الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
قال: [ ولو قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك فهرب منه لم يحنث ولو قال: لا افترقنا فهرب منه حنث] أما إذا حلف: لا فارقتك ففيه مسائل عشر أحدها أن يفارقه الحالف مختارا فيحنث, بلا خلاف سواء أبرأه من الحق أو فارقه والحق عليه لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه الثانية, فارقه مكرها فينظر فإن حمل مكرها حتى فرق بينهما لم يحنث وإن أكره بالضرب والتهديد, لم يحنث وفي قول أبي بكر: يحنث وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى الثالثة هرب منه الغريم بغير اختياره فلا يحنث وبهذا قال مالك, والشافعي وأبو ثور وابن المنذر, وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنه يحنث لأن معنى يمينه أن لا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت ولنا, أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة وما فعل ولا فعل باختياره, فلم يحنث كما لو حلف: لا قمت فقام غيره الرابعة أذن له الحالف في الفرقة, ففارقه فمفهوم كلام الخرقي أنه يحنث وقال الشافعي: لا يحنث وقال القاضي: وهو قول الخرقي لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف إنه لا يفعلها ولنا, أن معنى يمينه لألزمنك وإذا فارقه بإذنه فما لزمه ويفارق ما إذا هرب منه لأنه فر بغير اختياره وليس هذا قول الخرقي ولأن الخرقي قال: فهرب منه فمفهومه أنه إذا فارقه بغير هرب, أنه يحنث الخامسة فارقه من غير إذن ولا هرب, على وجه يمكنه ملازمته والمشي معه وإمساكه, فلم يفعل فالحكم فيها كالتي قبلها السادسة قضاه قدر حقه, ففارقه ظنا منه أنه وفاه فخرج رديئا أو بعضه فيخرج في الحنث روايتان بناء على الناسي وللشافعي قولان, كالروايتين أحدهما يحنث وهو قول مالك لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختارا والثاني, لا يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفا وإن وجد أكثرها نحاسا فإنه يحنث وإن وجدها مستحقة, فأخذها صاحبها خرج أيضا على الروايتين في الناسي لأنه ظان أنه مستوف حقه فأشبه ما لو وجدها رديئة وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: لا يحنث, وإن علم بالحال ففارقه حنث لأنه لم يوفه حقه السابعة فلسه الحاكم, ففارقه نظرت فإن ألزمه الحاكم فهو كالمكره, وإن لم يلزمه مفارقته لكنه فارقه لعلمه بوجوب مفارقته حنث لأنه فارقه من غير إكراه, فحنث كما لو حلف لا يصلي فوجبت عليه صلاة فصلاها الثامنة, أحاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث وبهذا قال الشافعي, وأبو ثور وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يحنث لأنه قد برئ إليه منه ولنا أنه ما استوفى حقه منه, بدليل أنه لم يصل إليه شيء ولذلك يملك المطالبة به فحنث, كما لو لم يحله فإن ظن أنه قد بر بذلك ففارقه فقال أبو الخطاب: يخرج على الروايتين والصحيح أنه يحنث لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه, فلا يسقط عنه الحنث كما لو جهل كون هذه اليمين موجبة للكفارة فأما إن كانت يمينه: لا فارقتك ولي قبلك حق فأحاله به ففارقه, لم يحنث لأنه لم يبق له قبله حق وإن أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ففارقه حنث, بلا إشكال لأنه يملك مطالبة الغريم التاسعة قضاه عن حقه عوضا عنه ثم فارقه فقال ابن حامد: لا يحنث وهو قول أبي حنيفة لأنه قد قضاه حقه وبرئ إليه منه بالقضاء وقال القاضي: يحنث لأن يمينه على نفس الحق, وهذا بدله وإن كانت يمينه: لا فارقتك حتى تبرأ من حقي أو: لي قبلك حق لم يحنث وجها واحدا لأنه لم يبق له قبله حق, وهذا مذهب الشافعي والأول أصح لأنه قد استوفى حقه العاشرة وكل وكيلا يستوفي له حقه فإن فارقه قبل استيفاء الوكيل, حنث لأنه فارقه قبل استيفاء حقه وإن استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث لأن استيفاء وكيله استيفاء له, يبرأ به غريمه ويصير في ضمان الموكل. فأما إن قال: لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك نظرت فإن فارقه المحلوف عليه مختارا حنث وإن أكره على فراقه, لم يحنث وإن فارقه الحالف مختارا حنث إلا على ما ذكره القاضي في تأويل كلام الخرقي, وهو مذهب الشافعي وسائر الفروع تأتي ها هنا على نحو ما ذكرناه. وإن كانت يمينه: لا افترقنا فهرب منه المحلوف عليه حنث لأن يمينه تقتضي ألا تحصل بينهما فرقة بوجه, وقد حصلت الفرقة بهربه وإن أكرها على الفرقة لم يحنث إلا على قول من لم ير الإكراه عذرا. فإن حلف: لا فارقتك حتى أوفيك حقك فأبرأه الغريم منه, فهل يحنث؟ على وجهين بناء على المكره وإن كان الحق عينا فوهبها له الغريم فقبلها, حنث لأنه ترك إيفاءها له باختياره وإن قبضها منه ثم وهبها إياه لم يحنث وإن كانت يمينه: لا فارقتك ولك قبلي حق لم يحنث إذا أبرأه, أو وهب العين له. والفرقة في هذا كله ما عده الناس فراقا في العادة وقد ذكرنا الفرقة في البيع, وما نواه بيمينه مما يحتمله لفظه فهو على ما نواه والله أعلم. قال: [ ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك على كل مرة, إلا أن يكون نوى مرة] وجملته أن من قال لزوجته: إن خرجت إلا بإذني أو بغير إذني فأنت طالق أو قال: إن خرجت إلا أن آذن لك, أو حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك فالحكم في هذه الألفاظ الخمسة أنها متى خرجت بغير إذنه, طلقت وانحلت يمينه لأن حرف " أن " لا يقتضي تكرارا فإذا حنث مرة, انحلت كما لو قال: أنت طالق