كتاب الرجعة
وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقول الله سبحانه وتعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} إلى قوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} والمراد به الرجعة عند جماعة العلماء وأهل التفسير وقال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف} أي بالرجعة ومعناه إذا قاربن بلوغ أجلهن أي انقضاء عدتهن وأما السنة فما روى ابن عمر قال {طلقت امرأتي وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: مره فليراجعها) متفق عليه وروى أبو داود عن عمر قال: (إن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلق حفصة ثم راجعها) وأجمع أهل العلم أن الحر إذا طلق الحرة دون الثلاث أو العبد إذا طلق دون الاثنتين أن لهما الرجعة في العدة ذكره ابن المنذر.
مسألة:
قال: [والزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة وتحرمها الثلاث من الحر والاثنتان من العبد]
أجمع أهل العلم على أن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة ولا يستحق مطلقها رجعتها وذلك لأن الرجعة إنما تكون في العدة ولا عدة قبل الدخول لقول الله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحًا جميلاً} فبين الله سبحانه أنه لا عدة عليها فتبين بمجرد طلاقها وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء عدتها لا رجعة عليها ولا نفقة لها وإن رغب مطلقها فيها فهو خاطب من الخطاب يتزوجها برضاها بنكاح جديد وترجع إليه بطلقتين وإن طلقها اثنتين ثم تزوجها رجعت إليه بطلقة واحدة بغير خلاف بين أهل العلم وإن طلقها ثلاثا بلفظ واحد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره في قول أكثر أهل العلم وقد ذكرنا ذلك فيما مضى ولا خلاف بينهم في أن المطلقة ثلاثا بعد الدخول لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لقول الله سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} وروت عائشة: أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنها كانت عند رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنه والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة وأخذت بهدبة من جلبابها قالت: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضاحكا وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) متفق عليه وفي إجماع أهل العلم على هذا غنية عن الإطالة فيه, وجمهور أهل العلم على أنها لا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثاني وطئا يوجد فيه التقاء الختانين إلا أن سعيد بن المسيب من بينهم قال: إذا تزوجها تزويجا صحيحا لا يريد به إحلالا فلا بأس أن يتزوجها الأول قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بقول سعيد بن المسيب هذا إلا الخوارج أخذوا بظاهر قوله سبحانه: {حتى تنكح زوجا غيره} ومع تصريح النبي -صلى الله عليه وسلم- ببيان المراد من كتاب الله تعالى وأنها لا تحل للأول حتى يذوق الثاني عسيلتها وتذوق عسيلته لا يعرج على شيء سواه ولا يسوغ لأحد المصير إلى غيره مع ما عليه جملة أهل العلم منهم علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم وممن بعدهم مسروق والزهري ومالك وأهل المدينة والثوري وأصحاب الرأي والأوزاعي وأهل الشام والشافعي وأبو عبيدة وغيرهم.
