الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
وإذا رأى صاحب المقاسم أن يقسم الأجناس المختلفة بين الغانمين فيعطي كل واحد منهم جنساً بنصيبه فذلك جائز بعد أن يعتبر المعادلة في المالية لأن حق الغانمين في المالية دون العين ألا ترى أن له أن يبيع الكل ويقسم الثمن بينهم وفي القسمة بهذه الصفة اعتبار معنى المعادلة فيما هو حقهم. وهذا بخلاف قسمة المال المشترك الموروث والمشتري فإن هناك عند اختلاف الجنس لا يجيز القاضي الشركاء على القسمة جملة واحدة لأن الشركة هناك ثابتة في العين ألا ترى أنه لو أراد أن يبيع العين ويقسم الثمن لم يكن له ذلك دون رضاهم يوضحه أن الملك هناك ثابت لكل واحد منهم في كل جنس ولهذا لو عتق بعضهم نفذ عتقه في نصيبه فيتحقق معنى المعوضة في قسمة الأجناس جملة واحدة. وهاهنا لا ملك للغانمين قبل القسمة ولهذا لو أعتق بعضهم شيئاً من الرقيق لم ينفذ عتقه ولو استولد جارية منها في سهم رجل فأقامت البينة أنها حرة ذمية قد سباها المشركون فإن كان شهودها من أهل الذمة لم تقبل شهاتهم لأن هذه الشهادة تقوم على المسلم في إبطال ملكه. وإن كان شهودها مسلمين قبلت الشهادة وقضى بأنها حرة ثم في القياس يرجع المستحق عليه على الجند فيأخذ منهم حصته مما أخذوا كما في قسمة الميراث إذ استحق نصيب بعض الشركاء ولكنه استحسن وقال: الإمام يعوض الذي وقعت في سهمه قيمتها من بيت مال المسلمين ولا ينتقض بتلك القسمة وكذلك لو قامت البينة أنها مدبرة لمسلم أو أم ولد له وهذا من نوائب المسلمين ولأنه لو بقي شيء من الغنيمة مما يتعذر قسمته فإنه يوضع ذلك في بيت المال فكذلك إذا لحقه غرم يجعل ذلك على بيت المال لأن الغرم مقابل بالغنم ولأن هذا خطأ من الإمام فيما عمل فيه للمسلمين فيكون في بيت مال المسلمين. وكذلك إن استحقت جاريتان أو ثلاثة أو نحو ذلك مما لا يكون فيه ضرر بين في بيت المال وكذلك لو أغفل رجلاً أو رجلين عند القسمة فهذا وما لو استحق نصيبهم سواء. فأما إذا قامت البينة على ألف رأس أو أكثر أنهم من أهل الذمة وقضي بحريتهم فإن القاضي لا يعوض المستحق عليهم من بيت المال ولكن يقول لهم: ائتوني بمن قدرتم عليه من الجند حتى أدركم عليهم بحصصكم من الغنيمة لأنه كما يجب دفع الضرر عن المستحق عليهم يجب دفع الضرر عن عامة المسلمين وفي التزام التعويض من بيت المال عند كثرة المستحق إضرار بالمسلمين في بيت مالهم وربما يأتي ذلك على جميع بيت مال المسلمين أو يزيد على ذلك فلهذا أخذ بالاستحسان إذا قل المستحق وعاد إلى القياس إذا كثر المستحق. وأي رجل جاءوا به قد أخذ من الغنيمة شيئاً أعطاهم بحصتهم مما في يده وأعطى أيضاً نصيبهم من الخمس إن لم يقسم ذلك بين المساكين وإن كان قسم أعطاهم ذلك من أموال الصدقات فإن لم يكن في بيت المال من أموال الصدقات شيء كان ذلك ديناً فيما يأتيه من ذلك لأن حقهم كان ثابتاً فيما دفعه للخمس وفيما دفعه إلى غيرهم فلا يسقط حقهم عن ذلك إلا بسلامة نصيبهم لهم من محا آخر وقد تبين أنه لم يسلم. فإن جاءوا بقوم كثير ممن أخذوا الغنائم وقال للأمير: اجمع ما في أيديهم فاقسمه بيننا وبينهم بالسوية لأنا وإياهم شرعاً سواء لم يفعل ذلك ولكن ينظر إلى حصتهم مما في أيدي الذين أحضروهم فيعطيهم ذلك القدر لأن التمليك من الإمام بالقسمة قد صح من كل واحد منهم فلا يبطل ذلك إلا في قدر ما يتقين بالسبب المبطل فيه وذلك مقدار حصتهم من ذلك وما وراء ذلك من حقهم في يد سائر