الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
قال: [وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل أو غائب لم يقتل, حتى يقدم الغائب ويبلغ الطفل] وجملته أن ورثة القتيل إذا كانوا أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود إلا بإذن الباقين فإن كان بعضهم غائبا, انتظر قدومه ولم يجز للحاضر الاستقلال بالاستيفاء بغير خلاف علمناه, وإن كان بعضهم صغيرا أو مجنونا فظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- أنه ليس لغيرهما الاستيفاء حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون وبهذا قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى, والشافعي وأبو يوسف وإسحاق, ويروى عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- وعن أحمد رواية أخرى: للكبار العقلاء استيفاؤه وبه قال حماد, ومالك والأوزاعي والليث, وأبو حنيفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصا, وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك ولأن ولاية القصاص هي استحقاق استيفائه, وليس للصغير هذه الولاية ولنا أنه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة معينين, فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالا كما لو كان بين حاضر وغائب أو أحد بدلي النفس, فلم ينفرد به بعضهم كالدية والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقا أربعة أمور أحدها أنه لو كان منفردا لاستحقه, ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفردا كولاية النكاح والثاني أنه لو بلغ لاستحق, ولو لم يكن مستحقا عند الموت لم يكن مستحقا بعده كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه والثالث: أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق, ولو لم يكن مستحقا للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي والرابع: أنه لو مات الصغير لاستحقه ورثته ولو لم يكن حقا لم يرثه, كسائر ما لم يستحقه فأما ابن ملجم فقد قيل: إنه قتله بكفره, لأنه قتل عليا مستحلا لدمه معتقدا كفره متقربا بذلك إلى الله تعالى وقيل: قتله لسعيه في الأرض بالفساد, وإظهار السلاح فيكون كقاطع الطريق إذا قتل وقتله متحتم وهو إلى الإمام, والحسن هو الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم وإن قدر أنه قتله قصاصا, فقد اتفقنا على خلافه فكيف يحتج به بعضنا على بعض.
وإن كان الوارث واحدا صغيرا كصبي قتلت أمه, وليست زوجة لأبيه فالقصاص له وليس لأبيه ولا غيره استيفاؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة, ومالك: له استيفاؤه وكذلك الحكم في الوصي والحاكم في الطرف دون النفس وذكر أبو الخطاب في موضع في الأب روايتين وفي موضع وجهين, أحدهما: كقولنا لأن القصاص أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية ولنا, أنه لا يملك إيقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص له كالوصي ولأن القصد التشفي ودرك الغيظ, ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب له فافترقا ولأن الدية إنما يملك استيفاءها إذا تعينت, والقصاص لا يتعين فإنه يجوز العفو إلى الدية والصلح على مال أكثر منها وأقل, والدية بخلاف ذلك.
وكل موضع وجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون, ويقدم الغائب وقد حبس معاوية هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل في عصر الصحابة, فلم ينكر ذلك وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها فإن قيل: فلم لا يخلى سبيله كالمعسر بالدين؟ قلنا: لأن في تخليته تضييعا للحق, فإنه لا يؤمن هربه والفرق بينه وبين المعسر من وجوه أحدها: أن قضاء الدين لا يجب مع الإعسار فلا يحبس بما لا يجب, والقصاص ها هنا واجب وإنما تعذر المستوفي الثاني أن المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين, فلا يفيد بل يضر من الجانبين وها هنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس الثالث: أنه قد استحق قتله, وفيه تفويت نفسه ونفعه فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لإمكانه فإن قيل: فلم يحبس من أجل الغائب, وليس للحاكم عليه ولاية إذا كان مكلفا رشيدا ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوبا لم يملك انتزاعه؟ قلنا: لأن في القصاص حقا للميت وللحاكم عليه ولاية ولهذا تنفذ وصاياه من الدية, وتقضى ديونه منها فنظيره أن يجد الحاكم من تركة الميت في يد إنسان شيئا غصبا والوارث غائب, فإنه يأخذه ولو كان القصاص لحي في طرفه لم يتعرض لمن هو عليه فإن أقام القاتل كفيلا بنفسه ليخلي سبيله لم يجز لأن الكفالة لا تصح في القصاص, فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر إحضار المكفول به ولا يمكن استيفاؤه من غير القاتل فلم تصح الكفالة به كالحد, ولأن فيه تغريرا بحق المولى عليه فإنه ربما خلي سبيله فهرب فضاع الحق.
