الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي
.تفسير الآيات (265- 267): {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}{وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} طلب رضا الله {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} قال الشعبي والكلبي والضحاك: يعني تصديقاً من أنفسهم يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم يعلمون أن ما أخرجوا خيراً لهم ممّا تركوا.السدي وأبو صالح وأبو روق وابن زيد والمفضّل: على يقين إخلاف الله عليهم. قتادة: احتساباً بإيمان من أنفسهم، عطاء ومجاهد: مثبّتون أي لا يضيّعون أموالهم، وكذلك قرأ مجاهد: وتثبيتاً لأنفسهم.قال الحسن: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت إن كان لله أعطى وإن خالطه شيء أمسك، وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت كقوله عزّ وجلّ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] أي تبتّلاً.سعيد بن جبير وأبو مالك: تخفيفاً في ذنبهم. ابن كيسان: إخلاصاً وتوطيناً لأنفسهم على طاعة الله عزّ وجلّ في نفقاتهم، الزجاج: ينفقونها مقرّين بأن الله عزّ وجلّ رقيب عليهم.وأصل هذه الكلمة من قول السائل: ثبت فلان في هذا الأمر إذا حققه وثبت عليه وعزمه وقوي عليه بذاته.{كَمَثَلِ جَنَّةٍ} أي بستان. قال الفراء: إذا كان في البستان نخل فهو جنّة، وإذا كان كرم فهو فردوس.وقول مجاهد: كمثل حبّة بالحاء والباء {بِرَبْوَةٍ} قرأ السليمي والعطاردي والحسن وعاصم وابن عامر: {بِرَبْوَةٍ} بفتح الراء هاهنا وفي سورة المؤمنين وهي لغة بني تميم.وقال أبو جعفر وشيبة ونافع وابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو ويعقوب وأيوب بضم الراء فيهما. واختاره أبو حاتم وأبو عبيد لأنّها أكمل اللغات وأشهرها، وقول ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي وابن أبي إسحاق: بربوة، وقرأ أشهب العقيلي: برباوة بالألف وكسر الراء فيها. وهي جميعاً المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار ولا يخلو من الماء. وإنّما سمّيت ربوة لأنّها ربت وطابت وعلت، من قولهم ربا الشيء يربو إذا انتفخ وعظم، وإنّما جعلها بربوة لأن النبات عليها أحسن وأزكى.{أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر شديد كثير {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {أُكُلَهَا} بالتخفيف والباقون بالتشديد وهو الثمر.قال المفضّل: الأكل: كثرة مافي الشيء ممّا يجود ويقوى به، يقال: ثوب كثير الأكل، أي كثير الغزل. ومعناه: وأعطت ثمرها ضعفين والضعف في الحمل.قال عطاء: حملت في سنة من الريع ما تحمل غيرها في سنتين. قال عكرمة: حملت في السنة مرّتين.{فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي فطشّ وهو أضعف المطر وألينه.قال السدي: هو الندى.أبو سلام عبد الملك بن سلام عن زيد بن أسلم في قوله: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قال: هي أرض مصر إن لم يصبها مطر زكت وإن أصابها مطر ضعفت، وهذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ لعمل المؤمن المخلص، يقول: كما أن هذه الجنّة تريع في كلّ حال ولا تخلف ولا تُخيّب صاحبها سواء قلّ المطر أو كثر، كذلك يُضاعف الله عزّ وجلّ ثواب صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمنّ ولا يُوذي سواء قلّت نفقته وصدقته أو كثرت فلا تخيب بحال.{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} هذه الآية متصلة بقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى}. الآية {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}.{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَأَصَابَهُ الكبر} وإنّما قال: {وَأَصَابَهُ} فردّ الماضي على المستقبل؛ لأن العرب تلفظ توددت مرّة مع {لو} وهي الماضي فتقول: وددت لو ذهبتَ عنّا، ومرّة مع {أن} وهي للمستقبل فتقول: وددت أن تذهب عنّا، و{لو} و{أن} مضارعان في معنى الجزاء، ألا ترى أنّ العرب فيما جمعت بين {لو} و{أن} قال الله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} [آل عمران: 30]. الآية كما تجمع بين {ما} و{أن} وهما جحد.قال الشاعر: فلما جاز ذلك صلح أن يقال: فعل بتاويل يفعل ويفعل بتأويل فعل، وان ينطق ب {لو} عنها ما كان {أن} وب {أن} مكان {لو}.