الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه وإن كان لضرورة, مثل أن يكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له إلا أرض جاره فهل له ذلك؟ على روايتين, إحداهما لا يجوز لأنه تصرف في أرض غيره بغير إذنه فلم يجز, كما لو لم تدع إليه ضرورة ولأن مثل هذه الحاجة لا تبيح مال غيره بدليل أنه لا يباح له الزرع في أرض غيره, ولا البناء فيها ولا الانتفاع بشيء من منافعها المحرمة عليه قبل هذه الحاجة والأخرى يجوز لما روى أن الضحاك بن خليفة ساق خليجا من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة, فأبى فقال له الضحاك: لم تمنعني وهو منفعة لك تشربه أولا وآخرا, ولا يضرك؟ فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر فدعا محمد بن مسلمة, وأمره أن يخلي سبيله فقال محمد: لا والله فقال له عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تشربه أولا وآخرا؟ فقال محمد: لا والله فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به, ففعله رواه مالك في " موطئه " وسعيد في " سننه " والأول أقيس وقول عمر يخالفه قول محمد بن مسلمة, وهو موافق للأصول فكان أولى. وإن صالح رجلا على أن يسقي أرضه من نهر الرجل يوما أو يومين أو من عينه, وقدره بشيء يعلم به فقال القاضي: لا يجوز لأن الماء ليس بمملوك ولا يجوز بيعه, فلا يجوز الصلح عليه ولأنه مجهول قال: وإن صالحه على سهم من العين أو النهر كالثلث أو الربع جاز, وكان بيعا للقرار والماء تابع له ويحتمل أن يجوز الصلح على السقي من نهره وقناته لأن الحاجة تدعو إلى ذلك والماء مما يجوز أخذ العوض عنه في الجملة, بدليل ما لو أخذه في قربته أو إنائه ويجوز الصلح على ما لا يجوز بيعه بدليل الصلح عن دم العمد وأشباهه والصلح على المجهول. ولا يصح الصلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه, مثل أن يصالح امرأة لتقر له بالزوجية لأنه صلح يحل حراما ولأنها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز وإن دفعت إليه عوضا عن هذه الدعوى ليكف عنها ففيه وجهان أحدهما, لا يجوز لأن الصلح في الإنكار إنما يكون في حق المنكر لافتداء اليمين وهذه لا يمين عليها وفي حق المدعي بأخذ العوض في مقابلة حقه الذي يدعيه, وخروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له وإنما أجيز الخلع للحاجة إلى افتداء نفسها والثاني يصح ذكره أبو الخطاب وابن عقيل لأن المدعي يأخذ عوضا عن حقه من النكاح, فجاز كعوض الخلع والمرأة تبذله لقطع خصومته وإزالة شره وربما توجهت اليمين عليها لكون الحاكم يرى ذلك أولأنها مشروعة في حقها في إحدى الروايتين, ومتى صالحته على ذلك ثبتت الزوجية بإقرارها أو ببينة فإن قلنا: الصلح باطل فالنكاح باق بحاله لأنه لم يوجد من الزوج طلاق ولا خلع وإن قلنا: هو صحيح احتمل ذلك أيضا ولذلك احتمل أن تبين منه بأخذ العوض لأنه أخذ العوض عما يستحقه من نكاحها, فكان خلعا كما لو أقرت له بالزوجية فخالعها ولو ادعت أن زوجها طلقها ثلاثا فصالحها على مال لتنزل عن دعواها, لم يجز لأنه لا يجوز لها بذل نفسها لمطلقها بعوض ولا بغيره وإن دفعت إليه مالا ليقر بطلاقها لم يجز في أحد الوجهين, وفي الآخر يجوز كما لو بذلت له عوضا ليطلقها ثلاثا. وإن ادعى على رجل أنه عبده فأنكره, فصالحه على مال ليقر له بالعبودية لم يجز لأنه يحل حراما فإن إرقاق الحر نفسه لا يحل بعوض ولا بغيره وإن دفع إليه المدعى عليه مالا صلحا