إن شئت وإن خرجت بإذنه لم يحنث لأن الشرط ما وجد وليس في هذا اختلاف ولا تنحل اليمين, فمتى خرجت بعد هذا بغير إذنه طلقت وقال الشافعي: تنحل فلا يحنث بخروجها بعد ذلك لأن اليمين تعلقت بخروج واحد, بحرف لا يقتضي التكرار فإذا وجد بغير إذن حنث, وإن وجد بإذن بر لأن البر يتعلق بما يتعلق به الحنث وقال أبو حنيفة في قوله: إن خرجت إلا بإذني, أو بغير إذني كقولنا لأن الخروج بإذنه في هذين الموضعين مستثنى من يمينه فلم يدخل فيها ولم يتعلق به بر ولا حنث وإن قال: إن خرجت إلا أن آذن لك, أو حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك متى أذن لها انحلت يمينه, ولم يحنث بعد ذلك بخروجها بغير إذنه لأنه جعل الإذن فيها غاية ليمينه وجعل الطلاق معلقا على الخروج قبل إذنه فمتى أذن انتهت غاية يمينه, وزال حكمها كما لو قال: إن خرجت إلى أن تطلع الشمس أو إلا أن تطلع الشمس, أو حتى تطلع الشمس فأنت طالق فخرجت بعد طلوعها ولأن حرف " إلى " " وحتى " للغاية, لا للاستثناء ولنا أنه علق الطلاق على شرط وقد وجد, فيقع الطلاق كما لو لم تخرج بإذنه وقولهم: قد بر غير صحيح لوجهين أحدهما أن المأذون فيه مستثنى من يمينه, غير داخل فيها فكيف يبر؟ ألا ترى أنه لو قال لها: إن كلمت رجلا إلا أخاك أو غير أخيك, فأنت طالق فكلمت أخاها ثم كلمت رجلا آخر فإنها تطلق, ولا تنحل يمينه بتكليمها أخاها؟ والثاني أن المحلوف عليه خروج موصوف بصفة فلا تنحل اليمين بوجود ما لم توجد فيه الصفة, ولا يحنث به ولا يتعلق بما عداه بر ولا حنث كما لو قال: إن خرجت عريانة, فأنت طالق أو إن خرجت راكبة فأنت طالق فخرجت مستترة ماشية, لم يتعلق به بر ولا حنث ولأنه لو قال لها: إن كلمت رجلا فاسقا أو من غير محارمك, فأنت طالق لم يتعلق بتكليمها لغير من هو موصوف بتلك الصفة بر ولا حنث فكذلك في الأفعال وقولهم: تعلقت اليمين بخروج واحد قلنا: إلا أنه خروج موصوف بصفة فلا تنحل اليمين بوجود غيره, ولا يحنث به وأما قول أصحاب أبي حنيفة: إن الألفاظ الثلاثة ليست من ألفاظ الاستثناء قلنا: قوله: إلا أن آذن لك من ألفاظ الاستثناء واللفظتان الأخريان في معناه في إخراج المأذون من يمينه, فكان حكمهما كحكمه هذا الكلام فيما إذا أطلق فإن نوى تعليق الطلاق على خروج واحد تعلقت يمينه به, وقبل قوله في الحكم لأنه فسر لفظه بما يحتمله احتمالا غير بعيد وإن أذن لها مرة واحدة ونوى الإذن في كل مرة فهو على ما نوى وقد نقل عبد الله بن أحمد, عن أبيه إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه: إذا أذن لها مرة فهو إذن لكل مرة, وتكون يمينه على ما نوى وإن قال: كلما خرجت فهو بإذني أجزأه مرة واحدة وإن نوى بقوله: إلى أن آذن لك أو حتى آذن لك, الغاية وأن الخروج المحلوف عليه ما قبل الغاية دون ما بعدها, قبل قوله وانحلت يمينه بالإذن لنيته فإن مبنى الأيمان على النية. وإن قال: إن خرجت بغير إذني, فأنت طالق فأذن لها ثم نهاها فخرجت طلقت لأنها خرجت بغير إذنه وكذلك إن قال: إلا بإذني وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يحنث لأنه قد أذن ولا يصح لأن نهيه قد أبطل إذنه, فصارت خارجة بغير إذنه وكذلك لو أذن لوكيله في بيع ثم نهاه عنه فباعه, كان باطلا وإن قال: إن خرجت بغير إذني لغير عيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض, ثم تشاغلت بغيره أو قال: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني, فأنت طالق فخرجت إلى الحمام ثم عدلت إلى غيره ففيه وجهان أحدهما, لا يحنث لأنها ما خرجت لغير عيادة مريض ولا إلى غير الحمام وهذا مذهب الشافعي الثاني يحنث لأن قصده في الغالب أن لا تذهب إلى غير الحمام, وعيادة المريض وقد ذهبت إلى غيرهما ولأن حكم الاستدامة حكم الابتداء, ولهذا لو حلف أن لا يدخل دارا هو داخلها فأقام فيها حنث, في أحد الوجهين وإن قصدت بخروجها الحمام وغيره أو العيادة وغيرها حنث لأنها خرجت لغيرهما وإن قال: إن خرجت لا لعيادة مريض, فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض وغيره لم يحنث لأن الخروج لعيادة المريض وإن قصدت معه غيره وإن قال: إن خرجت بغير إذني, فأنت طالق ثم أذن لها ولم تعلم فخرجت ففيه وجهان أحدهما, تطلق وبه قال أبو حنيفة ومالك ومحمد بن الحسن والثاني, لا يحنث وهو قول الشافعي وأبي يوسف لأنها خرجت بعد وجود الإذن من جهته فلم يحنث, كما لو علمت به ولأنه لو عزل وكيله انعزل وإن لم يعلم بالعزل فكذلك تصير مأذونا لها وإن لم تعلم ووجه الأول, أن الإذن إعلام وكذلك قيل في قوله: فصل فإن حلف عليها أن لا تخرج من هذه الدار إلا بإذنه, فصعدت سطحها أو خرجت إلى صحنها لم يحنث, لأنها لم تخرج من الدار وإن حلف لا تخرج من البيت فخرجت إلى الصحن أو إلى سطحه, حنث وهذا مقتضى مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولو حلف على زوجته لا تخرج, ثم حملها فأخرجها فإن أمكنها الامتناع فلم تمتنع حنث وقال الشافعي: لا يحنث لأنها لم تخرج, إنما أخرجت ولنا أنها خرجت مختارة فحنث, كما لو أمرت من حملها والدليل على خروجها أن الخروج الانفصال من داخل إلى خارج, وقد وجد ذلك وما ذكره يبطل بما إذا أمرت من حملها فأما إن لم يمكنها الامتناع فيحتمل أن لا يحنث وهو قول أصحاب الشافعي, وأبي ثور وأصحاب الرأي لأن الخروج لا ينسب إليها فأشبه ما لو حملها غير الحالف ويحتمل أن يحنث لأنه مختار لفعل ما حلف على تركه وإن حلف لا تخرجي إلا بإذن زيد, فمات زيد ولم يأذن فخرجت حنث الحالف لأنه علقه على شرط, ولم يوجد ولا يجوز فعل المشروط.
