الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)
.ذكر حصار الإفرنج عكا: كان قد اجتمع بصور أهل البلاد التي أخذها السلطان بالأمان فكثر جمعهم حتى ساروا في عالم لا تحصى كثرته وأرسلوا إلى البحرين يستنجدون وصوروا صورة المسيح وصورة عربي يضرب المسيح وقد أدماه وقالوا هذا نبي العرب يضرب المسيح فخرجت النساء من بيوتهن ووصل من الإفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة وساروا إلى عكا من صور ونازلوها في منتصف رجب من هذه السنة وضايقوا عكا وأحاطوا بسورها من البحر إلى البحر ولم يبق للمسلمين إليها طريق فسار إليهم السلطان ونزل قريب الإفرنج وقاتلهم في مستهل شعبان وباتوا على ذلك وأصبحوا فحمل تقي الدين صاحب حماة في ميمنة السلطان على الإفرنج فأزالهم عن موقفهم والتصق بالسور وانفتح الطريق إلى المدينة يدخل المسلمون ويخرجون وأرسل السلطان إلى عكا عسكر نجدة ولحق من جملتهم أبو الهيجاء السمين وبق المسلمون يغادون القتال ويراحونه إلى العشرين من شعبان ثم كان بين المسلمين وبينهم وقعة عظيمة فإن الإفرنج اجتمعوا وضربوا مع السلطان مصاف وحملوا على القلب فأزالوه وأخذوا يقتلون في المسلمين إلى أن بلغوا خيمة السلطان وانحاز السلطان إلى جانب وانضافت إليه جماعة وانقطع مدد الإفرنج واشتغلوا بقتال الميمنة فحمل السلطان على الإفرنج الذين خرقوا القلب وعطف عليهم العسكر فأفنوهم قتلاً وكان قتلى الإفرنج نحو عشرة آلاف نفس ووصل المنهزمون بعضهم إلى طبرية وبعضهم وصل إلى دمشق.وجافت الأرض بعد هذه الوقعة ولحق السلطان مرض وحدث له قولنج فأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الموضع فوافقهم ورحل من عكا رابع عشر شهر رمضان إلى الخروبة فلما رحل تمكن الإفرنج من حصار عكا وانبسطوا في تلك الأرض. وفي تلك الحال وصل أسطول للمسلمين في البحر مع حسام الدين لؤلؤ وكان شهماً فظفر ببطسة للإفرنج فأخذها ودخل بها إلى عكا فقويت قلوب المسلمين وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر إلى أخيه السلطان فقويت نفوس المسلمين بوصوله..ذكر غير ذلك من الحوادث: فيها توفي بالخروبة الفقيه عيسى وكان مع السلطان وهو من أعين عسكره وكان جندياً فقيهاً شجاعاً وكان من أصحاب الشيخ أبي القاسم البرزي.ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة وفيها رحل السلطان عن الخروبة وعاد إلى قتال الإفرنج على عكا وكان الإفرنج قد عملوا قرب سور عكا ثلاثة أبراج طول البرج ستون ذراعاً جاءوا بخشبها من جزائر البحر وعملوها طبقات وشحنوها بالسلاح والمقاتلة وألبسوها جلود البقر والطين بالخل لئلا تعمل فيها النار فتحيل المسلمون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح ثم أحرقوا الثاني والثالث وانبسطت نفوس المسلمين بذلك بعد الكآبة ووصلت إلى السلطان العساكر من البلاد وبلغ المسلمين وصول ملك الألمان وكان قد سار من بلاده وراء القسطنطينية بمائة ألف مقاتل فاهتم المسلمون لذلك وأيسوا من الشام بالكلية فسلط الله تعالى على الألمان الغلاء والوباء فهلك أكثرهم في الطريق. ولما وصل ملكهم إلى بلاد الأرمن نزل في نهر هناك يغتسل فغرق وأقاموا ابنه مقامه فرجع من عسكره طائلة إلى بلادهم ولم يصل مع ابن ملك الألمان إلى الإفرنج الذين على عكا غير قدر ألف مقاتل وكفى الله المسلمين شرهم وبقي السلطان والإفرنج على عكا يتناوشون القتال إلى العشرين من جمادى الآخرة فخرجت الإفرنج من خنادقهم بالفارس والراجل وأزالوا الملك العادل عن موضعه وكان معه عسكر مصر فعطفت عليهم المسلمون وقتلوا من الإفرنج خلقاً كثيراً فعادوا إلى خنادقهم وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمته ولولا ذلك لكانت الفيصلة ولكن إذا أراد الله أمراً فلا مرد له..ذكر غير ذلك من الحوادث: وفي هذه السنة لما قوي الشتاء واشتدت الرياح أرسل الإفرنج المحاصرون عكا مراكبهم إلى صور خوفاً عليها أن تنكسر وانفتح الطريق إلى عكا في البحر وأرسل البدل إليها وكان العسكر الذين خرجوا منها أضعاف الواصلين إليها فحصل التفريط بذلك لضعف البدل.