الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)
.ذكر فتح مدينة حلب وقلاعها: قال الواقدي: كان مع أبي عبيدة عشرون ألفا ومع يزيد وعمرو بن العاص عشرة آلاف.قال الواقدي: فلما وصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة أنفذ إلى يزيد ثلاثة آلاف فارس مع حرب بن عدي وبقي أبو عبيدة في سبعة عشر ألفا وأكثرهم من اليمن وكان أبو عبيدة قد صالح أهل قنسرين والعواصم على خمسة عشر ألف مثقال من الذهب ومثلها من فضة والف ثوب من اصناف الديباج وخمسمائة وسق من التين والزيت فلما تم الصلح وجاءوا بما ضمنوه من مدينتهم كتب لهم كتاب وشرط فيه الشروط ودخل أبو عبيدة وخالد في رجال من المؤمنين وسادات المسلمين فحطوا بها مسجدا فبلغ ذلك أهل حلب من الصلح لقنسرين ومسير العرب فاضطربوا اضطرابا شديدا وكان عليهم رئيسان أخوان لاب وأم وكانا يسكنان في القلعة ولم تكن القلعة محيطة بالمدينة بل كانت المدينة منفردة بذاتها وكان البطريقان يقال لأحدهما: يوقنا والآخر يوحنا وكان أبوهما ملك البلد وأعماله وضياعه ورساتيقه إلى حدود الضروب والى حدود الفرات وقد ملك حلب سنين لا ينازعه فيها منازع وكان هرقل طاغية الروم يهابه ويوقره ولا يحاربه كل ذلك لبقاء ملكهم واجتماع كلمتهم لانه كان قد انتزع من رومية إلى أقصى البلاد لئلا يجيش عليه أحد جيشا ولا ينازعه في ملكه لكثرة شره وتدبيره وشدة بني عمه فلما نزل بالعواصم استخلص لنفسه قلعة حلب وبناها وحصنها ومكن في البلاد فلما هلك آل الأمر بعده لولده يوقنا وكان الكبير وكان شجاعا بطلا جامعا للأموال مقداما للحروب لا يصطلي له بنار ولا يدفع شره وكان أخوه يوحنا دينا قد نزع يده من الرياسة وترهب وكان أعلم الناس في أهل زمانه وانه لما بلغهم الخبر أن أبا عبيدة قد قصد إليهم قال لأخيه: يوقنا على ماذا عولت قال على قتال العرب ولا أدعهم يقربون من أرضنا وبلادنا حتى يرى العرب إني لست كمن لقوا من بطارقة الشام ولا من غيرها وكان يوحنا قد درس الإنجيل وقرأ المزامير وليس له همة إلا عمارة الكنائس والأديرة وتشييد المواضع وكثرة الشمامسة والقسوس والرهبان والقيام بأمورهم فلما بلغ هذين الأخوين فتح العواصم عنوة وقنسرين صلحا وأن العرب نازلون عليها وأن خيلهم تضرب إلى الفرات والعواصم والبقاع فأقبل يوحنا على أخيه الأكبر يوقنا وقال: يا أخي أريد أن أختلي بك الليلة واشاورك وأطلعك على سري ورأيي وأشرف على سرك ورأيك قال: نعم فلما اجتمعا في الليل في دار كانت لأبيهما في القلعة وجلسا للمشورة أقبل يوقنا على أخيه يوحنا وقال: يا أخي إلا ترى ما نزل بنا من العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد وما حل بأهل الشام منهم من القتل والنهب وأخذ الأموال وإنهم لا ينزلون مدينة من مدن الشام إلا فتحوها وملكوا أهلها فما ترى أن تصنع في أمر هؤلاء فكأني بهم وقد اشرفوا علينا.قال الواقدي: فقال يوحنا يا اخي إذ قد استشرتني في أمرك فاني أنصحك ولا أغشك إذا قبلت النصيحة وأن كنت أصغر منك سنا فاني أعلم منك بصيرة فوحق المسيح والقربان لئن قبلت مشورتي ليعلون أمرك ويسلم لك مالك ونفسك فقال يوقنا يا أخي ما علمتك إلا ناصحا فما عندك من الرأي فقال الرأي عندي أن ترسل رسولا إلى العرب وتبذل لهم ما شاءوا وتسألهم الصلح وتتفق معهم على معلوم يدفع لهم في كل عام ما دامت الغلبة لهم فلما سمع يوقنا ذلك من كلام أخيه يوحنا اقبل عليه وقد استوثق منه الغضب وقال قبحك المسيح ما أعجز رايك ما ولدتك أمك إلا راهبا أو قسيسا ولم أقلدك لا ملكا ولا محاربا ولا مقاتلا والرهبان ليس لهم قلوب لاكلهم العدس والزيت والبقل ولا يأكلون اللحم ولا يعرفون النعيم وليس لهم بالقتال بصيرة ولا بملاقاة الرجال خبرة وأما أنا فملك ابن ملك وليس بيني وبينهم إلا الحرب و لا ترى الملوك العجز ويلك كيف نسلم ملكنا العرب ونعطيهم القياد من أنفسنا من غير حرب ولا قتال قال فلما سمع يوحنا ذلك من أخيه تبسم من كلامه وتعجب كل العجب وقال: يا أخي وحق المسيح أن أجلك قد اقترب لانك صاحب بغي تحب سفك الدماء وقتل النفس وما أظن جموعك أكثر من جموع الملك هرقل التي جمعها باليرموك مع ماهان ويوم أجنادين وهؤلاء القوم قد ايدهم الله علينا فاتق الله ولا تسع في قتل نفسك فلما سمع يوقنا كلام أخيه داخله الغضب وقال له: قد أكثرت وأطلت في مدحك العرب وإني لست كمن لا قوه من هذه الجموع التي ذكرتها ولا أقاس بهم ومع ذلك اعلم أن كل من ذكرت من أهل المدن وغيرها أسلم بلده عنوة أو صلحا قبل أن يقاتل بلا عذر في القتال ويبذل المجهود عن نفسه وإنما جمعت الأموال من قبل إلى الآن لادفع بها الأذى عن نفسي وإني مجمع على قتال العرب ومحاربتهم فإن أظفرني الصليب بهم وأعانني المسيح عليهم طلبت العرب إلى أن أدخل خلفهم الحجاز وأسود على سائر الملوك وأرجع إلى الشام ملكا فلا يقدر هرقل أن ينازعني وأن هزمتني العرب طلعت إلى قلعتي هذه ولزمتها فاني قد عبيت فيها من الزاد والأطعمة ما يكفيني طول دهري وأكون فيها عزيزا إلى أن أموت ولا ألقي يدي إلى العرب ولا ابذل أموالي من غير طلب فلا تعارضني في شيء من أمر العرب ولا تدعني إلى الصلح وإلا بطشت بك قبلهم.قال الواقدي: واحتوى الشيطان على قلب يوقنا وقد سولت له نفسه العمل فلما سمع يوحنا من أخيه يوقنا هذا المقال قال له: كلامك علي حرام أبدا حتى ترجع إلى رأيي ونعود إلى قولي ثم قام عنه مغضبا فلما كان من الغد جمع يوقنا إليه جميع من التجأ إليه من العسكر من الأرمن والمتنصرة وغيرهم وعرضهم على نفسه فمن أراد سلاحا أعطاه وفرق فيهم الأموال وجعل يهون العرب عليهم ويقول: انما هم قليل ونحن أكثر منهم لأن جموعهم قد تفرقت منها جماعة على قيسارية ومنهم من توجه إلى مصر.قال الواقدي: وعزم على قتال ابي عبيدة قبل أن يصل إليه والى بلده ثم عمد إلى بطريق من بطارقته يقال له كراكس وضم إليه ألف فارس ووكله بحفظ بلده وسار يوقنا بمن معه يريد أن يلقي جيش ابي عبيدة والمسلمين هو وقومه في اثني عشر ألف مدرع غير من كان معه بغير درع ونشرت أمامه الأعلام والصلبان وكان فيها صليب من الذهب والجوهر ومن حوله ألف غلام عليهم ثياب الديباج المنسوج بالذهب قال ابن ثعلبة الكندي فأقام أبو عبيدة على مدينة قنسرين بعد أن فتحها بالصلح وبعد أن أتاه يزيد بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره أن يبعث إلى يزيد بن أبي سفيان طائفة من جيشه فبعث له بثلاثة آلاف فارس لابسين السلاح الكامل وعول أبو عبيدة على المسير إلى حلب فدعا برجل من بني ضمرة وكان بطلا مجربا بشدة البأس وكان إذا ثبت على وجه الأرض للقتال لا يهاب الجحافل قلت: او كثرت فضم إليه ألف فارس وسيره على مقدمته وقال: يا كعب لا تقاتل جيشا لا تطيقه واختبر أمر هذا العلج واعرف خبره وأنا راحل من ورائك فسار كعب بن ضمرة يريد حلب وكان يوقنا قدم أمامه عيونا يأتون بالأخبار فأتته جواسيسه يخبرونه أن خيول العرب قد أتت تريد بلده وقتاله فقال لهم: في كم أتت العرب قالوا: في ألف فارس وهم على ستة أميال من بلدك نزول قال فكمن يوقنا كمينا ثم سار إليهم بجيوشه وبطارقته فلما أشرف عليهم وهم نزول على نهر يسقون خيلهم ويتوضئون فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم يوقنا بجيوشه وبطارقته والصليب أمامه فنادى المسلمون بعضهم بعضا واستووا على متون خيولهم وورد كعب بن ضمرة على فرسه وسبق في أول الخيل وأشرف على جيش يوقنا فحزره إنه في خمسة آلاف فارس وكان يوقنا قد قسم عسكره شطرين النصف معه والنصف مع الكمين فلما نظر كعب إلى يوقنا وجيشه انقلب إلى أصحابه وقال: يا أنصار دين الله إني نظرت عسكر عدوكم وحزرته فهو في خمسة آلاف وهم لكم مغنم ويقاتل الواحد منكم خمسة قالوا: بلى والله واقبل أصحابه يشجع بعضهم بعضا فقربت الفئة من الفئة وصاح يوقنا بأصحابه ورجاله وغلمانه وعبيده وبطارقته وأمرهم بالحملة على المسلمين فحملوا بأجمعهم حملة صعبة وحمل عليهم المسلمون والتقى الجمعان واشتبك الحرب وقاتل الجمعان قتال الموت وقد أيقن المسلمون بالظفر والغنيمة فطلع عليهم الكمين من ورائهم واكبوا عليهم جميعا.قال مسعود بن عون العجي شهدت الخيل التي بعثها أبو عبيدة طلائع مع كعب بن ضمرة وكنت فيها يوم التقى الجمعان وقد خرج علينا الكمين ونحن في القتال ونحن لا نظن أن لهم كمينا يطلع من ورائنا وإذا بأصوات حوافر الخيل أكبت علينا وأيقنا بالهلكة بعدما كنا موقنين بالغلبة وصرنا في وسط عسكر الكفار فلم يكن لنا بد من القتال فافترقت المسلمون ثلاث فرق فرقة منهم منهزمة وفرقة قصدت قتال الكمين وفرقة مع كعب بن ضمرة قصدت قتال يوقنا ومن معه قال مسعود بن عون فلله در كندة يؤمئذ لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا ووهبوا أنفسهم لله تعالى حتى قتل منهم ذلك اليوم مائة رجل في مقام واحد وعمل أهل الكمين عملا عظيما وكعب بن ضمرة قلق على المسلمين فجاهد عنهم وهو يجول بالراية وينادي يا محمد يا محمد يا نصر الله انزل معاشر المسلمين اثبتوا انما هي ساعة ويأتي النصر وأنتم الأعلون فاجتمع المسلمون عليه والجراح فيهم فاشية وقتل من المسلمين مائة وسبعون رجلا من الأعيان منهم عباد بن عاصم النخعي وزفر بن أم راضي وحازم ابن شهاب المقري وسهل بن اشيم ورفاعة بن محصن وغانم بن برد وسهيل بن مفلج وكان ممن شهد يوم السلاسل وتبوك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد قال مسعود بن عون والله لقد تأسفنا على قتله ووجدنا فيه أربعين ضربة كلها في مقدمه رضي الله عنه ولم نجد واحدة في ظهره وكان الأعيان أربعين رجلا لأن الرجل منا ما قتل حتى قتل عددا من المشركين فلما نظروا إلى ثبات المسلمين مع قلتهم وما هالهم ممن قتل منهم هم المشركون أن ينهزموا فثبتهم يوقنا وقال: ويلكم ما العرب إلا مثل الذئاب أن صدمت ولت وأن تركت طمعت ولما نظر كعب بن ضمرة إلى من قتل تحت رايته أغتم لذلك غما شديدا فنزل عن فرسه ولبس درعا من فوق درعه وشد وسطه بمنطقة ومسح وجه فرسه ومنخره وقبله بين عينيه وكان قد شهد معه المواطن وجاهد معه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد سماه الهطال فقال: يا هطال هذا يومك المحمود عاقتبه فاثبت للقتال في طاعة الله ولما استوى على متنه وقف أمام المسلمين وجعل ينظر إلى القتلى وهو متفكر في امره والراية بيده وهو ينتظر من ابي عبيدة جيشا يقبل عليه أو طليعة تنجده فلم ير لذلك أثرا.