الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)
.ذكر عقد الهدنة مع الإفرنج وعود السلطان إلى دمشق: وسبب ذلك أن ملك الأنكتار مرض وطال عليه البيكار فكتب إلى الملك العادل يسأل الدخول على السلطان في الصلح فلم يجب السلطان إلى ذلك ثم اتفق رأي الأمراء على ذلك لطول البيكار وضجر العسكر وكثرة نفقاتهم فأجاب السلطان إلى ذلك واستقر أمر الهدنة في يوم السبت ثامن عشر شعبان وتخلفوا على ذلك في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان ولم يحلف ملك الأنكتار بل أخذوا يده واعتذر بأن الملوك لا يحلفون وقنع السلطان بذلك وحلف الكندهري ابن أخته وخليقة في الساحل وكذلك حلف غيره من عظماء الإفرنج ووصل ابن الهنغري وباليان إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من المقدمين وأخذوا يد السلطان واستحلفوا الملك العادل والملكين الأفضل والظاهر والملك المنصور والملك المجاهد شيركوه صاحب حمص والأمجد بهرام شاره بن فرخشاه صاحب بعلبك والأمير بدر الدين دلدرم الياروقي صاحب تل باشر والأمير سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيزر والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وغيرهم من المقدمين الكبار وعقدت الهدنة عامة في البحر والبر وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر أولها أيلول الموافق للحادي والعشرين من شعبان.وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الإفرنج يافا وعملها وقيسارية وعملها وحيفا وعملها وعكا وعملها وأن تكون عسقلان خراباً واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته واشترط الإفرنج دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم وأن تكون لد والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين فاستقر القاعدة على ذلك.ثم رحل السلطان إلى القدس في رابع شهر رمضان وتفقد أحواله وأمر بتسديد أسواره وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصند حنة يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم ثم صارت في الإسلام دار علم قبل أن يتملك الإفرنج القدس ثم لما ملك الإفرنج القدس أعادها كنيسة كما كانت قبل الإسلام فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة وفوّض تدريسها ووقفها إلى القاضي بهاء الدين ابن شداد.ولما استقر أمر الهدنة أرسل السلطان مائة من الحجارين لتخريب عسقلان وأمر أن يخرج من بها من الإفرنج وعزم على الحج والإحرام من القدس وكتب إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن بذلك ثم ثبطه الأمراء وقالوا لا نعتمد على هدنة الإفرنج خوفاً من غدرهم فانتقض عزمه عن ذلك.ثم رحل السلطان عن القدس لخمس مضت من شوال إلى نابلس ثم إلى بيسان ثم إلى كوكب فبات بقلعتها ثم رحل إلى طبرية ولقيه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي وقد خلص من الأسر وكان قد أسر بعكا لما أخذها الإفرنج مع من أسر، فسار قراقوش مع السلطان إلى دمشق ثم سار منها إلى مصر.ثم سار السلطان إلى بيروت ووصل إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية يوم السبت الحادي والعشرين من شوال فأكرمه السلطان وفارقه في غد ذلك اليوم وسار السلطان إلى دمشق ودخلها يوم الأربعاء لخمس بقين من شوال وفرح الناس به لأن غيبته عنهم كانت مدة أربع سنين وأقام العدل والإحسان بدمشق وأعطى السلطان العساكر الدستور فودعه ولده الملك الظاهر وداعاً لا لقاء بعده وسار إلى حلب وبقي عند السلطان بدمشق ولده الأفضل والقاضي الفاضل وكان الملك العادل قد استأذن السلطان وسار من القدس إلى الكرك لينظر إلى مصالحه ثم عاد إلى دمشق طالباً البلاد الشرقية التي سارت له بعد تقي الدين فوصل إلى دمشق في الحادي والعشرين من ذي القعدة وخرج السلطان للقائه. وفي يوم الخميس السادس والعشرين من شوال من هذه السنة توفي الأمير سيف الدين المشطوب بنابلس وكانت إقطاعه فوقف السلطان ثلث نابلس على مصالح القدس وأقطع الباقي للأمير عماد الدين أحمد بن المشطوب وأميرين معه..ذكر وفاة السلطان عز الدين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم وأخبار الذين تولوا بعده: في هذه السنة أعني سنة ثمان وثمانين وخمسمائة في منتصف شعبان توفي السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان ابن قطلومس بن أرسلان بيغو بن سلجوق وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وكان ذا سياسة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة وكان له عشر بنين قد ولى كل واحد منهم قطراً من بلاد الروم وأكبرهم قطب الدين ملكشاه بن قليج أرسلان المذكور وكان قد أعطاه أبوه سيواس فسولت له نفسه القبض على أبيه وأخوته والانفراد بالسلطنة وساعده على ذلك صاحب