فمعنى الآية: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} لو كان له جنّة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كلّ الثمرات {وَأَصَابَهُ الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} أولاد صغار {ضُعَفَآءُ} عجزة {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} وهي الريح العاصف التي تهب من الأرض إلى السماء كأنّها عمود.قال الكميت: وجمعه أعاصير.قال يزيد بن المقرّع الحميري. وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق المرائي، يقول: عمل هذا المرائي لي حسنة لحين الجنّة فينتفع بها كما ينتفع صاحب الجنّة بها وإذا كبر وضعف وصار له أولاد صغار أصاب جنته إعصار {فِيهِ نَارٌ فاحترقت} أخرج ما كان إليها وضعف عن إصلاحها لِكِبَره وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ولم يجد هو ما يعود على أولاده به، ولا أولاده ما يعودون به على أبيهم فينتفي هو وأولاده فقراً عجزه متحيّرين لا يقدرون على حيلة، فكذلك يبطل الله على هذا المنافق والمرائي حين لا مستعتب له ولا توبة ولا إقالة من عبرتهما وديونهما.قال عبيد بن عمير: ضربت مثلاً للعمل يبدأ فيعمل عملاً صالحاً فيكون مثلاً للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات، ثم يسيء في آخر عمره، فيتمادى في الإساءة حتّى يموت على ذلك، فيكون الأعصار الذي فيه نار التي أحرقت الجنة مثلاً لإساءته التي مات وهو عليها.{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ} تصدّقوا {مِن طَيِّبَاتِ} خيار وجياد نظير قوله: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. ابن مسعود ومجاهد: حلالات، دليله قوله: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51].{ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم وإن الله طيّب لا يقبل إلاّ طيباً، لا يكسب عبد مالاً من حرام فيتصدّق منه، فيقبل منه ولا ينفق منه، فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلاّ كان زاده إلى النار، وأن لا يمحو السيء بالسيء ولكنّه يمحو السيء بالحسن والخبيث لا يمحو به الخبيث».{مَا كَسَبْتُمْ} بالتجارة والصناعة من الذهب والفضّة.قال عبيد بن رفاعة: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر التجّار أنتم فجّار إلا من أتقى وبرّ وصَدّق وقال هكذا وهكذا وهكذا».وقال قيس بن عروة الغفاري: «كنّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة نُسمّي أنفسنا السماسرة فسمّانا رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم هو أحسن من إسمنا فقال: يا معشر التجّار، إنّ هذا البيع يحضره اللهو والكذب واليمين فشوبوه بالصدقة».مكحول عن أبي إمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخير عشرة أجزاء أفضلها التجارة؛ إذا أخذ الحق وأعطاه» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي في السابياء».ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش لا يغلبنّكم هذه الموالي على التجارة وإنّ البركة في التجارة وصاحبها لا يفتقر إلاّ تاجر خلاّف مهين».عاصم ابن أبي النجود عن أبي وائل قال: درهم من تجارة أحب إليّ من عشرة من عطائي. الأعمش عن أبي إبراهيم عن عائشة قالت: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه».وقال سعيد بن عمير: «سُئِل النبيّ صلى الله عليه وسلم أي كسب الرجل أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده وكلّ بيع مبرور».محمد بن الراضبي قال: مرّ إبراهيم النخعي على امرأة من مزاد وهي تغزل على بابها فقال: يا أم بكر أما كبرتِ أما آن لك أن تلقي هذا، قالت: كيف ألقيه وقد سمعت عليّاً رضي الله عنه يقول: إنّه من طيّبات الرزق.{وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} يعني الحبوب والثمار التي تقتات وتدخر مما يجب فيه الزكاة.عمر بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم معبد حائطاً، فقال: «يا أم معبد من غرس هذا، أمسلم أم كافر؟».قالت: بل مسلم، قال: «فلا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلاّ كانت له صدقة إلى يوم القيامة».هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قال التمسوا الرزق في خبايا الأرض».قال مالك بن دينار: قرأت في التوراة: طوبى لمن أكل من ثمرة يديه.