الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الظفر, فالأولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة وإن انصرفوا جاز, لأنهم لا يأمنون العطب والحكم علق على مظنته وهو كونهم أقل من نصف عددهم ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف, وإن غلب على ظنهم الهلاك فيه ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف, وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضا في الشهادة ويجوز أن يغلبوا أيضا وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف, فالأولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولين, ولأنه يجوز أن يغلبوا أيضا فإن الله تعالى يقول: فإن ولى قوم قبل إحراز الغنيمة, وأحرزها الباقون فلا شيء للفارين لأن إحرازها حصل بغيرهم, فكان ملكها لمن أحرزها وإن ذكروا أنهم فروا متحيزين إلى فئة أو متحرفين للقتال فلا شيء لهم أيضا, لذلك وإن فروا بعد إحراز الغنيمة لم يسقط حقهم منها لأنهم ملكوا الغنيمة بحيازتها فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم فإذا ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فاشتعلت فيها, فما غلب على ظنهم السلامة فيه من بقائهم في مركبهم أو إلقاء نفوسهم في الماء, فالأولى لهم فعله وإن استوى عندهم الأمران فقال أحمد كيف شاء يصنع قال الأوزاعي هما موتتان, فاختر أيسرهما وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنهم يلزمهم المقام لأنهم إذا رموا نفوسهم في الماء كان موتهم بفعلهم, وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم. قال: [ومن أجر نفسه بعد أن غنموا, على حفظ الغنيمة فمباح له ما أخذ إن كان راجلا, أو على دابة يملكها] وجملته أن الغنيمة إذا احتاجت إلى من يحفظها أو سوق الدواب التي هي منها أو يرعاها, أو يحملها فإن للإمام أن يستأجر من يفعل ذلك ويؤدي أجرتها منها لأن ذلك من مؤنتها, فهو كعلف الدواب وطعام السبي ومن أجر نفسه على فعل شيء من ذلك, فله أجرته مباحة لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة فحلت له أجرته كما لو أجر نفسه على الدلالة إلى الطريق فأما قوله: إن كان راجلا أو على دابة يملكها فإنه يعنى به لا يركب من دواب المغنم, ولا فرسا حبيسا قال أحمد لا بأس أن يؤجر الرجل نفسه على دابته وكره أن يستأجر القوم على سباق الرمك على فرس حبيس لأنه يستعمل الفرس الموقوفة للجهاد فيما يختص منفعة نفسه فإن أجر نفسه فركب الدابة الحبيس, أو دابة من المغنم لم تطب له أجرة لأن المعين له على العمل يختص منفعة نفسه, فلا يجوز أن يستعمل فيه دواب المغنم ولا دواب الحبيس وينبغي أن يلزمه بقدر أجر الدابة يرد في الغنيمة إن كانت من الغنيمة, أو يصرف في نفقة دواب الحبيس إن كان الفرس حبيسا. فإن شرط في الإجارة ركوب دابة من الغنيمة فينبغي أن يجوز لأن ذلك بمنزلة أجرة تدفع من المغنم ولو أجر نفسه بدابة معينة من المغنم صح فإذا جعل أجره ركوبها, كان أولى إلا أن يكون العمل مجهولا فلا يجوز, لأن من شرط صحة إجارتها كون عوضها معلوما وإن شرط في الإجارة ركوب دابة من الحبيس لم يجز لأنها إنما حبست على الجهاد وليس هذا بجهاد, إنما هو نفع لأهل الغنيمة. ولا يجوز الانتفاع من الغنيمة بركوب دابة منها ولا لبس ثوب من ثيابها لما روى رويفع بن ثابت قال: لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول يوم خيبر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر, فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه, ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه, رده فيه) رواه أبو داود والأثرم وعن رجل من بليدة قال: (أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بوادي القرى فقلت: ما تقول في الغنيمة؟ فقال: لله خمسها, وأربعة أخماسها للجيش فقلت: فما أحد أولى به أحد؟ قال: لا ولا السهم تستخرجه من جنبك أنت أحق به من أخيك المسلم) رواه الأثرم ولأن الغنيمة مشتركة بين الغانمين وأهل الخمس فلم يجز لواحد الاختصاص بمنفعته, كغيره من الأموال المشتركة فإن دعت الحاجة إلى القتال بسلاحهم فلا بأس قال أحمد إذا كان أنكى فيهم, أو خاف على نفسه فنعم وذكر حديث سيف أبي جهل وهو ما روى عبد الله بن مسعود قال: انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله فقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا أبا جهل فأضربه بسيف معي غير طائل, فوقع سيفه من يده فأخذت سيفه فضربته به حتى برد رواه الأثرم وفي ركوب الفرس للجهاد روايتان, إحداهما يجوز كما يجوز في السلاح, والثانية لا يجوز لأنها تتعرض للعطب غالبا, وقيمتها كثيرة بخلاف السلاح. قال: [ومن لقى علجا, فقال له: قف أو: ألق سلاحك فقد أمنه]. قد تقدم الكلام في من يصح أمانه ونذكر ها هنا صفة الأمان, فالذي ورد به الشرع لفظتان أجرتك وأمنتك لقول الله تعالى: فإن أشار المسلم إليهم بما يرونه أمانا وقال: أردت به الأمان فهو أمان وإن قال: لم أرد به الأمان فالقول قوله لأنه أعلم بنيته فإن خرج الكفار من حصنهم بناء على هذه الإشارة, لم يجز قتلهم ولكن يردون إلى مأمنهم قال عمر رضي الله عنه: والله لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل بأمانه, فقتله لقتلته به رواه سعيد وإن مات المسلم أو غاب فإنهم يردون إلى مأمنهم, وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر فإن قيل: فكيف صححتم الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق والعتق؟ قلنا: تغليبا لحقن الدم, كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليبا لحقن دمه ولأن الكفار في الغالب لا يفهمون كلام المسلمين, والمسلمون لا يفهمون كلامهم فدعت الحاجة إلى التكليم بالإشارة بخلاف غيره إذا سبيت كافرة, فجاء ابنها يطلبها وقال: إن عندي أسيرا مسلما فأطلقوها حتى أحضره فقال الإمام: أحضره فأحضره لزم إطلاقها لأن المفهوم من هذا إجابته إلى ما سأل وإن قال الإمام: لم أرد إجابته, لم يجبر على ترك أسيره ورد إلى مأمنه وقال أصحاب الشافعي: يطلق الأسير ولا تطلق المشركة, لأن المسلم حر لا يجوز أن يكون ثمنا لمملوكة ويقال له: إن اخترت شراءها فأت بثمنها ولنا أن هذا يفهم منه الشرط, فيجب الوفاء به كما لو صرح به ولأن الكافر فهم منه ذلك وبنى عليه, فأشبه ما لو فهم الأمان من الإشارة وقولهم: إن الحر لا يكون ثمن مملوكة قلنا: لكن يصح أن يفادى بها فقد فادى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأسيرة التي أخذها من سلمة بن الأكوع برجلين من المسلمين وفادى رجلين من المسلمين بأسير من الكفار, ووفى لهم برد من جاءه مسلما وقال: (إنه لا يصلح في ديننا الغدر) وإن كان رد المسلم إليهم ليس بحق لهم ولأنه التزم إطلاقها, فلزمه ذلك لقوله عليه السلام: (المسلمون على شروطهم) وقوله: (إنه لا يصلح في ديننا الغدر). قال: [ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده, أو لسيده لم يقطع] يعني إذا كان السارق بعض الغانمين أو أباه, أو سيده فلا قطع عليه لأن له شبهة وهو حقه المتعلق بها, فيكون ذلك مانعا من قطعه لأن الحدود تدرأ بالشبهات فأشبه ما لو سرق من مال مشترك بينه وبين غيره, وهكذا إن كان لابنه وإن علا وهو قول أبي حنيفة والشافعي وزاد أبو حنيفة إذا كان لذي رحم محرم منه فيها حق لم يقطع مبنى على أنه لا يقطع بسرقة مالهم وقد سبق الكلام في هذا ولو كان لأحد الزوجين فيها حق فسرق منها الآخر, لم يقطع عند من لا يرى أن أحدهما يقطع بسرقة مال الآخر وقد سبق ذكر هذا والسارق من الغنيمة غير الغال فلا يجري مجراه في إحراق رحله ولا يجري الغال مجرى السارق في قطع يده وذكر بعض أصحابنا أن السارق يحرق رحله, لأنه في معنى الغال ولأنه لما درئ عنه الحد وجب أن يشرع في