أرزنكان فسار قطب الدين ملكشاه وهجم على والده قليج أرسلان بمدينة قونية وقال لولده وهو في قبضته أنا بين يديك أنفذ أوامرك ثم أنه أشهد على والده بأنه جعله ولي عهده ثم سار إلى حرب أخيه نور الدين سلطان شاه صاحب قيسارية ووالده في القبضة معه وهو يظهر أن ما يفعله إنما هو بأمر والده فخرج عسكر قيسارية لحربه فوجد أبوه عز الدين قليج أرسلان عند اشتغال العسكر بالقتال فرصة فهرب إلى ولده سلطان شاه صاحب قيسارية فأكرمه وعظمه كما يجب عليه فرجع قطب الدين ملكشاه إلى قونية وخطب لنفسه بالسلطنة وبقي أبوه يتردد في بلاده بين أولده كلما ضجر منهم واحد ينتقل إلى الآخر حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب برغلو فقوي أباه قليج وأعطاه وجمع له وحشد وسار معه إلى قونية فملكها وأخذها من ابنه ملكشاه ثم سار إلى أقصرا واتفق أن عز الدين قليج أرسلان مرض ومات في التاريخ المذكور فأخذه ولده كيخسرو وعاد به إلى قونية فدفنه بها واتفق موت ملكشاه بعد موت أبيه بقليل فاستقر كيخسرو في ملك قونية إذ أثبت أنه ولي عهد أبيه ثم أن ركن الدين سليمان أخا غياث الدين كيخسرو قوي على أخيه كيخسرو وأخذ منه قونية فهرب كيخسرو إلى الشام مستجيراً بالملك الظاهر صاحب حلب ثم مات ركن الدين سليمان سنة ستمائة وملك بعده ولده قليج أرسلان بن سليمان فرجع كيخسرو إلى بلاد الروم وأزال ملك ابن سليمان وملك بلاد الروم جميعها واستقرت له السلطنة ببلاد الروم وبقي كذلك إلى أن قتل وملك بعده ابنه عز الدين كيكاووس بن كيخسرو ثم توفي كيكاووس وملك بعده أخوه السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو وتوفي كيقباد سنة أربع وثلاثين وستمائة وملك بعده ولده غياث الدين كيخسرو وكسره التتر سنة إحدى وأربعين وستمائة وتضعضع حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم ثم مات غياث الدين كيخسرو وانقضى بموته سلاطين بلاد الروم في الحقيقة لأن من صار بعده لم يكن له من السلطنة غير مجرد الاسم وخلف كيخسرو المذكور صبيين هما ركن الدين وعز الدين فملكا معاً مدةً مديدة ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة وهرب أخوه عز الدين إلى القسطنطينية وتغلب على ركن الدين معين الدين البرواناه والبلاد في الحقيقة للتر ثم إن البرواناه قتل ركن الدين وأقام ابناً لركن الدين يخطب له بالسلطنة والحكم للبرواناه وهو نائب للتر على ما نذكره إن شاء الله تعالى..ذكر غير ذلك من الحوادث: وفي هذه السنة غزا شهاب الدين الغوري الهند فغنم وقتل ما لا يحصى وفيها خرج السلطان طغريل من الحبس بعد قتل قزل أرسلان بن الدكز وكان قزل قد اعتقله حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وثمانين وخمسمائة. وفيها توفي راشد الدين سليمان بن محمد وكنيته أبو الحشر صاحب دعوة الإسماعيلية بقلاع الشام وأصله من البصرة..ذكر وفاة الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب: ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة والسلطان بدمشق على أكمل ما يكون من المسرة وخرج إلى شرقي دمشق متصيداً وغاب خمسة عشر يوماً وصحبته أخوه الملك العادل ثم عاد إلى دمشق وودعه أخوه الملك العادل وداعاً لا لقاء بعده فمضى إلى الكرك وأقام به حتى بلغه وفاة السلطان وأقام السلطان بدمشق وركب في يوم الجمعة خامس عشر صفر وتلقى الحجاج وكان عادته أن لا يركب إلا وهو لابس كزاغند فركب ذلك اليوم وقد اجتمع بسبب ملتقى الحجاج وركوبه عالم عظيم ولم يلبس الكزاغند ثم ذكره وهو راكب فطلب الكزاغند فلم يجده قد حملوه معه ولما التقى الحجاج استعبرت عيناه كيف فاته الحج ووصل إليه مع الحجاج ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن ثم عاد السلطان بين البساتين إلى جهة المنيبع ودخل إلى القلعة على الجسر وكانت هذه آخر ركباته فلحقه ليلة السبت سادس عشر صفر كل عظيم وغشيته نصف الليل حمى صفراوية وأخذ المرض في التزايد وقصده الأطباء في الرابع فاشتد مرضه وحدث به في التاسع رعشة وغاب ذهنه وامتنع من تناول المشروب واشتد الإرجاف في البلد وغشي الناس من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن حكايته وحقن في العاشر حقنتين فحصل له راحة وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً ثم لحقه عرق عظيم حتى نفذ من الفراش واشتد المرض ليلة الثاني عشر من مرضه وهي ليلة السابع والعشرين من صفر وحضر عنده الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده في القلعة بحيث إذا احتضر في الليل ذكره بالشهادة وتوفي السلطان في الليلة المذكورة أعني في الليلة المسفرة عن نهار الأربعاء السابع والعشرين من صفر بعد صلاة الصبح وبادر القاضي الفاضل بعد صلاة الصبح فحضر وفاته ووصل القاضي بهاء الدين بن شداد بعد وفاته وانتقاله إلى رحمة الله تعالى وكرامته وغسله الفقيه الدولعي خطيب دمشق وأخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء المذكور في تابوت مسجي بثوب وجميع ما احتاجه من الثياب في تكفينه أحضره القاضي الفاضل من جهة حل عرفها وصلى الناس عليه ودفن في قلعة دمشق في الدار التي كان مريضاً فيها وكان نزوله إلى جدثه وقت صلاة العصر من النهار المذكور.