{وَلاَ تَيَمَّمُواْ} قرأ ابن مسعود: ولا تامموا بالهمز. وقرأ ابن عباس: ولا تيمموا مضمومة التاء مكسورة الميم الأولى يعني لا توجّهوا.وقرأ ابن كثير: {ولا تيمموا} بتشديد الياء وفتحها فيها وفي أخواتها وهي أحدى وثلاثون موضعاً في القرآن رد الساقط وأدغم لأن في الأصل تاءان تاء المخاطبة وتاء الأمر فحذفت تاء الفعل.وقرأ الباقون: ولا تيمموا مفتوحة مخففة.وهي كلّها لغات بمعنى واحد، يقال: أممت فلاناً وتيممته وتأممته، إذا قصدته وعمدته.قال الأعشى ميمون بن قيس: السدي عن علي بن ثابت عن الفراء قال: نزلت هذه الآية في الأنصار كانت تخرج إذا كان جذاذ النخل من حيطانها أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل بين اسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان الرجل يعمد فيخرج قنو الحشف وهو يظن أنّه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء فنزل فيمن فعل ذلك.{وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} يعني القنو الذي فيه الحشف ولو كان أهدى لكم ما قبلتموه. عن باذان عن ابن عباس في هذه الآية قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «إنّ لله في أموالكم حقّاً فإذا بلغ حق الله في أموالكم فاعطوا منه» وكان الناس يأتون أهل الصدقة بصدقاتهم ويضعونها في المسجد فإذا اجتمعت قسّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم.قال: فجاء رجل ذات يوم بعد مارَقّ أهل المسجد وتفرّق هامهم بعذق حشف فوضعه في الصدقة، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصره فقال: «مَنْ جاء بهذا العذق الحشف» قالوا: لا ندري يارسول الله. قال: بئسما صنع صاحب هذا الحشف فأنزل الله تعالى هذه الآية.وقال عليّ بن أبي طالب والحسن ومجاهد والضحاك: كانوا يتصدّقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم فيعزلون الجيّد ناحية لأنفسهم، فأنزل الله تعالى {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} يعني الردي من أموالكم، والخشف من التمر، والعفن والزوان من الحبوب، والزيوف من الدراهم والدنانير.{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} محل أن نصب بنزع حرف الصفة، يعني: بأن تغمضوا فيه.وقرأ الزهري: {تُغْمِضُواْ} بفتح التاء وضم الميم. وقرأ الحسن بتفح التاء وكسر الميم، وهما لغتان غمض يغمِض ويَغمَض. وقرأ قتادة تغمضّوا فيه من التفعيل وقرأ أبو مجلن: تغمّضوا بفتح الميم وضم التاء يعني إلاّ أن تغمض لكم. وقرأ الباقون: تغمّضوا.والاغماض: غض البصر وإطباق جفن على جفن. قال روبة: وأراد هاهنا التجويز والترخص والمساهلة، وذلك إن الرجل إذا رأى ما يكره أغمض عينه لئلاّ يرى جميع ما يفعل، ثم كثر ذلك حتّى جعل كلّ تجاوز ومساهلة في البيع إغماضاً.قال الطرمّاح: قال علي والبراء بن عازب: معناه: لو كان لأحدكم على رجل حقّ فجاءه بهذا، لم يأخذه إلاّ وهو يرى أنّة قد أغمض عن بعض حقّه. وهي رواية العوفي عن ابن عباس.وروى الوالبي عنه: ولستم بآخذي هذا الردي لو كان لأحدكم على الآخر حقّ بحساب الجيّد حتّى تنقصوه.الحسن وقتادة: لو وجدتموه بياعاً في السوق ما أخذتموه بسعر الجيّد حتّى يغمّض لكم من ثمنه.وروي عن الفراء أيضاً قال: لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلاّ على استحياء من صاحبه وغيظ أنّه بعث إليك بما لم يكن فيه حاجة، فكيف ترضون لي مالا ترضون لأنفسكم؟أخبر الله تعالى أن أهل السهمان شركاء ربّ المال في ماله فإذا كان ماله كلّه جيّداً فهم شركائه في الجيّد فأمّا إذا كان المال كلّه ردئاً فلا بأس باعطاء الردي لأن الواجب فيه ذلك إلاّ أن تتطوع.{واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ} عن نفقاتكم وصدقاتكم {حَمِيدٌ} محمود في أفعاله.وعن معبد بن منقذ ان أبا شريح الكعبي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتموني أتصدّق شرّ ما عندي فاكووني واعلموا إنّي مجنون. .تفسير الآيات (268- 271): {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}{الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} أي بالفقر فحذف الباء كقول الشاعر:ويقال: وعدته خيراً ووعدته شرّاً، قال الله تعالى في الخير: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20]وفي الشر: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 72] فإذا لم يذكر الخير والشرّ قلت في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته وأنشد أبو عمرو: والفقر: سوء الحال وقلّة اليد، وفيه لغتان: الفَقر والفُقر كالضَعف والضُعْف.