مسألة قال: [ ولو حلف أن لا يأكل هذا الرطب فأكله تمرا, حنث وكذلك كل ما تولد من ذلك الرطب] وجملة ذلك أنه إذا حلف على شيء عينه بالإشارة مثل أن حلف لا يأكل هذا الرطب لم يخل من حالين أحدهما, أن يأكله رطبا فيحنث بلا خلاف بين الجميع لكونه فعل ما حلف على تركه صريحا الثاني: أن تتغير صفته, وذلك يقسم خمسة أقسام أحدها أن تستحيل أجزاؤه ويتغير اسمه مثل أن يحلف: لا أكلت هذه البيضة فصارت فرخا أو لا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا فأكله, فهذا لا يحنث لأنه زال واستحالت أجزاؤه وعلى قياسه إذا حلف: لا شربت هذا الخمر فصارت خلا فشربه القسم الثاني, تغيرت صفته وزال اسمه مع بقاء أجزائه, مثل أن يحلف: لا آكل هذا الرطب فصار تمرا ولا أكلم هذا الصبي فصار شيخا ولا آكل هذا الحمل فصار كبشا أو لا آكل هذا الرطب فصار دبسا, أو خلا أو ناطفا أو غيره من الحلواء ولا يأكل هذه الحنطة, فصارت دقيقا أو سويقا أو خبزا, أو هريسة أو: لا أكلت هذا العجين أو هذا الدقيق فصار خبزا أو: لا أكلت هذا اللبن فصار سمنا أو جبنا, أو كشكا أو: لا دخلت هذه الدار فصارت مسجدا أو حماما أو فضاء, ثم دخلها أو أكله حنث في جميع ذلك وبه قال أبو حنيفة فيما إذا حلف: لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا ولا أكلت هذا الحمل فصار كبشا ولا: دخلت هذه الدار فدخلها بعد تغيرها وقال به أبو يوسف, في الحنطة إذا صارت دقيقا وللشافعي في الرطب إذا صار تمرا والصبي إذا صار شيخا والحمل إذا صار كبشا, وجهان وقالوا في سائر الصور: لا يحنث لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل هذه البيضة, فصارت فرخا ولنا أن عين المحلوف عليه باقية فحنث بها, كما لو حلف: لا أكلت هذا الحمل فأكل لحمه أو: لا لبست هذا الغزل فصار ثوبا فلبسه أو: لا لبست هذا الرداء فلبسه بعد أن صار قميصا أو سراويل وفارق البيضة إذا صارت فرخا لأن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى, ولم تبق عينها ولأنه لا اعتبار بالاسم مع التعيين كما لو حلف: لا كلمت زيدا هذا فغير اسمه أو: لا كلمت صاحب هذا الطيلسان فكلمه بعد بيعه ولأنه متى اجتمع التعيين مع غيره مما يعرف به, كان الحكم للتعيين كما لو اجتمع مع الإضافة القسم الثالث تبدلت الإضافة, مثل أن حلف: لا كلمت زوجة زيد هذه ولا عبده هذا ولا دخلت داره هذه فطلق الزوجة, وباع العبد والدار فكلمهما ودخل الدار, حنث وبه قال مالك والشافعي ومحمد, وزفر وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحنث إلا في الزوجة لأن الدار لا توالى ولا تعادى, وإنما الامتناع لأجل مالكها فتعلقت اليمين بها مع بقاء ملكه عليها, وكذلك العبد في الغالب ولنا أنه إذا اجتمع في اليمين التعيين والإضافة كان الحكم للتعيين, كما لو قال: والله لا كلمت زوجة فلان ولا صديقه وما ذكروه لا يصح في العبد لأنه يوالى ويعادى ويلزمه في الدار إذا أطلق, ولم يذكر مالكها فإنه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها إياها القسم الرابع إذا تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت, كمقص انكسر ثم أعيد وقلم انكسر ثم بري وسفينة تفصمت ثم أعيدت, ودار هدمت ثم بنيت وأسطوانة نقضت ثم أعيدت فإنه يحنث لأن أجزاءها واسمها موجود, فأشبه ما لو لم تتغير القسم الخامس إذا تغيرت صفته بما لم يزل اسمه كلحم شوي أو طبخ, وعبد بيع ورجل مرض فإنه يحنث به, بلا خلاف نعلمه لأن الاسم الذي علق عليه اليمين لم يزل ولا زال التغير فحنث به, كما لو لم يتغير حاله.
فصل وإن قال: والله لا كلمت سعدا زوج هند أو سيد صبيح أو صديق عمرو أو مالك هذه الدار, أو صاحب هذا الطيلسان أو: لا كلمت هند امرأة سعد أو صبيحا عبده أو عمرا صديقه فطلق الزوجة, وباع العبد والدار والطيلسان وعادى عمرا وكلمهم, حنث لأنه متى اجتمع الاسم والإضافة غلب الاسم بجريانه مجرى التعيين لتعريف المحل.
فصل ومتى نوى بيمينه في هذه الأشياء ما دام على تلك الصفة أو الإضافة, أو لم يتغير فيمينه على ما نواه لقوله عليه السلام: " وإنما لامرئ ما نوى " والله أعلم.
مسألة قال: [ ولو حلف أن لا يأكل تمرا فأكل رطبا, لم يحنث] وجملة ذلك أنه إذا لم يعين المحلوف عليه ولم ينو بيمينه ما يخالف ظاهر اللفظ ولا صرفه السبب عنه, تعلقت يمينه بما تناوله الاسم الذي علق عليه يمينه ولم يتجاوزه فإذا حلف ألا يأكل تمرا, لم يحنث إذا أكل رطبا ولا بسرا ولا بلحا وإذا حلف لا يأكل رطبا لم يحنث إذا أكل تمرا ولا بسرا ولا بلحا ولا سائر ما لا يسمى رطبا وهذا مذهب الشافعي, وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا.
