الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
الشَّرْحُ: كِتَابُ الْوَدِيعَةِ هِيَ فَعِيلَةٌ، مِنْ وَدَعَ إذَا تَرَكَ، وَمِنْهُ {قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِ الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي النَّسَائِيّ: {دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ} وَجَمْعُهَا وَدَائِعُ. قَالَ الشَّاعِرُ: إذَا أَنْتَ لَا تَبْرَحُ تُؤَدِّي أَمَانَةً وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَثْقَلَتْكَ الْوَدَائِعُ وَهِيَ لُغَةً: الشَّيْءُ الْمَوْضُوعُ عِنْدَ غَيْرِ صَاحِبٍ لِلْحِفْظِ. وَشَرْعًا: تُقَالُ عَلَى الْإِيدَاعِ، وَعَلَى الْعَيْنِ الْمُودَعَةُ، مِنْ وَدَعَ الشَّيْءَ يَدَعُ إذَا سَكَنَ؛ لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ عِنْدَ الْمُودَعِ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ فِي دَعَةٍ: أَيْ رَاحَةٍ؛ لِأَنَّهَا فِي رَاحَةِ الْمُودَعِ وَمُرَاعَاتِهِ وَحِفْظِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: اسْتَوْدَعَ الْعِلْمَ قِرْطَاسًا فَضَيَّعَهُ وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا عَقْدٌ، فَحَقِيقَتُهَا شَرْعًا: تَوْكِيلٌ فِي حِفْظِ مَمْلُوكٍ أَوْ مُحْتَرَمٍ مُخْتَصٍّ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ إيدَاعِ الْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَجِلْدِ مَيْتَةٍ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَزِبْلٍ، وَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ وَخَرَجَ بِمُخْتَصٍّ: مَا لَا اخْتِصَاصَ فِيهِ كَالْكَلْبِ الَّذِي لَا يُقْتَنَى، وَبِتَوْكِيلِ الْعَيْنِ فِي يَدِ مُلْتَقِطٍ، وَثَوْبٍ طَيَّرَتْهُ رِيحٌ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ مُغَايِرٌ لِحُكْمِ الْوَدِيعَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا}، فَهِيَ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي رَدِّ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ آيَةٌ سِوَاهَا، وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}، وَخَبَرُ: {أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ} رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يَخْطُبُ لِلنَّاسِ: " لَا يُعْجِبَنَّكُمْ مِنْ الرَّجُلِ طَنْطَنَتُهُ، وَلَكِنْ مَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَكَفَّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاس، فَهُوَ الرَّجُلُ " وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً بَلْ ضَرُورَةً إلَيْهَا.
المتن: مَنْ عَجَزَ عَنْ حِفْظِهَا حَرُمَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا، وَمَنْ قَدَرَ وَلَمْ يَثِقْ بِأَمَانَتِهِ كُرِهَ، فَإِنْ وَثِقَ اُسْتُحِبَّ.
الشَّرْحُ: وَلَكِنْ (مَنْ عَجَزَ عَنْ حِفْظِهَا حَرُمَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا) لِأَنَّهُ يُعَرِّضُهَا لِلتَّلَفِ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَمَحِلُّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمَالِكُ بِحَالِهِ وَإِلَّا فَلَا تَحْرِيمَ. وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ: فِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَالْوَجْهُ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمَا، أَمَّا عَلَى الْمَالِكِ فَلِإِضَاعَتِهِ مَالَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْمُودِعِ فَلِإِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَأْخُذُ مَالَهُ لِيُنْفِقَهُ أَوْ يُعْطِيَهُ لِغَيْرِهِ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْآخِذِ إذَا عَلِمَ رِضَاهُ بِذَلِكَ. وَالْإِيدَاعُ صَحِيحٌ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَأَثَرُ التَّحْرِيمِ مَقْصُورٌ عَلَى الْآثِمِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُودِعُ وَكِيلًا أَوْ وَلِيَّ يَتِيمٍ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الْإِيدَاعُ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ قَطْعًا (وَمَنْ قَدَرَ) عَلَى حِفْظِهَا وَهُوَ فِي الْحَالِ أَمِينٌ (وَ) لَكِنْ (لَمْ يَثِقْ بِأَمَانَتِهِ) بَلْ خَافَ الْخِيَانَةَ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (كُرِهَ) لَهُ قَبُولُهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خَشْيَةَ الْخِيَانَةِ فِيهَا. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمَالِكُ الْحَالَ، وَإِلَّا فَلَا تَحْرِيمَ وَلَا كَرَاهَةَ وَفِيهِ مَا مَرَّ. تَنْبِيهٌ: جَزْمُهُ بِالْكَرَاهَةِ لَا يُطَابِقُ كَلَامَ الْمُحَرَّرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ وَمُخَالِفٌ لِمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا مِنْ حِكَايَةِ وَجْهَيْنِ بِالْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ بَلَا تَرْجِيحٍ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَبِالتَّحْرِيمِ أَجَابَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَصَاحِبُ الْمُهَذَّبِ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ: وَلَكِنَّ مَحِلَّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا أَوْدَعَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ مَالَ نَفْسِهِ وَإِلَّا فَيَحْرُمُ قَبُولُهَا مِنْهُ جَزْمًا (فَإِنْ) قَدَرَ عَلَى حِفْظِهَا، وَ (وَثِقَ) بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ فِيهَا (اُسْتُحِبَّ) لَهُ قَبُولُهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ غَيْرُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ كَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَكِنْ بِالْأُجْرَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَصْلِ الْقَبُولِ كَمَا بَيَّنَهُ السَّرَخْسِيُّ دُونَ إتْلَافِ مَنْفَعَتِهِ وَمَنْفَعَةِ حِرْزِهِ فِي الْحِفْظِ بَلَا عِوَضٍ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْحِفْظِ كَمَا يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْحِرْزِ، وَمَنَعَهُ الْفَارِقِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَقَدْ تُؤْخَذُ الْأُجْرَةُ عَلَى الْوَاجِبِ كَمَا فِي سَقْيِ اللِّبَأِ.
المتن: وَشَرْطُهُمَا شَرْطُ مُوَكِّلٍ وَوَكِيلٍ.
الشَّرْحُ: وَأَرْكَانُ الْوَدِيعَةِ بِمَعْنَى الْإِيدَاعِ أَرْبَعَةٌ: وَدِيعَةٌ بِمَعْنَى الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ، وَمُودِعٌ، وَوَدِيعٌ، وَصِيغَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَرْطِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْوَدِيعَةُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَهُمَا الْعَاقِدَانِ. فَقَالَ: (وَشَرْطُهُمَا شَرْطُ مُوَكَّلٍ وَوَكِيلٍ) لِأَنَّهَا اسْتِنَابَةٌ فِي الْحِفْظِ فَمَنْ صَحَّتْ وَكَالَتُهُ صَحَّ إيدَاعُهُ، وَمَنْ صَحَّ تَوْكِيلُهُ صَحَّ دَفْعُ الْوَدِيعَةِ إلَيْهِ فَخَرَجَ اسْتِيدَاعُ مُحْرِمٍ صَيْدًا أَوْ كَافِرٍ مُصْحَفًا وَنَحْوُهُ.
المتن: وَيُشْتَرَطُ صِيغَةُ الْمُودِعِ كَاسْتَوْدَعْتُكَ هَذَا أَوْ اسْتَحْفَظْتُكَ أَوْ أَنَبْتُكَ فِي حِفْظِهِ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَهُوَ الصِّيغَةُ فَقَالَ (وَيُشْتَرَطُ صِيغَةُ الْمُودِعِ) النَّاطِقِ بِاللَّفْظِ، وَهِيَ إمَّا صَرِيحٌ (كَاسْتَوْدَعْتُكَ هَذَا) أَوْ أَوْدَعْتُكَ أَوْ هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدَك (أَوْ اسْتَحْفَظْتُكَ أَوْ أَنَبْتُكَ فِي حِفْظِهِ) أَوْ احْفَظْهُ. وَإِمَّا كِنَايَةٌ وَتَنْعَقِدُ بِهَا مَعَ النِّيَّةِ كَخُذْهُ أَوْ مَعَ الْقَرِينَةِ كَخُذْهُ أَمَانَةً، أَمَّا الْأَخْرَسُ فَتَكْفِي إشَارَتُهُ الْمُفْهِمَةُ، وَلَوْ عَلَّقَهَا كَأَنْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ أَوْدَعْتُك هَذَا لَمْ يَصِحَّ كَالْوَكَالَةِ كَمَا بَحَثَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَقَطَعَ الرُّويَانِيُّ بِالصِّحَّةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَصِحُّ الْحِفْظُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا يَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِي الْوَكَالَةِ حِينَئِذٍ، فَفَائِدَةُ الْبُطْلَانِ سُقُوطُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ، وَالرُّجُوعُ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ شَخْصٌ الْحَمَّامَ وَلَمْ يَسْتَحْفِظْ الْحَمَّامِيَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحِفْظُ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَلَوْ ضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَإِنْ نَامَ أَوْ قَامَ مِنْ مَكَانَهُ، وَلَا نَائِبَ لَهُ، فَإِنْ اسْتَحْفَظَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ لَزِمَهُ حِفْظُهَا. وَعَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا مُطْلَقًا لِلْعَادَةِ.