فصل:
ويشترط لحلها للأول ثلاثة شروط أحدها أن تنكح زوجا غيره فلو كانت أمة فوطئها سيدها لم يحلها لقول الله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} وهذا ليس بزوج ولو وطئت بشبهة لم تبح لما ذكرنا, ولو كانت أمة فاستبرأها مطلقها لم يحل له وطؤها في قول أكثر أهل العلم وقال بعض أصحاب الشافعي: تحل له لأن الطلاق يختص الزوجية فأثر في التحريم بها وقول الله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} صريح في تحريمها فلا يعول على ما خالفه ولأن الفرج لا يجوز أن يكون محرما مباحا فسقط هذا الشرط الثاني أن يكون النكاح صحيحا فإن كان فاسدا لم يحلها الوطء فيه وبهذا قال الحسن والشعبي وحماد ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي والشافعي في الجديد وقال في القديم: يحلها ذلك وهو قول الحكم وخرجه أبو الخطاب وجها في المذهب لأنه زوج فيدخل في عموم النص ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن المحلل والمحلل له فسماه محللا مع فساد نكاحه ولنا قول الله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} وإطلاق النكاح يقتضي الصحيح ولذلك لو حلف لا يتزوج فتزوج تزويجا فاسدا لم يحنث ولو حلف ليتزوجن لم يبر بالتزوج الفاسد ولأن أكثر أحكام الزوج غير ثابتة فيه من الإحصان واللعان والظهار, والإيلاء والنفقة وأشباه ذلك وأما تسميته محللا فلقصده التحليل فيما لا يحل ولو أحل حقيقة لما لعن ولا لعن المحلل له وإنما هذا كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه) وقال الله تعالى: {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} ولأنه وطء في غير نكاح صحيح أشبه وطء الشبهة الشرط الثالث أن يطأها في الفرج فلو وطئها دونه أو في الدبر لم يحلها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علق الحل على ذوق العسيلة منهما ولا يحصل إلا بالوطء في الفرج وأدناه تغييب الحشفة في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به ولو أولج الحشفة من غير انتشار لم تحل له لأن الحكم يتعلق بذواق العسيلة ولا تحصل من غير انتشار وإن كان الذكر مقطوعا فإن بقي منه قدر الحشفة فأولجه أحلها وإلا فلا, فإن كان خصيا أو مسلولا أو موجوءا حلت بوطئه لأنه يطأ كالفحل ولم يفقد إلا الإنزال وهو غير معتبر في الإحلال وهذا قول الشافعي قال أبو بكر: وقد روي عن أحمد في الخصي أنه لا يحلها فإن أبا طالب سأله في المرأة تتزوج الخصي تستحل به؟ قال: لا خصي يذوق العسيلة قال أبو بكر: والعمل على ما رواه مهنا أنها تحل ووجه الأول أن الخصي لا يحصل منه الإنزال فلا ينال لذة الوطء فلا يذوق العسيلة ويحتمل أن أحمد قال ذلك لأن الخصي في الغالب لا يحصل منه الوطء أو ليس بمظنة الإنزال فلا يحصل الإحلال بوطئه كالوطء من غير انتشار.
فصل:
واشترط أصحابنا أن يكون الوطء حلالا فإن وطئها في حيض أو نفاس, أو إحرام من أحدهما أو منهما أو وأحدهما صائم فرضا, لم تحل وهذا قول مالك لأنه وطء حرام لحق الله تعالى فلم يحصل به الإحلال كوطء المرتدة وظاهر النص حلها وهو قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} وهذه قد نكحت زوجا غيره وأيضا قوله (حتى تذوقي عسيلته, ويذوق عسيلتك) وهذا قد وجد ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام فأحلها, كالوطء الحلال وكما لو وطئها وقد ضاق وقت الصلاة أو وطئها مريضة يضرها الوطء وهذا أصح -إن شاء الله تعالى- وهو مذهب أبي حنيفة, والشافعي وأما وطء المرتدة فلا يحلها سواء وطئها في حال ردتهما, أو ردتها أو وطئ المرتد المسلمة لأنه إن لم يعد المرتد منهما إلى الإسلام تبين أن الوطء في غير نكاح, وإن عاد إلى الإسلام في العدة فقد كان الوطء في نكاح غير تام لأن سبب البينونة حاصل فيه وهكذا لو أسلم أحد الزوجين فوطئها الزوج قبل إسلام الآخر, لم يحلها لذلك.