وكان الملك الفاضل ابنه قد حلف الناس له قبل وفاة والده عندما اشتد مرضه وجلس للعزاء في القلعة وأرسل الملك الأفضل الكتب بوفاة والده إلى أخيه العزيز عثمان بمصر وإلى أخيه الظاهر غازي بحلب وإلى عمه والملك العادل بالكرك ثم إن الملك الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع وكانت دار لرجل صالح ونقل إليها السلطان يوم عاشوراء سنة اثنين وتسعين وخمسمائة ومشى الملك الأفضل بين يد تابوته وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد وأدخل ووضع قدام المنبر وصلى عليه القاضي محيي الدين ابن القاضي زكي الدين ثم دفن وجلس ابنه الملك الأفضل في الجامع للعزاء ثلاثة أيام وأنفقت ست الشام بنت أيوب أخت السلطان في هذه النوبة مالاً عظيماً.وكان مولد السلطان صلاح الدين بتكريت في شهور سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة وكان عمره تقريباً من سبعة وخمسين سنة وكان مدة ملكه للديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة وملكه للشام تقريباً من تسع عشرة سنة وخلف سبعة عشر ولداً ذكراً وبنتاً واحدة، وكان أكبر أولاده الملك الأفضل نور الدين علي بن يوسف ولد بمصر سنة خمس وستين وخمسمائة وكان العزيز عثمان أصغر منه بنحو سنتين وكان الظاهر صاحب حلب أصغر منها وبقيت البنت حتى تزوجها ابن عمها الملك الكامل صاحب مصر.ولم يخلف السلطان صلاح الدين في خزانته غير سبعة وأربعين درهماً وجرم واحد صوري وكان من دخل الديار المصرية والشام وبلاد الشرق واليمن دليل قاطع على فرط كرمه ولم يخلف داراً ولا عقاراً. قال العماد الكاتب: حسبت ما أطلقه السلطان في مدة مقامه بمرج عكا من حيل عراب وأكاديش فكان اثنى عشر ألف رأس وذلك غير ما أطلقه من أثمان الخيل المصابة في القتال فلم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به.ولم يؤخر صلاة عن وقتها ولا صلى إلا في جماعة وكان إذا عزم على أمر توكل على الله ولا يفضل يوماً على يوم وكان كثير سماع الحديث النبوي وقرأ مختصراً في الفقه تصنيف سليم الرازي وكان حسن الخلق صبوراً على ما يكرهه كثير التغافل عن أصحابه يسمع من أحدهم ما يكرهولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه. كان يوماً جالساً فرمى بعض المماليك بعضاً بالسر موزة فأخطأته ووصلت إلى السلطان ووقفت بالقرب منه فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها وكان طاهر المجلس فلا يذكر أحداً بمجلسه إلا بخير وطاهر اللسان فما ولع يشتم قط. قال العماد الكاتب: مات بموت السلطان الرجال. وفات بفواته الأفضال. وغاضت الأيادي. وفاضت الأعادي. وانقطعت الأرزاق. وادلهمت الآفاق. وفجع الزمان بواحده وسلطانه. ورزئ الإسلام بمشيد أركانه..ذكر ما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان: ولما توفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين استقر في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها ولده الملك فيصل نور الدين علي وبالديار المصرية الملك العزيز عثمان وبحلب الملك الظاهر غياث الدين غازي وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي وبيد الملك خضر بن السلطان صلاح الدين بصرى وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل وبيد جماعة من أمراء الدولة بلاد وحصون منهم سابق الدين عثمان ابن الداية بيد شيزر وأبو قبيس وناصر الدين بن كورس بن خماردكين بيده صهيون وحصن برزية وبدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياورق بيده تل باشر وعز الدين سامة بيده كوكب وعجلون وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين المقدم بيد بغراس وكفرطاب وفامية.والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان والمعهود إليه السلطنة أو استوزر الملك الأفضل ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير مصنف المثل السائر وهو أخو عز الدين بن الأثير مؤلف التاريخ المسمى بالكامل فحسن الملك الأفضل طرد أمراء أبيه ففارقوه إلى أخويه العزيز والظاهر قال اجتمعت أكابر الأمراء بمصر وحسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة ووقعوا في أخيه الأفضل فمال إلى ذلك وحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز.تم بحمد الله وعونه والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
|