المتن: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لَفْظًا وَيَكْفِي الْقَبْضُ
الشَّرْحُ: (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ) فِي الْوَدِيعِ (الْقَبُولُ) لِلْوَدِيعَةِ (لَفْظًا وَيَكْفِي الْقَبْضُ) لَهَا كَمَا فِي الْوَكَالَةِ بَلْ أَوْلَى عَقَارًا كَانَتْ أَوْ مَنْقُولًا، فَإِذَا قَبَضَهَا تَمَّتْ الْوَدِيعَةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَنْقُولِ مِنْ النَّقْلِ، وَلَكِنَّ الَّذِي قَالَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا وَدِيعَتِي عِنْدَك أَوْ احْفَظْهُ، فَقَالَ: قَبِلْتُ أَوْ ضَعْهُ مَوْضِعَهُ كَانَ إيدَاعًا كَمَا لَوْ قَبَضَهُ بِيَدِهِ. وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ، وَنَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ مَا يُوَافِقُهُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنْ قَالَ الْمُتَوَلِّي لَا حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لَفْظًا، وَالثَّالِثُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ صِيغَةِ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الرَّدِّ كَمَا قَالَ الْبَغَوِيّ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَا تَفْتَقِرُ الْوَدِيعَةُ إلَى عِلْمِ الْوَدِيعِ بِمَا فِيهَا بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَعْرِيفِهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْ الْمَالِكُ لَهُ بَلْ وَضَعَ مَالَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَوَاءٌ أَقَالَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ: أُرِيدَ أَنْ أُودِعَك أَمْ لَا، أَوْ أَوْجَبَ لَهُ وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرَدَّ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ ذَهَبَ وَتَرَكَهَا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ أَثِمَ بِهِ بِأَنْ كَانَ ذَهَابُهُ بَعْدَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ، وَإِنْ قَبَضَهَا صَارَ ضَامِنًا إلَّا إنْ كَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلضَّيَاعِ فَقَبَضَهَا حَسِبَهُ صَوْنًا لَهَا عَنْ الضَّيَاعِ فَلَا يَضْمَنُ، وَذَهَابُ الْوَدِيعِ مَعَ تَرْكِ الْوَدِيعَةِ وَالْمَالِكُ حَاضِرٌ كَرَدِّهَا. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ ائْتِمَانٍ مِنْ الْمُودِعِ النَّاطِقِ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ: الشَّرْطُ وُجُودُ اللَّفْظِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالْفِعْلِ مِنْ الْآخَرِ لِلْعِلْمِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ الْوَدِيعُ: أَوْدِعْنِيهِ مَثَلًا فَدَفَعَهُ لَهُ سَاكِتًا كَفَى كَالْعَارِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَالشَّرْطُ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ حَسَنٌ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا يَوْمًا وَدِيعَةً وَيَوْمًا غَيْرَ وَدِيعَةٍ فَوَدِيعَةٌ أَبَدًا أَوْ خُذْهُ يَوْمًا وَدِيعَةً وَيَوْمًا عَارِيَّةً فَوَدِيعَةٌ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَعَارِيَّةٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَلَمْ يُعِدَّ بَعْدَ يَوْمِ الْعَارِيَّةِ وَدِيعَةً وَلَا عَارِيَّةً بَلْ تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، فَلَوْ عَكَسَ الْأُولَى فَقَالَ: خُذْهُ يَوْمًا غَيْرَ وَدِيعَةٍ وَيَوْمًا وَدِيعَةً، فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا أَمَانَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَيْسَتْ عَقْدَ وَدِيعَةٍ، وَإِنْ عَكَسَ الثَّانِيَةَ فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَارِيَّةٌ وَفِي الثَّانِي أَمَانَةٌ.