وفيها في ثامن شوال توفي زين الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك صاحب إربل وكان مع السلطان بعسكره ولما توفي أقطع السلطان إربل أخاه مظفر الدين علي كوكبوري بن زين الدين علي كوجك وأضاف إليه شهرزور وأعمالها وارتجع ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها وسار مظفر الدين إلى إربل وملكها.وفيها أقطع السلطان ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرها وسميساط والموزر الملك المظفر تقي الدين عمر زيادة على ما في يده وهو ميافارقين ومن الشام حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس وبكراس..ذكر استيلاء الإفرنج على عكا: ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة واستمر حصار الإفرنج لعكا إلى هذه السنة وكانوا قد أحاطوا بها من البحر إلى البحر وحفروا عليها خندقاً فلم يتمكن السلطان من الوصول إليهم وكانوا محاصرين لعكا وهم كالمحصورين من خارجهم من السلطان واشتد حصارهم لعكا وضعف من بها عن حفظ البلد وعجز السلطان عن دفع العدو عنهم فخرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وطلب الأمان من الإفرنج على مال وأسرى يقومون بها للإفرنج فأجابوهم إلى ذلك وصعدت أعلام الإفرنج على عكا ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرى من هذه السنة واستولوا على البلد بما فيه وحبسوا المسلمين في أماكن من البلد وقالوا إنما نحبسهم ليقوموا بالمال والأسرى وصليب الصلبوت وكتبوا إلى السلطان بذلك فحصل ما أمكن تحصيله من ذلك وطلب منهم إطلاق المسلمين فلم يجيبوا إلى ذلك فعلم منهم الغدر واستمر أسر المسلمين ثم قتل الإفرنج منهم جماعة كثيرة واستمر الباقون في الأسر.وبعد استيلاء الإفرنج وتقرير أمرها رحلوا عنها مستهل شعبان نحو قيسارية والمسلمون يساورونهم ويتخطفون منهم ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف أزالوا المسلمين عن موقفهم ووصلوا إلى سوق المسلمين فقتلوا من السوقة خلقاً كثيراً ثم سار الإفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون فملكوها.ثم رأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة لئلا يحصل لها ما حصل لعكا فسار إليها وأخلاها وخربها ورتب الحجارين في تقليع أسوارها وتخريبها فدكها إلى الأرض ولما فرغ السلطان من تخريب عسقلان رحل ثاني شهر رمضان إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد ثم سار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالنطرون ثامن شهر رمضان ثم تراسل الإفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل بأخت ملك الأنكتار ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن يتنصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال ثم رحل الإفرنج من يافا إلى الرملة وبقوا كل يوم يقع بين المسلمين وبينهم مناوشات فلقوا من ذلك شدة شديدة وأقبل الشتاء وحالت الأوحال بينهم فلما رأى السلطان ذلك وقد ضجرت العساكر أعطاهم الدستور وسار إلى القدس لسبع بقين من ذي القعدة ونزل داخل البلد واستراحوا مما كانوا فيه وأخذ السلطان في تعمير القدس وتحصينه وأمر العسكر بنقل الحجارة وكان السلطان ينقل الحجارة بنفسه على فرسه ليقتدي به العسكر فكان يجتمع عند العمال في اليوم الواحد ما يكفيهم عدة أيام..ذكر وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر: كان الملك المظفر قد سار إلى البلاد المرتجعة من كوكبوري التي زاده إياها عمه السلطان من وراء الفرات وهي حران وغيرها فامتدت عين الملك المظفر إلى بلاد مجاوريه واستولى على السويداء وحاني والتقى مع بكتمر صاحب خلاط فكسره وحاصره بخلاط وتملك معظم البلاد ثم رحل عنها ونازل ملاذكرد وهي لبكتمر وضايقها وكان في صحبته ولده الملك المنصور محمد فعرض للملك المظفر مرض شديد وتزايد عليه حتى توفي به يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان من هذه السنة وأخفى الملك المنصور وفاته ورحل عن ملاذكرد ووصل إلى حماة ودفنه بظاهرها وبنى إلى جانب التربة مدرسة وذلك مشهور هناك.