وذلك أن أبا عبيدة ما قطعه من المسير إليه إلا قدوم أهل حلب عليه وذلك إنه لما سار يوقنا إلى حرب المسلمين اجتمع مشايخ أهل حلب والروسية بعضهم إلى بعض وقالوا: يا قوم تعلمون أن هؤلاء العرب قد أطاعهم أهل دين النصرانية والصليب ودخلوا في دينهم ومنهم من رجع إلى دينهم ومنهم من قاتلهم فأما الذي فاتلهم فخسر فهل لكم أن تسيروا إلى أمير المؤمنين ونسأله الصلح ونصالح عن مدينتنا وندفع إليه ما أحب من أموالنا فإن ظفر المسلمون بالبطريق يوقنا نكن نحن آمنين غير وجلين منهم ونقر عينا من بأسهم وأن صالح يوقنا القوم نكن نحن قد سبقناه إلى الصلح وأن غلب ورجع سالما لم نبلغه ولم نعلمه واستوى رايهم على ذلك فخرج منهم ثلاثون رجلا من رؤسائهم وسلكوا طريقا غير طريق يوقنا حتى اشرفوا على عسكر المسلمين فنادوا الغوث الغوث وكان العرب قد علمت أن الغوث بالرومية هو الأمان وقال لهم الأمير: فمن سمعتموه يقولها فلا تعجلوا عليه بالقتل لئلا يطالبكم الله يوم القيامة وعمر بريء منه فكان العرب يعرفونها فلما سمع المسلمون منهم ذلك أسرعوا إليهم واوقفوهم بين يدي أبي عبيدة فقال خالد: يوشك أن هؤلاء يطلبون الصلح والأمان لأنفسهم وهم أهل حلب قال أبو عبيدة: أرجو ذلك أن شاء الله تعالى وأن صالحوني صالحتهم وهو لا يعلم ما أصابه من الحرب الشديد والقتل العتيد وكان قدومهم عليه ليلا والنيران تضرم بين يديه وكان في العسكر رجال قيام في صلاتهم يتلون القرآن فجعل بعضهم يقول لبعض: بهذه الفعال ينصرون علينا فلما سمع الترجمان مقالهم أخبر أبا عبيدة بما قد تناجوا بينهم فقال أبو عبيدة: أنا قوم قد سبقت لنا العناية من ربنا وأنا رجال لا نريد من الله ورسوله بدلا ولن نجزع من قتال الأعداء فأخبرهم الترجمان بذلك ثم قال لهم: من أنتم قالوا: نحن سكان حلب من تجارها وسوقتها ورؤسائها وقد جئنا نطلب منكم الصلح فقال أبو عبيدة: فكيف نصالحكم وقد بلغنا أن بطريقكم قد صمم على قتالنا وقد حصن قلعته وجعل فيها ما يقوته سنين واتخذ الجند وأكثر من ذلك وما لكم عندنا صلح فقالوا: أيها الأمير أن صاحبنا قد خرج من عندنا يريد حربكم وقتالكم قال أبو عبيدة: ومتى خرج قالوا: خرج سحر ونحن من بعده وسلكنا طريقا غير طريقه وأنا نرجوا إنه هالك لا محالة لانه ركب البغي ولم يرض بالصلح وقد أطاع هواه فقد وقع في شرك الردى فلما سمع أبو عبيدة بخروج البطريق خاف على طليعته منه فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هلك والله كعب ومن معه أنا لله وأنا إليه راجعون ثم اطرق إلى الأرض فقالوا: لبعض مشايخ أهل حلب كلم لنا الأمير في الصلح قال فكلمه فقال أبو عبيدة: بضجر لا صلح لكم عندنا قال فخاف الشيوخ على أنفسهم وقالوا: أنا قد اجتمع عندنا من القرى والرساتيق خلق كثير فإن صالحتمونا عمرنا لكم الأرض وكنا لكم عونا على عمارتها وعشنا في ظلكم ايام عدلكم وأن أنتم أبيتم ذلك فر الناس عنكم وطلبوا أقصى البلاد وشاع الخبر عنكم إنكم لا تصالحون فلا يبقى حولكم أحد قال فأعلمه الترجمان بما قالوا: فجعل ينظر إليهم وإذا قد برز من القوم وصاح رجل احمر الوجه وكان من حكماء الروم فصيحا بلسان عربي فقال: أيها الأمير اسمع ما ألقيه إليك من العلم الذي أنزل الله في الصحف على الأنبياء قال أبو عبيدة: قل: لنسمع فإن كان حقا علمناه وأن كان غير حق لا نسمعه ولا نعمل به وكان اسمه دحداح فقال: أيها الأمير أن الله سبحانه وتعالى أنزل على انبيائه يقول: أنا الرب الرحيم خلقت الرحمة وأسكنتها في قلوب المؤمنين وإني لا أرحم من لا يرحم من أحسن أحسنت إليه ومن تجاوز تجاوزت عنه ومن عفا عفوت عنه ومن طلبني وجدني ومن أغاث ملهوفا أمنته يوم القيامه وبسطت له في رزقه وباركت له في عمره وأكترث له أهله ونصرته على عدوه ومن شكر المحسن على احسانه فقد شكرني وأنا قد أتيناك ملهوفين خائفين فأقل عثراتنا وآمن روعاتنا وأحسن إلينا.قال فبكى أبو عبيدة من قوله وقرأ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ثم قال اللهم صل على محمد وعلى جميع الأنبياء فبهذا والله أرسل نبينا أرسله الله إلى جميع الخلق والحمد لله على هدايته لنا ثم أقبل على المسلمين وهم حوله وفيهم الرؤساء من المهاجرين والأنصار وقال لهم: الحمد لله على هدايته ثم قال أن هؤلاء أهل متجر وسوقة وضياع وهم مستضعفون وقد رأينا أن نحسن إليهم ونصالحهم ونطيب قلوبهم ومتى كانت المدينة في أيدينا والسوقة معنا فانهم يميروننا بالعلوفة ويعلموننا بما يعزم عليه عدونا ويكونون عونا لنا عليه فقال رجل من المسلمين أصلح الله الأمير أن مدنية القوم بالقرب من القلعة ولا نأمن أن القوم يدلون على عوراتنا ويخبرون بأحوالنا وما أنى القوم ليخدعونا إلا ترى إلى بطريقهم وقد خرج يبغي قتالنا وحربنا فكيف يطلب هؤلاء الصلح منا ولا شك إنهم مكروا بكعب بن ضمرة ومن معه من المسلمين فقال أبو عبيدة: أحسن ظنك بالله وثق بالله فإن الله ينصرنا ولا يسلط علينا عدونا فرحم الله من قال خيرا أو صمت وإذا أشرط عليهم النصيحة في صلحهم للمسلمين ثم اقبل على القوم وقال إني أريد أن تبذلوا في صلحكم ما بذله أهل قنسرين 2 فقالوا: أيها الأمير أن قنسرين اقدم من مدينتنا وأكثر جمعا ومدينتنا خالية من السكان لجور صاحبنا لانه قد أخذ أموالنا وغلاتنا وأصعد الكل إلى قلعته وما بقي عندنا إلا الضعفاء ومن لا ماله له وأنا نسألك الترفق بنا والعدل فينا والأحسان إلينا فقال أبو عبيدة: فما الذي تريدون أن تبذلوا في صلحكم قالوا: نعطي نصف ما أعطى أهل قنسرين فقال أبو عبيدة: قد قبلت منكم ذلك على أننا إذا نزلنا بصاحبكم اعنتمونا بالميرة والعلوفة وتبيعون وتشترون في عسكرنا ولا تكتموا عنا خبرا تكونون تعلمونه من أعدائنا ولا تتركوا جاسوسا يتجسس علينا وأن رجع إليكم بطريقكم منهزما تمنعوه أن يصل إلى القلعة فقالوا: أيها الأمير أما قولك هذا أن نمنع البطريق أن لا يصعد إلى القلعة فما نجد إلى ذلك من سبيل ولا نقول لك ما لا نفعله ما لنا به طاقة ولا بمن معه من أعوانه وجندوه قال أبو عبيدة: فلا تمنعوه من الصعود إلى القلعة وعليكم عهد الله وميثاقه والإيمان المؤكدة الغليظة أن لا تقولوا: هذا القول وأن توفوا لنا كل شرط تم عليكم ثم حلفهم بالإيمان التي يعرفونها فحلف القوم عن آخرهم وصالحوا عن رجالهم ودوابهم وابنائهم ونسائهم وعبيدهم وسائر أهاليهم وانتهوا على ذلك فقال أبو عبيدة: إنكم قد حلفتم وقد قبلنا قولكم وايمانكم فإن أصبنا أحدا قد اخلف أو علم من البطريق علما ولم يعلمنا به فقد وجب عليه القتل واخذ ماله وولده حلال لنا لا يطلبنا الله بذمته ومتى نقضتم ما شرطنا عليكم فلا عهد لكم عندنا ولا ذمة لكم علينا ولنا عليكم الجزية في العام المقبل قال سعيد بن عامر التنوفي: فرضي أهل حلب بما شرطه عليهم أبو عبيدة وأخذوا عهدهم وكتب أسماءهم وعزم القوم على الانصراف إلى ديارهم وقال لهم أبو عبيدة: على رسلكم حتى أبعث معكم من يسير معكم إلى مأمنكم فقد وجب علينا حفظكم إلى أن تعودوا سالمين إلى بلدكم فقال له الدحداح: أيها الأمير اننا نرجع من الطريق الذي جئنا منه وما نريد أحدا يسير معنا فتركهم أبو عبيدة وبات بقية ليلته قلقا على كعب بن ضمرة ومن معه.قال الواقدي: ورجع القوم من ليلتهم إلى حلب وانفجر الصبح ولم يصلوا فلما أشرفوا على حلب نظر إليهم بعض أعلاج البطريق وهم راجعون فأقبل إليهم وسألهم من أين أقبلتم وما صنعتم فظنوا إنه من أهل حلب فأخبروه بصلحهم مع أبي عبيدة فتركهم ومضى وأن القوم استقبلهم أهل حلب فسالوهم فأخبروهم بالصلح ففرحوا بذلك واقبل العلج حتى اشرف على عسكر يوقنا وهو نازل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحاط بهم وهو يظن إنه قد ملكهم وهو يتوقع الصباح إذ أتى عليه العلج فقال له: أيها البطريق إنك غافل عما نزل بك ودهمك قال له: وما ذاك يا ويلك قال له: إن أهل بلدك قد صالحوا العرب وكأنك بهم وقد ملكوا القلعة وأخذوا الأموال والنسوان فلما سمع يوقنا ما أخبر به العلج خشي على قلعته أن يملكوها في غيبته فانعكس عليه ما كان يؤمل أن يفوز به من الظفر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد قتل من المسلمين نيف وعن المائتين وكعب قد اجهد نفسه في الحرب وايقنوا إنهم هالكون لا محالة قال كعب بن ضمرة وكنت ذلك اليوم صاحب القوم وأنا أثبتهم في الحرب والى الحرب أنهضهم بهمتي وأدفع عنهم بمهجتي فإذا أجحفني القتال وركبني الحرب التجأت إلى أصحابي وأنا مع ذلك أتوقع فرجا من الله تعالى واترقب راية أبي عبيدة أن تطلع فبعد علينا ذلك ولم تزل الحرب بيننا يوما وليلة إلى الصباح من اليوم الثاني فأقسم بالله أن كان أحدنا ليصلي ولا حصل له زاد يأكله ولا ماء يشربه وأنا بين اليأس والرجاء أترقب طريق قنسرين أن تطلع منه علينا راية الإسلام فما أرى لها أثرا فرايت عند الصباح جيش العدو وقد اضطرب من جوانبه وقد علت لهم ضجة عظيمة من جميع جوانبه فقلت: ما هذا إلا مدد لحقهم من البلد أو من الملك فالتجأت إلى كلمة الشدائد وهي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال كعب بن ضمرة فوعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت: الكلمة حتى رأيت جيش العدو وقد إنكشف عنا على عقبة فقلت: الحمد لله حمد الشاكرين وإني أظن أن صائحا صاح بهم من السماء فبددهم أو ملائكة نزلت عليهم كيوم بدر فلم ار لهم أثرا قال كعب فهممت أن اتبعهم فصاح المسلمون إلى اين يا كعب أما كفاك ما نحن فيه انزل بنا إلى الأرض وارض بما نحن فيه من التعب والنصب ونؤدي فرضنا ونريح خيولنا فما رد الله هؤلاء القوم إلا بمشيئته وقدرته قال فنزل كعب وشربوا الماء واسبغوا الوضوء وصلوا ما فاتهم وأكلوا زادهم واستقبلوا الراحة.