فإن قتله بعض الأولياء بغير إذن الباقين, لم يجب عليه قصاص وبهذا قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي والقول الأخير, عليه القصاص لأنه ممنوع من قتله وبعضه غير مستحق له وقد يجب القصاص بإتلاف بعض النفس, بدليل ما لو اشترك الجماعة في قتل واحد ولنا أنه مشارك في استحقاق القتل فلم يجب عليه القصاص, كما لو كان مشاركا في ملك الجارية ووطئها ولأنه محل يملك بعضه فلم تجب العقوبة المقدرة باستيفائه كالأصل ويفارق إذا قتل الجماعة واحدا, فإنا لا نوجب القصاص بقتل بعض النفس وإنما نجعل كل واحد منهم قاتلا لجميعها وإن سلمنا وجوبه عليه لقتله بعض النفس, فمن شرطه المشاركة لمن فعله كفعله في العمد والعدوان ولا يتحقق ها هنا إذا ثبت هذا, فإن للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فأشبه ما لو مات القاتل أو عفا بعض الأولياء وهل يجب ذلك على قاتل الجاني أو في تركة الجاني؟ فيه وجهان وللشافعي قولان أحدهما: يرجع على قاتل الجاني لأنه أتلف محل حقه, فكان الرجوع عليه بعوض نصيبه كما لو كانت له وديعة فأتلفها والثاني يرجع في تركة الجاني, كما لو أتلفه أجنبي أو عفا شريكه عن القصاص وقولنا: أتلف محل حقه, يبطل بما إذا أتلف مستأجره أو غريمه أو امرأته أو كان المتلف أجنبيا ويفارق الوديعة, فإنها مملوكة لهما فوجب عوض ملكه أما الجاني فليس بمملوك للمجني عليه, وإنما له عليه حق فأشبه ما لو قتل غريمه فعلى هذا يرجع ورثة الجاني على قاتله بدية مورثهم إلا قدر حقه منها فعلى هذا, لو كان الجاني أقل دية من قاتله مثل امرأة قتلت رجلا له ابنان فقتلها أحدهما بغير إذن الآخر, فللآخر نصف دية أبيه في تركة المرأة التي قتلته ويرجع ورثتها بنصف ديتها على قاتلها وهو ربع دية الرجل وعلى الوجه الأول, يرجع الابن الذي لم يقتل على أخيه بنصف دية المرأة لأنه لم يفوت على أخيه إلا نصف المرأة ولا يمكن أن يرجع على ورثة المرأة بشيء لأن أخاه الذي قتلها أتلف جميع الحق وهذا يدل على ضعف هذا الوجه ومن فوائده أيضا, صحة إبراء من حكمنا بالرجوع عليه وملك مطالبته فإن قلنا: يرجع على ورثة الجاني صح إبراؤهم, وملكوا الرجوع على قاتل موروثهم بقسط أخيه العافي وإن قلنا: يرجع على تركة الجاني وله تركة فله الأخذ منها سواء أمكن ورثته أن يستوفوا من الشريك, أو لم يمكنهم وإن قلنا: يرجع على شريكه لم يكن له مطالبة ورثة الجاني سواء كان شريكه موسرا أو معسرا.