المتن: وَلَوْ أَوْدَعَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ مَالًا لَمْ يَقْبَلْهُ فَإِنْ قَبِلَ ضَمِنَ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ أَوْدَعَهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ مَالًا لَمْ يَقْبَلْهُ) لِأَنَّ إيدَاعَهُ كَالْعَدَمِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ (فَإِنْ قَبِلَ) الْمَالَ وَقَبَضَهُ (ضَمِنَ) لِعَدَمِ الْإِذْنِ الْمُعْتَبَرِ كَالْغَاصِبِ، وَلِهَذَا التَّعْلِيلِ لَا يُقَالُ: صَحِيحُ الْوَدِيعَةِ لَا ضَمَانَ فِيهِ فَكَذَا فَاسِدُهَا. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَلَا يُحْتَاجُ أَنْ يُقَالَ هُوَ بَاطِلٌ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ وَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى وَلِيِّهِ. تَنْبِيهٌ: اُسْتُثْنِيَ مِنْ تَضْمِينِهِ مَا لَوْ خِيفَ هَلَاكُهُ فَأَخَذَهُ حِسْبَةً صَوْنًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ، وَمَا لَوْ أَتْلَفَ الصَّبِيُّ وَدِيعَةَ نَفْسِهِ بِلَا تَسْلِيطٍ مِنْ الْوَدِيعِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْجِرَاحِ قُبَيْلَ الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْمُمَاثَلَةِ. وَلَوْ أَوْدَعَهُ عَبْدٌ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى سَيِّدِهِ.
المتن: وَلَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا مَالًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا) أَوْ مَجْنُونًا (مَالًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ) وَلَوْ بِتَفْرِيطٍ (لَمْ يَضْمَنْ) كُلٌّ مِنْهُمَا مَا تَلِفَ عِنْدَهُ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَكَهُ عِنْدَ بَالِغٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْفَاظٍ (وَإِنْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَ) مَا أَتْلَفَهُ (فِي الْأَصَحِّ) لِعَدَمِ تَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: لَا كَمَا لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْبَائِعَ أَذِنَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ. تَنْبِيهٌ: الْمُرَجَّحُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا أَنَّ الْخِلَافَ قَوْلَانِ.
المتن: وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ كَصَبِيٍّ
الشَّرْحُ: (وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ) فِي إيدَاعِهِ وَالْإِيدَاعِ عِنْدَهُ وَالْأَخْذِ مِنْهُ وَعَدَمِ تَضْمِينِهِ بِالتَّلَفِ عِنْدَهُ وَتَضْمِينِهِ بِإِتْلَافِهِ (كَصَبِيٍّ) فِيمَا ذُكِرَ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ تَقْيِيدِهِ بِالْحَجْرِ أَنَّ السَّفِيهَ إذَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ رَقِيقٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَتَلِفَ عِنْدَهُ مَا أَوْدَعَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ كَذَا أَطْلَقَاهُ، وَقَيَّدَهُ الْجُرْجَانِيِّ بِعَدَمِ التَّفْرِيطِ. قَالَ: وَلَا يُفَارِقُ الرَّقِيقُ الصَّبِيَّ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَا يَضْمَنُ وَلَوْ فَرَّطَ، وَأَوْرَدَ عَلَى حَصْرِهِ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُودَعُ عِنْدَهُ أَصْلًا وَيُودَعُ عِنْدَ الرَّقِيقِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَكَلَامُهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ، وَوَلَدُ الْوَدِيعَةِ وَدِيعَةٌ كَأُمِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا عَقْدٌ. وَقِيلَ: إنَّهَا أَمَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَإِنْ قِيلَ: لَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْخِلَافِ. . أُجِيبَ بِأَنَّ لَهُ فَائِدَةً، وَهِيَ أَنَّ الْعَيْنَ عَلَى الْأَوَّلِ إنَّمَا يَجِبُ رَدُّهَا بَعْدَ الطَّلَبِ، وَيَجِبُ رَدُّهَا عَلَى الثَّانِي حَالًا.
