الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
و{أَن يُصِيبَكُمُ} في محل نصب على أنه مفعول ثان ليجرمنكم {مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح {أَوْ قَوْمَ صالح} من الصيحة، وقد تقدّم تفسير يجرمنكم وتفسير الشقاق {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} يحتمل أن يريد ليس مكانهم ببعيد من مكانكم، أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم، أو ليسوا ببعيد منكم في السبب الموجب لعقوبتهم، وهو مطلق الكفر، وأفرد لفظ {بَعِيدٍ} لمثل ما سبق في {وَمَا هي مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ}.ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة، فقال: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} وقد تقدّم تفسير الاستغفار مع ترتيب التوبة عليه في أوّل السورة، وتقدّم تفسير الرحيم، والمراد هنا: أنه عظيم الرحمة للتائبين، والودود: المحبّ. قال في الصحاح: وددت الرجل أودّه ودّاً: إذا أحببته، والودود المحب، والودّ والوُدّ والوَدّ: المحبة، والمعنى هنا: أنه يفعل بعباده ما يفعله من هو بليغ المودّة بمن يودّه من اللطف به، وسوق الخير إليه، ودفع الشرّ عنه.وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة.جملة: {قَالُواْ ياشُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} مستأنفة كالجمل السابقة، والمعنى: أنك تأتينا بما لا عهد لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية، كالبعث والنشور، ولا نفقه ذلك: أي نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة، فيكون نفي الفقه على هذا حقيقة لا مجازاً. وقيل: قالوا ذلك إعراضاً عن سماعه، واحتقار الكلام مع كونه مفهوماً لديهم معلوماً عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقة بل مجازاً، يقال: فقه يفقه: إذا فهم فِقْها وفَقها، وحكى الكسائي فقهانا، ويقال: فقه فقهاً: إذا صار فقيهاً {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} أي: لا قوّة لك تقدر بها على أن تمنع نفسك منا، وتتمكن بها من مخالفتنا. وقيل: المراد أنه ضعيف في بدنه، قاله عليّ بن عيسى. وقيل: إنه كان مصاباً ببصره. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى: ضعيف، أي قد ضعف بذهاب بصره كما يقال له ضرير، أي قد ضرّ بذهاب بصره. وقيل: الضعيف: المهين، وهو قريب من القول الأوّل {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} رهط الرجل: عشيرته الذين يستند إليهم، ويتقوّى بهم، ومنه الراهط لجحر اليربوع، لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والرهط يقع على الثلاثة إلى العشرة، وإنما جعلوا رهطه مانعاً من إنزال الضرر به مع كونهم في قلة، والكفار ألوف مؤلفة؛ لأنهم كانوا على دينهم، فتركوه احتراماً لهم لا خوفاً منهم، ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} حتى نكفّ عنك لأجل عزتك عندنا، بل تركنا رجمك لعزة رهطك علينا، ومعنى {لرجمناك} لقتلناك بالرجم، وكانوا إذا قتلوا إنساناً رجموه بالحجارة وقيل: معنى {لرجمناك} لشتمناك، ومنه قول الجعدي: ويطلق الرجم على اللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وجملة: {قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} مستأنفة، وإنما قال: أعزّ عليكم من الله، ولم يقل: أعزّ عليكم مني؛ لأن نفي العزّة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به، والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عزّ وجلّ، فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعزّ عليه من الله، فاستنكر ذلك عليهم، وتعجب منه، وألزمهم ما لا مخلص لهم عنه، ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام، وفي هذا من قوّة المحاجة ووضوح المجادلة وإلقام الخصم الحجر ما لا يخفى، ولأمر ما سمي شعيب خطيب الأنبياء، والضمير في {واتخذتموه} راجع إلى الله سبحانه. والمعنى: واتخذتم الله عزّ وجلّ بسبب عدم اعتدادكم بنبيه الذي أرسله إليكم {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} أي: منبوذاً وراء الظهر لا تبالون به. وقيل: المعنى: واتخذتم أمر الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم، وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم، يقال: جعلت أمره بظهر: إذا قصرت فيه، و{ظِهْرِيّاً} منسوب إلى الظهر، والكسر لتغيير النسب {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم.{وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لما رأى إصرارهم على الكفر وتصميمهم على دين آبائهم، وعدم تأثير الموعظة فيهم، توعدهم بأن يعملوا على غاية تمكنهم ونهاية استطاعتهم، يقال: مكن مكانة: إذا تمكن أبلغ تمكن، وأخبرهم أنه عامل على حسب ما يمكنه ويقدّر الله له، ثم بالغ في التهديد والوعيد بقوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: عاقبة ما أنتم فيه من عبادة غير الله والإضرار بعباده، وقد تقدّم مثله في الأنعام {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} {من} في محل نصب ب {تعلمون}: أي: سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب المخزي الذي يتأثر عنه الذلّ والفضيحة والعار {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} معطوف على {من يأتيه}؛ والمعنى: ستعلمون من هو المعذب ومن هو الكاذب؟ وفيه تعريض بكذبهم في قولهم: {لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}. وقيل: إن {من} مبتدأ، وما بعدها صلتها، والخبر محذوف، والتقدير: من هو كاذب فسيعلم كذبه ويذوق وبال أمره. قال الفراء: إنما جاء بهو في {مَنْ هُوَ كاذب} لأنهم لا يقولون من قائم، إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم، فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال النحاس: ويدل على خلاف هذا قول الشاعر: {وارتقبوا إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي: انتظروا إني معكم منتظر لما يقضي به الله بيننا {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} أي: لما جاء عذابنا، أو أمرنا بعذابهم، نجينا شعيباً وأتباعه الذين آمنوا به {بِرَحْمَةٍ مّنَّا} لهم بسبب إيمانهم، أو برحمة منا لهم: وهي هدايتهم للإيمان {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} غيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه، وظلموا أنفسهم بالتصميم على الكفر {الصيحة} التي صاح بهم جبرائيل حتى خرجت أرواحهم من أجسادهم، وفي الأعراف {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} [الأعراف: 78] وكذا في العنكبوت.وقد قدّمنا أن الرجفة: الزلزلة، وأنها تكون تابعة للصيحة لتموّج الهوى المفضي إليها {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} أي: ميتين، وقد تقدّم تفسيره وتفسير {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} قريباً، وكذا تفسير {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وحكى الكسائي أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ: {كما بعدت ثمود} بضم العين. قال المهدوي: من ضم العين من {بعدت} فهي لغة تستعمل في الخير والشرّ، و{بعدت} بالكسر على قراءة الجمهور تستعمل في الشرّ خاصة، وهي هنا بمعنى اللعنة.وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قال: رخص السعر {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} قال: غلاء السعر، وأخرج ابن جرير، عنه {بَقِيَّتُ الله} قال: رزق الله.وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} يقول: حظكم من ربكم خير لكم.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد قال: طاعة الله.وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الأعمش في قوله: {أصلواتك تَأْمُرُكَ} قال: أقراءتك.وأخرج ابن عساكر، عن الأحنف: أن شعيباً كان أكثر الأنبياء صلاة.وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} قال: نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم فقالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا أحرقناها، وإن شئنا طرحناها.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن محمد بن كعب نحوه.وأخرجا عن زيد بن أسلم نحوه أيضاً.وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وعبد بن حميد، عن سعيد بن المسيب، نحوه أيضاً.وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} قال: يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد.وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال: استهزاء به.وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك، في قوله: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} قال: الحلال.وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} قال: يقول لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركبه.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} قال: إليه أرجع.وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن عليّ، قال: قلت: يا رسول، الله أوصني، قال: «قل الله ربي ثم استقم»، قلت: ربي الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، قال: «ليهنك العلم أبا الحسن، لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً» وفي إسناده محمد بن يوسف الكديمي.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى} لا يحملنكم فراقي.وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد، قال: شقاقي عداوتي.وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ قال: لا تحملنكم عداوتي.وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة، في قوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} قال: إنما كانوا حديثي عهد قريب بعد نوح وثمود.وأخرج أبو الشيخ، وابن عساكر، عن سعيد بن جبير {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان أعمى، وإنما عمي من بكائه من حبّ الله عزّ وجلّ.وأخرج الواحدي، وابن عساكر، عن شدّاد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بكى شعيب عليه السلام من حبّ الله حتى عمي».وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والخطيب، وابن عساكر من طرق، عن ابن عباس، في قوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان ضرير البصر.وأخرج أبو الشيخ، عن أبي صالح، مثله.وأخرج أبو الشيخ، عن سفيان في قوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان أعمى، وكان يقال له خطيب الأنبياء.وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، قال: معناه إنما أنت واحد.وأخرج أبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: كان مكفوفاً، فنسبوه إلى الضعف {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} قال عليّ: فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} قال: نبذتم أمره.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، قال في الآية: لا تخافونه.وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: تهاونتم به.
|