عن دعواه, صح لأنه يجوز أن يعتق عبده بمال ويشرع للدافع لدفع اليمين الواجبة عليه والخصومة المتوجهة إليه ولو ادعى على رجل ألفا, فأنكره فدفع إليه شيئا ليقر له بالألف لم يصح فإن أقر لزمه ما أقر به ويرد ما أخذه لأنه تبين بإقراره كذبه في إنكاره, وأن الألف عليه فيلزمه أداؤه بغير عوض ولا يحل له أخذ العوض عن أداء الواجب عليه وإن دفع إليه المنكر مالا صلحا عن دعواه صح وقد مضى ذكره. ولو صالح شاهدا على أن لا يشهد عليه, لم يصح لأنه لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بحق تلزم الشهادة به كدين آدمي, أو حق لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة ونحوها فلا يجوز كتمانه, ولا يجوز أخذ العوض عن ذلك كما لا يجوز أخذ العوض على شرب الخمر وترك الصلاة الثاني أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بالزور فهذا يجب عليه ترك ذلك, ويحرم عليه فعله فلا يجوز أخذ العوض عنه كما لا يجوز أن يصالحه على أن لا يقتله ولا يغصب ماله الثالث, أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بما يوجب حدا كالزنا والسرقة فلا يجوز أخذ العوض عنه لأن ذلك ليس بحق له, فلم يجز له أخذ عوضه كسائر ما ليس بحق له ولو صالح السارق والزاني والشارب بمال على أن لا يرفعه إلى السلطان, لم يصح الصلح لذلك ولم يجز له أخذ العوض وإن صالحه عن حد القذف لم يصح الصلح لأنه إن كان لله تعالى, لم يكن له أن يأخذ عوضه لكونه ليس بحق له فأشبه حد الزنى والسرقة, وإن كان حقا له لم يجز الاعتياض عنه لكونه حقا ليس بمالي, ولهذا لا يسقط إلى بدل بخلاف القصاص ولأنه شرع لتنزيه العرض, فلا يجوز أن يعتاض عن عرضه بمال وهل يسقط الحد بالصلح؟ فيه وجهان مبنيان على الخلاف في كونه حقا لله تعالى أو حقا لآدمي فإن كان حقا لله تعالى, لم يسقط بصلح الآدمي ولا إسقاطه كحد الزنى والسرقة وإن كان حقا لآدمي سقط بصلحه وإسقاطه, مثل القصاص وإن صالح عن حق الشفعة لم يصح الصلح لأنه حق شرع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة فإذا رضي بالتزام الضرر, سقط الحق من غير بدل كحد القذف إلا أنه يسقط ها هنا وجها واحدا لكونه حقا لآدمي. ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحا وهو الروشن يكون على أطراف خشبة مدفونة في الحائط, وأطرافها خارجة في الطريق سواء كان ذلك يضر في العادة بالمارة أو لا يضر ولا يجوز أن يجعل عليها ساباطا بطريق الأولى وهو المستوفي لهواء الطريق كله على حائطين, سواء كان الحائطان ملكه أو لم يكونا وسواء أذن الإمام في ذلك أو لم يأذن وقال ابن عقيل: إن لم يكن فيه ضرر جاز بإذن الإمام لأنه نائبهم فجرى إذنه مجرى إذن المشتركين في الدرب الذي ليس بنافد وقال أبو حنيفة: يجوز من ذلك ما لا ضرر فيه, وإن عارضه رجل من المسلمين وجب قلعه وقال مالك والشافعي والأوزاعي, وإسحاق وأبو يوسف ومحمد: يجوز ذلك إذا لم يضر بالمارة, ولا يملك أحد منعه لأنه ارتفق بما لم يتعين ملك أحد فيه من غير مضرة فكان جائزا كالمشي في الطريق والجلوس فيها واختلفوا فيما لا يضر, فقال بعضهم: إن كان في شارع تمر فيه الجيوش والأحمال فيكون بحيث إذا سار فيه الفارس ورمحه منصوب لا يبلغه وقال أكثرهم: لا يقدر بذلك بل يكون بحيث لا يضر بالعماريات والمحامل ولنا, أنه بناء في ملك غيره بغير إذنه فلم يجز كبناء الدكة أو بناء ذلك في درب غير نافذ بغير إذن أهله, ويفارق المرور في الطريق فإنها جعلت لذلك ولا