قال: [ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص لم يكن إلى القصاص سبيل, وإن كان العافي زوجا أو زوجة] أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل والأصل فيه الكتاب والسنة أما الكتاب فقول الله تعالى في سياق قوله:
فإن قتله الشريك الذي لم يعف عالما بعفو شريكه وسقوط القصاص به, فعليه القصاص سواء حكم به الحاكم أو لم يحكم وبهذا قال أبو حنيفة وأبو ثور وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقيل: له قول آخر, لا يجب القصاص لأن له فيه شبهة لوقوع الخلاف ولنا أنه قتل معصوما مكافئا له عمدا يعلم أنه لا حق له فيه, فوجب عليه القصاص كما لو حكم بالعفو حاكم والاختلاف لا يسقط القصاص, فإنه لو قتل مسلما بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله وأما إن قتله قبل العلم بالعفو, فلا قصاص عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه: عليه القصاص لأنه قتل عمد عدوان لمن لا حق له في قتله ولنا أنه قتله معتقدا ثبوت حقه فيه مع أن الأصل بقاؤه, فلم يلزمه قصاص كالوكيل إذا قتل بعد عفو الموكل قبل علمه بعفوه ولا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم بالعفو أو لم يحكم به لأن الشبهة موجودة مع انتفاء العلم معدومة عند وجوده وقال الشافعي: متى قتله بعد حكم الحاكم, لزمه القصاص علم بالعفو أو لم يعلم وقد بينا الفرق بينهما ومتى حكمنا عليه بوجوب الدية إما لكونه معذورا وإما للعفو عن القصاص, فإنه يسقط عنه منها ما قابل حقه على القاتل قصاصا ويجب عليه الباقي فإن كان الولي عفا إلى غير مال, فالواجب لورثة القاتل ولا شيء عليهم وإن كان عفا إلى الدية, فالواجب لورثة القاتل وعليهم نصيب العافي من الدية وقيل فيه: إن حق العافي من الدية على القاتل لا يصح لأن الحق لم يبق متعلقا بعينه, وإنما الدية واجبة في ذمته فلم تنتقل إلى القاتل كما لو قتل غريمه.
فإن كان القاتل هو العافي, فعليه القصاص سواء عفا مطلقا أو إلى مال وبهذا قال عكرمة والثوري ومالك, والشافعي وابن المنذر وروي عن الحسن: تؤخذ منه الدية ولا يقتل وقال عمر بن عبد العزيز: الحكم فيه إلى السلطان ولنا, قوله تعالى:
وإذا عفا عن القاتل مطلقا صح, ولم تلزمه عقوبة وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر, وأبو ثور وقال مالك والليث والأوزاعي: يضرب, ويحبس سنة ولنا أنه إنما كان عليه حق واحد, وقد أسقطه مستحقه فلم يجب عليه شيء آخر كما لو أسقط الدية عن القاتل خطأ.
وإذا وكل من يستوفي القصاص, صح توكيله نص عليه أحمد -رحمه الله- فإن وكله ثم غاب, وعفا عن القصاص واستوفى الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل, لم يصح لأن حقه قد استوفى وإن كان قتله وقد علم الوكيل به فقد قتله ظلما, فعليه القود كما لو قتله ابتداء وإن قتله قبل العلم بعفو الموكل فقال أبو بكر: لا ضمان على الوكيل لأنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل استدراكه, فلم يلزمه ضمان كما لو عفا بعد ما رماه وهل يلزم الموكل الضمان؟ فيه قولان أحدهما: لا ضمان عليه لأن عفوه غير صحيح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه استدراك الفعل, فوقع القتل مستحقا له فلم يلزمه ضمان ولأن العفو إحسان فلا يقتضي وجوب الضمان والثاني, عليه الضمان لأن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب للمباشر فيه فكان الضمان على الآمر, كما لو أمر عبده الأعجمي بقتل معصوم وقال غير أبي بكر: في صحة العفو وجهان بناء على الروايتين في الوكيل هل ينعزل بعزل الموكل أو لا؟ وللشافعي قولان كالوجهين فإن قلنا: لا يصح العفو فلا ضمان على أحد لأنه قتل من يجب قتله بأمر يستحقه وإن قلنا: يصح العفو فلا قصاص فيه لأن الوكيل قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو معذور فيه, فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا وتجب الدية على الوكيل لأنه لو علم لوجب عليه القصاص فإذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتدا قد أسلم قبل علمه بإسلامه, ويرجع بها على الموكل لأنه غره بتسليطه على القتل بتفريطه في ترك إعلامه بالعفو فيرجع عليه كالغار في النكاح بحرية أمه, أو تزوج معيبة ويحتمل أن لا يرجع عليه لأن العفو إحسان منه فلا يقتضي الرجوع عليه فعلى هذا تكون الدية على عاقلة الوكيل وهذا اختيار أبي الخطاب لأن هذا جرى مجرى الخطأ, فأشبه ما لو قتل في دار الحرب مسلما يعتقده حربيا وقال القاضي: هو في مال الوكيل لأنه عن عمد محض وهذا لا يصح لأنه لو كان عمدا محضا لأوجب القصاص ولأنه يشترط في العمد المحض أن يكون عالما بحال المحل وكونه معصوما, ولم يوجد هذا وإن قال: هو عمد الخطأ فعمد الخطأ تحمله العاقلة ذكره الخرقي ودل عليه خبر المرأة التي قتلت جاريتها وجنينها بمسطح فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدية على عاقلتها واختلف أصحاب الشافعي على هذين الوجهين, فعلى قول القاضي إن كان الموكل عفا إلى الدية فله الدية في تركة الجاني, ولورثة الجاني مطالبة الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشيء فإن قيل: فقد قلتم فيما إذا كان القصاص لأخوين فقتله أحدهما فعليه نصف الدية ولأخيه مطالبته به, في وجه قلنا: ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه وها هنا أتلفه بعد سقوط حق الموكل عنه, فافترقا وإن قلنا: إن الوكيل يرجع على الموكل احتمل أن تسقط الديتان لأنه لا فائدة في أن يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعونها إلى الموكل ثم يردها الموكل إلى الوكيل, فيكون تكليفا لكل واحد منهم بغير فائدة ويحتمل أن يجب ذلك لأن الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من للوكيل الرجوع عليه وإنما تتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ما له عليه ولأنه قد تكون الديتان مختلفتين, بأن يكون أحد المقتولين رجلا والآخر امرأة فعلى هذا يأخذ ورثة الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه, ثم يرد الموكل إلى الوكيل قدر ما غرمه وإن أحال ورثة الجاني الموكل على الوكيل بدية وليهم صح فإن كان الجاني أقل دية, مثل أن تكون امرأة قتلت رجلا فقتلها الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لأنه القدر الواجب لهم على الوكيل, فيسقط عن الوكيل والموكل جميعا ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه وإن كان الجاني رجلا قتل امرأة, فقتله الوكيل فلورثة الجاني إحالة الموكل بدية المرأة لأن الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون الوكيل بنصف دية الجاني, ثم يرجع به على الموكل.
وإذا جنى على الإنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص فعفا عن القصاص ثم سرت الجناية إلى نفسه, فمات لم يجب القصاص وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وحكى عن مالك, أن القصاص واجب لأن الجناية صارت نفسا ولم يعف عنها ولنا أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفا عنه, فسقط في النفس كما لو عفا بعض الأولياء ولأن الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع إمكانه, لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد ثم أسلم ثم مات منها نظرنا فإن كان عفا على مال, فله الدية كاملة وإن عفا على غير مال وجبت الدية إلا أرش الجرح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة تجب الدية كاملة لأن الجناية صارت نفسا, وحقه في النفس لا فيما عفا عنه وإنما سقط القصاص للشبهة وإن قال: عفوت عن الجناية لم يجب شيء لأن الجناية لا تختص بالقطع وقال القاضي: فيما إذا عفا عن القطع: ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء وبه قال أبو يوسف ومحمد لأنه قطع غير مضمون فكذلك سرايته ولنا, أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونة كما لو لم يعف, وإنما سقطت ديتها بعفوه عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والمعفو عنه نصف الدية لأن الجناية أوجبت نصف الدية, فإذا عفا سقط ما وجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا, وجب بالسراية نصف الدية ولم يسقط أرش الجرح فيما إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية.
فإن كان الجرح لا قصاص فيه, كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه, فسرى إلى النفس فلوليه القصاص لأن القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح العفو عنه, وإنما وجب القصاص بعد عفوه وله العفو عن القصاص وله كمال الدية وإن عفا عن دية الجرح, صح وله بعد السراية دية النفس إلا أرش الجرح ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع أنه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه, كما لو قطع يدا فاندملت واقتص منها ثم انتقضت وسرت إلى النفس, فله القصاص في النفس وليس له العفو إلا على نصف الدية وإن قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص, ثم سرى فعلى قول أبي بكر لا يسقط القصاص في النفس لأن القصاص لم يجب فهو كالجائفة ومن جوز له القصاص من الكوع, أسقط القصاص في النفس كما لو كان القطع من الكوع وقال المزني: لا يصح العفو عن دية الجرح قبل اندماله فلو قطع يدا, فعفا عن ديتها وقصاصها ثم اندملت لم تسقط ديتها, وسقط قصاصها لأن القصاص قد وجب فيها فصح العفو عنه بخلاف الدية وليس بصحيح لأن دية الجرح إنما وجبت بالجناية, إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف عبد ثم باعه قبل برئه كان أرش الطرف لبائعه لا لمشتريه, وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب وامتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا تملك المطالبة به, ويصح العفو عنه كذا ها هنا.