قال الواقدي: وابطأ خبر كعب على أبي عبيدة فلما صلى الصبح انفتل من صلاته وأقبل على المسلمين وخاطب من بينهم خالدا وقال: يا أبا سليمان أن أخاك أبا عبيدة ما رقد الليلة غما وانه كان يجب علينا الشكر بما فتح الله علينا وأن نفسي تحدثني بأن الذين مع كعب ابن ضمرة قد قتلوا لما أخبرني هؤلاء الذين يسالون الصلح أن صاحبهم يوقنا قد سار إليهم ولم أر أثرا وأظن إنه صادف أصحابنا وقتلهم وأفناهم عن آخرهم فقال خالد: والله إني ما نمت مثلك من الغم عليهم فما الذي عزمت أن تصنع قال الرحيل ثم أمر الناس بالرحيل وارتحلوا وساروا يريدون حلب وعلى المقدمة خالد بن الوليد وعلى الساقة أبو عبيدة فما كان غير بعيد حتى أشرف على المسلمين خالد بن الوليد وهم نيام وقد اقاموا لهم من الديدبان من يحرسهم فلما أشرف عليهم خالد والراية في يده رفعها فوق راسه فلما رآها الديدبان صاح النفير يا أنصار الدين فثاروا عن مضاجعهم كأنهم أسد ثائرة واستووا في متون خيولهم واستقبلوا صاحب الراية فعرفوه فصاح بعضهم ببعض هذه والله راية الإسلام والمسلمين فنزل خالد وسلم عليهم واتصلت بهم الساقة واقبل أبو عبيدة فلما نظر كعب بن ضمرة حمدالله وأثنى عليه ونظر إلى موضع القتلى مطروحين وما كان من المسلمين ورأوهم فلما نظروا إلى ذلك عاد فرحهم ترحا واسترجعوا وقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أنا لله وأنا إليه راجعون وسأل كعبا كيف قتل أصحابك هؤلاء ومن قتلهم فأخبره كعب بقتال يوقنا وانه أشرف هو وقومه ومن كان معه على الهلاك حتى لم يبق فيهم حركة ونمنا ليلتنا هذه فلما أصبحنا وإذا هم قد صاحوا وانقلبوا راجعين عنا من غير قتال فقال أبو عبيدة: فسبحان مسبب الاسباب ليت أبا عبيدة قتل أمامهم ولم يقتلوا تحت رايته ثم أمر بدفن المسلمين بعدما جمعهم زمرا زمرا وصلى عليهم ودفنوهم باسلابهم ودمائهم ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الله الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة ودماؤهم على أجسادهم اللون لون الدم والريح ريح المسك والنور يتلألا عليهم ويدخلون الجنة» فلما واروهم في حفرهم قال لخالد أن كان عدو الله يوقنا رجع إلى القوم وعلم بصلحهم لنا فيلقون منه تعبا عظيما فألحق بهم فقد وجب علينا أن نذب عنهم لانهم تحت ذمتنا وارتحل أبو عبيدة يريد حلب فلما وصل إليها رأى البطريق وجنوده قد أحدقوا بأهل البلد وهم يريدون قتلهم ويقال لهم: يا ويلكم صالحتم العرب عن أنفسكم وصرتم عونا لهم علينا قالوا: قد فعلنا ذلك وإنهم قوم منصورون فقال: يا ويلكم أن المسيح لا يرضى بفعلكم فوحق المسيح لاقتلنكم عن آخركم أو تخرجون معي إلى قتالهم وتنقضون ما بينكم وبينهم من العهد والميثاق فأخبروني بمن بدأ بهذا الأمر حتى أبدا به قال فلم يطيعوه على ذلك فقال لعبيده ادخلوا عليهم وأئتوني بهم لاقتلنهم فقد اخبرني فلان إنه لقيهم وعرفني بهم فهجم العبيد عليهم وجعلوا يقتلونهم على فرشهم وأبواب منازلهم فسمع أخوه يوحنا الضجة في البلد وهم في القلعة فنظر إلى أخيه وهو يقتل في الناس وقد قتل من أهل البلد ثلثمائة فصاح بهم وبأخيه على رسلك لا تفعل فإن المسيح يغضب عليك وقد نهانا أن نقتل عدونا فكيف بمن هو على ديننا فقال يوقنا لاخيه إنهم صالحوا العرب عن البلد وصاروا لهم عونا علينا فقال يوحنا وحق المسيح لا ابقت عليك العرب أبدا وأن لهم من يقتص منك.قال: ومن يقتص مني قال المسيح يقتلك كما قتلتهم بغير ذنب فقال يوقنا أنت حملتهم على ذلك وأنت أول من أبطش به ثم عمد إلى أخيه وقبض عليه وجرد سيفه ليعلوه به فلما نظر يوحنا إلى أخيه وقد جرد سيفه وعلم إنه هالك رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم أشهد على إني مسلم وإني مخالف لدين هؤلاء القوم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال لأخيه: اصنع ما أنت صانع فإن كنت قاتلي فاني صائر إلى جنات النعيم فورد على يوقنا من اسلام اخيه مورد عظيم ومن أهل بلده ومن فزعه من المسلمين فحمله الغيظ على أن يرمي براس أخيه عن جسده والتفت إلى أهل البلد فوجدهم يستغيثون فلا يغاثون ويسألونه فلا يجيبهم ولا يكف عنهم فكثر منهم الضجيج وعلت الجلبة وقد أخذوا عليهم البلد من سائر جوانبها وقد أيس أهل حلب من نفوسهم وإذا بالفرج وقد أتى والمعونة وقد ادركتهم واشرفت عليهم رايات المسلمين وأبطال الموحدين وهم ينادون بكلمة التوحيد ويقدمهم خالد بن الوليد فلما نظر خالد إلى أهل حلب ولهم ضجيج بالصياح والبكاء قال لابي عبيدة: أيها الأمير هلك والله أهل صلحك وذمامك كما ذكرت فصاح بجواده وحملة الراية وزعق في القوم وقال افرجوا معاشر الأعلاج عن أهل صلحنا ثم أجاد فيهم الطعن وحمل المسلمون معه وبذلوا السيف في الأعلاج فلما نظر يوقنا إلى ذلك انهزم إلى القلعة ومعه بطارقته قال محصن بن عترة فرج الله عن أهل البلد بقتل الأعلاج يوم حلب في البلد فمن لجأ إلى القلعة سلم ومن طلب الهرب قتلناه قال محصن فكان جملة من قتل يوقنا من أهل صلحنا ثلثمائة وقتلنا نحن من أصحابه ثلاثة آلاف او يزيدون فكانت وقعة عجيبة ففرح المسلمون بها فلما قتل من قتل وفرج الله عن أهل حلب ما يجدون اخبروا أبا عبيدة كيف قتل يوقنا أخاه يوحنا وبالقصة جميعها.قال الواقدي: فلما سمع يوقنا سيوف المسلمين صعد القلعة هو ومن معه من جنده واستعد للحصار ونصب المجانيق ونشر السلاح على الاسوار وكثر آلة الحصار وأما أهل حلب فانهم أخرجوا لعساكر المسلمين أربعين أسيرا من البطارقة فقال لهم أبو عبيدة: لأي سبب أسرتم هؤلاء قالوا: لانهم من أصحاب يوقنا هربوا إلينا فلم نر أن نخفيهم منك لانهم ليسوا منا ولا معنا في الصلح قال فعرض عليهم الإسلام فأسلم منهم سبعة وأما الباقون فابوا فضرب رقابهم وقال لهم: لقد نصحتم في صلحكم وسترون منا ما يسركم وصار لكم ما لنا وعليكم ما علينا وهذا بطريقكم قد تحصن في هذه القلعة فهل تعرفون لها عورة تدلونا عليها حتى نقاتلهم منها فإن فتحها الله 8 علينا جعلناها لكم غنيمة مع ما غنمتم من قومكم حتى نكافئكم بفعلكم الجميل فقالوا: أيها الأمير والله ما نعرف لها عورة وأن يوقنا قد شحن طرقاتها وقطع مسالكها ووعر فجاجها وهذا ما نعلمه ولولا إنه قتل يوحنا لكان أخذها سهلا لكم فقال أبو عبيدة: وما جرى له فأخبروه بخبره وحديثه مع أخيه وانه أسلم بعدما رفع يديه إلى السماء وما ندري ما قال غير اننا سمعنا طرف كلامه وهو يقول: اللهم إني أشهد أن لا إله إلا أنت وأن عيسى عبدك ورسولك ومحمدا عبد ورسولك ختمت به الأنبياء وجعلته سيد المرسلين ولا دين أعلى من دينه فاصنع ما أنت صانع فلما اسلم قتله قال فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال في أي موضع قتله ثم وثب وأخذ خالدا معه وجماعة من المسلمين وأتوا إلى موضع قتله وهو راس سوق الساعة فوجده ملقى على ظهره وكأنه البدر ليلة تمامه مشيرا بأصبعه إلى السماء وقد مات وأصبعه قائمة فأخذه أبو عبيدة وكفنه وصلى عليه ودفنه في مقام إبراهيم فلما واروه أتى إلى ابي عبيدة رجل من المسلمين فقال أصلح الله الأمير انظر إلى هؤلاء القوم فإن كانوا من حزبنا نصحوا ودلونا على عورات قومهم فقال: لا والله ما يفعلون ذلك أبدا فعندها اقبل أبو عبيدة على المسلمين وقال: أشيروا علي رحمكم الله فقال له: ذلك الرجل وكان اسمه يونس بن عمرو الغساني وكان رجلا بصيرا بالشام وجباله ومدنه وجميع أرضه وعارفا بطريق الشام أصلح الله الأمير انظر إلى ما أعرف من البلد وما عندي من الرأي.قال أبو عبيدة: تكلم يا ابن عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين فقال أن الله قد فتح على يدك الشام وسهله وجبله وحزنه ووعره وقتل طاغية الكفر وحاميته وأما بقايا عساكرهم فهي من وراء الدروب وهي جبال وعرة ومضايق والقوم قد رعبت قلوبهم مما أباد الله منهم وليس لهم قلوب يقاتلون بها المسلمين فحاصر هذه القلعة وبث الخيل وشن الغارات وفي بقايا البلاد وشاطى الفرات فما لهم زاد يقوم بهم فتبسم خالد من كلام الغساني وقال هذا والله هو الراي وأنا اشير عليكم بمشورة أخرى أن نزحف نحو القلعة فلعل الله أن يفتحها في وقتنا هذا فاني أخشى أن طال بنا المقام أن تعطف علينا جيوش الروم من جهة أخرى فيحولوا بينها وبيننا قال أبو عبيدة: يا أبا سليمان لقد أشرت فأحسنت وقلت: فصدقت ثم أمر أبو عبيدة بالزحف إلى القلعة فترجلت الفرسان عن خيولهم وتجردت من ثيابهم واختلط العبيد والسادات وافتخرت القبائل وانبثت العشائر وتجابوا بالاشعار وتداعوا بالأنساب قال مسروق بن مالك فوالله ما رايت في قتال حصون الشام يوما كان أعظم من ذلك اليوم لاننا كنا نشبه دوران الحرب كدوران الرحى تهشم ما دارت عليه وقد برزنا إليهم في أول حربهم وتبادرت ابطال اليمن وسادات ربيعة ومضر يتلو بعضهم بعضا وجعلوا يطلبون القلعة من حيث لا طريق عليها فإذا دنوا منها أخذتهم الحجارة من كل جانب ورموهم بالمجانيق والغرازات وكنت أنا وأصحابي أقرب الناس إلى الأرض ففزعنا راجعين على أعقابنا يدفع بعضنا بعضا لا نظن أن ينجو منا أحد فوقعت الخذلة في المسلمين وقد شدخت منا الحجارة خلقا كثيرا فقتلت بعضنا وبعضنا رمته فكان من جملة من قتل يوم حصار قلعة حلب بالحجارة عامر بن الأصلع الربعي ومالك بن خزعل الربعي وحسان بن حنظلة ومروان بن عبد الله وسليمان بن فارغ العامري وعطاف بن سالم الكلابي وسراقة بن مسلم بن عوف العدوي ورجال من أهل اليمن من آل عامر ومن بني كلاب وغيرهم وسبعة من بني عبد الله قال مرزوق بن مالك فلقد كنا نرى بعد ذلك بسنين خلقا كثيرة عرجا من يوم حصار قلعة حلب فعندها نصب أبو عبيدة رايته خارج المدينة وجعل ينادي بالمسلمين فاجتمعوا إليه فقال: أيها الناس إنكم قاتلتم اليوم على غرة فادفنوا الشهداء وشدوا كل من أصابه جرح فانتدب المسلمون إلى ذلك وفرح الروم بهزيمة المسلمين وما قد نزل بهم فقال لهم يوقنا: أن العرب لا تدنوا من القلعة بعد هذا اليوم ابدا وأن حاصرونا فلاكيدنهم ولاهبطن إلى عسكرهم.قال الواقدي: ولقد حدثني عبد الله بن سليمان الدينوري وكان ممن نقل أخبار الشام وفتوحه عن ثقات المسلمين قال حدثني عمرو أن يوقنا انتخب ألفين من خيار بطارقته وابطاله وقال لهم: انزلوا مسرعين وليحذر بعضكم بعضا وميلوا على طرف عسكر المسلمين إذا خمدت نيرانهم واغتنموا غرتهم وأمر عليهم وزيره فنزلوا ليلا من القلعة وجعلوا يدورون حول العسكر إلى أن أتوا إلى مكان وقد خمدت نيرانهم وكان القوم بادية من أهل اليمن مثل مراد وبني كلاب وعبيدهم قال عبد الله بن صفوان البكي كنا تلك الليلة غادين من عدونا آمنين لكثرتنا وقد غفل حرسنا فلم نشعر إلا وجماعة الروم قد هجموا علينا وهم ينادون بلغتهم وقد أعلنوا التبهرج بزينتهم فلا نعلم ما يقولون ووضعوا السيف فينا فكان النجيب منا من استوى على جواده وطلب النجاة وهو لا يعلم من أين هي ولا كيف يتخلص وقد وقعت الجندلة في أبطال المسلمين وعساكرهم والقوم ينادون النفير النفير دهينا ورب الكعبة وهم يسرعون إلى خيمة أبي عبيدة وينادون أيها الأمير كبسنا يوقنا فعندها ركب الأمير في بعض الرجال وجعل يدور حول العسكر فنظر صاحب الروم إلى العرب وقد لحقته فصاح بأصحابه من كان أخذ شيئا فليتركه ويطلب نجاة نفسه قال عبد الله بن صفوان أخذوا من رجالنا نحو خمسين رجلا من أخلاط الناس واكثرهم من ربيعة ومضر ومضوا يجمع بعضهم بعضا ويطلبون القلعة فلما نظر خالد إلى ذلك حمل في أصحابه واقتطع من الروم زهاء من مائة رجل ووضع فيهم السيف فقتلهم عن آخرهم فلما وصل أصحاب يوقنا إلى القلعة فتح لهم وأدخلهم فلما أضاء الفجر وطلعت الشمس دعا يوقنا بالمسلمين الخمسين رجلا وهم موثقون بالحبال فقربهم إلى موضع ينظرهم المسلمون ويسمعون اصواتهم وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى قتلوا عن آخرهم فلما نظر أبو عبيدة إلى ذلك أمر مناديا ينادي في عسكره عزيمة من الله ورسوله ومن الأمير أبي عبيدة على كل رجل لا يكل حرسه إلى غيره ولكن كل رجل منكم حارس نفسه ولا يتكلم بعضكم مع بعض قال فأخذ القوم حذرهم وأعدوا حرسهم وأقبل يوقنا يدبر أمره في مكيدة أخرى ليكيد بها المسلمين إذ علم إنهم محاصرون ومع ذلك جواسيسه تأتيه بالأخبار في الليل والنهار وكان أعظم جواسيسه من متنصرة العرب لأنهم كانوا يحسنون لسان الرومية.