الغانمين فما لم يحضروهم لا يقضي لهم به. وهذا بخلاف ما إذا كان المقسوم بينهم جنساً واحداً من المكيل والموزون فإن هناك يقسم ما في يد الذين أحضروهم بين جماعتهم كأن الغنيمة لم تكن إلا ذلك وكأنهم الغانمون خاصة لأن القسمة في المكيل والموزون تمييز محض ألا ترى أنه ينفرد به بعض الشركاء وأن تلك القسمة بين المشترين لا تمنع كل واحد منهم من بيع نصيبه مرابحة فالذي لم يقدر عليهم قد أخذوا مقدار حقهم وزيادة فتجعل الزيادة كالتساوي فأما في العروض والأجناس المختلفة فيتمكن معنى المعارضة في القسمة. ألا ترى أنه لا ينفرد به بعض الشركاء وأنه ليس لواحد من المشترين بعد القسمة أن يبيع نصيبه مرابحه على قدر ما غرم فيه من الثمن فلهذا يعتبر مقدار نصيب المستحق عليهم فيما في يد الذين أحضروهم في الأصل فيردهم عليهم بذلك القدر. قال: ألا ترى أن رجلاً لو مات عن ثلاثة أعبد وثلاث بنين فقسم القاضي العبيد بينهم وأخذ كل واحد منهم عبداً ثم استحق نصيب أحدهم أو ظهرت حريته فوجد أحد صاحبيه لم يأخذ مما في يده إلا قدر نصيبه في الأصل وهو الثلث من العبد الذي في يده ولو كان الموزون بينهم مكيلاً أو موزوناً والمسألة بحالها فإنه يأخذ منه نصف ما في يده والفرق بينهما ما ذكرنا فإذا كان هذا الحكم في القسمة التي تبتنى على الملك وهي لا تتضمن التمليك ابتداء ففي القسمة التي تبتنى على الحق وفيها تمليك العين ابتداء أولى. ولو سمع بهذا الاستحقاق بقية الجند الذين أخذوا الرقيق فهم في سعة من بيع ما في أيديهم وجماع الأمة التي أصابت كل واحد منهم ما لم يقض الحكم عليه لمن استحق نصيبه بحصته مما في يده لأنه تملكها بالقسمة بتمليك الإمام ابتداءً منه فلا يبطل ملكه في شيء منها ما لم يقض القاضي بإبطال ذلك التمليك عليه وهذا بخلاف الميراث فإن هناك لا يحل لمن لم يستحق نصيبه أن يطأها ولا يبيعها بعدما استحق نصيب أحدهم لأن هناك القسمة كانت تمييزاً للملك لا تمليكاً ابتداءً ويمكن فيها معنى المعاوضة بحيث أن ما أخذ كل واحد منهم أخذ بعضه بنصيبه فيها وبعضه عوضاً عن نصيبه فيما أخذه صاحبه. فإذا ثبت بالبينة حرية الأصل الاستحقاق في نصيب أحدهم فقد بطلت تلك القسمة وعاد الحكم فيها كما كان قبل القسمة فلهذا لا يحل له وطؤها ولا بيع نصيب شريكه منها وحقيقة هذا الفرق تتبين بما قدمنا أنه لا ملك للغانمين قبل القسمة حتى لو استولد لم يصح استيلاده فعرفنا أن الملك يثبت بالقسمة ابتداء وفي الموروث الملك ثابت للشركاء حتى ينفذ العتق والاستيلاد فيه من بعضهم قبل القسمة فإذا بطلت القسمة بالاستحقاق كان المستحق عليه مالكاً لنصيبه مما في يد صاحبه قبل قضاء القاضي كما كان قبل القسمة وفي الغنيمة المستحق عليه بعد بطلان القسمة لا يملك شيئاً مما في يده قبل قضاء القاضي كأن لم يكن مالكاً قبل القسمة يوضحه أن في الغنيمة لو رأى الإمام أن لا تبطل القسمة وأن يعوض المستحق عليه قيمة نصيبه من بيت المال كان له ذلك وفي الميراث لو أراد القاضي أن يفعل ذلك لم يتمكن منه وكان للمستحق عليه أن يرجع بنصيبه فيما أخذه شريكه شاء الحاكم أو أبى وبه اتضح الفرق بين الفصلين. ولو أن المولى لقسمة الغنائم عزل الخمس والأربعة الأخماس ولم يعط أحداً شيئاً حتى سرق الخمس أو هلك أو سرقت الأخماس الأربعة فإنه يستقبل القسمة فيما بقي ويجعل ما هلك كأن لم يكن لأن القسمة لا تتم بتمييزه البعض من البعض قبل التسليم فالواحد لا يكون مقاسماً مع نفسه