فإن قطع يده فعفا عنه, ثم عاد الجاني فقتله فلوليه القصاص وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم: لا قصاص لأن العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع إلى نفسه ولنا, أن القتل انفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما يلزم بالقتل كما لو كان القاطع غيره وإن اختار الدية, فقال القاضي: إن كان العفو عن الطرف إلى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو ظاهر مذهب الشافعي ولأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال, كان كالسراية ولذلك لو لم يعف لم يجب أكثر من دية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص ولذلك لو أراد القصاص كان له أن يقطع ثم يقتل, ولو صار الأمر إلى الدية لم يجب إلا دية واحدة وقال أبو الخطاب: له العفو إلى دية كاملة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما في الآخر كما لو اندمل, ولأن القتل موجب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو وفارق السراية, فإنها لم توجب قتلا ولأن السراية عفي عن سببها والقتل لم يعف عن شيء منه, ولا عن سببه سواء فيما ذكرنا كان العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها.
وإن قطع إصبعا فعفا المجني عليه عن القصاص, ثم سرت الجناية إلى الكف ثم اندمل الجرح لم يجب القصاص لما ذكرنا في النفس, ولأن القصاص سقط في الإصبع بالعفو فصارت اليد ناقصة لا تؤخذ بها الكاملة ثم إن كان العفو إلى الدية وجبت دية اليد كلها, وإن كان على غير مال خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا فيما إذا قطع يدا فعفا المجني عليه ثم سرى إلى نفسه فعلى هذا, تجب ها هنا دية الكف إلا دية الإصبع ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أن لا يجب شيء وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها, وقد قال القاضي: إن القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس أن يجب نصف الدية, فيلزمه أن يقول مثل ذلك ها هنا.
فإن قال: عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح عفوه, ولم يكن له في سرايتها قصاص ولا دية في ظاهر كلام أحمد وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك وطاوس, والحسن وقتادة والأوزاعي وقال أصحاب الشافعي: إذا قال: عفوت عن الجناية, وما يحدث منها ففيه قولان أحدهما: أنه وصية فيبنى على الوصية للقاتل وفيها قولان أحدهما: لا يصح, فتجب دية النفس إلا دية الجرح والثاني يصح فإن خرجت من الثلث سقط, وإلا سقط منها ما خرج من الثلث ووجب الباقي والقول الثاني ليس بوصية لأنه إسقاط في الحياة, فلا يصح وتلزمه دية النفس إلا دية الجرح ولنا أنه أسقط حقه بعد انعقاد سببه, فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع إذا ثبت هذا, فلا فرق بين أن يخرج من الثلث أو لم يخرج لأن موجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد شيئين, في الرواية الأخرى فما تعينت الدية ولا تعينت الوصية بمال, ولذلك صح العفو من المفلس إلى غير مال وأما جناية الخطأ فإذا عفا عنها وعما يحدث منها اعتبر خروجها من الثلث, سواء عفا بلفظ العفو أو الوصية أو الإبراء أو غيرها فإن خرجت من الثلث صح عفوه في الجميع, وإن لم تخرج من الثلث سقط عنه من ديتها ما احتمله الثلث وبهذا قال مالك والثوري, وأصحاب الرأي ونحوه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي وإسحاق لأن الوصية ها هنا بمال.
فإن اختلف الجاني والولي أو المجني عليه , فقال الجاني: عفوت مطلقا وقال المجني عليه: بل عفوت إلى مال أو قال: عفوت عن الجناية وما يحدث منها قال: بل عفوت عنها دون ما يحدث منها فالقول قول المجني عليه أو وليه إن كان الخلاف معه لأن الأصل عدم العفو عن الجميع وقد ثبت العفو عن البعض بإقراره فيكون القول في عدم سقوطه قوله.