فصل:
فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها وبذلك قال عطاء, ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا, ولأنه دخل في عموم النص ووطؤه كوطء الحر وإن تزوجها مراهق فوطئها, أحلها في قولهم إلا مالكا وأبا عبيد فإنهما قالا: لا يحلها ويروى ذلك عن الحسن لأنه وطء من غير بالغ, فأشبه وطء الصغير ولنا ظاهر النص وأنه وطء من زوج في نكاح صحيح, فأشبه البالغ ويخالف الصغير فإنه لا يمكن الوطء منه ولا تذاق عسيلته قال القاضي: ويشترط أن يكون له اثنتا عشرة سنة لأن من دون ذلك لا يمكنه المجامعة ولا معنى لهذا فإن الخلاف في المجامع, ومتى أمكنه الجماع فقد وجد منه المقصود فلا معنى لاعتبار سن ما ورد الشرع باعتبارها وتقديره بمجرد الرأي والتحكم وإن كانت ذمية, فوطئها زوجها الذمي أحلها لمطلقها المسلم نص عليه أحمد وقال: هو زوج وبه تجب الملاعنة والقسم وبه قال الحسن, والزهري والثوري والشافعي, وأبو عبيد وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال ربيعة ومالك: لا يحلها ولنا, ظاهر الآية ولأنه وطء من زوج في نكاح صحيح تام أشبه وطء المسلم وإن كانا مجنونين, أو أحدهما فوطئها أحلها وقال أبو عبد الله بن حامد: لا يحلها لأنه لا يذوق العسيلة ولنا, ظاهر الآية ولأنه وطء مباح في نكاح صحيح أشبه العاقل وقوله: لا يذوق العسيلة لا يصح, فإن الجنون إنما هو تغطية العقل وليس العقل شرطا في الشهوة وحصول اللذة بدليل البهائم لكن إن كان المجنون ذاهب الحس, كالمصروع والمغمى عليه لم يحصل الحل بوطئه, ولا بوطء مجنونة في هذه الحال لأنه لا يذوق العسيلة ولا تحصل له لذة ولعل ابن حامد إنما أراد المجنون الذي هذه حاله فلا يكون ها هنا اختلاف ولو وطئ مغمى عليها أو نائمة لا تحس بوطئه, فينبغي أن لا تحل بهذا لما ذكرناه وحكاه ابن المنذر ويحتمل حصول الحل في ذلك كله أخذا من عموم النص والله أعلم.
فصل:
ولو وجد على فراشه امرأة فظنها أجنبية, أو ظنها جاريته فوطئها فإذا هي امرأته أحلها, لأنه صادف نكاحا صحيحا ولو وطئها فأفضاها أو وطئها - وهي مريضة - تتضرر بوطئه أحلها لأن التحريم ها هنا لحقها وإن استدخلت ذكره وهو نائم, أو مغمى عليه لم تحل لأنه لا يذوق عسيلتها ويحتمل أن تحل لعموم الآية والله أعلم.
مسألة:
قال: [وإذا طلق الحر زوجته أقل من ثلاث فله عليها الرجعة ما كانت في العدة]
أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق الحرة بعد دخوله بها أقل من ثلاث, بغير عوض ولا أمر يقتضي بينونتها فله عليها الرجعة ما كانت في عدتها, وعلى أنه لا رجعة له عليها بعد قضاء عدتها لما ذكرنا في أول الباب وإن طلق الحر امرأته الأمة فهو كطلاق الحرة إلا أن فيه خلافا ذكرناه فيما مضى, وذكرنا أن الطلاق معتبر بالرجال فيكون له رجعتها ما لم يطلقها ثلاثا كالحرة.
فصل:
ولا يعتبر في الرجعة رضا المرأة لقول الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} فجعل الحق لهم وقال سبحانه: {فأمسكوهن بمعروف} فخاطب الأزواج بالأمر ولم يجعل لهن اختيارا ولأن الرجعة إمساك للمرأة بحكم الزوجية, فلم يعتبر رضاها في ذلك كالتي في صلب نكاحه وأجمع أهل العلم على هذا.
فصل:
والرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره, وإيلاؤه ولعانه ويرث أحدهما صاحبه, بالإجماع وإن خالعها صح خلعه وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يصح لأنه يراد للتحريم وهي محرمة ولنا, أنها زوجة صح طلاقها فصح خلعها كما قبل الطلاق, وليس مقصود الخلع التحريم بل الخلاص من مضرة الزوج ونكاحه الذي هو سببها والنكاح باق, ولا نأمن رجعته وعلى أننا نمنع كونها محرمة.