مضرة فيه, والجلوس لا يدوم ولا يمكن التحرز منه ولا نسلم أنه لا مضرة فيه, فإنه يظلم الطريق ويسد الضوء وربما سقط على المارة, أو سقط منه شيء وقد تعلو الأرض بمرور الزمان فيصدم رءوس الناس, ويمنع مرور الدواب بالأحمال ويقطع الطريق إلا على الماشي وقد رأينا مثل هذا كثيرا, وما يفضي إلى الضرر في ثاني الحال يجب المنع منه في ابتدائه كما لو أراد بناء حائط مائل إلى الطريق يخشى وقوعه على من يمر فيها وعلى أبي حنيفة: أنه بناء في حق مشترك, لو منع منه بعض أهله لم يجز فلم يجز بغير إذنهم كما لو أخرجه إلى هواء دار مشتركة, وذلك لأن حق الآدمي لا يجوز لغيره التصرف فيه بغير إذنه وإن كان ساكنا كما لا يجوز إذا منع منه. ولا يجوز أن يبني في الطريق دكانا, بغير خلاف نعلمه سواء كان الطريق واسعا أو غير واسع سواء أذن الإمام فيه أو لم يأذن لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه, ولأنه يؤذي المارة ويضيق عليهم ويعثر به العاثر فلم يجز, كما لو كان الطريق ضيقا. ولا يجوز أن يبني دكانا ولا يخرج روشنا ولا ساباطا على درب غير نافذ إلا بإذن أهله وبهذا قال الشافعي, إذا لم يكن له في الدرب باب وإن كان له في الدرب باب فقد اختلف أصحابه, فمنهم من منعه أيضا ومنهم من أجاز له إخراج الجناح والساباط لأن له في الدرب استطراقا فملك ذلك, كما يملكه في الدرب النافذ ولنا أنه بناء في هواء ملك قوم معينين أشبه ما لو لم يكن له فيه باب, ولا نسلم الأصل الذي قاسوا عليه فأما إن أذن أهل الدرب فيه جاز لأن الحق لهم فجاز بإذنهم, كما لو كان المالك واحدا وإن صالح أهل الدرب من ذلك على عوض معلوم جاز وقال القاضي وأصحاب الشافعي: لا يجوز لأنه بيع للهواء دون القرار ولنا أنه يبني فيه بإذنهم, فجاز كما لو أذنوا له بغير عوض ولأنه ملك لهم, فجاز لهم أخذ عوضه كالقرار إذا ثبت هذا فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدار في الخروج والعلو, وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين لا يجوز بغير إذنه ويجوز بإذنه, بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار والله أعلم. ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرا لنفسه سواء جعلها لماء المطر, أو ليستخرج منها ما ينتفع به ولا غير ذلك لما ذكرنا من قبل وإن أراد حفرها للمسلمين ونفعهم أو لنفع الطريق مثل أن يحفرها ليستقي الناس من مائها, ويشرب منه المارة أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق نظرنا, فإن كان الطريق ضيقا أو يحفرها في ممر الناس بحيث يخاف سقوط إنسان فيها أو دابة أو يضيق عليهم ممرهم, لم يجز ذلك لأن ضررها أكثر من نفعها وإن حفرها في زاوية في طريق واسع وجعل عليها ما يمنع الوقوع فيها, جاز لأن ذلك نفع بلا ضرر فجاز كتمهيدها وبناء رصيف فيها, فأما ما فعله في درب غير نافذ فلا يجوز إلا بإذن أهله لأن هذا ملك لقوم معينين فلم يجز فعل ذلك بغير إذنهم كما لو فعله في بستان إنسان ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض, جاز سواء حفرها لنفسه لينزل فيها ماء المطر عن داره أو ليستقي منها ماء لنفسه, أو حفرها للسبيل ونفع الطريق وكذلك إن فعل ذلك في ملك إنسان معين. ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم ولا يجوز إخراجها إلى درب نافذ إلا بإذن أهله وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم لأن عمر رضي الله عنه اجتاز على دار العباس وقد نصب ميزابا على الطريق فقلعه, فقال العباس: تقلعه وقد نصبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده؟ فقال: والله لا نصبته إلا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه وما فعله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلغيره فعله, ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا يمكنه رد مائه إلى الدار ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير ولنا أن هذا تصرف في هواء مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه, فلم يجز كما لو كان الطريق غير نافذ ولأنه يضر بالطريق وأهلها فلم يجز كبناء دكة فيها أو جناح يضر بأهلها ولا يخفى ما فيه من الضرر, فإن ماءه يقع على المارة وربما جرى فيه البول أو ماء نجس فينجسهم ويزلق الطريق, ويجعل فيها الطين والحديث قضية في عين فيحتمل أنه كان في درب غير نافذ, أو تجددت الطريق بعد نصبه ويحتمل أن يجوز ذلك لأن الحاجة داعية إليه والعادة جارية به, مع ما فيه من الخبر المذكور. دولا يجوز أن يفتح في الحائط المشترك طاقا ولا بابا إلا بإذن شريكه لأن ذلك انتفاع بملك غيره وتصرف فيه بما يضر به ولا يجوز أن يغرز فيه وتدا, ولا يحدث عليه حائطا ولا يستره ولا يتصرف فيه نوع تصرف لأنه تصرف في الحائط بما يضربه فلم يجز, كنقضه ولا يجوز له فعل شيء من ذلك في حائط جاره بطريق الأولى لأنه إذا لم يجز فيما له فيه حق ففيما لا حق له فيه أولى وإن صالحه عن ذلك بعوض جاز وأما الاستناد إليه, وإسناد شيء لا يضره إليه فلا بأس به لأنه لا مضرة فيه ولا يمكن التحرز منه أشبه الاستظلال به. فأما وضع خشبة عليه, فإن كان يضر بالحائط لضعفه عن حمله لم يجز بغير خلاف نعلمه لا ذكرنا, ولقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لا ضرر ولا ضرار) وإن كان لا يضر به إلا أن به غنية عن وضع خشبه عليه لإمكان وضعه على غيره, فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز أيضا وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير حاجة فلم يجز كبناء حائط عليه وأشار ابن عقيل إلى جوازه لما روى أبو هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره) متفق عليه ولأن ما أبيح للحاجة العامة لم يعتبر فيه حقيقة الحاجة كأخذ الشقص بالشفعة من المشتري, والفسخ بالخيار أو بالعيب اتخاذ الكلب للصيد وإباحة السلم, ورخص السفر وغير ذلك فأما إن دعت الحاجة إلى وضعه على حائط جاره أو الحائط المشترك, بحيث لا يمكنه التسقيف بدونه فإنه يجوز له وضعه بغير إذن الشريك وبهذا قال الشافعي في القديم وقال في الجديد: ليس له وضعه وهو قول أبي حنيفة ومالك لأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة, فلم يجز كزراعته ولنا الخبر ولأنه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضر به, أشبه الاستناد إليه والاستظلال به ويفارق الزرع فإنه يضر, ولم تدع إليه حاجة إذا ثبت هذا فاشترط القاضي وأبو الخطاب للجواز أن يكون له ثلاثة حيطان ولجاره حائط واحد, وليس هذا في كلام أحمد إنما قال في رواية أبي داود: لا يمنعه إذا لم يكن ضرر, وكان الحائط يبقى ولأنه قد يمتنع التسقيف على حائطين إذا كانا غير متقابلين أو كان البيت واسعا يحتاج إلى أن يجعل عليه جسرا ثم يضع الخشب على ذلك الجسر والأولى اعتباره بما ذكرنا من اعتبار التسقيف بدونه ولا فرق فيما ذكرنا بين البالغ واليتيم والمجنون والعاقل لما ذكرنا والله أعلم.
|