قال: [وإذا اشترك الجماعة في القتل, فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم ذلك وإن أحبوا أن يقتلوا البعض, ويعفوا عن البعض ويأخذوا الدية من الباقين فلهم ذلك] أما قتلهم للجميع, فقد ذكرناه فيما مضى وأما إن أحبوا قتل البعض فلهم ذلك لأن كل من لهم قتله فلهم العفو عنه, كالمنفرد ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو البعض لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر, كما لو قتل كل واحد رجلا وأما إذا اختاروا أخذ الدية من القاتل أو من بعض القتلة فإن لهم هذا من غير رضي الجاني وبهذا قال سعيد بن المسيب, وابن سيرين والشافعي وعطاء, ومجاهد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال النخعي ومالك وأبو حنيفة: ليس للأولياء إلا القتل, إلا أن يصطلحا على الدية برضى الجاني وعن مالك رواية أخرى كقولنا واحتجوا بقوله تعالى:
واختلفت الرواية في موجب العمد, فروي عن أحمد -رحمه الله- أن موجبه القصاص عينا لقوله عليه السلام: (من قتل عمدا فهو قود) ولما ذكروه في دليلهم وروي أن موجبه أحد شيئين القصاص أو الدية لما ذكرناه قبل هذا, ولأن الدية أحد بدلي النفس فكانت بدلا عنها لا عن بدلها, كالقصاص وأما الخبر فالمراد به وجوب القود ونحن نقول به, ويخالف القتل سائر المتلفات لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه والقتل بخلافه وللشافعي قولان كالروايتين فإذا قلنا موجبه القصاص عينا, فله العفو إلى الدية والعفو مطلقا فإذا عفا مطلقا, لم يجب شيء وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم: تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشيء لأنه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه وإن عفا عن القصاص بغير مال, لم يجب شيء فأما إن عفا عن الدية لم يصح عفوه لأنها لم تجب وإن قلنا: الواجب أحد شيئين لا بعينه فعفا عن القصاص مطلقا أو إلى الدية, وجبت الدية لأن الواجب غير معين فإذا ترك أحدهما وجب الآخر وإن اختار الدية, سقط القصاص وإن اختار القصاص تعين وهل له بعد ذلك العفو على الدية؟ قال القاضي: له ذلك لأن القصاص أعلى, فكان له الانتقال إلى الأدنى ويكون بدلا عن القصاص وليست التي وجبت بالقتل, كما قلنا في الرواية الأولى: إن الواجب القصاص عينا وله العفو إلى الدية ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها.
وإذا جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه المجني عليه بأرش الجناية, سقط القصاص لأن عدوله إلى الشراء اختيار للمال ولا يصح الشراء لأنهما إن لم يعرفا قدر الأرش فالثمن مجهول وإن عرفا عدد الإبل وأسنانها فصفتها مجهولة, والجهل بالصفة كالجهل بالذات في فساد البيع ولذلك لو باعه شيئا بجمل جذع غير معروف الصفة لم يصح وإن قدر الأرش بذهب أو فضة وباعه به صح.
إذا وجب القصاص لصغير, لم يجز لوليه العفو إلى غير مال لأنه لا يملك إسقاط حقه وإن أحب العفو إلى مال وللصبي كفاية من غيره لم يجز لأن فيه تفويت حقه من غير حاجة فإن كان فقيرا محتاجا, ففيه وجهان أحدهما: له ذلك لحاجته إلى المال لحفظه قال القاضي: هذا أصح والثاني لا يجوز لأنه لا يملك إسقاط قصاصه وأما حاجته فإن نفقته في بيت المال والصحيح الأول فإن وجوب النفقة في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل, فأما إن كان مستحق القصاص مجنونا فقيرا فلوليه العفو على المال لأنه ليست حالة معتادة ينتظر فيها إفاقته.