فصل ولو حلف لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطفا أو لا يكلم شابا, فكلم شيخا أو لا يشتري جديا فاشترى تيسا, أو لا يضرب عبدا فضرب عتيقا لم يحنث, بغير خلاف لأن اليمين تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله: لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها.
فصل فإن حلف لا يأكل رطبا, فأكل منصفا وهو الذي بعضه بسر وبعضه تمر أو مذنبا, وهو الذي بدأ فيه الإرطاب من ذنبه وباقيه بسر أو حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك, حنث وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد والشافعي وقال أبو يوسف, وبعض أصحاب الشافعي: لا يحنث لأنه لا يسمى رطبا ولا تمرا ولنا أنه أكل رطبا وبسرا فحنث, كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردتين وما ذكروه لا يصح فإن القدر الذي أرطب رطب والباقي بسر ولو أنه حلف لا يأكل الرطب, فأكل القدر الذي أرطب من النصف حنث ولو حلف لا يأكل البسر, فأكل البسر الذي في النصف حنث وإن أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد منهما وإن حلف واحد ليأكلن رطبا, وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل الرطب ما في المنصف من الرطبة وأكل الآخر باقيها, برا جميعا وإن حلف ليأكلن رطبة أو بسرة أو لا يأكل ذلك فأكل منصفا, لم يبر ولم يحنث لأنه ليس فيه رطبة ولا بسرة.
فصل وإن حلف لا يأكل لبنا فأكل من لبن الأنعام أو الصيد, أو لبن آدمية حنث لأن الاسم يتناوله حقيقة وعرفا وسواء كان حليبا أو رائبا, أو مائعا أو مجمدا لأن الجميع لبن ولا يحنث بأكل الجبن والسمن والمصل والأقط والكشك ونحوه وإن أكل زبدا لم يحنث نص عليه وقال القاضي: يحتمل أن يقال في الزبد: إن ظهر فيه لبن, حنث بأكله وإلا فلا كما قلنا فيمن حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن وهذا مذهب الشافعي وإن حلف لا يأكل زبدا, فأكل سمنا أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث وإن كان الزبد ظاهرا فيه حنث وإن أكل جبنا, لم يحنث وكذلك سائر ما يصنع من اللبن وإن حلف لا يأكل سمنا فأكل زبدا أو لبنا, أو شيئا مما يصنع من اللبن سوى السمن لم يحنث وإن أكل السمن منفردا أو في عصيدة, أو حلواء أو طبيخ فظهر فيه طعمه حنث ولذلك إذا حلف لا يأكل لبنا, فأكل طبيخا فيه لبن أو لا يأكل خلا فأكل طبيخا فيه خل, يظهر طعمه فيه حنث وبهذا قال الشافعي وقال بعض أصحابه: لا يحنث لأنه لم يفرده بالأكل ولا يصح لأنه أكل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره, فحنث كما لو أكله ثم أكل غيره.
فصل وإن حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها حبات شعير, حنث لأنه أكل شعيرا فحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا ويحتمل أن لا يحنث لأنه يستهلك في الحنطة, فأشبه السمن في الخبيص وإن نوى بيمينه أن لا يأكل الشعير منفردا أو كان سبب يمينه يقتضي ذلك أو يقتضي أكل شعير يظهر أثر أكله, لم يحنث إلا بذلك لما قدمنا.
فصل وإن حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل كل ما يسمى فاكهة, وهي كل ثمرة تخرج من الشجرة يتفكه بها من العنب والرطب, والرمان والسفرجل والتفاح, والكمثرى والخوخ والمشمش, والأترج والتوت والنبق, والموز والجوز والجميز وبهذا قال الشافعي, وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة وأبو ثور: لا يحنث بأكل ثمرة النخل والرمان لقول الله تعالى: فصل فأما القثاء والخيار, والقرع والباذنجان فهو من الخضر, وليس بفاكهة وفي البطيخ وجهان أحدهما هو من الفاكهة ذكره القاضي وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه ينضج ويحلو, أشبه ثمر الشجر والثاني ليس من الفاكهة لأنه ثمر بقلة أشبه الخيار والقثاء وأما ما يكون في الأرض, كالجزر واللفت والفجل, والقلقاس والسوطل ونحوه, فليس شيء من ذلك فاكهة لأنه لا يسمى بها ولا هو في معناها.
فصل وإن حلف لا يأكل أدما، حنث بأكل كل ما جرت العادة بأكل الخبز به؛ لأن هذا معنى التأدم، وسواء في هذا ما يصطبغ، كالطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن، قال الله تعالى في الزيت: { وصبغ للآكلين }. وقال عليه السلام: (نعم الإدام الخل). وقال: (ائتدموا بالزيت، وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة). رواه ابن ماجه. أو من الجامدات، كالشواء والجبن والباقلاء والزيتون والبيض. وبهذا قال الشافعي، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: ما لا يصطبغ به فليس بأدم؛ لأن كل واحد منهما يرفع إلى الفم منفردا. ولنا، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الإدام اللحم). وقال: (سيد إدامكم الملح). رواه ابن ماجه. لأنه يؤكل به الخبز عادة، فكان أدما، كالذي يصطبغ به، ولأن كثيرا مما ذكرنا لا يؤكل في العادة وحده، إنما يعد للتأدم به، وأكل الخبز به، فكان أدما، كالخل واللبن. وقولهم: إنه يرفع إلى الفم وحده مفردا. عنه جوابان؛ أحدهما، أن منه ما يرفع مع الخبز، كالملح ونحوه. والثاني، أنهما يجتمعان في الفم والمضغ والبلع، الذي هو حقيقة الأكل، فلا يضر افتراقهما قبله، فأما التمر، ففيه وجهان؛ أحدهما، هو أدم؛ لما روى يوسف عن عبد الله بن سلام، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع تمرة على كسرة، وقال: (هذه إدام هذه). رواه أبو داود، وذكره الإمام أحمد. والثاني، ليس بأدم؛ لأنه لا يؤتدم به عادة، إنما يؤكل قوتا أو حلاوة. وإن أكل الملح مع الخبز فهو إدام؛ لما ذكرنا من الخبر، ولأنه يؤكل به الخبر، ولا يؤكل منفردا عادة، أشبه الجبن والزيتون .