وإنما تتم القسمة بين اثنين فلهذا كان هلاك ما هلك قبل التمييز وبعده سواء. ولو أعطى المساكين االخمس ثم سرقت الأخماس الأربعة فقد سلم للمساكين ما أخذوا ولم يكن للغانمين أن يرجعوا عليهم بشيء لأن القسمة قد تمت هنا بينه وبين أربا الخمس يدفع نصيبهم إليهم على اعتبار أنه كالوكيل من جهة الغزاة وبينه وبين أربا الخمس بدفع نصيبهم إليهم على اعتبار أنه كالوكيل للمساكين فإنه يصلح للنيابة من الجانبين وهو بمنزلة ما لو أوصى الرجل بثلب ماله للمساكين فقسم القاض وأعطى الثلثين للورثة ثم ضاع الثلث في يده أو أعطى المساكين الثلث ثم ضاع نصيب الورثة في يده فإن القسمة تكون ماضية ولا رجوع لأحد الفريقين على الآخر بشيء باعتبار أن القاضي كالنائب عن الذين بقي نصيبهم في يده فوصول نصيبهم إلى نائبهم بمنزلة وصوله إليهم فيكون هلاكه بعد ذلك عليهم. وكذلك لو كان قسم الأخماس الأربعة وجزأها على سهام الخيل والرجالة ولكن لم يعط أحداً شيئاً حتى ضاع بعض ما عزل فإن القسمة تنتقض ويقسم ما بقي بينهم قسمة ميتقبلة فالقسمة لا تتم. لأنه لا يكون مقاسماً بنفسه عليهم ولكن ما هلك يهلك من نصيب جماعتهم وما بقي لجماعتهم. ولو كان أعطى الرجالة سهامهم وبقيت سهام الخيل ولم يعط المساكين الخمس أيضاً ثم ضاعت سهام الخيل جاز للرجالة ما أخذوا لأن القسمة في حقهم تمت على اعتبار أن الإمام نائب عن أصحاب الخيل. ثم ينبغي له أن يقسم ما في يده في الخمس على حق أرباب الخمس وعلى سهام الخيل لأن القسمة لم تتم فيما بين أرباب الخمس وأصحاب الخيل حين لم يعط واحداً من الفريقين نصيبه فما يتوى يتوى عليهم وما يبقى يبقى لهم. وكذلك لو كان الذي ضاع ما عزله للخمس فإنه يقسم ما عزله لأصحاب الخيل بينهم وبين أربا الخمس على مقدار حقهم ولا يرجع على الرجالة بشيء. لأن القسمة قد تمت في حقهم حين قبضوا نصيبهم وفرق بين هذه المسائل وبين ما إذا استحق نصيب البعض لحرية أو غير ذلك على ما بينا وووجه الفرق أن بالاستحقاق يتبين أن القاسم أخطأ وأن القسمة كانت فاسدة وأما هاهنا فبهلاك البعض لم يتبين خطأ القاسم فلهذا كانت القسمة باقية في نصيب من تمت القسمة في حقه والله أعلم. قال: قد بينا أن الإمام لو قسم الغنائم في دار الحر أو باعها ثم لحقهم مدد لم يشاركوهم فيها لأن بالقسمة قد ثبت الملك لكل واحد منهم في نصيبه فلو ثبت للمدد شركة لثبت بطريق الغنيمة فالمسلم لا يثبت له الحق في ملك المسلم بطريق الغنيمة. وكذلك بالبيع قد ثبت الملك للمشتري فتعذر اثبات الشركة للمدد في المبيع ولا يثبت لهم الشركة في الثمن أيضاً سواء قبض من المشتري أو لم يقبض لأن وجوب الثمن للغانمين بالبيع. والشركة في الغنيمة لا فيما صار مستحقاً لهم بالعقد. ولأن العقد يقتضي تقابل البدلين في الملك وكما ثبت الملك للمشتري في المبيع يثبت للغانمين في الثمن فكان ذلك أقوى في قطع الشركة من تأكد حقهم بالإحراز لأن الإمام نائب عنهم في البيع فكأنهم باعوه بأنفسهم ونفوذ البيع من جهتهم أية تأكد حقهم فيه فكأنه قسمها بينهم وباع كل واحد منهم نصيبه. فلو أن المشترين لم ينقدوا الثمن وقبضوا ما اشتروا ثم لحقهم المشركون وقد علم الأمير أنه لا طاقة للمسلمين بهم فأمر منادياً فنادى: من اشترى منا شيئاً فليطرحه وتجمعوا حتى تبلغوا مأمنكم من دار الإسلام ففعلوا ذلك ثم طالبهم الأمير بالثمن بعد ما خرجوا فقالوا: قد طرحنا ما اشترينا بأمرك فلا ثمن لك علينا أو قالوا: اضمن لنا قيمته فإذا