ويصح عفو المفلس والمحجور عليه لسفه عن القصاص لأنه ليس بمال وإن أراد المفلس القصاص لم يكن لغرمائه إجباره على تركه وإن أحب العفو عنه إلى مال فله ذلك لأن فيه حظا للغرماء وإن أراد العفو على غير مال, انبنى على الروايتين إن قلنا الواجب القصاص فله ذلك لأنه لم يثبت له مال يتعلق به حق الغرماء وإن قلنا: الواجب أحد شيئين لم يملك لأن المال يجب بقوله: عفوت عن القصاص فقوله: على غير مال إسقاط له بعد وجوبه وتعيينه ولا يملك ذلك وهكذا الحكم في السفيه ووارث المفلس وإن عفا المريض على غير مال, فذكر القاضي في موضع أنه يصح سواء خرج من الثلث أو لم يخرج وذكر أن أحمد نص على هذا وقال في موضع: يعتبر خروجه من ثلثه, ولعله ينبني على الروايتين في موجب العمد على ما مضى.
وإذا قتل من لا وارث له فالأمر إلى السلطان فإن أحب القصاص فله ذلك وإن أحب العفو على مال فله ذلك, وإن أحب العفو إلى غير مال لم يملكه لأن ذلك للمسلمين ولا حظ لهم في هذا وهذا قول أصحاب الرأي إلا أنهم لا يرون العفو على مال إلا برضى الجاني.
وإذا اشترك الجماعة في القتل فعفا عنهم إلى الدية, فعليهم دية واحدة وإن عفا عن بعضهم فعلى المعفو عنه قسطه من الدية لأن الدية بدل المحل, وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء أتلفه واحد أو جماعة وقال ابن أبي موسى: فيه رواية أخرى, أن على كل واحد دية كاملة لأن له قتل كل واحد منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الأعور عين صحيح, فإنه تجب عليه دية عينه وهو دية كاملة والصحيح الأول لأن الواجب بدل المتلف فلا يختلف باختلاف المتلف, ولذلك لو قتل عبد قيمته ألفان حرا لم يملك العفو على أكثر من الدية وأما القصاص, فإنه عقوبة على الفعل فيتعدد بتعدده.
قال: [وإن قتل من للأولياء أن يقيدوا به فبذل القاتل أكثر من الدية على أن لا يقاد, فللأولياء قبول ذلك] وجملته أن من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية وبقدرها وأقل منها, لا أعلم فيه خلافا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (من قتل عمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية ثلاثين حقة, وثلاثين جذعة وأربعين خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل) رواه الترمذي, وقال: حديث حسن غريب وروينا أن هدبة بن خشرم قتل قتيلا فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات, ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله ولأنه عوض عن غير مال, فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه كالصداق وعوض الخلع, ولأنه صلح عما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح عن العروض.
قال: [وإذا أمسك رجلا وقتله آخر قتل القاتل, وحبس الماسك حتى يموت] يقال أمسك ومسك ومسك وقد جمع الخرقي بين اللغتين فقال: إذا أمسك وحبس الماسك وهو اسم الفاعل من مسك مخففا ولا خلاف في أن القاتل يقتل لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق, وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه لأنه متسبب, والقاتل مباشر فسقط حكم المتسبب به وإن أمسكه له ليقتله مثل إن ضبطه له حتى ذبحه له فاختلفت الرواية فيه عن أحمد فروي عنه أنه يحبس حتى يموت وهذا قول عطاء وربيعة وروي ذلك عن علي وروي عن أحمد, أنه يقتل أيضا وهو قول مالك قال سليمان بن أبي موسى: الإجماع فينا أن يقتل لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله, فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص, كما لو جرحاه وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يعاقب ويأثم, ولا يقتل لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله " والممسك غير قاتل ولأن الإمساك سبب غير ملجئ, فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله, ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل, ويحبس الذي أمسك) ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات, فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.
وإن اتبع رجلا ليقتله فهرب منه فأدركه آخر, فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله نظرت فإن كان قصد الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني, فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك لأنه حبسه على القتل وإن لم يقصد حبسه, فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم وفيه وجه آخر ليس عليه إلا القطع بكل حال والأول أصح لأنه الحابس له بفعله, فأشبه الحابس بإمساكه فإن قيل: فلم اعتبرتم قصد الإمساك ها هنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الجارح؟ قلنا إذا مات من الجرح فقد مات من سرايته وأثره فنعتبر قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر, وفي مسألتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له عليه فاعتبر قصده لذلك الفعل, كما لو أمسكه.