فصل فإن حلف لا يأكل طعاما فأكل ما يسمى طعاما من قوت, وأدم وحلواء وتمر, وجامد ومائع حنث قال الله تعالى: فصل فإن حلف لا يأكل قوتا, فأكل خبزا أو تمرا أو زبيبا, أو لحما أو لبنا حنث لأن كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان ويحتمل أن لا يحنث إلا بأكل ما يقتاته أهل بلده لأن يمينه تنصرف إلى القوت المتعارف عندهم في بلدهم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإن أكل سويقا, أو استف دقيقا حنث لأنه لا يقتات كذلك ولهذا قال بعض اللصوص: لا تخبزا خبزا وبسابسا ** ولا تطيلا بمقام حبسا وإن أكل حبا يقتات خبزه, حنث لأنه يسمى قوتا ولذلك روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدخر قوت عياله لسنة وإنما يدخر الحب ويحتمل أن لا يحنث لأنه لا يقتات كذلك وإن أكل عنبا أو حصرما, أو خلا لم يحنث لأنه لم يصر قوتا.
فصل وإن حلف لا يملك مالا حنث بملك كل ما يسمى مالا, سواء كان من الأثمان أو غيرها من العقار والأثاث والحيوان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد أنه إذا نذر الصدقة بجميع ماله, إنما يتناول نذره الصامت من ماله ذكرها ابن أبي موسى لأن إطلاق المال ينصرف إليه وقال أبو حنيفة: لا يحنث إلا إن ملك مالا زكويا استحسانا لأن الله - تعالى قال: مسألة قال: [ ولو حلف لا يأكل لحما فأكل الشحم, أو المخ أو الدماغ لم يحنث, إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم فيحنث بأكل الشحم] وجملته أن الحالف على ترك أكل اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم, من الشحم والمخ وهو الذي في العظام والدماغ, وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة, والقلب والكرش والمصران, والقانصة ونحوها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يحنث بأكل هذا كله لأنه لحم حقيقة, ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ ولنا أنه لا يسمى لحما, وينفرد عنه باسمه وصفته ولو أمر وكيله بشراء لحم فاشترى هذا, لم يكن ممتثلا لأمره ولا ينفذ الشراء للموكل فلم يحنث بأكله, كالبقل وقد دل على أن الكبد والطحال ليستا بلحم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أحلت لنا ميتتان ودمان أما الدمان فالكبد والطحال) ولا نسلم أنه لحم حقيقة, بل هو من الحيوان مع اللحم كالعظم والدم فأما إن قصد اجتناب الدسم حنث بأكل الشحم لأن له دسما, وكذلك المخ وكل ما فيه دسم.
فصل ولا يحنث بأكل الألية وقال بعض أصحاب الشافعي: يحنث لأنها نابتة في اللحم وتشبهه في الصلابة وليس بصحيح لأنها لا تسمى لحما, ولا يقصد بها ما يقصد به وتخالفه في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها, كشحم البطن فأما الشحم الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف اللحم فلا يحنث بأكله في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال: اللحم لا يخلو من شحم يشير إلى ما يخالط اللحم مما تذيبه النار, وهذا كذلك وهذا قول طلحة العاقولي وممن قال: هذا شحم أبو يوسف ومحمد وقال القاضي: هو لحم يحنث بأكله, ولا يحنث بأكله من حلف لا يأكل شحما وهذا مذهب الشافعي لأنه لا يسمى شحما ولا بائعه شحاما ولا يفرد عن اللحم مع الشحم, ويسمى بائعه لحاما ويسمى لحما سمينا ولو وكل في شراء لحم, فاشتراه الوكيل لزمه ولو اشتراه الوكيل في شراء الشحم, لم يلزمه ولنا قوله تعالى: وإن أكل المرق لم يحنث ذكره أبو الخطاب قال: وقد روي عن أحمد, أنه قال: لا يعجبني الأكل من المرق وهذا على طريق الورع وقال ابن أبي موسى والقاضي: يحنث لأن المرق لا يخلو من أجزاء اللحم الذائبة وقد قيل: المرق أحد اللحمين ولنا, أنه ليس بلحم حقيقة ولا يطلق عليه اسمه فلم يحنث به, كالكبد ولا نسلم أن أجزاء اللحم فيه وإنما فيه ماء اللحم ودهنه, وليس ذلك بلحم وأما المثل فإنما أريد به المجاز كما في نظائره, من قولهم: الدعاء أحد الصدقتين وقلة العيال أحد اليسارين وهذا دليل على أنها ليست بلحم لأنه جعلها غير اللحم الحقيقي. وإن أكل رأسا أو كارعا فقد روي عن أحمد, ما يدل على أنه لا يحنث لأنه روي عنه ما يدل على أن من حلف لا يشتري لحما فاشترى رأسا أو كارعا لا يحنث, إلا أن ينوي أن لا يشتري من الشاة شيئا قال القاضي: لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول الرءوس والكوارع ولو وكله في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعا, لم يلزمه ويسمى بائع ذلك رآسا ولا يسمى لحاما وقال أبو الخطاب: يحنث بأكل لحم الخد لأنه لحم حقيقة وحكي عن أبي موسى, أنه لا يحنث إلا أن ينويه باليمين وإن أكل اللسان احتمل وجهين أحدهما, يحنث لأنه لحم حقيقة والثاني: لا يحنث لأنه ينفرد عن اللحم باسمه وصفته فأشبه القلب. قال: [فإن حلف ألا يأكل الشحم فأكل اللحم, حنث لأن اللحم لا يخلو من شحم] ظاهر كلام الخرقي أن الشحم كل ما يذوب بالنار مما في الحيوان فظاهر الآية والعرف يشهد لقوله, وهذا ظاهر قول أبي الخطاب وطلحة وقال به أبو يوسف, ومحمد بن الحسن فعلى هذا لا يكاد لحم يخلو من شيء منه وإن قل, فيحنث به وقال القاضي: الشحم هو الذي يكون في الجوف من شحم الكلى أو غيره وإن أكل من كل شيء من الشاة, من لحمها الأحمر والأبيض والألية والكبد, والطحال والقلب فقال شيخنا: لا يحنث - يعني ابن حامد - لأن اسم الشحم لا يقع عليه وهو قول أبي حنيفة, والشافعي وقد سبق الكلام في أن شحم الظهر والجنب شحم فيحنث به وأما إن أكل لحما أحمر وحده لا يظهر فيه شيء من الشحم, فظاهر كلام الخرقي أنه يحنث لأنه لا يخلو من شحم وإن قل ويظهر في الطبخ فإنه يبين على وجه المرق, وإن قل وبهذا يفارق من حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمه ولا لونه, فإن هذا قد يظهر الدهن فيه وقال غير الخرقي من أصحابنا: لا يحنث وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه والذي يظهر في المرق قد فارق اللحم, فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه. ويحنث بالأكل من الألية في ظاهر كلام الخرقي وموافقيه لأنها دهن يذوب بالنار ويباع مع الشحم, ولا يباع مع اللحم وعلى قول القاضي وموافقيه: ليست شحما ولا لحما فلا يحنث به الحالف على تركها. قال: [ وإذا حلف ألا يأكل لحما ولم يرد لحما بعينه, فأكل من لحم الأنعام أو الطيور أو السمك, حنث] أما إذا أكل من لحم الأنعام أو الصيد أو الطائر فإنه يحنث في قول عامة علماء الأمصار وأما السمك, فظاهر المذهب أنه يحنث