قال فبينما يؤقنا ذات يوم جالس في قلعته والبطارقة من حوله وقد أضر بهم الحصار وأشد ما كان عليهم من أهل المدينة لأنهم لا ينظرون إلى رجل من أصحابه يعرفونه إلا أخذوه وسلموه للمسلمين وإذا بجاسوس قد اقبل وهو من عيونه فقال له: أيها السيد أن أردت أن تكيد العرب فهذا وقتك فقال له: يوقنا وكيف ذلك وما الذي عندك من الخبر قال: أن العلافة منهم قد خرجوا إلى وادي بطنان وقد صالحوا أهله وعلوفة العرب ميرتهم منه وقد رأيت منهم جمالا وبغالا ومعهم طائفة منهم وعليهم القمصان الخلقة وبأيديهم الرماح المشبعة وهم يقصدون القرى في طلب الميرة وهم قليلون وليس هم في كثرة فلما سمع يوقنا ذلك من جاسوسه اختار ألفا من أصحابه وقال لهم: أصلحوا شأنكم فوحق المسيح لأضيقن على العرب مسالكهم ولاقطعن عليهم طرقاتهم فلما أقبل الليل فتح لهم الباب وسار الجاسوس أمامهم حتى استقاموا على الجادة وجعلوا يسيرون تحت جنح الليل فبينما هم كذلك إذ هم براع ومعه سرح من البقر يريد بها بلده وقد خرج بها من بلد آخر وهو يسير بها سيرا عنيفا فلما نظروا إليه أسرعوا نحوه وقالوا: احسست بأحد من العرب قد عبر عليك قال: نعم والشمس عند الغروب قد اصفرت وهم نحو مائة رجل على خيول وهم مسرعون ومعهم جمال وبغال وهم يريدون الميرة من هذا الوادي من الذين هم في صلحهم ولسنا نخاف منهم فقال له: المقدم عليهم الآن قد القيت علينامن صلح أهل هذا الوادي ما لم يكن عندنا منه خبر فبحق المسيح أخبرنا بأي طريق ذهبت العرب فقال من ههنا وأومأ بيده إلى الشرق فصار البطريق بمن معه ولم يعرفوا أن صاحب البقر منهم حتى إذا قرب الصبح أشرفوا على خيل المسلمين وكان الأمير عليها يقال له مناوش فلما نظر مناوش إلى خيل الروم قد اقبلت أقبل على أصحابه وقال: يا بني العرب هذا بطريق من بطارقة الروم قد أقبل إلينا فدونكم إياه والجهاد والصبر على الشدة تنالوا الجنة ثم حمل وحمل معه أصحابه فحملت عليهم الروم فثبت لهم المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا وقتل مناوش بن الضحاك والغطريف بن ثابت ومنيع بن ثابت ومنيع بن عاصم وكهلان بن مرة فقتل من المسلمين ثلاثون رجلا كلهم من طيء وانهزم الباقون وملكت الروم ما كان مع المسلمين من الإبل والبغال وعاد المسلمون منهزمين فعند ذلك أقبل البطريق على أصحابه وقال ارموا الأحمال عن هذه الدواب واعقروها وسوقوا بقية الدواب بما عليها فإنها لنا ميرة واطلبوا الجبل واختفوا عن أعين العرب وإلا ففي هذه الساعة تطلع علينا خيول العرب كالرياح تهزمكم فأكمنوا حتى إذا جاء الليل طلبنا القلعة واعتصمنا بها ففعلوا ذلك وقتلوا الجمال وساقوا الدواب والتجؤا في الجبل إلى قرية فأقاموا بقية يومهم يرقبون الليل ليرجعوا إلى القلعة وأقاموا لهم ديدبانا قال عوف صباح الطائي كنت في الخيل لما قتل عمي مناوش ونحن في قلة وقد دهمتنا الخيل فلما نظرنا إلى كثرة الروم وشدة بأسهم مع قلتنا أخذنا على أنفسنا وأتينا المسلمين فبادر إلينا أبو عبيدة وقال لنا ما وراءكم قلنا الحرب والطعان قتل منا مناوش وقتل معه خلق كثير من فرساننا وأخذ ما كان معنا من الزاد والدواب.فقال أبو عبيدة: وما الذي دهاكم وقد حاصر الله الروم ما يجسر أحد أن يخرج منهم قالوا: لا علم لنا غير أنا رأينا بطريقا عظيما قد أشرف علينا وهو في عدة حصنة وخيول كثيرة مستعدين للقتال لا نعلم عددهم ولا من اين أتى مددهم فهجموا علينا ونحن سائرون فاصيب أميرنا وقتل رجالنا وأخذوا ما كان معنا من الدواب والزاد فلما سمع أبو عبيدة ذلك دعا بخالد بن الوليد إليه وقال: يا أبا سليمان أنت لها والمعد لمثلها وأنا واثق بالله ثم بك مع إني أستخير الله في أموري سر على بركة الله تعالى وخذ معك من المسلمين من أردت لعلك أن تقفوا القوم وتعاني موضع أثر الوقعة وتتبع آثارهم عسى الله أن يوقعنا بهم واطلبهم أينما كانوا وحيث ساروا لعلك تأخذ بثأر المسلمين وأعلم اننا صالحنا أهل الوادي واننا لا ننقض عهدنا ولا نحول عن قولنا إلا أن يكون القوم قد مكروا بنا فنجد إلى قتالهم سبيلا فاتق الله فيهم سر يرحمك الله قال فأسرع خالد إلى خيمته ولبس سلاحه واستوى على متن جواده وهم بالمسير وحده فقال له أبو عبيدة: إلى أين يا أبا سليمان قال له: اسارع إلى ما أمرتني به فقال له: خذ من أردت معك من المسلمين فقال خالد: أنا أمضي وحدي وما أريد أحدا فقال له أبو عبيدة: كيف تمضي وحدك وعدوك في عدد كثير قال خالد: لو كانوا في ألف أو ألفين القاهم بمعونة الله تعالى فقال له أبو عبيدة: إنك كذلك ولكن خذ معك رجالا قال فاخذ ضرارا وأمثاله وسار حتى أتى إلى موضع الوقعة فراى القتلى مطروحين ورأى حولهم أهل الوادي وهم يبكون خوفا من المسلمين على أنفسهم وذراريهم وأن العرب تطالبهم بهم فلما طلع عليهم خالد ومن معه كأنهم شعلة نار تصارخ القوم في وجهه والقوا أنفسهم بين يديه فقال لهم خالد: من هؤلاء القوم الذين قتلوا أصحابنا قالوا: أنا نحن بريئون من دماء أصحابكم ونحن في صلحكم فاستحلفهم خالد إنهم لا يعلمون من قتلهم فحلفوا له فقال لهم: من الذي أوقع بأصحابي فقالوا: بطريق بعثه يوقنا من القلعة ومعه ألف فارس من أشد قومه وأن لهم في عسكركم عيونا يخبرونه بما أنتم فيه كل ساعة فقال لهم: وفي أي طريق قصدوا قالوا: في هذا الطريق فقال خالد: أو ما حلفتم أن ما عندكم علم بهم قالوا: هذا الذي يخبرك من أهل حلب قد أتى يشتري طعاما ولولا إنك أقبلت في هذه الساعة ما كنا عرفنا من قتلهم فقال له خالد: أعلى هذا الطريق أخذوا فقال له الرجل: نعم ورأيتهم يطلبون الجبل فقال خالد لأصحابه: أن القوم علموا إنهم لا بد لهم من خيل تطلبهم وتتبعهم وقد عدلوا عن طريقنا حتى إذا هجم عليهم الليل رجعوا إلى قلعتهم فعولوا على المسير في طلبهم ثم إنهم ارخوا الأعنة وخالد يقدمهم وقد أخذ معه رجالا من المعاهدين يقفون بهم أثر الطريق والقوم فلما حصلوا على الطريق قال خالد لواحد من المعاهدين: ألهم طريق إلى قلعتهم غير هذا؟.قال: نعم ولكن كن ههنا فانك تفوز بهم أن شاء الله تعالى فنزل خالد ومن معه في الوادي وهم يرقبون الطريق فما مضى من الليل إلا قليل إذ سمع وقع حوافر الخيل والبطريق أمامهم والخيل من ورائه وهو يزجرهم ويحثهم على المسير فلما توسطوهم صاح خالد صيحة شديدة ووثب خالد كأنه الاسد وخرج عليهم هو وأصحابه فما كان قصد خالد غير البطريق وظن إنه يوقنا فضربه ضربة رماه نصفين وقد وضعوا السيف فيهم وجعلوا يطلبونهم وهم في الهرب فلم ينج منهم إلا من أطال الله أجله وحازوا جميع ما معهم وأتوا برأس البطريق إلى أبي عبيدة على رأس رمح فوجدوه متلهفا على قدومهم فلما أشرف خالد بمن معه من الاسارى والإسلاب والدواب هللوا وكبروا فأجابهم العسكر بالتهليل والتكبير قال: وأتى خالد ومن معه بالرأس والإسلاب والاسارى فكانوا أزيد من ثلثمائة اسير ورؤوس القتلى سبعمائة فعرضوا عليهم الإسلام فابوا وقالوا: نحن نعطيك الفداء فقال خالد: نضرب رقابهم قبال القلعة لنوهن بذلك عدو الله قال فضربت رقابهم قبال القلعة فقال خالد: أنا كنا نظن أنا محاصرون القوم وإذا نحن بخلاف ذلك وهم يرقبون غفلتنا وينتظرون غرتنا وقد قتلوا جمالنا والدواب والصواب أن نجعل عليهم حرسا في كل طريق يمكننا ولا نمكنهم أن يخرجوا من قلعتهم ونضيق عليهم ما استطعنا قال أبو عبيدة: جزاك الله خيرا يا أبا سليمان ما ابصرك بالأمور فلما كان من الغد وصلى أبو عبيدة بالناس صلاة الفجر دعا بعبد الرحمن بن أبي بكر وبضرار بن الأزور وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقيس بن هبيرة وميسرة بن مسروق ففرقهم حول القلعة ومعهم من اختاروا وأمرهم أن يمسكوا الطريق والمسالك على يوقنا حتى لو طار طائر منها أو إليها اقتنصوه وأقام القوم على ذلك مدة فلما طال عليهم ذلك ضجر أبو عبيدة لطول مقامه فأمر الناس بالرحيل عنهم وعزم أن يتباعد عنهم أي عن القلعة لعل أن يجد منهم غفلة فينتهزها قال فبعد عن المدينة فنزل بقرية بقرب منها يقال لها النيرب وهو يريد حيلة يصل بها إلى يوقنا قال: ويوقنا لا ينزل من القلعة ولا يفتح بابها ففكر أبو عبيدة غاية الفكرة وقال لخالد يا أبا سليمان أن جواسيس عدو الله تكشف أخبارنا وتوصلها إليه وتخوفه فاني أقسم عليك يا أبا سليمان إلا ما جلت في عسكرنا جولة واختبرت أمر الناس فلعلك تقع بأحد من جواسيسه قال فركب خالد وأمر الناس أن يدوروا في عسكرهم وأن يقبضوا على كل من إنكروه قال فبينما خالد في طوافه إذ نظر إلى رجل من العرب المتنصرة وبين يديه عباءة يقلبها فجعل خالد يرقبه فاستراب الرجل منه فناداه وقال من أي الناس أنت يا أخا العرب قال أنا رجل من اليمن قال من أيها قال فأراد أن يقول: وينتمي إلى غير قبيلته فجرى الحق على لسانه فقال أنا من غسان فلما سمع خالد كلامه قبض عليه وقال له: يا عدو الله أنت عين علينا لعدونا قال: ما أنا متنصر وأنا مسلم فأتى به إلى أبي عبيدة وقال: أيها الأمير قد رابني أمر هذا لأنني ما رأيته قط إلا يومي هذا وقد ذكر إنه من غسان ولا شك إنه من عباد الصليب فقال أبو عبيدة: اختبره يا أبا سليمان قال: وكيف أختبره قال اختبره بالقرآن والصلاة فإن أجابك وإلا فهو كافر فقال له خالد: فصل ركعتين واجهر بالقراءة فيهما فلم يدر ما يقول: فقال له خالد: أنت يا عدو الله عين علينا ثم استخبره عن شأنه فأخبره وأقر إنه عين عليهم فقال له خالد: أنت وحدك قال: لا ولكنا ثلاثة أنا أحدهم والاثنان قد ذهبا إلى القلعة ليخبرا يوقنا بخبركم وأنا قد تخلفت لأنظر ما يكون من أمركم.