الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (16): {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)}{قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض} تحقيق كما قال بعض المحققين لأن خالقهم ومتولي أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله تعالى، وقيل: إنه سبحانه بعد أن ذكر انقياد المظروف لمشيئته تعالى ذكر ما هو كالحجة على ذلك من كونه جل وعلا خالق هذا الظرف العظيم الذي يبهر العقول ومدبره أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا من دونه أولياء من رب هذه الأجرام العظيمة العلوية والسفلية؟ {قُلِ الله} أمر صلى الله عليه وسلم بالجواب إشعارًا بأنه متعين للجوابية فهو عليه الصلاة والسلام والخصم في تقريره سواء، ويجوز أن يكون ذلك تلقينًا للجواب ليبين لهم ما هم عليه من مخالفتهم لما علموه، وقيل: إنه حكاية لاعترافهم والسياق يأباه.وقال مكي: إنهم جعلوا الجواب فطلبوه من جهته صلى الله عليه وسلم فأمر بإعلامهم به، ويبعده أنه تعالى قد أخبر بعلمهم في قوله سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] وحينئذٍ كيف يقال: إنهم جعلوا الجواب فطلبوه؟ نعم قال البغوي: روي أنه لما قال صلى الله عليه وسلم ذلك للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت فأمره الله تعالى بالجواب، وهو بفرض صحته لا يدل على جهلهم كما لا يخفى {قُلْ} الزامًا لهم وتبكيتًا {أفاتخذتم} لأنفسكم {مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} عاجزين {لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ} وهي أعز عليهم منكم {نَفْعًا} يستجلبونه {وَلاَ ضَرّا} يدفعونه عنها فضلًا عن القدرة على جلب النفع للغير ودفع الضرر عنه، والهمزة للإنكار، والمراد بعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء في غاية العجز عن نفعكم فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم سبب الإشراك، فالفاء عاطفة للتسبب والتفريع دخلت الهمزة عليه لأن المنكر الاتخاذ بعد العلم لا العلم ولا هما معًا، ووصف الأولياء بما ذكر مما يقوي الإنكار ويؤكده، ويفهم على ما قيل من كلام البعض أن هذا دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن ينفعوهم، واختلف في الدليل الأول فقيل: هو ما يفهم من قوله تعالى: {قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} وقيل: هو ما يفهم من قوله سبحانه: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} [الرعد: 14] إلخ فتدبر.{قُلْ} تصويرًا لآراثهم الركيكة بصورة المحسوس {هَلْ يَسْتَوِى الاعمى} الذي هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها {والبصير} الذي هو الموحد العالم بذلك وإلى هذا ذهب مجاهد، وفي الكلام عليه استعارة تصريحية، وكذا على ما قيل: إن المراد بالأول الجاهل ثل هذه الحجة وبالثاني العالم بها، وقيل: إن الكلام على التشبيه والمراد لا يستوي المؤمن والكافر كما لا يستوي الأعمى والبصير فلا مجاز.ومن الناس من فسر الأول بالمعبود الغافل والثاني بالمعبود العالم بكل شيء وفيه بعد {أَمْ هَلْ تَسْتَوِى} التي هي عبارة عن الكفر والضلال {وَرَسُولِهِ والنور} الذي هو عبارة عن الإيمان والتوحيد وروي ذلك عن مجاهد أيضًا، وجمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر ككفر النصارى وكفر المجوس وكفر غيرهم، وكون الكفر كله ملة واحدة أمر آخر. و{أَمْ} كما في البحر منقطعة وتقدر ببل والهمزة على المختار، والتقدير بل أهل تستوي، وهل وإن نابت عن الهمزة في كثير من المواضع فقد جامعتها أيضًا كما في قوله:وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، ويجوز فيها بعد {أَمْ} هذه أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كما في قوله تعالى: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار} [يونس: 31] ويجوز أن لا يؤتى بها لأن {أَمْ} متضمنة للاستفهام، وقد جاء الأمران في قوله: وقرأ الإخوان. وأبو بكر {أَمْ هَلْ يَسْتَوِى} بالباء التحتية، ثم إنه تعالى أكد ما اقتضاه الكلام السابق من تخطئة المشركين فقال سبحانه: {أَمْ جَعَلُواْ} أي بل أجعلوا {لِلَّهِ} جل وعلا {شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} سبحانه وتعالى، والهمزة لإنكار الوقوع وليس المنكر هو الجعل لأنه واقع منهم وإنما هو الخلق كخلقه تعالى، والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاء خلقوا كخلقه {فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ} بسبب ذلك وقالوا: هؤلاء خلقوا كخلق الله تعالى واستحقوا بذلك العبادة كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأ لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلًا عما يقدر عليه الخالق، والمقصود بالإنكار والنفي هو القيد والمقيد على ما نص عليه غير واحد من المحققين. وفي الانتصاف أن {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} في سياق الإنكار جيء به للتهكم فإن غير الله تعالى لا يخلق شيئًا لا مساويًا ولا منحطًا وقد كان يكفي في الإنكار لولا ذلك أن الآلهة التي اتخذوها لا تخلق.وتعقبه الطيبي بأن إثبات التهكم تكلف فإنه ذكر الشيء وإرادة نقيضه استحقارًا للمخاطب كما في قوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وههنا {كَخَلْقِهِ} جيء به مبالغة في إثبات العجز لآلهتهم على سبيل الاستدراج وارخاء العنان، فإنه تعالى لما أنكر عليهم أولا اتخاذهم من دونه شركاء ووضفها بأنها لا تملك لأنفسها نفعًا ولا ضرًا فكيف تملك ذلك لغيرها أنكر عليهم ثانيًا على سبيل التدرج وصف الخلق أيضًا، يعني هب أن أولئك الشركاء قادرون على نفع أنفسهم وعلى نفع عبدتهم فهل يقدرون على أن يخلقوا شيئًا، وهب أنهم قادرون على خلق بعض الأشياء فهل يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من خلق السموات والأرض اه.