كانوا طرحوا ذلك طائعين فلا شيء لهم على الأمير وعليهم ما التزموا من الثمن لأن حكم البيع في المبيع قد انتهى بالتسليم والتحق بسائر أملاكهم فهم قوم أتلفوا ملكهم طوعاً والأمير أشار عليهم بمشورة فلا يوجب ذلك غرماً لهم عليه ولا يسقط به الثمن الذي تقرر ديناً في ذمتهم. وإن كان أكرههم على ذلك بوعيد متلف نظر الخليفة في ذلك فإن علم أنه فعل ذلك نظراً لهم لم يضمن لهم شيئاً مما طرحوا لأنه كان مأموراً من جهته بالنظر لهم وقد فعل لأنه أكرههم على ما يحق عليهم فعله شرعاً فإن المسلم مأمور عند الضرورة بأن يجعل ماله وقاية لنفسه وهو ما أمرهم إلا بذلك والمكره بحق يكون محسناً وما على المحسنين من سبيل. وإن علم أن أكرههم لا على وجه النظر لهم ضمن لهم قيمة ما طرحوا لأنه ما كان متعدياً فيما أكرههم عليه فخالفاً لأمر الخليفة فكانوا بمنزلة الآلة له بعد تحقق الإكراه فكأنه أخذ المال منهم وطرحه فيضمن لهمن يمته. والثمن واجب على المشترين في الوجيهين لأنه تقرر ذلك ديناً في ذمتهم وإتلاف البيع بعد تقرر الثمن وانتهاء العقد لا يسقط الثمن سواء حصل بفعل المشتري أو بفعل البائع. ولو كان قال: ليطرح كل واحد منكم ما اشترى مني وهو بريء من الثمن أو على أنه بريء من الثمن أو إن طرحه فقد أبرأته من الثمن فطرحوها طائعين أو مكرهين فالثمن واجب عليهم لأن هذه الزيادة من الأمير باطل فإنه ليس له ولاية الإبراء عن الثمن فيما باعه للغانمين أما عند أبي يوسف رحمه الله فظاهر لأنه بمنزلة الأب والوصي أو الوكيل في ذلك وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلأنه مما لا يتزم العهدة في هذا التصرف لأنه بمنزلة الحكم منه فيكون كالرسول في البيع لا يملك الإبراء من الثمن. وكذلك لو كانوا في السفينة فاحتاجوا إلى أن يخففوها فأمرهم بالطرح في الماء فهو كالأول في جميع ما ذكرنا وكذلك لو كان بائع الأطعمة في السفينة متصرفاً لنفسه ثم ناداهم: من طرح شيئاً مما اشتراه مني في الماء فهو بريء من ثمنه أو اطرحوا على أنكم برآء من الثمن فهذا باطل وعليهم الثمن له وكان ينبغي أن لا يجب الثمن هان لأنه كان مالكاً للإبراء عن الثمن ولكن نقول: إنه علق الإبراء بالشرط والإبراء لا يحتمل التعليق بالشرط كالعقد. ولو قال لهم رجل آخر: اطرحوا على أن علي ثمنه أو قيمته لكم لم يصح ذلك ولك يلزمه شيء وكذلك إذا قال البائع ذلك وهذا لأن المبيع قد صار في ملكهم وضمانهم فمن يناديهم بالطرح بعد ذلك يكون مشيراً عليهم بما يفعلونه في ملكهم وذلك لا يكون سبباً في الضمان عليه إذا فعل المرء في ملك نفسه لا ينتقل إلى من أشار عليه فيبقى الإبراء أو العقد متعلقاً بالشرط وذلك باطل وبهذا الطريق يتضح الكلام في بيع الأمير الغنيمة. ولو كان الأمير أمر المنادي فنادى: أيها الناس إنا قد أقلنا المشترين العقد فيما اشتروا منا فمن كان اشترى شيئاً فليطرحه ففعلوا ذلك لم يكن عليهم من الثمن شيء لأنه أقالهم البيع وذلك صحيح منه كأصل البيع ألا ترى أن الأب والوصي يصح منهما الإقالة فيما باعه لليتيم كما يصح أصل البيع وبعد صحة الإقالة لا يبقى الثمن على المشتري ثم البيع عاد كما كان غنيمة وقد طرحوه بأمر الأمير فكأنه طرحه بنفسه فلا يجب عليهم شيء بسببه وهو بمنزلة ما لو اشترى ثوب رجل فقال له البائع: قد أقلتك البيع فاقطعه لي قميصاً ففعل ذلك أو كان المشتري طعاماً فقال: قد أقلتك البيع فيه فتصدق به عني على هؤلاء المساكين ففعل ذلك فإن