فقال أبو عبيدة: أخبرني أيما أحب إليك القتل أو الإسلام فليس بعدهما شيء فقال الغساني أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم رجع أبو عبيدة إلى حلب وما زالت القلعة محاصرة أربعة أشهر وقيل خمسة اشهر وابطأ خبر أبي عبيدة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى ابي عبيدة يقول: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله أبي عبيدة سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واعلم يا أبا عبيدة أن بانقطاع كتابك وابطاء خبرك يكثر قلقي ويضني جسدي على إخواني المسلمين وما لي ليل ولا نهار إلا وقلبي عندكم ومعكم فإذا لم يأت منك خبر ولا رسول فإن عقلي طائر وفكري حائر وكأنك لا تكتب الي إلا بالفتح أو الغنيمة واعلم يا أبا عبيدة أنني وأن غائبا عنكم فإن همتي عندكم وإني داعي لكم وقلقي عليكم كقلق الوالدة الشفوقة على ولدها فإذا قرأت كتابي هذا فكن للاسلام والمسلمين عضدا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعث الكتاب إلى أبي عبيدة فلما ورد عليه وقرأه عليهم قال معاشر المسلمين إذا كان أمير المؤمنين داعيا لكم وراضيا عنكم في فعالكم فإن الله ينصركم على عدوكم ثم كتب جواب الكتاب يقول: بسم الله الرحمن الرحيم إلى ابي عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله بالشام أبي عبيدة سلام عليك وإني أحمد الله تعالى وأصلي على نبيه وبعد يا أمير المؤمنين فإن الله تعالى له الحمد قد فتح على أيدينا قنسرين وقد شننا الغارة على العواصم وقد فتح الله علينا مدينة حلب صلحا وقد عصت علينا قلعتها وبها خلق كثير مع بطريقها يوقنا وقد كادنا مرارا وذكر له ما جرى له مع أخيه يوحنا وأنه قتل منا رجالا ورزقهم الله الشهادة على يديه ثم إنه ذكر له من قتل والله تعالى من ورائه بالمرصاد وقد أردنا الحيلة عليه فلم نقدر وأردت الرحيل عنه وعن محاصرته إلى البلاد التي بين حلب وانطاكية وأنا منتظر جوابك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وبعث الكتاب مع عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فسار إلى أن أخذا في طريق هيشت العتيقة وجدا في السير حتى قطعا أرض الجفار إلى صكاصكة وهي حصن العرب قريبة من تيما فلما وصلا إليها عارضهما فارس وعليه درع سابغ وعلى رأسه بيضة تلمع وهو معتقل برمح كأنه قد برز إلى عدوه أو قاصد إلى قتال فلما نظر إليهما قصدهما فقال عبد الله بن قرط لجعدة ابن جبير يا ويلك أما ترى هذا الفارس وقد عارضنا في مثل هذا المكان على مثل هذه الحالة فقال له جعدة: وما عسى أن نتخوف من فرسان العرب ورجالها وليس في هذا الموضع من رفع عمودا أو ضرب وتدا إلا واصبح معنا ودخل تحت طاعتنا وفي شريعتنا فلما قرب الفارس منا سلم علينا وقال من أين أقبلتما والى اين قاصدان فقالا له نحن رسولان من الأمير أبي عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن أنت أيها الرجل قال أنا هلال بن بدر الطائي فقالا له ما لنا نرى عليك آلة الحرب قال إني خرجت في طوائف من قومي وجماعة من أصحابي نريد الشام للجهاد لكتاب ورد علينا من عمر بن الخطاب فلما رأيتكما في بطن الوادي قصدتكما لأنظر ما قصتكما ولي أصحاب من ورائي مقبلون.ثم سلم عليهما وولى فركضا مطيهما وسارا وإذا بالخيل قد أشرفت والإبل قد اقبلت تتبع هلال بن بدر ارسالا يتبع بعضها بعضا إلى أن لحقوه فأخبرهم بقصة صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك وساروا يريدون الشام وأما عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فانهما وصلا المدينة ودخلا المسجد وسلما على عمر بن الخطاب وعلى المسلمين ودفعا له الكتاب فلما قرأه استبشر ورفع كفيه إلى السماء وقال اللهم اكف الناس شر كل ذي شر ثم أمر مناديا في الناس الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس قرا عليهم كتاب أبي عبيدة فلما قرأه قدم عليه من حضرموت واقاصي اليمن من همدان ومدان وسبا ومارب يسألونه أن ينفذهم إلى الشام فقال لهم عمر: في كم أنتم بارك الله فيكم قالوا: نحن زهاء من أربعمائة فارس وثلثمائة مطية مردفين ومعنا أناس يمشون على أقدامهم لا ركاب لهم فإن كان عند أمير المؤمنين ما يحملهم عليه حتى نصل إلى عدونا فقال لهم عمر: وكم يبلغ الرجال الذين معكم قالوا: أربعين ومائة رجل فقال لهم: عرب أو موال قالوا: عرب وموال أذن لهم ساداتهم في الجهاد والمسير إلى الأعداء فعندها دعا عمر بعبد الله ابنه رضي الله عنه وقال أمض إلى مال الصدقات فأت القوم بسبعين راحلة ليعتقبوا عليها ويحملوا زادهم وميرتهم على ظهورها فأسرع عبد الله بن عمر وأتى بسبعين بعيرا وسلمها إليهم وقال لهم: جدوا رحمكم الله إلى اخوانكم المسلمين واسرعوا إلى حرب عدوكم ثم كتب إلى ابي عبيدة أما بعد فقد ورد علي كتابك مع رسلك فسرني ما سمعت من الفتح والنصر على اعدائكم ومن قتل من الشهداء وأما ما ذكرته من انصرافك إلى البلاد التي بين حلب وانطاكية وتترك القلعة ومن فيها فهذا رأي غير صواب تترك رجلا قد دنوت من دياره وملكت مدينته ثم ترحل فيبلغ إلى جميع النواحي إنك لم تقدر عليه ولم تصل إليه فيضعف ذكرك ويعلو ذكره ويطمع من يطمع ويجترىء عليك أجناد الروم خاصتهم وعامتهم وترجع إليه الجواسيس وتكاتب ملوكها في أمرك فإياك أن تبرح عن مجاهدته حتى يقتله الله او يسلم إليك أن شاء الله تعالى أو يحكم الله وهو خير الحاكمين وبث الخيل في السهل والوعر والضيق والسعة وأكناف الجبال والأودية وشن الغارات في حدود المفازات ومن صالحكم منهم فاقبل صلحه ومن سالمك فسالمه والله خليفتي عليك وعلى المسلمين وقد انقذت كتابي إليك ومعه عصبة من حضرموت وغيرهم وأهل مشايخ اليمن ممن وهب نفسه لله تعالى ورغب في الجهاد في سبيل الله وهم عرب وموال فرسان ورجال والمدد يأتيك متواترا أن شاء الله تعالى والسلام وختم الكتاب وسلمه لعبد الله بن قرط وجعدة وجعل القوم يجدون في سيرهم ومع ذلك يسألون عبد الله بن قرط وصاحبه عن بلاد الشام وفتح البلاد وقتل الروم إلى أن سألوهما عن مستقر العسكر فقال لهم عبد الله: أن جميع المسلمين وأميرهم محاصرون بقلعة حلب وفيها عظيم من عظماء الروم ومعه أعلاج من أصحابه وقد تحصنوا في رأس قلعته فقالوا له: يا ابن قرط ما لهؤلاء لا يدخلون في جملة من صالح من أصحابهم فقال لهم: يا معاشر العرب أنا لم نر بعد وقعة اليرموك رجالا أشجع من هذا فلقد قتل رجالا وجندل أبطالا وأنه ليغير على أطراف العسكر في وقت صلاتهم فيقتل رجالهم وينهب أموالهم ويرجع إلى قلعته وربما إنه يستتر في سواد الليل في طلب العلافة فيقع بهم فيأمر بهم ويأخذ دوابهم وجميع.زادهم وميرتهم ثم يعود إلى قلعته ونحن لا نعلم به وأن المسلمين له محاصرون ومنه خائفون حذرون.قال: وكان فيمن سمع كلامه وفهمه مولى من موالي بني طريف من ملوك كندة ويقال له دامس: ويكنى بأبي الأهوال مشهور باسمه وكنيته وكان اسود كثير السواد بصاصا كأنه النخلة السحوق إذا ركب الفرس العالي من الخيل تخط رجلاه بالأرض وأن ركب البعير العالي تقارب ركبتاه رجلي البعير وكان فارسا شجاعا قويا قد شاع ذكره ونما أمره وعلا قدره في بلاد كندة وأودية حضرموت وجبال مهرة وارض الشحر وقد أخاف البادية ونهب أموال الحاضرة وكان مع ذلك لا تدركه الخيل العتاة وكان إذا ادركته العرب في باديتها تعجبت من صولته وشجاعته وبراعته فلما سمع دامس أبو الهول بذكر يوقنا وما فعل بالمسلمين كاد أن يتمزق غيظا وحنقا وقال لعبد الله ابن قرط أبشر يا أخا العرب فوالله لأجتهدن في أن يخذله الله على يدي فلما سمع عبد الله كلامه جعل ينظر إليه شزرا وقال: يا ابن السوداء لقد حدثتك نفسك آمالا لا تبلغها وأشياء لا تدركها يا ويلك ألم تعلم أن فرسان المسلمين وأبطال الموحدين بأجمعهم له محاصرون ولأصحابه محاربون ومع ذلك لا يقدر أحد له على شر وقد كاد ملوكا وقهرها فلما سمع دامس كلام عبد الله بن قرط غضب وقال: والله يا عبد الله لولا ما يلزمني لك من أخوة الإسلام لبدأت بك قبله فاحذر أن تزدري بالرجال وأن أحببت أن تعرفني فسل عني من حضر من أهلي وما قد تقدم من فعلي الذي من ذكره تطيش العقول وتضيق الصدور كم من عساكر قتلتها وجموع فرقتها ومحافل بددتها وغارات شننتها ولا يضام لي جار ولا يلحقني عار وبحمدالله أنا فارس كرار غير فرار ثم تركه مغضبا وسار أمام الناس وأن قوما من العرب قالوا: لعبد الله بن قرط يا أخا العرب ارفق بنفسك فانك وايم الله تخاطب رجلا يقرب إليه البعيد ويهون عليه الصعب الشديد وانه لجليد فريد لا تهوله الرجال ولا تفزعه الأبطال أن كان في حرب كان في أولها لا يدركه من طلب ولا يفوته من هرب فقال عبد الله لقد كثر وصفكم وأطنبتكم في ذكركم وأرجو أن يجعل الله فيه خيرا وفرجا للمسلمين قال ثم أخذ القوم في جد السير حتى قدموا حلب إلى أبي عبيدة وهو منازل أهل قلعة حلب ومحاصرها وقد أحاط المسلمون بالقلعة من كل جانب فلما أشرف القوم عليهم أخذوا في زينتهم وجردوا سيوفهم وأشهروا سلاحهم ونشروا راياتهم وكبروا بأجمعهم وصلو على نبيهم فاجابهم أهل العسكر بالتكبير من كل جانب واستقبلهم أبو عبيدة وسلم عليهم وسلموا عليه ونزل كل قوم عند بني عمهم وعشيرتهم ويوقنا ما زال في كل ليلة ينشط إليهم برجاله ويناوشهم وذلك إنه كان لا يقاتلهم إلا قليلا ولا يظهر من القلعة نهارا ابدا وكان أكثر خروجه في وقت خروج الناس فلما بات المسلمون القادمون في تلك الليلة ونظرت طيء وسنيس ونبهان وكندة وحضرموت إلى شدة الحرس وعظم حرسهم وحذرهم اقبل دامس أبو الهول على اهله الذين نزل عليهم من طريف وكندة فقال لهم دامس: والله ما أنتم محاصرون لا محالة فقالوا له: وكيف لك قال: لان العدو في راس قلعة وانتم قدام العدو من الأرض لقربكم ولا عسكر بازائكم تخافونه فما هذا الخوف قالوا: يا أبا الهول أن صاحب هذه القلعة علج ميشوم يرتقب غفلتنا ويغير على أطرافنا ويأتينا من امننا فبينما دامس يخاطب القوم وإذا بالضجة قد وقعت في طرف عسكر المسلمين ولها جلبة عظيمة فوقف دامس منتضيا حسامه متنكبا حجفته وطلب الناحية التي سمع منها الصوت حتى بلغ إليها وإذا بيوقنا في خمسمائة رجل أبطال أنجاد وليوث شداد وقد وجد غرة من القوم فلما نظر دامس إلى الروم وقع في وسطهم وجعل يقول:قال: وجعل يضرب في أعراضهم بسيفه ومعه طائفة من بني طريف من شجعانهم وفرسانهم فلما نظر يوقنا ما نزل به تقهقر إلى ورائه وقد قتل من رجاله مائتان ودامس يكر عليهم ويتبعهم إلى رأس درب القلعة وكندة من ورائه فناداهم أبو عبيدة عزيمة مني عليكم أن لا يتبعهم منكم أحد في ظلمة هذا الليل فقال الناس يا أبا الهول أن الأمير يعزم علينا وعليك بالرجوع فارجع رحمك الله فرجع دامس إلى رحله وتراجع القوم إلى رحالهم وقد أبليت كندة بلاء حسنا والناس قد خرجوا فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة مع أبي عبيدة فلما قضيت الصلاة تفرقوا ولم يبق إلا نفر يسير من أمراء المسلمين فجعلوا يذكرون ليلتهم فقال خالد: أصلح الله الأمير لقد رأيت كندة وقد ابليت بلاء حسنا وقد تقدمت رجالها وثبتت ابطالها وما زالت تضرب حتى أزالت عنا حامية الكفر والعدو فقال أبو عبيدة: صدقت والله يا أبا سليمان والله لقد أسعدت الناس كندة بثباتها والله لقد سمعتم يقولون أحسن دامس وأجاد أبو الهول فقام إلى ابي عبيدة رجل من رؤساء كندة يقال له سراقة بن مرداس بن يكرب فقال: أصلح الله الأمير دامس هو أبو الهول وهو مولى طريف قدم مع هذا الوفد الذي ورد بالأمس وهو رجل يفجر ويهول على الأبطال ويفضح الشجعان وبذل الأقران لا يهوله جمع ولا يصعب عليه غارة فقال أبو عبيدة: لخالد أما تسمع كلام سراقة في عبدهم دامس فقال خالد: يوشك أن يكون صادقا في قوله ولقد سمعت بذكره وحديثه وشجاعته وبراعته ولقد أخبرني رجل يقال له النعمان بن عشيرة المهري: إن دامسا هذا أغار وحده وهم على ساحل البحر في سبعين رجلا من أهل مهرة وكان دامس هذا يطلبهم لأجل ثأر كان له عند القوم وكانوا يخافون منه ومن شره وبأسه فكانوا مع ذلك يفتدون بأموالهم ودوابهم ويهربون إلى أطراف الجبال وسواحل البحر حذرا منه وكان مع ذلك يسال عن أخبارهم ويطلع على آثارهم فلما اصبح عند نزولهم على ساحل البحر استصرخ قومه للغزو فتشاغلوا ولم ينفر منهم أحد معه وكان خبيرا بالبلاد سهلها ووعرها برها وبحرها فلما ايس من قومه دخل إلى خبايته واحتمل رزمة على عاتقه فأتاه اناس من قومه وقالوا له: إلى