والحق أن الآية ناعية عليهم متهكمة بهم فإن من لا يملك لنفسه شيئًا من النفع والضر أبعد من أن يفيدهم ذلك، وكيف يتوهم فيه أنه خالق وأن يشتبه على ذي عقل فينبه على نفيه، وهذا المقدار يكفي في الغرض فافهم {قُلْ} تحقيقًا للحق وارشادًا لهم {والله خالق كُلّ شَيْء} من الجواهر والاعراض، ويلزم هذا أن لا خالق سواه لئلا يلزم التوارد وهو المقصود ليدل على المراد وهو نفي استحقاق غيره تعالى للعبادة والألوهية أي لا خالق سواه فيشاركه في ذلك الاستحقاق.وبعموم الآية استدل أهل السنة على أن افعال العباد مخلوقة له تعالى، والمعتزلة تزعم التخصيص بغير أفعالهم. ومن الناس من يحتج أيضًا لما ذهب إليه أهل الحق بالآية الأولى وهو كما ترى {وَهُوَ الواحد} المتوحد بالألوهية المنفرد بالربوبية {القهار} الغالب على كل ما سواه ومن جملة ذلك آلهتهم فيكف يكون المغلوب شريكًا له تعالى، وهذا على ما قيل كالنتيجة لما قبله، وهو يحتمل أن يكون من مقول وأن يكون جملة مستأنفة. .تفسير الآية رقم (17): {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)}{أَنزَلَ مِنَ السماء} أي من جهتها على ما هو المشاهد، وقيل: منها نفسها ولا تجوز في الكلام. واستدل له بآثار الله تعالى أعلم بصحتها، وقيل: انزل منها نفسها {مَاء} أي كثيرًا أو نوعًا منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الإجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز في {مِنْ} {فَسَالَتْ} بذلك {أَوْدِيَةٌ} دافعة في مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا تستوعب الأقطار وهو جمع واد.قال أبو علي الفارسي: ولا يعلم أن فاعلًا جمع على افعلة، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير. ثم ان وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر وأطيار. ووزن فعيل بجمع على أفعلة كجريب وأجربة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال: واد وأودية ويجمع فعيل فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف اه. ونظير ذلك ناد وأندية وناج وأنجية قيل. ولا رابع لها. وفي شرح التسهيل ما يخالفه. والوادي الموضع الذي يسيل فيه المار بكثيرة، وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على المار الجاري فيه، وهو اسم فاعل من ودي إذا سأل فإن أريد الأول فالإسناد مجازي لو الكلام على تقدير مضاف كما قال الإمام أي مياه أودية، وإن أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالإسناد حقيقي، وإيثار التمثيل بالأودية على الأنهار المستمرة الجريات لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى: {بِقَدَرِهَا} أي قدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس، أو قدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرًا وكبرًا لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل جرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعى لكثرة الموارد، فإن موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير، هذا إذا أريد بالأودية ما يسيل فيها أما أن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياهها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفًا أو يراد بضميرها مياهها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين قاله شيخ الإسلام، والجار والمجرور على ما نقل عن الحوفي متعلق بسالت، وقال أبو البقاء: إنه في موضع الصفة لأودية، وجوز أن يكون متعلقًا بأنزل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والاشهب العقيلي. وأبو عمرو في رواية {بِقَدَرِهَا} بسكون الدال وهي لغة في ذلك.{فاحتمل} أي حمل وجاء افتعل عنى المجرد كاقتدر وقدر {السيل} أي المار الجاري في تلك الأودية والتعريف لكونه معهودًا مذكورًا بقوله تعالى: {أَوْدِيَةٌ} ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الأصل، وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عنى به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان مكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرًا له أي الكذب، ولو جاء هنا مضمرًا لكانجائزًا عائدًا على المصدر المفهوم من سالت اه.وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت. وأجيب بأنه بطريق الاستخدام. ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ عنى ويعاد عليه ضمير عنى آخر حقيقيًا كان أو مجازيًا وهذا ليس كذلك لأن الأول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتص بتلك فكيف يتصور فيه الاستخدام. نعم ما ذكروه أغلبي لا يختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة وكذا الاسم الظاهر اه. وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا، وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل {زَبَدًا} هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش مائه واضطربت أمواجه على ما قاله أبو الحجاج الأعلم، وهو معنى قول ابن عيسى: إنه وضر الغليان وخبثه، قال الشاعر:{رَّابِيًا} أي عاليًا منتفخًا فوق الماء، ووصف الزبد بذلك قيل: بيانًا لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون المحمول غير طاف كالأشجار الثقيلة، وإنما لم يدفع