الإقالة تكون صحيحة وعلى البائع رد الثمن وهذا لأن الإقالة معتبرة بأصل العقد. ولو قال: قد اشتريت منك هذا الطعام بكذا فتصدق به عني أو هذا الثوب بكذا فاقطعه لي قميصاً ففعل الرجل ذلك كان البيع صحيحاً بينهما وعلى الآمر الثمن فكذلك الإقالة. أرأيت لو أن المشترين وجدوا عيباً بالمبيع فقبل الأمير منهم بغير قضاء لم يكن ذلك صحيحاً والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء يكون بمنزلة الإقالة فيه فتبين أن يصح الإقالة منه معهم في حق الغانمين وهذا لأن حقهم قد تأكد في الثمن ولكن لم يتعين ملكهم قبل القسمة وذلك لا ينفي ولاية التصرف للأمير كما في الغنائم المحرزة بالدار وكما في مال الخراج إذا أخذ الإمام في ذلك ثياباً أو باعها ثم رأى أن يقبل المشتري العقد فيها صحت الإقالة منه فكذلك ما سبق. وإن لم يطرحوا ذلك حين سمعوا النداء حتى إذا ساروا منقلة أو منقلتين عملوا عملاً آخر مما يستدل به على قطع المجلس طرحوا ذلك فعليهم الثمن لأن الإقالة معتبرة بأصل البيع وكما أن إيجاب البيع يبطل بالتفرق قبل القبول فكذلك في المجلس لم تثبت الإقالة وبقي الثمن عليهم. وإن ادعى المشترون أنهم طرحوا كما سمعوا ولا يعلم ذلك إلا بقولهم لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة لأنهم ادعوا ما يسقط الثمن عنهم بعد تقرر السبب الموجب فهو كما لو ادعوا قبول الإقالة في المجلس والبائع منكر ذلك فلا يقبل قولهم إلا بحجة. ولو كان أمر المنادين حتى قال: من طرح منكم المتاع الذي اشترى مني فقد أقلته البيع فيه فهذا في القياس لا يصح لأنه تعليق الإقالة بالشرط. وفي الاستحسان هو صحيح لأن المقصود تحقيق الإقالة والحث لهم على الطرح. وكذا لو قال: أقلتكم على أن تطرحوا أو اطرحوا على الإقالة منكم لي وكذا غير الأمير من باع متاعه فهو على قياس الأمير وهو نظير القياس والاستحسان في أصل البيع إذا قال: إن أديت إلي كذا درهماً ثمن الثوب فقد بعته منك فأدى الثمن في المجلس فإنه يكون ذلك بيعاً صحيحاً استحساناً فكذلك الإقالة. ولو كان سمع النداء من المنادي بعض الناس ثم أخبروا بذلك من لم يسمع النداء فهذا وما لو سمعوا جميعاً من المنادي سواء لأن الأمير أذن بتبليغ كلامه إلى من لم يسمع دلالة لكل من سمع كما أنه أذن للمنادي في ذلك أيضاً وهذا بخلاف ما لو كان البائع تاجراً باع متاعه في السفينة فإن هناك إذا لم يسمع كلامه في إيجاب الإقالة بعض المشترين وأخبره بذلك من سمع فطرح معهم فإنه يجب عليه الثمن لأن المبلغ لم يرسله البائع ولم يأمره بالتبليغ صريحاً ودلالة فصار كأنه لم يسمع أصلاً فأما الأمير فإنه أذن في التبليغ دلالة لأن مبنى كلام الأمير فيما يخاطب به رعيته على الانتشار والاستفاضة ومثل هذا لا يوجد في كلام التاجر الذي يتصرف لنفسه ثم الإقالة تعتبر بالعقد. ولو قال التاجر: قد بعت عبدي هذا من فلان بكذا فبلغه من سمع منه ذلك الكلام من غير أن يجعله رسولاً إليه فقبل لم ينعقد البيع به ولو قال: فأبلغه يا فلان فذهب فأبلغه كان ذلك بيعاً صحيحاً إذا قبله. وكذلك لو ذهب رجل آخر فأبلغه لأنه حين قال: فأبلغه يا فلان فقد أظهر من نفسه الرضا بالتبليغ إليه فكل من بلغه فقبل البيع كان البيع صحيحاً وإذا ثبت هذا العقد فكذلك في الإقالة وبه يتضح فصل الأمير حين أمر المنادي به لأنه قد صرح بالأمر بالتبليغ للمنادى فتبليغه وتبليغ غيره بعد ذلك سواء. وكذلك لو قال الأمير نفسه: قد أقلتكم البيع