وكان الملك المظفر شجاعاً شديد البأس ركناً عظيماً من أركان البيت الأيوبي وكان عنده فضل وأدب وله شعر حسن واتفق في ليلة الجمعة التي توفي فيها الملك المظفر أن توفي حسام الدين بن محمد بن لاجين وأمه ست الشام بنت أيوب أخت السلطان فأصيب السلطان في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته.ولما مات الملك المظفر راسل ابنه الملك المنصور السلطان واشترط شروطاً نسبه السلطان فيها إلى العصيان وكاد أمره يضمحل بالكلية فراسل الملك المنصور عمه الملك العادل في استعطاف خاطر السلطان فما برح العادل بأخيه السلطان يراجع ويشفع في الملك المنصور حتى أجابه السلطان وقرر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم وارتجع السلطان البلاد الشرقية وما معها وأقطعها أخاه العادل بعد أن شرط السلطان أن العادل ينزل عن كل ماله من الإقطاع بالشام خلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء ونصف خاصه بمصر وأن يكون عليه في كل سنة ستة آلاف غرارة تحمل من الصلت والبلقاء إلى القدس ولما استقر ذلك سار الملك العادل إلى البلاد الشرقية لتقرير أمورها وعاد إلى خدمة السلطان في آخر جمادى الآخرة من السنة القابلة أعني سنة ثمان وثمانين ولما قدم الملك العادل على السلطان كان الملك المنصور صاحب حماة صحبته فلما رأى السلطان الملك المنصور نهض واعتنقه وغشيه البكاء وأكرمه وأنزله في مقدمة العسكر..ذكر غير ذلك من الحوادث: في هذه السنة في شعبان قتل قزل أرسلان واسمه عثمان بن الدكز وهو الذي ملك أذربيجان وهمذان وأصفهان والري بعد أخيه محمد بن البهلوان وكان قد قوي عليه السلطان طغريل السلجوقي وهزم عسكر بغداد كما تقدم ذكره، ثم إن قزل أرسلان تغلب واعتقل السلطان طغريل في بعض البلاد وسار قزل أرسلان بعد ذلك إلى أصفهان وتعصب على الشفعوية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة ودخل لينام على فراشه وتفرق عنه أصحابه فدخل إليه من قتله على فراشه ولم يعلم قاتله.وفيها قدم معز الدين قيصرشاه بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم إلى صلاح الدين. وسببه أن والده فرق مملكته على أولاده وأعطى ولده هذا ملطية ثم تغلب بعض أخوته على أبيه وألزمه بأخذه ملطية من أخيه المذكور فخاف من ذلك وسار إلى السلطان ملتجئاً إليه فأكرمه السلطان وزوجه بابنة أخيه الملك العادل وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة. قال ابن الأثير لما ركب صلاح الدين ليودع معز الدين قيصر شاه ترجل معز الدين وترجل السلطان، ولما ركب السلطان عضده قيصر شاه وأركبه وكان علاء الدين بن عز الدين مسعود صاحب الموصل مع السلطان إذ ذاك، فسوى ثياب السلطان أيضاً فقال بعض الحاضرين في نفسه ما بقيت تبالي يا ابن أيوب بأي موتة تموت يركبك ملك سلجوقي ويصلح قماشك ابن أتابك زنكي وفيها قتل أبو الفتح يحيى الملقب شهاب الدين السهروردي الحكيم الفيلسوف بقلعة حلب محبوساً أمر بخنقه الملك الظاهر غازي بأمر والده السلطان، قرأ المذكور الأصولين والحكمة بمراغة على مجد الدين ثم سافر إلى حلب وكان علمه أكبر من عقله، فنسب إلى انحلال العقيدة وأنه يعتقد مذهب الفلاسفة فأفتى الفقهاء بإباحة دمه لما ظهر من سوء مذهبه واشتهر عنه، وكان أشدهم في ذلك زين الدين ومجد الدين ابنا جهبل. حكى الشيخ سيف الدين الآمدي قال اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي لابد أن أملك الأرض فقلت من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر فقلت لعل ذلك يكون اشتهار علمك وما يناسب هذا فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه ووجدته كثير العلم قليل العقل، كان عمره لما قتل ثمانية وثلاثين سنة وله عدة مصنفات في الحكمة منها التلويحات والتنقيحات والمشارع والمطارحات وكتاب الهياكل وحكمة الإشراق وكان يزعم أنه يعرف السيمياء وله نظم حسن.ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وفيها سارت الإفرنج إلى عسقلان، وشرعوا في عمارتها في محرم والسلطان بالقدس، وفيها قتل المركيس صاحب صور لعنه الله تعالى قتله الباطنية وكانوا قد دخلوا في زي الرهبان إلى صور.
|