ذلك بأن يقال فاحتمل السيل زبدًا فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقًا للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادئ الرأي من غير مداخلة في الحق {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} ابتداء جملة كما روي عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الايقاد {عَلَيْهِ} وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره، وقرأ أكثر السبعة. وأبو جعفر. والأعرج. وشيبة {تُوقِدُونَ} بتاء الخطاب، والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى: {فِى النار} عند أبي البقاء. والحوفي، قال أبو علي: قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان ياهامان عَلَى الطين} [القصص: 38] فإن الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها، وقال مكي. وغيره: إن {فِى النار} متعلق حذوف وقع حالًا من الموصول أي كائنًا أو ثابتًا فيها، ومنعوا تعلقه بتوقدون قالوا: لأنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى، وقال أبو حيان: لو قلنا: إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضًا التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقيل: إن زيادة ذلك للأشعار بالمبالغة في الاعتمال للاذابة وحصول الزبد؛ والمراد بالموصول نحو الذهب. والفضة. والحديد. والنحاس. والرصاص، وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالايقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها إظهارًا لكبريائه جل شأنه على ما قيل، وهو لا ينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوبًا فيه منتفعًا به بقوله تعالى: {ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع} فوفي كل من المقامين حقه فما قيل: إن الحل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط فتأمل.ونصب {ابتغاء} على أنه مفعول له كما هو الظاهر، وقال الحوفي: إنه مصدر في موضع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات {زَبَدٌ} خبث {مّثْلِهِ} أي مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابيًا فوقه رفع {زَبَدٌ} على أنه مبتدأ خبره {مّمَّا تُوقِدُونَ} و{مِنْ} لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئًا منه. واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل، وإنما لم يتعرص لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان انزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعمله إن شاء الله تعالى كما أن للعنوان السابق دخلًا فيه بل له إخلال بذلك {كذلك} أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة: {يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي مثل الحق ومثل الباطل، والحذف للابناء على كمال التمثال بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل {فَأَمَّا الزبد} من كل من السيل وما يوقدون عليه، وأفردو لم يثن وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك {فَيَذْهَبُ} مرميًا به يقال: جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به، ويقال: أجفأ أيضًا عناه، وقال ابن الأنباري: جفاء أي متفرقًا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته، ويقال: جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف، وقرئ {جفالًا} باللام بدل الهمزة وهو عنى متفرقًا أيضًا أخذًا من جفلت الريح الغيم كفأت ونسبت هذه القراءة إلى رؤبة، قال ابن أبي حاتم: ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان إعرابيًا جافيًا، وعنه لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن، والنصب على الحالية {جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} أي من الماء الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث {فَيَمْكُثُ} يبقى {فِى الأرض} أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها؛ وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلى ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله، وقيل: النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أو لا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى.وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظًا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانًا مقدرًا قدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسا يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعًا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعًا بها مدة طويلة، ومثل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما واخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعًا.وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أحادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به».وقال ابن عطية: صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرغ من ذلك جعله مثالًا للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل. وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين {كذلك} أي مثل ذلك الضرب العجيب {يَضْرِبُ الله الامثال} في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه: {يَضْرِبُ الله الحق والباطل} إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعًا. وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالًا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبًا وترهيبًا فقال سبحانه:
|