فاطرحوا ما اشتريتم مني وليبلغ شاهدكم غائبكم. فهذا والأول سواء لأنه نص على الأمر بالتبليغ فعبارة كل مبلغ تكون بمنزلة عبارته. ولو كان الأمير لم يذكر هذه الزيادة ففي القياس لا يبرأ من الثمن إلا من سمع مقالة الأمير كما في حق البائع لنفسه ولكنه استحسن فقال: هم براء من الثمن إذا طرحوا حين بلغهم مقالة الأمير. لما بينا أن مبنى كلام الأمير على الانتشار والظهور عادة والعادة تعتبر في تقييد مطلق الكلام فكان هذا التصريح بقوله فليبلغ شاهدكم غائبكم سواء والله أعلم. ولو أن الأمير في دار الحرب عزل الخمس من الأربعة الأخماس ولم يفع إلى أحد شيئاً حتى أتاهم جيش آخر مدد أقلهم الشركة لما بينا أن الأمير لا يقاسم نفسه وأن الملك لا يثبت لأحد في شيء بهذا العزل. ألا ترى أنه لو سرق المعزول للخمس كان الباقي مشتركاً بين الغانمين وأرباب الخمس أخماساً بمنزلة ما لو سرق البعض قبل العزل وإذا ثبت أهذ لم يكن قسمة فقد ظهر أن المدد لحقوهم قبل القسمة والبيع وكانوا شركاء الجيش في الأخماس الأربعة. ولو كان الأمير أعطى الخمس المساكين ولم يقسم الأخماس الأربعة بين الجند حتى لحقهم المدد فلا شركة لهم مع الجيش في الأخماس الأربعة هاهنا لأن القسمة قد تحققت بتسليم الخمس إلى أرباب الخمس وقد ثبت الملك لهم ألا ترى أن الأخماس الأربعة لو هلكت بعد ذلك لم يكن على الغانمين رجوع على أرباب الخمس بشيء. وقد بينا أنه لا شركة للمدد بعد القسمة فإن قيل: شركة المدد إنما تثبت في الأخماس الأربعة بعد الخمس ولم توجد القسمة فيما هو محل حقهم فكيف تنقطع شركتهم بقسمة وقعت لا في محل حقهم قلنا: لا كذلك فإن القسمة لا يتصور وقوعها من أحد الجانبين دون الآخر فمن ضرورة تقرر القسمة في المصروف إلى أرباب الخمس ثبوت حكم القسمة في الأخماس الأربعة يوضحه أن المدد لو استحقوا الشركة فإنما يستحقون ذلك بطريق الغنيمة وإذا صار نصيبهم كالغنيمة ابتداءً فلا بد من إيجاب الخمس فيها إذ الخمس يجب في كل ما يصاب بطريق الغنيمة وهذا لا وجه له هاهنا ثم أدنى درجات هذه القسمة هاهنا أن تجعل الأخماس الأربعة بمنزلة التنفيل لأنه لا يتمكن إيجاب الخمس فيما يجعل للمدد من ذلك فيكون بمنزلة النفل. ولو أن الأمير نفل سرية بعض ما أصابوا ثم لحقهم المدد بعد الإصابة لم يكن له شركة مع السرية في النفل وكذلك هاهنا لا يكون للمدد شركة في الأخماس الأربعة إذا لحقوهم بعدما صرف الخمس إلى أربابها. وكذلك لو كان الأمير قسم الأخماس الأربعة بين أهلها ولم يقسم الخمس حتى لحق المدد أو كان أخذ بعض القوم سهامهم وبقي الخمس وسهام بعضهم فلا شركة للمدد لثبوت حكم القسمة بما صنعه الأمير ولو لم يصنع شيئاً من ذلك ولكنه عجل لرجل أو رجلين نصيبهما من الغنيمة ثم لحقهم جيش آخر شركوهم في المصاب ولو عجل ذلك لأناس كثيرة لم يشركهم المدد بعد ذلك والقياس في الفصلين واحد أنه لا شركة للمدد فقد وجد منه نوع القسمة ولكنه فرق بين القليل والكثير على طريقة الاستحسان وهو نظير ما سبق إذا ظهر الاستحقاق في نصيب واحد أو اثنين لم تبطل القسمة ويعوض المستحق عليه قيمة نصيبه من بيت المال بخلاف ما إذا استحق نصيب جماعة منهم فلما فصل بين القليل والكثير في بعض القسمة بالاستحقاق فكذلك في ابتداء القسمة يفصل بين أن يعجل لنفر يسير نصيبهم أو لجمع كثير فلا يجعل تعجيله للواحد والمثنى قسمة لأن الشركة في الغنيمة شركة عامة فلا يتغير ذلك بما صنعه مع واحد أو اثنين وإنما