قال: [ومن أمر عبده أن يقتل رجلا وكان العبد أعجميا لا يعلم أن القتل محرم قتل السيد, وإن كان يعلم خطر القتل قتل العبد وأدب السيد] إنما ذكر الخرقي كونه أعجميا, وهو الذي لا يفصح ليتحقق منه الجهل وإنما يكن الجهل في حق من نشأ في غير بلاد الإسلام, فأما من أقام في بلاد الإسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ولا يعذر في فعله, ومتى كان العبد يعلم تحريم القتل فالقصاص عليه ويؤدب سيده لأمره بما أفضى إلى القتل, بما يراه الإمام من الحبس والتعزير وإن كان غير عالم بخطره فالقصاص على سيده ويؤدب العبد قال أحمد يضرب ويؤدب ونقل عنه أبو طالب, قال: يقتل الولي ويحبس العبد حتى يموت لأن العبد سوط المولى وسيفه كذا قال علي وأبو هريرة وقال علي رضي الله عنه يستودع السجن وممن قال بهذه الجملة الشافعي وممن قال: إن السيد يقتل علي وأبو هريرة وقال قتادة: يقتلان جميعا وقال سليمان بن موسى: لأن يقتل الآمر, ولكن يديه ويعاقب ويحبس لأنه لم يباشر القتل ولا ألجأ إليه, فلم يجب عليه قصاص كما لو علم العبد خطر القتل ولنا أن العبد إذا كان غير عالم بخطر القتل, فهو معتقد إباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيدا فرماه فبان إنسانا, ولأن حكمة القصاص الردع والزجر ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة وإذا لم يجب عليه, وجب على السيد لأنه آلة له لا يمكن إيجاب القصاص عليه, فوجب على المتسبب به كما لو أنهشه حية أو كلبا أو ألقاه في زبية أسد فأكله ويفارق هذا ما إذا علم خطر القتل فإن القصاص على العبد لإمكان إيجابه عليه, وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدافع مع الحافر, ويكون على السيد الأدب لتعديه بالتسبب إلى القتل.
ولو أمر صبيا لا يميز أو مجنونا أو أعجميا لا يعلم خطر القتل, فقتل فالحكم فيه كالحكم في العبد يقتل الآمر دون المباشر ولو أمره بزنى, أو سرقة لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا على المباشر والقصاص يجب بالتسبب, ولذلك وجب على المكره والشهود في القصاص.
ولو أمر السلطان رجلا فقتل آخر فإن كان القاتل يعلم أنه لا يستحق قتله, فالقصاص عليه دون الآمر لأنه غير معذور في فعله فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وعنه عليه السلام أنه قال: (من أمركم من الولاة بغير طاعة الله تعالى فلا تطيعوه) فلزمه القصاص, كما لو أمره غير السلطان وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام فيما ليس بمعصية, والظاهر أنه لا يأمر إلا بالحق وإن أمره غير السلطان من الرعية بالقتل فقتل فالقود على المأمور بكل حال, علم أو لم يعلم لأنه لا يلزمه طاعته وليس له القتل بحال بخلاف السلطان, فإن إليه القتل للردة والزنى وقطع الطريق إذا قتل القاطع ويستوفى القصاص للناس, وهذا ليس إليه شيء من ذلك وإن أكرهه السلطان على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات, فالقصاص عليهما وإن وجبت الدية كانت عليهما فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور كمسلم قتل ذميا, أو حر قتل عبدا فقتله فقال القاضي: الضمان عليه دون الإمام لأن الإمام أمره بما أدى اجتهاده إليه, والمأمور لا يعتقد جوازه فلم يكن له أن يقبل أمره فإذا قتله, لزمه الضمان لأنه قتل من لا يحل له قتله وينبغى أن يفرق بين العامى والمجتهد فإن كان مجتهدا فالحكم فيه على ما ذكر القاضي وإن كان مقلدا, فلا ضمان عليه لأن له تقليد الإمام فيما رآه وإن كان الإمام يعتقد تحريمه والقاتل يعتقد حله فالضمان على الآمر كما لو أمر السيد الذي لا يعتقد تحريم القتل به, والله أعلم.
|