بأكله وبهذا قال قتادة والثوري ومالك, وأبو يوسف وقال ابن أبي موسى في " الإرشاد ": لا يحنث به إلا أن ينويه وهو قول أبي حنيفة, والشافعي وأبي ثور لأنه لا ينصرف إليه إطلاق اسم اللحم ولو وكل وكيلا في شراء اللحم, فاشترى له سمكا لم يلزمه ويصح أن ينفى عنه الاسم, فيقول: ما أكلت لحما وإنما أكلت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الإطلاق كما لو حلف: لا قعدت تحت سقف فإنه لا يحنث بالقعود تحت السماء, وقد سماها الله تعالى {سقفا محفوظا} لأنه مجاز كذا ها هنا ولنا قول الله تعالى: فصل ويحنث بأكل اللحم المحرم, كلحم الميتة والخنزير والمغصوب وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد الوجهين: لا يحنث بأكل المحرم بأصله لأن يمينه تنصرف إلى ما يحل لا إلى ما يحرم فلم يحنث بما لا يحل, كما لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث ولنا, أن هذا لحم حقيقة وعرفا فيحنث بأكله كالمغصوب, وقد سماه الله - تعالى - لحما فقال: {ولحم الخنزير} وما ذكروه يبطل بما إذا حلف لا يلبس ثوبا فلبس ثوب حرير وأما البيع الفاسد, فلا يحنث به لأنه ليس ببيع في الحقيقة.
فصل والأسماء تنقسم إلى ستة أقسام أحدها ما له مسمى واحد كالرجل والمرأة والإنسان والحيوان, فهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف الثاني ما له موضوع شرعي وموضوع لغوي, كالوضوء والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والبيع ونحو ذلك فهذا تنصرف اليمين عند الإطلاق إلى موضوعه الشرعي دون اللغوي لا نعلم فيه أيضا خلافا, غير ما ذكرناه فيما تقدم الثالث ما له موضوع حقيقي ومجاز لم يشتهر أكثر من الحقيقة كالأسد والبحر, فيمين الحالف تنصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز لأن كلام الشارع إذا ورد في مثل هذا حمل على حقيقته دون مجازه كذلك اليمين الرابع, الأسماء العرفية وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة فيه فهذا على ضروب أحدها, ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالراوية, هي في العرف اسم المزادة وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من الحيوانات والظعينة في العرف المرأة, وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة وفي الحقيقة العذرة فناء الدار, ولذلك قال على عليه السلام لقوم: ما لكم لا تنظفون عذراتكم؟ يريد أفنيتكم والغائط المكان المطمئن فهذا وأشباهه تنصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يريده بيمينه, ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره الضرب الثاني أن يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم, وهذا يتنوع أنواعا فمنه ما يشتهر التخصيص فيه كلفظ الدابة هو في الحقيقة اسم لكل ما يدب, قال الله تعالى: مسألة قال: [ وإن حلف ألا يأكل سويقا فشربه, أو لا يشربه فأكله حنث, إلا أن تكون له نية] وجملته أن من حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه, فأكله فقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين إحداهما, يحنث لأن اليمين على ترك أكل شيء أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشيء فحملت اليمين عليه إلا أن ينوي, ألا ترى أن قوله تعالى: فصل وإن حلف لا يشرب شيئا, فمصه ورمى به فقد روي عن أحمد فيمن حلف لا يشرب, فمص قصب السكر: لا يحنث وقال ابن أبي موسى: إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث وهذا قول أصحاب الرأي فإنهم: قالوا إذا حلف لا يشرب, فمص حب رمان ورمى بالثفل لا يحنث لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب ويجيء على قول الخرقي: إنه يحنث لأنه قد تناوله, ووصل إلى بطنه وحلقه فإنه يحنث على ما قلنا فيمن حلف لا يأكل شيئا فشربه, أو لا يشربه فأكله وإن حلف لا يأكل سكرا فتركه في فيه حتى ذاب وابتلعه, خرج على الروايتين وإن حلف لا يطعم شيئا حنث بالأكل والشرب والمص لأن ذلك كله طعم قال الله - تعالى في النهر: وإن حلف ليأكلن أكلة بالفتح لم يبر حتى يأكل ما يعده الناس أكلة, وهي المرة من الأكل والأكلة بالضم, اللقمة ومنه: " فليناوله في يده أكلة أو أكلتين ". قال [ومن حلف بالطلاق ألا يأكل تمرة, فوقعت في تمر فأكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها, ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله] وجملته أن حالف هذه اليمين لا يخلو من أحوال ثلاثة أحدها أن يتحقق أكل التمرة المحلوف عليها فأما أن يعرفها بعينها أو بصفتها, أو يأكل التمر كله أو الجانب الذي وقعت فيه كله فهذا يحنث, بلا خلاف بين أهل العلم وبه يقول الشافعي وأبو ثور وابن المنذر, وأصحاب الرأي لأنه أكل التمرة المحلوف عليها الثاني أن يتحقق أنه لم يأكلها إما بأن لا يأكل من التمر شيئا أو أكل شيئا يعلم أنه غيرها, فلا يحنث أيضا بلا خلاف ولا يلزمه اجتناب زوجته الثالث, أكل من التمر شيئا إما واحدة أو أكثر إلى أن لا يبقى منه إلا واحدة, ولم يدر هل أكلها أم لا؟ فهذه مسألة الخرقي ولا يتحقق حنثه لأن الباقية يحتمل أنها المحلوف عليها ويقين النكاح ثابت, فلا يزول بالشك وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون حكم الزوجية باقيا, في لزوم نفقتها وكسوتها ومسكنها وسائر أحكامها إلا الوطء فإن الخرقي قال: يمنع وطأها لأنه شاك في حلها, فحرمت عليه كما لو اشتبهت عليه امرأته بأجنبية وذكر أبو الخطاب أنها باقية على الحل وهو مذهب الشافعي لأن الأصل الحل, فلا يزول بالشك كسائر أحكام النكاح ولأن النكاح باق حكما, فأثبت الحل كما لو شك هل طلق أم لا؟ وإن كانت يمينه ليأكلن هذه التمرة فلا يتحقق بره حتى يتحقق أنه أكلها. قال: [ ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط, فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه] وبهذا قال مالك, وأصحاب الرأي وقال ابن حامد: يبر لأن أحمد قال في المريض عليه الحد: يضرب بعثكال النخل ويسقط عنه الحد وبهذا قال الشافعي إذا علم أنها مسته كلها, وإن علم أنها لم تمسه كلها لم يبر وإن شك لا يحنث في الحكم لأن الله - تعالى قال: فصل ولا يبر حتى يضربه ضربا يؤلمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي: يبر بما لا يؤلم لأنه يتناوله الاسم, فوقع البر به كالمؤلم ولنا أن هذا يقصد به في العرف التأليم, فلا يبر بغيره وكذلك كل موضع وجب الضرب في الشرع في حد أو تعزير, كان من شرطه التأليم كذا ها هنا.