وأصله من كسر الفقار، يقال: رجل فقّار وفقير، أي مكسور فقار الظهر. قال الشاعر: ومعنى الآية: إنّ الشيطان يخوّفكم بالفقر ويقول للرجل أمسك مالك فإن تصدّقت افتقرت. {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} أي البخل ومنع الزكاة.وزعم مقاتل بن حيان أنّ كلّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلاّ في هذه الآية.{والله يَعِدُكُم} أي يجازيكم، وعد الله إلهام وتنزيل، ووعد الشيطان وساوس وتخيّل.{مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} لذنوبكم {وَفَضْلاً} أي رزقاً وخلفاً {والله وَاسِعٌ} غني {عَلِيمٌ} يقال: مكتوب في التوراة: عبدي أنفق من رزقي، أبسط عليك من فضلي.{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} قال السدي: هي النبوّة. ابن عباس وقتادة وأبو العالية: علم القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه.الضحاك: القرآن والحكم فيه. وقال: في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة، وألف آية حلال وحرام، ولا يسع المؤمنين تركهن حتّى يتعلّموهن فيعلموهن، ولا تكونوا كأهل النهروان تأوّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنّما نزلت في أهل الكتاب، جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء وشهدوا عليناً بالضلال وانتهبوا الأموال.فعليكم بعلم القرآن فإنّه مَنْ علم فيما أنزل لم يختلف في شيء منه نفع وأنتفع به. مجاهد: أما أنّها ليست بالنبوّة ولكنّها القرآن والعلم والفقه.وروى ابن أبي نجيح: الإصابة في القول والفعل. ابن زيد: العقل. ابن المقفّع: كلّ قول أو فعل شهد العقل بصحّته. إبراهيم: الفهم. عطاء: المعرفة بالله عزّ وجلّ. ربيع: خشية الله. سهل بن عبد الله التستري: الحكمة: السنة.وقال بعض أهل الاشارة: العلم الرباني. وقيل: إشارة بلا علّة، وقيل: إشهاد الحق تعالى على جميع الأحوال.أبو عثمان: هو النور المفرّق بين الإلهام والوسواس. وقيل: تجريد السرّ لورود الإلهام. القاسم: أن يحكم عليك خاطر الحق ولا تحكم عليك شهوتك.بندار بن الحسين وقد سئل عن قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ}. فقال: سرعة الجواب مع إصابة الصواب. وقال أهل اللغة: كلّ فضل جرّك من قول أو فعل وهي أحكام الشيء المفضّل.[........] الحكمة الرد إلى الصواب، وحكمة الدابة من ذلك لأنّها تردّها إلى القصد.منصور بن عبد الله قال: سمعت الكتابي يقول: إنّ الله بعث الرسل بالنصح لأنفس خلقه، فأنزل الكتب لتنبيه قلوبهم وأنزل الحكمة لسكون أرواحهم، والرسول داع إلى الله، والكتاب داع إلى أحكامه، والحكمة مشيرة إلى فضله.{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} قرأ الربيع بن خيثم: تولي الحكمة ومَنْ تؤت الحكمة بالتاء فيها.وقرأ يعقوب {وَمَن يُؤْتَ} بكسر التاء أراد مَنْ يؤته الله. وقرأ الباقون {وَمَن يُؤْتَ} بفتح التاء على الفعل المجهول.و {وَمَن} في محل الرفع على اسم مالم يسمَ فاعله، والحكمة خبرها. الحسن بن دينار عن الحسن في قوله: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} هو الورع في دين الله عزّ وجلّ.{فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ} يتعظ {إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} ذوي العقول، واللب من العقل ما صفا من دواعي الهوى.{وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ} فيما فرض الله عليكم {أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ} أوما أوجبتموه أنتم على أنفسكم فوفّيتم به.والنذر نذران: نذرٌ في الطاعة، ونذر في المعصية. فإذا كان لله فالوفاء به واجب وفي تركه الكفّارة، وما كان للشيطان فلا وفاء ولا كفارة.{فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} ويحفظه حتّى يجازيكم به. وإنّما قال: {يَعْلَمُهُ} ولم يقل يعلمها؛ لأنّه ردّه إلى الآخر منها كقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} [النساء: 112]. قاله الأخفش، وإن شئت حملته على ما، كقوله تعالى: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] ولم يقل بها.{وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الواضعين النفقة والنذر في غير موضعها بالرياء والمعصية {مِنْ أَنْصَارٍ} أعوان يدفعون عذاب الله عزّ وجلّ عنهم، والأنصار: جمع نصير، مثل شريف وأشراف وحبيب وأحباب.{إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ} وذلك أنهم قالوا: يارسول الله صدقة السر أفضل أم صدقة العلانيّة؟فأنزل الله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} أي تظهروها وتعلنوها {فَنِعِمَّا هِيَ} أي نعمت الخصلة هي. و{مَّا} في محل الرفع و{هِيَ} لفظ في محل النصب كما تقول: نِعم الرجل رجلاً، فإذا عرفت رفعت فقلت: نعم الرجل زيد.فأصله نعم ما فوصلت وادغمت، وكان الحسن يقرأها فنعم ما مفصولة على الأصل، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع غير ورش وعاصم برواية أبي بكر. وأبو عمرو وأبو بحرية: فنِعمّا بكسر النون وجزم العين ومثله في سورة النساء، واختاره أبو عبيدة ذكر أنّها لغة النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن العاص: «نعمّا بالمال الصالح للرجل الصالح» هكذا روي في الحديث.وقرأ ابن عامر ويحيى بن ثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون والعين فيهما.وقرأ طلحة وابن كثير ويعقوب وأيوب بكسر النون والعين واختاره أبو حاتم، وهي لغات صحيحة، ونعَم ونِعم لغتان جيدتان، ومن كسر النون والعين اتبع الكسرة الكسرة لئلا يلتقي ساكنان: سكون العين وسكون الادغام.{وَإِن تُخْفُوهَا} تسرّوها {وَتُؤْتُوهَا} تعطوها {الفقرآء} في السر {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وأفضل، وكلٌّ مقبول إذا كانت النيّة صادقة ولكن صدقة السر أفضل.وفي الحديث: «صدقة السر تطفي غضب الرب وتطفي الخطيئة كما يطفيء الماء النار، وتدفع سبعين باباً من البلاء» حفص بن عاصم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: الإمام العدل، وشاب نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل قلبه معلّق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إنّي أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لم تعلم يمينه ما ينفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه».{وَيُكَفِّرُ عَنكُم} شهر بن حوشب عن ابن عباس أنّه قرأ ويكفّر بالياء والرفع على معنى يكفّر الله. وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ويعقوب: بالنون ورفع الراء على الاستئناف، أي نحن نكفّر على التعظيم. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والأعمش وحمزة والكسائي وأيوب وأبو حاتم: بالنون والجزم معاً على الفاء التي في قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن موضعها جزم الجزاء.{مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} أدخل {مِّن} للتبعيض، وعلّته: المشيئة ليكون العباد فيها على وجل ولا يتّكوا. وقال نحاة البصرة: معناه: الاسقاط، تقديره: ونكفّر عنكم سيئاتكم.{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وقال أهل هذه المعاني: هذه الآية في صدقة التطوّع لإجماع العلماء ان الزكاة المفروضة أعلانها أفضل كالصلاة المكتوبة. فالجماعة أفضل من أفرادها وكذلك سائر الفرائض لمعنيين: أحدهما ليقتدي به الناس. والثاني إزالة التهمة لئلاّ يسيء الناس به الظن ولا رياء في الغرض، فأمّا النوافل والفضائل فإخفاؤها أفضل لبعدها من الرياء والآفات، يدل عليه ما روى عمّار الذهبي عن أبي جعفر أنّه قال في قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ} قال: يعني الزكاة المفروضة، {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني التطوّع.وعن معد بن سويد الكلبي يرفعه: «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن الجهر بالقراءة والإخفاء بها فقال: هي بمنزلة الصدقة {فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}» كثير بن مرّة عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المسرّ بالقرآن كالمسر بالصدقة والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة».وروى علي بن طلحة عن ابن عباس في هذه قال: جعل الله عزّ وجلّ صدقة التطوّع في السر تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة تفضل علانيتها بخمسة وعشرين ضعفاً، وكذلك جميع الفرائض والنوافل.
|