اين تريد وما هذا الذي معك فقال: يا قوم أنا أريد الغارة على بني الشعر وآخذ بالثار واكشف العار فقال له مشايخ الحي: ما رأينا أعجب من أمرك وأنت تعلم أن بني الشعر سبعون فمن يريد أن يغير عليهم وحده ويأخذ منهم بالثأر وما سمعنا بهذا ابدا وأنا نرى أن تقصد جواد وكانت جواد هذه امة لبني حياس من الحضارمة وكانت بقرية من قرى حضرموت يقال لها: أسفل وكان دامس هذا يهواها وكل ما يأخذه من الأموال والخيل والإبل يدفعه إليها ولا يعظم عليه كثرته وكان لا يرضى لها بالقليل ولا يشبع لها بالكثير فظن القوم إنه مضى إليها وقصد نحوها بحملته التي معه من رزمته فقال لهم: وايم الله إني بطل فما تظنون وسوف تعلمون أن ما أفعله الحق واليقين قال فرجع قومه وتركوه وسار إلى أن أتى إلى مرعى قومه فأخذ راحلته من ابلهم ورحلها واخذ سيفه وحجفته وجعل الرزمة تحته وسار بقية يومه وليلته حتى إذ كان آخر الليل عطف بالراحلة إلى بعض الأودية فأبركها وحل رحلها وعقلها ودورها ترعى معقولة ثم كمن بين حجرين وكان قريبا من القوم ويخاف أن يدوروا به فلما مضى عليه نهاره واقبل ليله أتى إلى راحلته وأبركها ورحلها واستوى في كورها وسار حتى اشرف على نار القوم فعدل بناقته حتى اشرف على الحي وكان في ذلك الشرف شجر من الطلح فأبرك ناقته وزم شدقها لئلا ترغو فيسمع القوم رغاءها ثم عمد إلى رزمته فحلها واستخرج منها الثياب واتى إلى تلك الشجرة فجعل على كل عود منها مثل عمامة الرجل ويأتي بالعود ينصبه ويسنده بالحجارة ويطرح عليه الأزار ولم يزل حتى أقام أربعين عودا على هذه الصفة وجعل عليه حلة حمراء أرجوانية وهبط من ذلك الشرف الذي عليه الثياب وقصد الحي ودار حول بيوتهم وتفكر في أمره وكيف يحتال وقد مضى أكثر الليل ثم صبر إلى أن طلع الفجر وسار نحو الساحل فلما قرب منهم صاح فيهم وقال دنا أجلكم أنا أبو الهول ولقد أصبحتم بالويل وأخذتم من البر والبحر وجعل ينادي يا لثار طريف يا آل طريف يا آل كندة فلما وقع صوته في أسماعهم ذهلت رجالهم وتصارخت نساؤهم وفزع القوم بين يديه من البيوت هاربين والى الساحل نحو الجبل طالبين وهو من خلفهم فلما رأوه وحده شجع بعضهم بعضا ورجعوا إليه يقاتلونه وطمعوا فيه لما رأوه وحده ولم يروا أحدا من ورائه وأخذوا في طلبه فجعل يكر عليهم ويرجع عنهم ويقتل رجلا بعد رجل فلما نظروا إلى شدة بأسه وعظم مراسه وهول صولته وشدة حملته أرادوا أن يسبقوه إلى الشرف ليأتوا إليه من ورائه فلما علم إنهم قد قاربوا الأعواد التي عملها وعليها الثياب خاف أن ينظروا إليها ويعلموا ما فعله من المكر فسبقهم إلى الشرف وسار أمامهم وأقبل على الأعواد مخاطبا لها كأنه يخاطب الرجال وهو يقول: يا أهل كندة يا أهل طريف إياكم والقوم قد أتتكم الرجال فلا تحملوا عليهم وأنا أفديكم بنفسي فإن رأيتم علي الحيف فاحملوا على القوم فمد القوم ابصارهم إليه فوجدوا عنده الثياب على الأعواد في انشقاق الفجر فلم يشكو إنهم رجال فانقلبوا راجعين نحو البحر وجعل دامس ينادي إلا يا قوم أقسمت عليكم أن لا تبرحوا من أماكنكم وأنا أكفيكم مؤنة القوم وحدي فرجعت بنو مهرة ناكصين على أعقابهم هذا قد أردف زوجته وهذا أولاده وهذا أمته وهذا أخذ ما قدر عليه من أثاثه ورجع أبو الهول إلى الحي فلم يصادف فيه إلا العبيد والصبيان والمشايخ والعجائز فأمر العبيد أن يوقروا الجمال فحملوها وكتفهم وساق الجميع قدامه وعاد وأخذ الثياب من على الأعواد ولحقهم وأتى بهم ديار قومه فعجبوا منه ومن فعاله فلما سمع أبو عبيدة ذلك من خالد أقبل على سراقة وقال له: ادع لي عبدكم حتى أنظر إليه واسمع كلامه فأتى به سراقة فقال له أبو عبيدة: أنت دامس قال: نعم أصلح الله الأمير فقال له: بلغني عنك عجائب وأنت وايم الله أهلها لأنك جزل من الرجال وأعلم إنك وقومك تقاتلون في بلاد سهلة لا تأتون الجبال ولا القلاع ولقد اقتحمت البارحة أثر القوم اقتحاما منكرا فارفق بنفسك واحذر من هذا البطريق يوقنا فقال له دامس: أصلح الله الأمير لقد غزوت مهرة وأخذت أموالها وأن جبالها منيعة شامخة رفيعة ذات وعر وحجر وما هذه بامنع من تلك الجبال فقال أبو عبيدة: أنا أراك نجيبا فهل حدثتك نفسك من أمر هذه القلعة بشيء فقال دامس أصلح الله الأمير إني لما قدمت عليك في هذا الوقت كنت رأيت في نومي رؤيا فقال أبو عبيدة: وما الذي رأيت أراك الله الخير قال رأيت كأني سائر في وطاة من الأرض وإني مجد أطلب قومي فبينما أنا في مسيري إذ أشرفت عليهم وهم حائرون لا يتقدمون ولا يتأخرون فناديتهم يا قوم ما شأنكم وأي شيء عرض لكم في طريقكم فقال لي القوم ما ترى هذا الجبل كيف قد عرض لنا في آخر هذا الطريق وليس لنا فيه مسلك ولا مطلع فقلت: على رسلكم إلا ترون هذه الفجوة في هذا الجبل فقالوا: هيهات ليس لنا فيه منقذ ولا مطلع فقلت: ولم ذلك قالوا: لأن فيه ثعبانا عظيما لا يمر به أحد إلا وأهلكه وقد قتل رجالا وجندل أبطالا فقلت: يا قوم إلا تهجمون عليه بأجمعكم قالوا: لا نقدر على ذلك لأن النار تخرج من أنفاسه وليس لنا عليه من سبيل فقلت لهم: فالتمسوا لكم طريقا من وراء ظهره فقالوا: لا نقدر على ذلك من عظم جثته فتركتهم والتمست لي طريقا فلم أجد إلا طريقا صعبا حرجا فاقتحمته فما سلكته إلا بعد المشقة وأتيت إلى الثعبان من ورائه فقتلته ثم أشرفت على قومي فاتبعوني فما وصلوا إلا بعد جهد جهيد وهم آمنون من عدوهم ثم استيقظت فرحا مسرورا.فقال أبو عبيدة: خير رأيت وخيرا يكون يا دامس أما رؤياك هذه فإنها للمسلمين بشارة ولعدونا خسارة ثم قال له: اجلس مكانك وأمر أبو عبيدة أن ينادي المسلمين فحضر رؤساء المسلمين وأعيانهم فلما حضروا قال أبو عبيدة: الله أكبر فتح الله ونصر وحبانا بالظفر وخذل من كفر ثم قال: يا معاشر المسلمين اسمعوا رؤيا أخيكم دامس فإنها عبرة لمن اعتبر وموعظة لمن افتكر قال فأقبلوا يسمعون له فعندها قام أبو عبيدة على قدميه وقال الحمد لله وصلى الله على رسوله وسلم ثم قال: يا معاشر الناس أن الله سبحانه وتعالى له الحمد قد وعدنا في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الغلبة على أعدائنا والظفر بمرادنا وما كان الله ليخلف وعده وإني نذرت أن فتح الله هذه القلعة على يدي أصنع من البر ما استطعت والآن قد هجس في نفسي ووقع في قلبي أنا ظافرون بهذه القلعة ومن فيها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لأنه قد دلني على ذلك رؤيا هذا الغلام ثم قبض بكفه على زند أبي الهول وقال له: رحمك الله حدث اخوانك بما رأيت في منامك فقام دامس قائما وقال اعلموا إني رأيت في منامي كذا وكذا وجعل يقص على الناس رؤياه من أولها إلى آخرها فلما فرغ منها أقبل المسلمون على أبي عبيدة وقالوا له: أيها الأمير قد سمعنا قوله وحفظنا شرحه فما تأويل رؤياه قال أبو عبيدة: أعلموا رحمكم الله أما الجبل الذي رآه عاليا شامخا شديد الأمتناع بين الشعاب والقلاع فذلك دين الإسلام بلا شك وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وأما الثعبان الذي رآه وقد منع الناس وقد هجم عليه بسيفه فأمر حسن هو أن يفرج الله على يديه على المسلمين ففرح الناس بتأويل أبي عبيدة وقالوا: أيها الأمير فما الذي تأمرنا به فقال آمركم بتقوى الله سرا وجهرا ثم المكيدة على الأعداء طوعا وصبرا فارجعوا إلى رحالكم حفظكم الله واصلحوا شأنكم وآلة حربكم وما تحتاجون إليه فاني أقدمكم غداة غد إلى أعاديكم إلى أن يحدث لي رأي غير هذا فاني لست أدع الاجتهاد في الرأي والمشاورة لمن أثق به وبرأيه من المسلمين فقالوا: بأجمعهم وفق الله رأيك أيها الأمير وظفرك بأعدائك إنه سميع عليم فعال لما يريد ومضوا إلى رحالهم فجعل هذا يحد سيفه وهذا يصلح آلة حربه وفرسه وهذا يتفقد درعه وهذا قوسه ونشابه وما زالوا كذلك بقية يومهم فلما اصبحوا دعا أبو عبيدة بدامس فقال له: أيها الولد المبارك ماذا ترى في أمر هذه القلعة وما عندك من الحيلة فقال دامس اعلم أيها الأمير إنها قلعة منيعة شامخة حصينة تعجز اتوافد وتمنع القاصد في أهلها محاصرة ولا تضيق صدورهم من قتال غير إني أفكر في حيلة احتالها أو بلية اعملها وأرجو من الله أن يتم ذلك عليهم فيكون تبديدهم ونملك بمشيئة الله ديارهم ونقلع آثارهم فقال أبو عبيدة: يا دامس وما هي فقال أصلح الله الأمير أنت تعلم ما في اذاعة عة الأسرار من الشر والأضرار ومن كتم سره كانت الخيرة فيما لديه ويقال أن دامسا هذا أول من تكلم بهذه الكلمة فصارت مثلا فقال أبو عبيدة: فما الذي تشير إليه وما الذي تعتمد عليه.قال تزحف بعسكرك وجملة من معك من أصحابك حتى تنزلوا بازاء القلعة ليظهر لهم منك الحرص والهيبة واعلم أن في ذلك من الحيل ما أرجو من الله أن يتمها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأمر أبو عبيدة عسكره بالرحيل فارتحلوا ونزلوا تحت القلعة وهللوا وكبروا وأظهروا سلاحهم وارهبوا أعداء الله تعالى قال فأشرف عليهم الروم ونظروا إلى جمعهم فهابوهم وألقى الله الرعب في قلوبهم حتى إنهم اضطربوا في قلعتهم وماجوا وجعل كبراؤهم يستشيرون فيما بينهم فقال قوم نقاتلهم وقال قوم بل نقعد في قلعتنا فانهم لا يقدرون علينا ثم اجتمع رأيهم على القتال من فوق القلعة وقعدوا على الأبراج والبنيان وجعلوا يرمون المسلمين بالحجارة والسهام وقد أقاموا على ذلك ليلا ونهارا ودامس مع ذلك يعمل حيله يصل بهم إليهم بسوء قال فلما كان بعد السبعة والأربعين يوما أقبل دامس على أبي عبيدة وقال له: أيها الأمير قد عجزت وأنا أعمل حيلا فما صدر من يدي في حقهم شيء وقد افتكرت في شيء وأرجو من الله أن يكون به الظفر والظهور على أعداء الله فقال أبو عبيدة: وما الذي دبرت قال تضيف الي من صناديد الرجال ثلاثين رجلا وتامرهم بالطاعة وترك المخالفة والأعتراض علي فيما آمرهم به وأفعله وأراه فقال أبو عبيدة: سأفعل ذلك ثم ضم إليه ثلاثين رجلا من الشجعان حتى إذا اجتمعوا قال لهم أبو عبيدة: معاشر المسلمين إني قد أمرت دامسا عليكم وأمرتكم بالطاعة والقبول لأمره واعلموا رحمكم الله إني ما أمرته عليكم لكونه أجل منكم حسبا ونسبا ولا أعظم موكبا ولا أشد بأسا ولا أكثر مراسا فلا يقل أحدكم إني قد أمرت عليكم عبدا احتقارا بكم وبالله أحلف مجتهدا لولا ما يلزمني من تدبير هذا العسكر لكنت أول من ينطلق معه في جمعكم وأنا أرجو من الله أن يفتح على يديكم فأقبلوا عليه بجمعهم وقالوا: أصلح الله الأمير ما نشك في أعظامك لنا ومعرفتك بسابقتنا ولقد كان كلامك الأول أثر في نفوسنا وها نحن لك وبين يديك ولو أمرت علينا علجا اغلف لم نخرج لك من أمر ولا رأي إذ علمنا إنك لا تريد إلا نصحا للدين وحياطة فالسمع والطاعة لله ثم لك ثم لمن وليته علينا من قبلك كائنا من الناس أجمعين قال ففرح أبو عبيدة بما قالوه ووثق بكلامهم وجزاهم خيرا وقال لهم: اعلموا رحمكم الله تعالى أن نفسي تحدثني أن الله تعالى يفتح هذه القلعة على يد هذا العبد المقبل لأنه دقيق الحيلة حسن البصيرة فسيروا معه وثقوا بالله وتوكلوا عليه وقد تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى قوادا على سادات العرب من المسلمين والأشراف من عشيرته ثم اقبل على دامس فقال له: يا دامس ما الذي تحب بعد هذا قال ترحل أنت بجيشك من وقتك هذا فتكون منا على مسيرة فرسخ فتنزل بالعسكر وتأمرهم بقلة الحركة وأن يختفوا ما استطاعوا او يكون لك رجال تثق بشدتهم ونصحهم للمسلمين يتجسسون عن أخبارنا وآثارنا من غير أن يعلم بهم وبنا أحد ويكونون بغير سلاح سوى الخناجر فإذا عاينوا منا الظهور على أعدائنا والظفر بهم لحقوك وبشروك بذلك فتلحق بنا أن شاء الله تعالى وليكونوا متفرقين في موضع واحد فإن ذلك اسلم لهم وأبلغ لما يريدون من أمورهم والله المستعان في جميع الأمور والأحوال.