يتغير إذا صنع ذلك في حق جمع عظيم منهم لتحقق معنى العموم فيما صنعه أرأيت لو أعطى نصيب الفرسان وبقيت الرجالة أو أعطى نصيب أكثر الجند وبقي في يده نصيب مائة رجل أو نحو ذلك أكان للمدد شركة إذا لحقوا بعد ذلك هذا مما لا يقول به أحد. ولو أن المدد دخلوا دار الحرب قبل القسمة ولكنهم لم يصلوا إلى الجيش حتى قسم الإمام بين الغانمين فلا شركة للمدد إذا لحقوهم بعد ذلك لأن ثبوت الشركة للمدد عند اللحوق بالجيش ألا ترى أنهم لو دخلوا دار الحرب ولم يلحقوا بهم حين خرجوا من جانب آخر إلى دار الإسلام لم يكن للمدد معهم شركة فعرفنا أن المعتبر حال لحوقهم بهم لا حال دخولهم دار الحرب وعند اللحوق بهم إنما يستحقون الشركة في الغنيمة لا في ملك الغانمين وقد تعين الملك بالقسمة هاهنا قبل أن يلحقوا بهم. ولو كانوا نزلوا قريباً منهم قبل القسمة حتى يكونوا عوناً لهم إن احتاجوا إليهم إلا أنهم لم يخالطوهم فهم شركاؤهم فيها لأن ثبوت الشركة للمدد في الغنيمة باعتبار أن الجيش يتقوون بهم وفي هذا المعنى لا فرق بين ما إذا خالطوهم وبين ما إذا نزلوا بالقرب منهم. فإن قسم الإمام الغنيمة بين أهل العسكر الأول بعد ذلك ولم يعط العسكر الثاني من ذلك شيئاً ثم رفع العسكر الثاني الأمر إلى الخليفة فإنه يمضي ما صنع الأول لأن ثبوت الشركة للمدد مع الجيش إذا لم يشهدوا الوقعة مختلف فيه بين العلماء والأمير الأول فيما يصنع القسمة بمنزلة الحاكم وحكم الحاكم في المجتهد نافذ إذا رفع إلى حاكم آخر يرى خلافة لم ينقضه فكذلك ما صنعه الأمير هاهنا. ولو كان الأمير باع الغنائم في دار الحرب شرط المشترون الخيار لأنفسهم أو كانوا لم يروا فردوا بخيار الرؤية أو بخيار الشرط أو ردوا ذلك بعيب قبل القبض أو بعده ثم لحقهم المدد لم يكن لهم شركة في تلك الغنيمة لأن البيع فيها قد نفذ ولزم من الأمير ألا ترى أن الملك ثبت للمشترين مع خيار الرؤية والعيب عندهم جميعاً ومع خيار الشرط عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وعند أبي حنيفة رحمه الله: المشترون إن لم يملكوا فقد صاروا أحق بالتصرف فيها بحكم الشراء فيتبين بهذا أنها خرجت من أن تكون غنيمة والتحقت بسائر أملاك المسلمين فلا يكون للمدد فيها شركة بعد ذلك ألا ترى أنهم لو لحقوا بهم والمشترون على خيارهم لم ينقضوا البيع لم يكن لهم شركة في الثمن إذا تم البيع فكذلك لا يكون لهم شركة في المبيع إذا نقض البيع وصاروا عوده إلى يد الإمام ينقض البيع ببعض هذه الأسباب بمنزلة العود بالإقالة إذا التمس ذلك المشترون منه. ولو قسم الأمير الخمس وأعطى للمساكين ثم رأى أن يبيع الأخماس الأربعة ويقسم ثمنها فذلك جائز منه لأن القسمة وإن تحققت بين الغزاة وأربا الخمس فالملك لم يثبت للغزاة في نصيبهم قبل القسمة بينهم. ألا ترى أنهم لو باعوا ذلك لم يجز بيعهم وما لم يثبت الملك لهم كانت ولاية الإمام في البيع وقسمة الثمن باقية. ألا ترى أنه لو قسم الأخماس الأربعة بينهم ثم باع الخمس كان ذلك جائزاً منه فكذلك الأول. ولو كان الإمام شرط الخيار لنفسه في البيع ثلاثة أيام ثم لحقهم المدد بع نقض البع أو قبله فهم شركاء الجيش في المبيع إن انتقض البيع في الثمن وفي الثمن إن تم البيع لأن الملك لا يثبت للمشتري مع خيار الشرط للبائع فكذلك لا يثبت لهم حق التصرف في المبيع فلم يخرج به من أن يكون باقياً على حكم الغنيمة بخلاف الأول وهذا لأن البيع بشرط الخيار للبائع في حق الحكم كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط وإنما يثبت حكم البيع ابتداءً عن إسقاط الخيار ولهذا لو كان لمشتري أعتق قبل ذلك لم ينفذ عتقه فيكون هو كالبائع ابتداء بعدما لحقهم المدد. ولو أن الأمير عزل الخمس وأعطاه المساكين ولم يقسم الأخماس الأربعة حتى أعتق رجل جارية من الغنيمة أو استولدها لم يصح شيء من ذلك منه لأن الملك لم يثبت بهذه القسمة للغانمين وبدون الملك في المحل لا يثبت الاستيلاء والإعتاق وبأن لا يكون للمدد شركة إذا لحقوا في هذه الحالة فإن ذلك لا يدل على ثبوت الملك لهم كما يعد الإحراز بالدار قبل القسمة فإن الملك لا يثبت لهم حتى لا ينفذ العتق والاستيلاء. وإن كان لو لحقهم المدد لم يشاركوهم ولهذا وجب العقر على الوطء هاهنا لأن بما صنع الإمام صارت هذه كالغنائم المحرزة بالدار في تأكد الحق فيها وقد سقط الحد عن الواطئ للشبهة فيجب العقر وتكون الجارية مع ولدها في الغنيمة تقسم بينهم ولأن الأخماس الأربعة في هذه الحالة بمنزلة النفل والاستيلاء والإعتاق من بعض أصحاب النفل لا يكون صحيحاً. وإن لم يكن للمدد منهم شركة فكذلك هذا وإن كان الأمير قسم الأخماس الأربعة بين العرفاء وأهل الرايات ثم أعتق بعضهم عبداً فقد بينا أن عتقه ينفذ هاهنا استحساناً فيكون الحكم فيه كالحكم في العبد المشترك يعتقه بعضهم. وعلى هذا الأصل لو مات بعض الغانمين بعدما أعطى الأمير الخمس للمساكين فإن نصيبه يصير ميراثاً لأن نفوذ القسمة فيما يرجع إلى تأكد الحق بمنزلة البيع أو الإحراز بالدار والإرث يجري في الحق المتأكد كما يجري في الملك. وكذلك لو ظهر المشركون على الأخماس الأربعة وأحرزوها بالدار ثم ظهر جيش آخر عليها بعد ذلك فإن وجدها الجيش الأول قبل القسمة فهم أحق بها بغير شيء وإن وجدها بعد القسمة فلا سبيل لهم عليها كما هو الحكم في الغنائم المحرزة بالدار قبل القسمة وهذا لأن الجيش الثاني ملكوها بالقسمة والجيش الأول ما كانوا يملكونها فلا يثبت لهم حق الأخذ مجاناً ولا بالقيمة لأن ذلك لا يفيدهم شيئاً فأما قبل القسمة فالجيش الثاني لا يملكونها وإن تأكد حقهم فيها بالإحراز وقد كالحق لأولين متأكداً فيها فيترجحون بالسبق. وإن كان حضور الجيش الأول بعد قسمة الأمير الخمس بين المساكين فهم أحق بالأخماس الأربعة لأنها لم تصر ملكاً للجيش الثاني بهذه القسمة. ولا سبيل لهم على ما أخذه المساكين لأنها قد صارت ملكاً لهم. ولو كان قسم الأخماس الأربعة بين الجند الثاني وبقي الخمس فالجيش الأول يأخذون الخمس بغير شيء ولا سبيل لهم على الأخماس الأربعة لثبوت الملك فيها للجند الثاني. وإن لم يفعل شيئاً من ذلك ولكن باع الغنائم كلها قبل الإحراز أو بعده ثم حضر الجيش الأول فلا سبيل لهم عليها. لأنها بالبيع صارت ملكاً للمشترين فنفذ فيها عتقهم وليس للأولين ولاية أبطال الملك المتعين لمكان ملك حق كان لهم فيها ولم يصر ملكاً بعد. ولو كان الإمام خمسها وقسمها بين أهل الرايات وبين الأشخاص من الجند الأول ثم ظهر المشركون عليها وأحرزوها ثم استنفذها من أيديهم جيش آخر فأخرجوها وحضر أصحابها الأولون فإن حضروا قبل القسمة أخذوها بغير شيء وإن حضروا بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن شاءوا لأن الملك كان ثبت لعم بالقسمة بين الأشخاص أو ببين أهل الرايات حتى كان ينفذ تصرفهم فيها والاستيلاء الوارد عليها بعد ذلك بمنزلة الاستيلاء الوارد على سائر أملاكهم والله أعلم بالصواب.
|