَإِنْ تَعَدَّى الْعَامِلُ فَرَبِحَ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ وَوَزَنَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَاصِبِ وَقَدْ صَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِ إنْ تَلِفَ أَوْ لِمَا تَلِفَ مِنْهُ بِالتَّعَدِّي، وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَهُ، لأََنَّ الشِّرَى لَهُ. وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِمَالِ الْقِرَاضِ نَفْسِهِ فَالشِّرَى فَاسِدٌ مَفْسُوخٌ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُهُ الْبَائِع مِنْهُ فَالرِّبْحُ لِلْمَسَاكِينِ؛ لأََنَّهُ مَالٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُ صَاحِبٌ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَيُّهُمَا مَاتَ بَطَلَ الْقِرَاضُ: أَمَّا فِي مَوْتِ صَاحِبِ الْمَالِ فَلأََنَّ الْمَالَ قَدْ صَارَ لِلْوَرَثَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ. أَمَّا فِي مَوْتِ الْعَامِلِ، فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنْ اشْتَرَى الْعَامِلُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَهُوَ زَانٍ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا؛ لأََنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْهَا رَقِيقٌ لِصَاحِبِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَاشِيَةِ، وَمَمَرُّ الشَّجَرِ، وَكِرَى الدُّورِ؛ لأََنَّهُ شَيْءٌ حَدَثَ فِي مَالِهِ، وَإِنَّمَا لِلْعَامِلِ حَظُّهُ مِنْ الرِّبْحِ فَقَطْ، وَلاَ يُسَمَّى رِبْحًا إِلاَّ مَا نَمَا بِالْبَيْعِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
|