فعلم أبو عبيدة إنه نصيح من الرجال صاحب رأي وبصيرة ثم أن دامسا اقبل على رفاقه الذين ولى عليهم وقال لهم: يا فتيان العرب انهضوا بنا بارك الله فيكم حتى نكمن في بعض هذا الوادي ما دام الناس عازمين على الرحيل لئلا تشرف الروم فينظروا إلى رحيلنا فلا يتفق لنا أن نطلب لنا مكمنا إذا أشرفوا من أعلى حصنهم وليكن مع كل رجل منكم سيفه وحجفته وخنجره لا غير ففعلوا ذلك فلما تكاملوا لبس دامس لامة حربه وجعل خنجره تحت أثوابه واخذ جماعته وخرج بهم حتى إذا فارق العسكر جعلوا يخفون آثارهم واشخاصهم وهو سائر بهم حتى أتى بهم كهفا في الجبل فأمرهم بالدخول إليه وجلس على بابه قال: واما أبو عبيدة فإنه أمر الناس بالرحيل بعد ما رتب الرجال كما وصاه أبو الهول فارتحل العسكر واشرف عليهم أهل القلعة فرأوهم يرحلون ففرحوا بذلك وسروا سرورا عظيما وصاروا يصيحون على المسلمين من أعلى القلعة وقالوا: لبطريقهم أيها السيد افتح لنا الباب حتى نخرج وراء العرب فلعل أن نقتل أحدا أو ناسره فنهاهم عن ذلك قال: وداموا بقية يومهم إلى العشاء فقال دامس لأصحابه من فيكم ينهض إلى تحت القلعة ويأتينا بخبر منها إذ يقدر على رجل يأسره فيأتينا به فنأخذ منه خبرا فلم يجبه أحد فقال أنا أعلم أن ما في هذه الجماعة إلا من هو ضنين نفسه كاره للموت وأنا لكم الفداء فانظروا كيف تكمنون ثم تركهم دامس ومضى فغاب عنهم ساعة وإذا به قد أتى ومعه علج وقال لهم: يا فتيان العرب دونكم هذا فاسألوه فسألوه فلم يفقهوا قوله فقال على رسلكم فغاب غير بعيد وأتى بثلاثة أخر فلم يكن فيهم من يفهم بلغة العرب فقال دامس لعن الله هؤلاء ما أفظع لغتهم واكثر طمطمتهم ثم أوثقهم كتافا وغاب إلى أن مضى من الليل نصفه ولم يأت فقلق عليه أصحابه قلقا شديدا واغتموا عليه وقال بعضهم لبعض أنا أقول أن دامسا قد فطن به فقتل أو أسر وماجوا في ذكره وهموا أن يرجعوا إلى العسكر فبينما هم في ذلك إذ دخل إليهم دامس وهو يقود رجلا من الروم فتواثبوا إليه وقبلوه بين عينيه وسألوه عن ابطائه وقالوا له: يا دامس لقد حدثتنا نفوسنا بالعظائم وصعب علينا ابطاؤك عنا فقال اعلموا رحمكم الله تعالى إني لما فارقتكم سرت إلى قريب من سور القلعة وكمنت لهم وهم يمرون علي وهم يرطنون بلغتهم وأنا لا أتعرض للقوم كل ذلك وأنا أطلب من يتعرض للعربية ويتكلم بها فلم أر أحدا حتى أيست وهممت بالرجوع خائبا إذ سمعت هدة شديدة قد وقعت من أعلى السور فأسرعت إليها لأنظر إليها ما هي فإذا أنا بهذا الرجل وقد ألقى نفسه من القلعة إلى أسفل السور فبادرت إليه وأخذته وأتيت به إليكم فانظروا ما هو فدنوا إليه وخاطبوه فلم يكلمهم إلا بلغته وإذا به قد انفتحت جبهته فقال لهم دامس: اعلموا أن له شأنا وأي شأن وإني أظنه هاربا من القوم وليس فيكم من يفهم ما يقول: ولكن على رسلكم فأنا آتيكم بمن يتكلم بلسانه وبالعربية ثم اسرع دامس من عندهم فلم يكن إلا قليل وإذا به قد عاد ومعه رجل قد نزلت عمامته في رقبته وهو يقوده حتى مثله عندنا فقالوا له: من المدينة أنت أم من القلعة فقال له دامس: ممن أنت تكون أمن الروم أم من العرب المتنصرة قال: ولكني مع العرب المتنصرة فقالوا: يا هذا هل لك أن تطلعنا على عورات القلعة أو عورة من عوراتها ونحن نطلق سبيلك ولا يتعرض إليك أحد بسوء فقال: يا هؤلاء لست أعرف لهذه القلعة عورة ولا طريقا ولو عرفت لما وسعني في ديني ولا رأيت أن أدلكم عليها وحق المسيح قال فانغاظ منه دامس وقال له: اسأل هؤلاء الاسارى هل فيهم أحد من أهل الربض فإن بيننا وبينهم صلحا قال فسألهم فلم يجد فيهم أحدا من أهل الربض بل كلهم من أهل القلعة وأنا أعرفهم.فقال له دامس: فاسأل هذا الرجل لم طرح نفسه من السور وما دعاه إلى ذلك فسأله فقال له: إنه يقول: أن الملك يوقنا غضب على أهل الربض لأجل صلحهم لكم وبعث يتهددهم فلما انصرفت العرب نزل يوقنا فجمع رؤوسهم واصعدهم إلى القلعة وأنا في جملتهم وطلب منا من الأموال ما لا طاقة لنا به ولا نقدر عليه فلما رأيت ما قد نزل بنا هربت والقيت نفسي من القلعة اطلب الفرج وأنجو من العقوبة فلم أشعر إلا وأنت قد قبضت علي وأنا من أهل الربض فإن كنتم من العرب فأنا في ذمتكم وأمانكم فلا تنكثوا ولا تغدروا وأن كنتم من غيرهم فاطلبوا مني ما أردتم من الفداء فاني قد هربت من العقوبة فقال له دامس: قل له: نحن من العرب ولا بأس عليك ولا خوف ولا ينالك منا سوء وأراد دامس أن يرى الربض ما يفعل بأعدائه فأخرج الروم والمتنصرة وضرب رقابهم ولم يدع غير الربض ثم أطلقه واستمروا إلى الليل وعمد دامس إلى مزوده فاستخرج منه جلد ماعز والقاه على ظهره وأخرج كعكا يابسا وقال لأصحابه: بسم الله استعينوا بالله وتوكلوا عليه واخفوا نفوسكم وقدموا الحزم في اموركم فاني معول على فتح هذه القلعة أن شاء الله تعالى فقالوا: سر على بركة الله تعالى فقاموا مسرعين وتقدم دامس وبعث رجلين من أصحابه يعلمان أبا عبيدى بشأنهم ويقولان له ابعث الخيل عند طلوع الفجر قال فانطلق الرجلان وصعد دامس ومن معه تحت الظلام ودامس على المقدمة يمشي على أربعة والجلد على ظهره وكلما أحس بشيء قرض في الكعك كأنه كلب يقرض عظما وهم من ورائه يقفون أثره وهم يستترون بين الأحجار فلا زالوا كذلك حتى لاصقوا السور وسمعوا اصوات الحرس وزعقات الرجال من أعلى القلعة والحرس شديد فلم يزل دامس دائرا بهم حول السور إلى أن أتى إلى مكان لم يجد به حسا وإذا بحرسه قد ناموا وراء المكان ولم يروا في السور أقرب منه فقال دامس لأصحابه أنتم ترون هذه القلعة وعلوها وتحصينها وليس فيها حيلة لشدة الحرس ويقظة القوم فما الذي ترون من الرأي أن نصنع بها وكيف الحيلة في الصعود إليها إلى أن نحصل في وسطها فقالوا: يا دامس أن الأمير أمرك علينا وأنت أدرى منا وأجرا جنانا ونحن لك بين يديك فمهما رأيت فيه الصلاح للمسلمين فلا نتأخر عنه ووالله أن قتل نفوسنا وذهاب أرواحنا اسهل علينا من الرجوع بغير فائدة فمنك الأمر ومنا السمع والطاعة فليس منا من يتأخر عنك ولا نموت إلا تحت ظلال السيوف وفي طاعة الله ونصرة دين الإسلام فقال دامس شكر الله فضلكم ورزقكم النصر على اعدائكم فإن كانت هذه نيتكم فالتصقوا بنا إلى هذا المكان قال: وكانوا ثمانية وعشرين رجلا وأثنان كانوا ارسلوهم إلى الأمير يعلمانه بأن يأتي إليهم في الصبح.فقال لهم دامس: أفيكم من يقدر على الصعود على هذه القلعة فقلنا له يا أبا الهول وكيف لنا أن نرقى إليها وعلى أي شيء نصل إلى أعلاها بغير سلم فقال على رسلكم ثم إنه اختار منا سبعة رجال كالاسد الضواري لو كلفوا حمل ذلك البرج على مناكبهم لما عظم ذلك عليهم ثم جلس على قرافيصه وقال لأحد السبعة: اجلس على منكبي وارم بحيلك إلى الجدار واجلس كما أنا جالس ففعل الرجل ما أمر به وأمر آخر أن يفعل ويصعد على منكبي الآخر وأن يرمي بقوته على الجدار قال ففعل ثم إنه لم يزل يصعد واحد بعد واحد إلى أن صعد الثامن بقوته على الجدار وهم متمسكون به فعند ذلك أمر الأعلى أن يقوم قائما وأن يطرح حيله على الجدار فقام الأول وقام الثاني ثم قام الثالث ثم قام الرابع والخامس والسادس وكل واحد منهم قد طرح نفسه على الجدار ثم قام دامس آخرهم فإذا الأعلى قد وصل إلى شرافة السور وتعلق بها فاستوى على السور ونظر إلى حارس ذلك المكان فوجده نائما وهو ثمل من الخمر فأخذ بيده ورجله ورماه فلما وصل إلى الأرض قطعوه وأخفوا جسده ووجد من أصحابه اثنين سكارى وهم رقود فذبحهم بخنجره ورمى بهم ثم أرخى عمامته لصاحبه ونشله إليه فإذا هو معه على السور وكان دامس قد أعطاه حبلا فبقوا ينشلون به بعضهم إلى أن تكاملوا على السور واصعدوا من بقي معهم على الأرض وكان آخر من صعد أبو الهول فقال لهم: مكانكم حتى أقفوا الخبر واكشف لكم الأثر ثم إنه أتى إلى دار البطريق وهو في وسط القلعة وإذا عنده سادات البطارقة وأكابرهم وهم جلوس وبين ايديهم بواطى الخمر ويوقنا جالس في وسطهم على بساط من الديباج منسوج من الذهب وعليه بدلة من اللؤلؤ ومعصب بعصابة من الجوهر والقوم يشربون والمسك والبخور يفوح عندهم فعاد دامس إلى أصحابه وقال أعلموا أن القوم خلق كثير وأن هجمنا عليهم فلا نأمن الغلبة من كثرتهم ولكن ندعهم فيما هم فيه فإذا كان وقت السحر هجمنا على يوقنا ومن معه من الملوك نقتلهم بسيوفنا فإذا ظفرنا بهم وذلهم الله لنا وعلى ايدينا فهو الذي نريد وأن كان غير ذلك فيكون الصباح قد قرب ولا شك أن الرجلين من أصحابنا قد أعلما خالد بن الوليد فيأتينا فقالوا: ما نخالف لك امرا ونحن قد صرنا في قلعة هؤلاء الأعداء وليس ينجينا إلا صدق جهادنا والعزم والشدة من قوتنا فقال لهم: مكانكم فلعل أن يفتح الباب قال: وكان للقلعة بابان وبينهما دهليز والبوابون داخلهما والرجال تنام عندهم بالنوبة فلما وصل دامس إلى الباب وجده مغلقا وإذا بالقوم رقود من السكر فعاجلهم بالذبح ثم فتح البابين وتركهما مردودين ورجع إلى أصحابه وقد قرب الفجر فقال لهم: ابشروا فاني قد فتحت البابين وقتلت من كان وراءهما فدونكم والباب فاسبقوهم إليه وخذوه عليهم فقد بقي القوم حصيدا بأسياف المسلمين أن شاء الله تعالى قال: وأرسل من يستعجل خالدا ويبشره بذلك ثم أرسل خمسة من أصحابه يمسكون الباب وأخذ الباقين ومشى نحو دار يوقنا فصاحوا عليه ووقع الصياح في القلعة فرجعوا بأجمعهم إلى الباب وأخذ كل واحد منهم مكانا يحميه فعندها جاءت الأبطال وصاحت الروم ويلاه كيف تمت علينا هذه الحيلة وصرخ يوقنا بأصحابه فأتوا من كل جانب فعندها كبر المسلمون ونادوا بلسان واحد الله أكبر فخيل للروم أن القلعة ملآنة منهم قال ابن أوس وقاتلت الروم قتالا شديدا وأما المسلمون فكانوا كالاسد الضارية فما رأيت أقوى بأسا ولا أشد مراسا من دامس أبي الهول في ذلك اليوم فلقد عددنا في بدنه بعد ما انفصلنا ثلاثة وسبعين جرحا كلها في مقدم بدنه قال فبينما نحن في أشد القتال ونحن يحمي بعضنا بعضا وقد بقي منا ثلاثة وعشرون وقتل منا أربعة وهم أوس بن عامر الحزمي من بني حزم وأبو حامد بن سراقة الحميري والفارع بن مسيب التميمي وفزارة بن مراد العوفي.