حقه عقوبة أخرى, كسارق الثمر يغرم مثلي ما سرق ولنا أن هذا لا يقع عليه اسم الغال حقيقة ولا هو في معناه لأن الغلول يكثر, لكونه أخذ مال لا حافظ له ولا يطلع عليه غالبا فيحتاج إلى زاجر عنه وليس كذلك السرقة, فإنها أخذ مال محفوظ فالحاجة إلى الزجر عنه أقل. قال: [وإن وطئ جارية قبل أن يقسم أدب, ولم يبلغ به حد الزاني وأخذ منه مهر مثلها فطرح في المقسم, إلا أن تلد منه فتكون عليه قيمتها] يعني إذا كان الواطئ من الغانمين أو ممن لولده فيها حق, فلا حد عليه لأن الملك يثبت للغانمين في الغنيمة فيكون للواطئ حق في هذه الجارية وإن كان قليلا فيدرأ عنه الحد للشبهة وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك وأبو ثور: عليه الحد لقول الله تعالى فإن أعتق بعض الغانمين عبدا من الغنيمة قبل القسمة فإن كان ممن لم يثبت فيه الرق, كالرجل قبل استرقاقه لم يعتق لما ذكرناه قبل وإن كان رقيقا كالمرأة والصبي, عتق عليه قدر حصته وسرى إلى باقيه إن كان موسرا وعليه قيمة باقيه تطرح في المقسم, وإن كان معسرا عتق عليه قدر ملكه من الغنيمة لأنه موسر بقدر حصته من الغنيمة فإن كان بقدر حقه من الغنيمة, عتق ولم يأخذ شيئا وإن كان دون حقه أخذ باقي حقه, وإن كان أكثر من حقه لم يعتق إلا قدر حقه فإن أعتق عبدا ثانيا, وفضل من حقه عن الأول شيء عتق بقدره من الثاني وإن لم يفضل شيء, لم يعتق من الثاني شيء. يكره نقل رءوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم لما روى سمرة بن جندب قال: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحثنا على الصدقة, وينهانا عن المثلة) وعن عبد الله قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان) رواهما أبو داود وعن شداد بن أوس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح) رواه النسائي وعن عبد الله بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق برأس البطريق فأنكر ذلك فقال: يا خليفة رسول الله, فإنهم يفعلون ذلك بنا قال: فاستنان بفارس والروم لا يحمل إلى رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر وقال الزهري: لم يحمل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأس قط, وحمل إلى أبي بكر رأس فأنكر وأول من حملت إليه الرءوس عبد الله بن الزبير ويكره رميها في المنجنيق نص عليه أحمد وإن فعلوا ذلك لمصلحة جاز, لما روينا أن عمرو بن العاص حين حاصر الإسكندرية ظفر برجل من المسلمين, فأخذوا رأسه فجاء قومه عمرا مغضبين فقال لهم عمرو خذوا رجلا منهم فاقطعوا رأسه, فارموا به إليهم في المنجنيق ففعلوا ذلك فرمى أهل الإسكندرية رأس المسلم إلى قومه. يجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب (لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل هدية المقوقس صاحب مصر) فإن كان ذلك في حال الغزو فقال أبو الخطاب: ما أهداه المشركون لأمير الجيش أو لبعض قواده, فهو غنيمة لأنه لا يفعل ذلك إلا لخوفه من المسلمين فظاهر هذا أن ما أهدى لآحاد الرعية فهو له, وقال القاضي: هو غنيمة أيضا وإن كان من دار الحرب إلى دار الإسلام فهو لمن أهدى له سواء كان الإمام أو غيره (لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل الهدية) فكانت له دون غيره وهذا قول الشافعي ومحمد وقال أبو حنيفة: هو للمهدي له بكل حال لأنه خص بها أشبه إذا كان في دار الإسلام, وحكي ذلك رواية عن أحمد ولنا أنه أخذ ذلك بظهر الجيش أشبه ما لو أخذه قهرا, ولأنه إذا أهدي للإمام أو الأمير فالظاهر أنه يداري عن نفسه به فأشبه ما أخذ منه قهرا وأما إن أهدى لآحاد المسلمين, فلم يقصد به ذلك في الظاهر لعدم الخوف منه فيكون له, كما لو أهدى إليه في دار الإسلام ويحتمل أن ينظر فإن كان بينهما مهاداة قبل ذلك, فله ما أهدى إليه وإن تجدد ذلك بالدخول إلى دارهم فهو للمسلمين, كقولنا في الهدية إلى القاضي.
|