مسألة قال: [ ولو حلف أن لا يكلمه فكتب إليه, أو أرسل إليه رسولا حنث إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه] أكثر أصحابنا على هذا وهو مذهب مالك, والشافعي وقد روى الأثرم وغيره عن أحمد في رجل حلف أن لا يكلم رجلا, فكتب إليه كتابا قال: وأي شيء كان سبب ذلك؟ إنما ينظر إلى سبب يمينه ولم حلف إن الكتاب قد يجري مجرى الكلام, والكتاب قد يكون بمنزلة الكلام في بعض الحالات وهذا يدل على أنه لا يحنث بالكتاب إلا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي هجرانه وترك صلته, وإن لم يكن كذلك لم يحنث بكتاب ولا رسول لأن ذلك ليس بتكلم في الحقيقة وهذا يصح نفيه, فيقال: ما كلمته وإنما كاتبته أو راسلته ولذلك قال الله تعالى: وإن أشار إليه ففيه وجهان قال القاضي: يحنث لأنه في معنى المكاتبة والمراسلة في الإفهام والثاني لا يحنث ذكره أبو الخطاب لأنه ليس بكلام, قال الله تعالى لمريم عليها السلام: فإن كلم غير المحلوف عليه, بقصد إسماع المحلوف عليه فقال أحمد: يحنث لأنه قد أراد تكليمه وقد روينا عن أبي بكرة نفيع بن الحارث, أنه كان قد حلف أن لا يكلم أخاه زيادا فلما أراد زياد الحج جاء أبو بكرة إلى قصر زياد فدخل فأخذ بنيا لزياد صغيرا في حجره, ثم قال: يا ابن أخي إن أباك يريد الحج ولعله يمر بالمدينة فيدخل على أم حبيبة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا النسب الذي ادعاه, وهو يعلم أنه ليس بصحيح وأن هذا لا يحل له ثم قام فخرج وهذا يدل على أنه لم يعتقد ذلك تكليما له ووجه الأول أنه أسمعه كلامه قاصدا لإسماعه وإفهامه فأشبه ما لو خاطبه وقال الشاعر: إياك أعني فاسمعى يا جارهْ ** فإن ناداه بحيث يسمع, فلم يسمع لتشاغله أو غفلته, حنث نص عليه أحمد فإنه سئل عن رجل حلف أن لا يكلم فلانا فناداه والمحلوف عليه لا يسمع؟ قال: يحنث لأنه قد أراد تكليمه, وهذا لكون ذلك يسمى تكليما يقال: كلمته فلم يسمع وإن كان ميتا, أو غائبا أو مغمى عليه أو أصم لا يعلم بتكليمه إياه, لم يحنث وبهذا قال الشافعي وحكي عن أبي بكر أنه يحنث بنداء الميت لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمهم وناداهم وقال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ولنا قوله تعالى: فصل وإن سلم على المحلوف عليه, حنث لأن السلام كلام تبطل الصلاة به وإن سلم على جماعة هو فيهم أو كلمهم فإن قصد المحلوف عليه مع الجماعة, حنث لأنه كلمه وإن قصدهم دونه لم يحنث قال القاضي: لا يحنث, رواية واحدة وهو مذهب الشافعي لأن اللفظ العام يحتمل التخصيص فإذا نواه به فهو على ما نواه وإن أطلق, حنث وبه قال الحسن وأبو عبيد ومالك وأبو حنيفة لأنه مكلم لجميعهم لأن مقتضى اللفظ العموم, فيحمل على مقتضاه عند الإطلاق وقال القاضي: فيه روايتان وللشافعي قولان أحدهما لا يحنث لأن العام يصلح للخصوص فلا يحنث بالاحتمال والأول أولى لأن هذا الاحتمال مرجوح, فيتعين العمل بالراجح كما احتمل اللفظ المجاز الذي ليس بمشتهر فإنه لا يمنع حمله على الحقيقة عند إطلاقه فإن لم يعلم أن المحلوف عليه فيهم ففيه روايتان إحداهما, لا يحنث لأنه لم يرده فأشبه ما لو استثناه والثانية يحنث لأنه قد أرادهم بسلامه, وهو منهم وهذا بمنزلة الناسي وإن كان وحده فسلم عليه ولا يعرفه, فقال أحمد: يحنث ويحتمل أن لا يحنث بناء على الناسي والجاهل.