قال الواقدي: لقد حدثني نوفل بن سالم عن جده غويلم بن حازم وكان ممن صحب دامسا في قلعة حلب قال لما قتل من قتل منا وقد قتل أيضا ملاعب بن مقدام بن عروة الحضرمي وكان ممن حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية وتبوك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية وهو ابن أخي كعب الذي تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك وأنزل الله فيه ما أنزل قال: وبقينا عشرين رجلا وتكاثرت الروم علينا في أزيد من خمسة آلاف وهم سد من حديد قال: ونحن قد أيسنا من الحياة إذ دخل علينا خالد بن الوليد ومعه جيش الزحف فوجدنا ونحن في أشد ما يكون من القتال فلما دخلوا علينا صاح فيهم خالد فجفلت الروم عنا قال أوس فلما رأيناهم كذلك وانفرج عنا ما كنا فيه اشتدت قلوبنا فعندها كبرت المسلمون ودخل ضرار وأمثاله يضربون رقابهم فلما رأى الروم ذلك وعلموا إنهم لا طاقة لهم بما وقع بهم ألقوا السلاح ونادوا الغوث الغوث وكفوا أنفسهم عن القتال فكفت المسلمون أيديهم عنهم فبينما هم كذلك إذ أقبل أبو عبيدة ومعه عساكر الإسلام فأخبروه أن الروم يطلبون الأمان وأن المسلمين قد رفعوا عنهم القتل إلى أن تأتي وترى فيهم رأيك فقال أبو عبيدة: قد وفقوا وسددوا فأمر باحضار رجالهم ونسائهم وعرض عليهم الإسلام فكان أول من أسلم بطريقهم يوقنا وجماعة من ساداتهم قال فردج عليهم أموالهم وأهاليهم واستبقى منهم الفلاحين وعفا عنهم من القتل والأسر وأخذ عليهم العهود أن لا يكونوا إلا مثل أهل الصلح والجزية وأخرجهم من القلعة قال ثم أخرج المسلمون من الذهب والأواني ما لا يقع عليه عدد فأخرج منه الخمس وقسم الباقي على المسلمين وأخذ الناس في حديث دامس وحيله وعجائبه وعالجوا جراحته حتى برأت قال: وأعطاه أبو عبيدة سهمين ثم أن أبا عبيدة طلب أمراء المسلمين واكابرهم وشاورهم في أمره وقال أن الله وله الحمد قد فتح هذه القلعة على أيدي المسلمين وما بقي لنا موضع نخافه فهل نقصد انطاكية وهي دار الملك وكرسي عزهم وفيها بقية ملوكهم مع هرقل فما ترون من الرأي قال فعندها قام البطريق يوقنا وتكلم بلسان عربي فصيح وقال: أيها الأمير أن الله تبارك وتعالى قد ايدكم واظفركم بعوكم ونصركم وما ذاك إلا أن دينكم هو الدين القويم والصراط المستقيم ونبيكم هو المشهور في الإنجيل وهو لا محالة الذي بشر به المسيح ولا شك فيه ولا مراء وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل وهو النبي الكريم اليتيم الذي يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه فهل كان ذلك أم لا أيها الأمير فقال أبو عبيدة: نعم هو نبينا صلى الله عليه وسلم وإني يا يوقنا قد حرت في أمرك وانت بالأمس تقاتلنا ومرادك أن تكسر عسكرنا وتقطع الطريق على علوفتنا واليوم تقول مثل هذا القول وقد بلغني إنك لا تفهم بالعربية شيئا فمن اين لك حفظها فقال: لا إله إلا الله ومحمد رسول الله وإنك تعجب أيها الأمير من هذا الأمر قال: نعم قال له: اعلم أيها الأمير إني كنت البارحة مفكرا في أمركم وقد وصلتم إلى قلعتنا ونصرتم علينا وانه لم يكن عندنا أمة أضعف منكم وتوسوست في ذلك فلما نمت رأيت شخصا ابهى من القمر وأطيب رائحة من المسك الأذفر ومعه جماعة فسألت عنه فقيل لي هذا محمد رسول الله فكأني اقول أن كان نبيا حقا فليسأل ربه أن يعلمني العربية وكان يشير الي وهو يقول: يا يوقنا أنا محمد الذي بشر بي المسيح وأنا لا نبي بعدي وأن أردت فقل لا إله إلا الله وأبي محمد رسول الله فأخذت يده فقبلتها وأسلمت على يديه واستيقظت وفمي من تلك الليلة كالمسك الأذفر وأنا أتكلم بالعربية ثم إني قمت إلى منزل أخي يوحنا وفتحت خزانة كتب فوجدت في بعض الكتب صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما يكون من أمره ووجدت كل الصفات صحيحة وأن أبغض الخلق إليه إليهود أكان ذلك أيها الأمير أم لا؟فقال أبو عبيدة: نعم كانت إليهود تطلبنا اشد الطلب حتى نصرنا الله عليهم وأخذنا حصونهم وقتلنا أبطالهم قال يوقنا وجدت هذا في سيرته وجملة أخباره وأن الله تعالى كان يوصيه بأصحابه وبالمسلمين وبالايتام والمساكين أكان ذلك أم لا قال أبو عبيدة: نعم أما وصيته من الله على أصحابه فقد قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] وقال في حق اليتيم والمسكين: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ*وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] فقال يوقنا كيف قال: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى:7] فما معنى وصفه بالضلال وهو عند الله كريم فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: وجدناك ضالا في تيه صحبتنا فهديناك إلى مشاهدتنا وايضا سهل لك الوصول إلى سبل المكاشفة ووفقك للوقوف في مقام المشاهدة ووجدك ضالا في بحار الطلب على مركب العطب فهداك إلى سواحل الحق وقربك إلى ظل حقائق الصدق لتكون بقلبك مائلا عن الأغيار أو تهيم في قيعان الإختيار متمنيا ساعات الوصول والتلاق وليس لك منا خبر ولا معك منا أثر ألحنا لك لوائح الرضا وكشفنا لك عن واضح القضا أما علمت يا يوقنا إنه لا شيء عند المؤمن أوفى من العلم ولا أربح من الحلم ولا حسب اوضح من الدين ولا قرين أزين من العقل ولا رفيق اشر من الجهل ولا شيء أعز من التقوى ولا شيء أوفى من ترك الهوى ولا عمل أفضل من الفكر ولا حسنة أعلى من الصبر ولا سيئة أخرى من الكبر ولا دواء الين من الرفق ولا داء أوجع من الخرق ولا رسول أعدل من الحق ولا دليل أنصح من الصدق ولا فقر أذل من الطمع ولا غنى أشقى من الجمع ولا حياة أحسن من الصحة ولا معيشة أهنا من العفة ولا عبادة افضل من الخشوع ولا زهد خير من القنوع ولا حارس أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت فلما سمع يوقنا هذا الكلام من معاذ تهلل وجهه وقال هكذا قرأته في كتب أخي يوحنا وهو مذكور في الإنجيل والتوراة ثم خر ساجدا وقبل الأرض شكرا وقال الحمد لله الذي هداني إلى هذا الدين ووالله لقد رسخ هذا الدين في قلبي وعلمت إنه الحق وسأقاتل في الله كما كنت اقاتل في طاعة الشيطان ووالله لأنصرن هذا الدين حتى الحق بأخي يوحنا ثم إنه بكى بكاء شديدا على ما فرط في أمر أخيه فقال له أبو عبيدة: قال الله في حق اخوة يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] وقال له: إن اخاك في عليين مع الحور العين وأما أنت فساعة اسلمت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك فبكى لذلك وقال: أشهد علي المسلمين إني كلما جاهدت وقتلت من المشركين فثوابه في صحيفة أخي يوحنا ولا بد أن أقاتل في سبيل الله وأمحو ما سلف من الفعال فقال أبو عبيدة: يا عبد الله دلنا أين نسير فقال يوقنا أعلم أيها الأمير أن حصن عزاز حصن منيع وهو قوي بالرجال والعدد والزاد وفيه ابن عم لي اسمه دراس بن جوفناس وهو ذو شدة وبأس وقوة ومراس جلد في الحرب قوي عند الطعن والضرب وأن أنتم تركتموه ومضيتم إلى نحو انطاكية أغار على حلب وقنسرين وأذاقهم شرا فقال أبو عبيدة: يا عبد الله قد أنطق الله لسانك بالحق والصواب فما عندك من الحيلة.فقال يوقنا عندي من الرأي أن أركب جوادي وتضم الي مائة فارس من المسلمين ولنكن على زي الروم ولباسهم وأتقدم بهم ثم يتقدم أمير من العرب ومعه ألف فارس على خفاف الخيل وأنا في المقدمة بالمائة فارس على مقدار فرسخ كأننا هاربون منكم وأوائل الخيل الألف في طلبنا فإذا أشرفنا على عزاز نلقي الصوت فإذا نظر إلينا صاحبها دراس لا بد أن ينزل إلينا ويلقانا فإذا سألني أخبرته إني أسلمت زورا ثم هربت فخرجت العرب في طلبي فإذا سمع مني ذلك يصعد بنا إلى حصنه وليكن مقدم الألف بالقرب منا في قرية هناك فإذا كان نصف الليل سرنا في وسط الحصن ونضع السيف في أعدائنا فإذا كان عند صلاة الفجر يأتينا أمير العرب بالألف الذي معه فلما سمع أبو عبيدة ذلك استنار وجهه واستشار خالدا ومعاذا في ذلك فقالا يا أمين الأمة رأي سديد أن لم يغدر هذا الرجل ويرجع إلى دينه فقال أبو عبيدة: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فقال يوقنا أنا والله رجعت عن ديني إلى دينكم بعدما كنت أعظم من تلك الصور والصلبان وما بقي في قلبي سوى محبة الرحمن ومحمد سيد ولد عدنان والجهاد عن افضل الأديان والله على ما أقول وكيل وحق الذي لا إله إلا هو وحق محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي رأيته وعاينته في المنام أن كنتم تظنون في غير ذلك فلا تتركوني أفعل شيئا مما ذكرته لكم فقال أبو عبيدة: يا عبد الله أن أنت نصحت للمسلمين ولم تغدر بهم كان الله لك معينا في كل ما تحاوله فأتبع الصدق تنج به فإن ديننا مبني على الصدق وأتبع سنن أخوانك المؤمنين وأعلم أن المؤمن الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه ما وجد فلا يحزنك ما تركت من ملكك وحكمك وامارتك فإن الذي تركته فإن والذي تطلبه باق لأن نعمة الدنيا فانية والآخرة خير وابقى واعلم إنك في يومك هذا عار من الشرك واعلم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمؤمن يتيقن أن القبر مضجعه والخلوة مجلسه والأعتبار فكره والقرآن حديثه والرب أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه والحياء شعاره والجوع ادامه والحكمة كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة داره وأعلم يا يوقنا أن المسيح قال عجبت لمن ليله غافل وليس بمغفول عنه ومؤمل دنيا والموت يطلبه وبان قصرا والقبر مسكنه وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم من أعطى أربعا أعطي أربعا وتفسير ذلك في كتاب الله تعالى من أعطى الذكر ذكره الله عز وجل لأن الله تعالى يقول.: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ومن أعطى الدعاء أعطى الإجابة لأن الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ومن اعطى الشكر أعطى الزيادة لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: 7] ومن اعطى الاستغفار أعطى المغفرة لأن الله تعالى يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10].قال الواقدي: حدثني عامر بن قبيصة اليشكري قال حدثني يونس ابن عبد الأعلى قراءة عليه قال شهر بن حوشب عن جده عامر بن زيد قال كنت ممن شهد فتوح الشام وكنت في فتوح قنسرين وحلب مع ابي عبيدة وكنت كثيرا ما أصحب الروم الذين دخلوا في ديننا فلم أر منهم أشد أجتهادا ولا أخلص أعتقادا ولا أعظم نية ولا أحسن في الجهاد حمية ولا أبلغ في قتال الروم من يوقنا ولقد نصح والله للمسلمين وجاهد في الكافرين وأرضى رب العالمين ولقد فعل في الروم ما لم يقدر أحد عليه من أبناء جنسه من بعد ما قاسى المسلمون منه على قلعة حلب وما تركهم ينامون ولا يقرون ليلا ولا نهارا وما قتل من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.
|