الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (28): {وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28)}{وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به {كِذَّابًا} أي تكذيبًا مفرطًا وفعال عنى تفعيل في مصدر فعل مطرد شائع في كلام فصحاء العرب وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني آلحلق أحب إليك أم القصار ومن تلك اللغة قول الشاعر:وقال ابن مالك في التسهيل أنه قليل وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في التخفيف قال صاحب اللوامح وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب مخففًا كذابًا بالتخفيف مثل كتب كتابًا فكذابًا عنى كذبًا وعليه قول الأعشى: والكلام هنا عليه من باب {أنبتكم من الأرض نباتًا} [نوح: 17] ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بآياتنا وكذبوا كذابًا أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون وأيًا ما كان يدل على كذبهم في تكذيبهم وجوز أن يكون عنى مكاذبة كقتال عنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلًا منهم ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الاعتقاد منزلة الفعل لا على معنى أن كلًا كذب الآخر حقيقة ويجوز أن تكون المفاعلة مجازًا مرسلًا بعلاقة اللزوم عن الجد والاجتهاد في الفعل ويحتمل الاستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه وعلى المعنيين كونه عنى الكذب وكونه عنى المكاذبة يجوز أن يكون حالًا عنى كاذبين أو مكاذبين على اعتبار المشاركة وعدم اعتبارها وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون كذابًا بضم الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق فيكون حالًا أيضًا وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي على ما قيل في قول طرفة: وفيه بحث ظاهر وجوز أن يكون مفردًا صيغة مبالغة ككبار وحسان فيكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيبًا كذابًا فيفيد المبالغة والدلالة على الإفراط في الكذب لأنه كليل أليل وظلام مظلم والإسناد فيه مجازي. .تفسير الآية رقم (29): {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)}{وَكُلَّ شيء} من الأشياء التي من جملتها أعمالهم وقال أبو حيان أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب فهو عام مخصوص وانتصابه ضمر يفسره {أحصيناه} أي حفظناه وضبطناه وقرأ أبو السماء بالرفع على الابتداء {كتابا} مصدر مؤكد لأحصيناه فإن الإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط فأما أن يؤول أحصيناه بكتبناه أو كتابًا بإحصاء وجوز الاحتباك على الحذفين من الطرفين أو حال عنى مكتوبًا في اللوح أو صحف الحفظة والظاهر أن الكلام على حقيقته وقال بعضهم الظاهر أنه تمثيل لصورة ضبط الأشياء في علمه تعالى بضبط المحصي المجد المتقن للضبط بالكتابة وإلا فهو عز وجل مستغن عن الضبط بالكتابة وهذا التمثيل لتفهيمنا وإلا فالانضباط في علمه تعالى أجل وأعلى من أن يمثل بشيء والمشهور عند أهل السنة ما قدمنا وليس ذلك للاحتياج وإنما هو لحكم تقصر عنها العقول والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق بأن ذلك كائن لا محالة لاحق بهم لأن معاصيهم مضبوطة مكتوبة يكفحون بها يوم الجزاء وقيل لتأكيد كفرهم وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للجزاء وليس بذاك وقال البعض الأوجه عند أن كل شيء منصوب بالعطف على اسم أن في {أنهم كانوا لا يرجون حسابًا} [النبأ: 27] وأحصيناه كتابًا عطف على خبره والرفع على العطف على محل اسم ان والجمل بيان لكون الجزاء المذكور موافقًا وعمالهم لأن الجزاء الموافق إنما يكون لصدور أفعال موجبة له عنهم وضبطها وعدم فوتها على المجازي فالجملتان الأوليان لإفادة صدور الموجب وهو الكفر المعبر عنه بعدم رجاء الحساب والتكذيب بالآيات لما أن ذلك كالعلم فيه والأخيرة لإفادة الضبط وعدم الفوت أي مع دماج الإشارة إلى باقي المعاصي فيها وليست اعتراضًا انتهى ولا يخفى ما فيه من التكلف..تفسير الآية رقم (30): {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}{فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وتسبب الذوق والأمر به في غاية الظهور وقيل الأظهر أنه مرتبط بقوله تعالى: {لا يذوقون فيها بردًا} [النبأ: 24] إلخ أي إذا ذاقوا الحميم والغساق فيقال لهم ذوقوا فلن نزيدكم إلخ وحينئذ الجمل بينهما اعتراضية وفيه أنه في غاية البعد مع ما فيه من كثرة الاعتراض ومجيئه على طريق الالتفات للمبالغة لتقدير إحضارهم وقت الأمر ليخاطبوا بالتقريع والتوبيخ وهو أعظم في الإهانة والتحقير ولو قدر القول فيه لم يكن هناك التفات وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن الحسن قال سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار فقال قول الله تالى فذوفوا فلن نزيدكم إلا عذابًا ووجه الأشدية على ما قيل أنه تقريب في يوم الفصل وغضب من أرحم الراحمين وتأييس لهم مع ما في لن أي على القول بإفادتها التأبيد من أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة وقيل يحتمل أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم عليهم بخلود النار وفيه من البعد ما فيه واستشكل أمر زيادة العذاب نافاتها كون الجزء موافقًا للأعمال وأجيب بأنها لحفظ الأصل إذ لولاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم يتألموا به وهو كما ترى وقيل إن العذاب لما كان للكفر والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلًا في الزمن الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا وعلم الله تعالى منهم لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب وشدته يومًا فيومًا وقيل لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى أشد عذاب والعذاب المزاد يومًا يومًا فيومًا من أشد العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل..تفسير الآية رقم (31): {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)}{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكافرين ومفازًا مصدر ميمي أو اسم مكان أي أن للذين يتقون عمل الكفر فوزًا وظفرًا ساعيهم أو موضع فوز وقيل نجاة مما في أولئك أو موضع نجاة..تفسير الآية رقم (32): {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)}{حَدَائِقَ} بدل اشتمال من مفازًا على الأول وبدل البعض على الثاني والرابط مقدر وتقديره حدائق فيه أو هي في محله أو نحو ذلك وجوز أن يكون بدل كل على الادعاء أو منصوبًا باعني مقدرًا وهو جمع حديقة وهي بستان فيها أنواع الشجر المثمر زاد بعضهم والرياحين والزهر وقال الراغب قطعة من الأرض ذات ماء سميت بذلك تشبيهًا بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها وكأنه أراد ذات ماء وشجر {وأعنابا} جمع عنب ويقال للكرم نفسه ولثمرته والمتبادر عطفه على حدائق قبله وهو بعض منها إذا أريد به الكروم وبها الأشجار وموضعها وخص بالذكر اعتناء به وأما إن أريد به الكروم وبها الموضع فقط فلا ويتعين الاشتمال كما إذا أريد به ثمرات الكرون وجوز أن يكون هو وكذا ما بعد عطف على {مفازًا}..تفسير الآية رقم (33): {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)}{وَكَوَاعِبَ} جمع كاعب وهي المرأة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير ويكون ذلك في سن البلوغ وأحسن التسوية {أَتْرَابًا} أي لذات ينشأن معًا تشبيهًا في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لوقوعهن معًا على التراب أي الأرض وفي بعض التفاسير نساء الجنة كلهن بنات ست عشرة سنة ورجالهن أبناء ثلاث وثلاثين..تفسير الآية رقم (34): {وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)}{وَكَأْسًا دِهَاقًا} أي مترعة يقال دهق فلان الحوض وأدهقه أي ملأه وروى عن ابن عباس أنه فسره بذلك وأنشد قول الشاعر:وفي البحر الدهاق الملأى مأخوذ من الدهق وهو ضغبط الشيء وشده باليد كأنه لامتلائه انضغط وعن مجاهد وجماعة تفسيره بالمتتابعة وصحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أنه قال هي الممتلئة المترعة المتتابعة ورا سمعت العباس يقول يا غلام اسقنا وأدهق لنا وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال أي صافية ولا يخلو عن كدر والجمهور على الأول. .تفسير الآية رقم (35): {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)}{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي في الجنة وقيل في الكأس وجعلت الفاء للسببية {لَغْوًا} هو ما لا يعتد به من الكلام وهو على ما قال الراغب الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوًا وكذا ما لا يعتد به مطلقًا {وَلاَ كِذبًا} أي تكذيبًا وقرئ بالتخفيف أي كذابًا أو مكاذبة وقد تضمنت هذه المذكورات أنواعاف من الذات الحسية كما لا يخفى..تفسير الآية رقم (36): {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)}{جَزَاء مّن رَّبّكَ} مصدر مؤكد منصوب عنى {أن للمتقين مفازًا} [النبأ: 31] فإنه في قوة أن يقال جازى المتقين فازا جزاء كائنًا من ربك والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أن ذلك حصل بترتيبه وإرشاده تعالى وإضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دونهم لتشريفه صلى الله عليه وسلم وقيل لم يقل من ربهم لئلا يحملهم المشكرون على أصنامهم وهو بعيد جدًا ويعلم مما ذكرنا وجه ترك من ربك فيما تقدم من قوله تعالى: {جزاء وفاقًا} [النبأ: 26] وعدم التعرض هناك لنسبة الجزاء إليه تعالى بعنوان آخر قيل من باب اللهم أن الخير بيديك والشر ليس إليك وقوله تعالى: {عَطَاء} أي تفضلًا وإحسانًا منه عز وجل إذ لا يجب عليه سبحانه شيء بدل من جزاء فمعنى كونه جزاء أنه كذلك قتضى وعده جل وعلا وجوز أن يكون نصبًا بجزاء نصب المفعول به وتعقبه أبو حيان بأن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمصدر المؤكد لا يعمل بلا خلاف نعلمه عند النحة لأنه لا ينحل لفعل وحرف مصدري ورد بأن ذلك إذا كان الناصب للمفعول المطلق مذكور أما إذا حذف مطلقًا ففيه خلاف هل هو العامل أو الفعل وقال الشهاب الحق ما قال أبو حيان لأن المذكور هنا هو المصدر المؤكد لنفسه أو لغيره والذي اختلف فيه النحاة هو المصدر الآتي بدلًا من اللفظ بفعله.وقوله: فليعرف وقوله تعالى: {حِسَابًا} صفة عطاء عنى كافيًا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه أو هو على تقدير مضاف وهو مأخوذ من قولهم أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي وقيل على حسب أعمالهم أي مقسطًا على قدرها وروى ذلك عن مجاهد وكان المراد مقسطًا بعد التضعيف على ذلك فيندفع ما قيل إنه غير مناسب لتضعيف الحسنات ولذا لم يقل وفاقًا كما في السابق ودفع أيضًا بأن هذا بيان لما هو الأصل لا للجزاء مطلقًا وقيل المعنى عطاء مفروغًا عن حسابه لا كنعم الدنيا وتعقب بأنه بعيد عن اللفظ مع ما فيه من الإيهام وقرأ ابن قطيب حسابًا بفتح الحاء وشد السين قال ابن جني نبي فعالا من أفعل كدراك من أدرك فمعناه محسبًا أي كافيًا ومنع بعضهم مجيء فعالًا من الأفعال ودراك من درك فليحرر وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهسم بكسر الحاء وشد السين على أن مصدر ككذاب وقرأ ابن عباس حسنًا بالنون من الحسن وحكى المهدوى حسبًا بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة نحو قولك حسبك كذا أي كافيك.
|