فصل فإن حلف لا يكلمه ثم وصل يمينه بكلامه مثل أن قال: فتحقق ذلك أو فاذهب فقال أصحابنا: يحنث وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحنث بالقليل لأن هذا تمام الكلام الأول, والذي يقتضيه يمينه أن لا يكلمه كلاما مستأنفا واحتج أصحابنا بأن هذا القليل كلام منه له حقيقة وقد وجد بعد يمينه فيحنث به, كما لو فصله ولأن ما يحنث به إذا فصله يحنث به إذا وصله, كالكثير وقولهم: إن اليمين يقتضي خطابا مستأنفا قلنا: هذا الخطاب مستأنف غير الأول بدليل أنه لو قطعه حنث به وقياس المذهب أنه لا يحنث لأن قرينة صلته هذا الكلام بيمينه, تدل على إرادة كلام يستأنفه بعد انقضاء هذا الكلام المتصل فلا يحنث به كما لو وجدت النية حقيقة وإن نوى كلاما غير هذا, لم يحنث بهذا في المذهبين.
فصل وإن صلى بالمحلوف عليه إماما ثم سلم من الصلاة لم يحنث نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال أصحاب الشافعي: يحنث لأنه شرع له أن ينوي السلام على الحاضرين ولنا, أنه قول مشروع في الصلاة فلم يحنث به كتكبيرها, وليست نية الحاضرين بسلامه واجبة في السلام وإن ارتج عليه في الصلاة ففتح عليه الحالف لم يحنث لأن ذلك كلام الله تعالى, وليس بكلام الآدميين.
فصل وإن حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: إن قرأ في الصلاة, لم يحنث وإن قرأ خارجا منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله وإن ذكر الله - تعالى, لم يحنث ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنه يحنث لأنه كلام قال الله تعالى: فصل وإن حلف لا يتكلم ثلاث ليال, أو ثلاثة أيام لم يكن له أن يتكلم في الأيام التي بين الليالي ولا في الليالي التي بين الأيام, إلا أن ينوي لأن الله - تعالى قال: ومن حلف أن لا يتكفل بمال فكفل ببدن إنسان, فقال أصحابنا: يحنث لأن المال يلزمه بكفالته إذا تعذر تسليم المكفول به والقياس أنه لا يحنث لأنه لم يكفل بمال وإنما يلزمه المال بتعذر إحضار المكفول به وأما قبل ذلك, فلا يلزمه ولأن هذا لا يسمى كفالة بالمال ولا يصح نفيها عنه, فيقال: ما تكفل بمال وإنما تكفل بالبدن وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. وإن حلف لا يستخدم عبدا, فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه فقال القاضي: إن كان عبده حنث, وإن كان عبد غيره لم يحنث وهذا قول أبي حنيفة لأن عبده يخدمه عبادة بحكم استحقاقه ذلك عليه فيكون معنى يمينه: لا منعتك خدمتي فإذا لم ينهه لم يمنعه, فيحنث وعبد غيره بخلافه وقال أبو الخطاب يحنث في الحالين لأن إقراره على الخدمة استخدام ولهذا يقال: فلان يستخدم عبده إذا خدمه, وإن لم يأمره ولأن ما حنث به في عبده حنث به في غيره, كسائر الأشياء وقال الشافعي: لا يحنث في الحالين لأنه حلف على فعل نفسه ولا يحنث بفعل غيره كسائر الأفعال. وإذا حلف رجل بالله لا يفعل شيئا فقال له آخر يميني في يمينك لم يلزمه شيء لأن يمين الأول ليست ظرفا ليمين الثاني وإن نوى أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك, لم يلزمه حكمها قاله القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية لأن تعلق الكفارة بها لحرمة اللفظ باسم الله المحترم أو صفة من صفاته ولا يوجد ذلك في الكناية, وإن حلف بطلاق فقال آخر: يميني في يمينك ينوي به أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك, انعقدت يمينه نص عليه أحمد وسئل عن رجل حلف بالطلاق لا يكلم رجلا فقال رجل: وأنا على مثل يمينك؟ فقال: عليه مثل ما قاله الذي حلف لأن الكناية تدخل في الطلاق وكذلك يمين العتاق والظهار وإن لم ينو شيئا, لم تنعقد يمينه لأن الكناية لا تعمل بغير نية وليس هذا بصريح وإن كان المقول له لم يحلف بعد وإنما أراد أنه يلزمه ما يلزم الآخر من يمين يحلف بها, فحلف المقول له لم تنعقد يمين القائل وإن كان في الطلاق والعتاق لأنه لا بد أن يكون هناك ما يكني عنه, وليس ها هنا ما يكني عنه وذكر القاضي في موضع آخر فيمن قال: أيمان البيعة تلزمني أنه إن عرفها, ونوى جميع ما فيها انعقدت يمينه بجميع ما فيها وهذا خلاف ما قاله في هذه المسألة فيكون فيها وجهان. فإن قال أيمان البيعة تلزمني فقال أبو عبد الله ابن بطة: كنت عند أبي القاسم الخرقي, وقد سأله رجل عن أيمان البيعة فقال: لست أفتي فيها بشيء ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي في هذه اليمين قال: وكان أبي, -رحمه الله- - يعني أبا علي - يهاب الكلام فيها ثم قال أبو القاسم: إلا أن يلتزم الحالف بها جميع ما فيها من الأيمان فقال له السائل: عرفها أو لم يعرفها؟ فقال: نعم وأيمان البيعة هي التي رتبها الحجاج يستحلف بها عند البيعة والأمر المهم للسلطان (وكانت البيعة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين بالمصافحة) فلما ولي الحجاج رتبها أيمانا تشتمل على اليمين بالله والطلاق والعتاق وصدقة المال فمن لم يعرفها, لم تنعقد يمينه بشيء مما فيها لأن هذا ليس بصريح في القسم والكناية لا تصح إلا بالنية ومن لم يعرف شيئا لم يصح أن ينويه وإن عرفها, ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم يصح أيضا لما ذكرناه ومن عرفها ونوى اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق لأن اليمين بها تنعقد بالكناية, وما عدا ذلك من اليمين بالله - تعالى وما عدا الطلاق والعتاق فقال القاضي ها هنا: تنعقد يمينه أيضا لأنها يمين, فتنعقد بالكناية المنوية كيمين الطلاق والعتاق وقال في موضع آخر: لا تنعقد اليمين بالله بالكناية وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة وجبت فيها لما ذكر فيها من اسم الله العظيم المحترم ولا يوجد ذلك في الكناية والله أعلم.
|