المتن: وَتَرْتَفِعُ بِمَوْتِ الْمُودِعِ أَوْ الْمُودَعِ وَجُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ، وَلَهُمَا الِاسْتِرْدَادُ وَالرَّدُّ كُلَّ وَقْتٍ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: أَحْكَامُ الْوَدِيعَةِ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ الْجَوَازُ، وَالثَّانِي: الْأَمَانَةُ، وَالثَّالِثُ: الرَّدُّ، وَقَدْ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: (وَتَرْتَفِعُ) الْوَدِيعَةُ أَيْ يَنْتَهِي حُكْمُهَا (بِمَوْتِ الْمُودِعِ) بِكَسْرِ الدَّالِ (أَوْ الْمُودَعِ) بِفَتْحِهَا وَحَجْرِ سَفَهٍ عَلَيْهِ (وَجُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ) وَبِعَزْلِ الْوَدِيعِ نَفْسَهُ، وَبِالْجُحُودِ الْمُضَمَّنِ، وَبِالْإِقْرَارِ بِهَا لِآخَرَ، وَبِنَقْلِ الْمَالِكِ الْمِلْكَ فِيهَا بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْوَكَالَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ الرَّدُّ إلَى الْوَلِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْجُنُونِ، وَإِلَى الْوَارِثِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ لِزَوَالِ الِائْتِمَانِ وَلَوْ وَكَّلَ الْمَالِكُ الْوَدِيعَ فِي إجَارَتِهَا فَأَجَّرَهَا وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ عَادَتْ وَدِيعَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ (وَلَهُمَا الِاسْتِرْدَادُ وَالرَّدُّ) أَيْ لِلْمُودِعِ بِكَسْرِ الدَّالِ الِاسْتِرْدَادُ، وَلِلْمُودَعِ بِفَتْحِهَا الرَّدُّ (كُلَّ وَقْتٍ) لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْأَمْرَيْنِ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ، وَلِلْمُودَعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَتَى شَاءَ، وَلِلْمُودَعِ الرَّدُّ كَذَلِكَ، فَهِيَ أَوْضَحُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ. أَمَّا الْمُودِعُ فَلِأَنَّهُ الْمَالِكُ، وَأَمَّا الْمُودَعُ فَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْحِفْظِ. قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ جَوَازُ الرَّدِّ لِلْمُودَعِ بِحَالَةٍ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا الْقَبُولُ، وَإِلَّا حَرُمَ الرَّدُّ، فَإِنْ كَانَ بِحَالَةٍ يُنْدَبُ فِيهِ الْقَبُولُ فَالرَّدُّ خِلَافُ الْأَوْلَى إنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمَالِكُ. تَنْبِيهٌ: أَفْرَدَ الْمُصَنِّفُ الضَّمِيرَ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِأَوْ ثُمَّ ثَنَّاهُ ثَانِيًا. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ.
المتن: وَأَصْلُهَا الْأَمَانَةُ
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَمَانَةُ فَقَالَ: (وَأَصْلُهَا الْأَمَانَةُ) أَيْ مَوْضُوعُهَا عَلَى ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّ الْأَمَانَةَ لَيْسَتْ فِيهَا تَبَعًا كَالرَّهْنِ بَلْ هِيَ مَقْصُودَةٌ فِيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِجُعْلٍ أَمْ لَا كَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّ الْمُودَعَ يَحْفَظُهَا لِلْمَالِكِ فَيَدُهُ كَيَدِهِ، وَلَوْ ضَمِنَ لَرَغِبَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ،. فَلَوْ أَوْدَعَهُ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى فِيهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ فِيهِمَا. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ قَالَ فِي الْكَافِي. وَلَوْ أَوْدَعَهُ بَهِيمَةً وَأَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهَا أَوْ ثَوْبًا وَأَذِنَ لَهُ فِي لُبْسِهِ فَهُوَ إيدَاعٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهُ، فَلَوْ رَكِبَ أَوْ لَبِسَ صَارَتْ عَارِيَّةً فَاسِدَةً، فَإِذَا تَلِفَ قَبْلَ الرُّكُوبِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا فِي صَحِيحِ الْإِيدَاعِ، أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْعَارِيَّةِ.
المتن: وَقَدْ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِعَوَارِضَ: مِنْهَا أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ بِلَا إذْنٍ وَلَا عُذْرٍ، فَيَضْمَنُ.
الشَّرْحُ: (وَقَدْ تَصِيرُ) الْوَدِيعَةُ (مَضْمُونَةً) عَلَى الْوَدِيعِ بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا، وَلَهُ أَسْبَابٌ عَبَّرَ عَنْهَا الْمُصَنِّفُ (بِعَوَارِضَ: مِنْهَا أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ) وَلَوْ وَلَدَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ قَاضِيًا (بِلَا إذْنٍ) مِنْ الْمُودِعِ (وَلَا عُذْرٍ) لَهُ (فَيَضْمَنُ) لِأَنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَدِهِ. نَعَمْ اسْتَثْنَى السُّبْكِيُّ مَا لَوْ طَالَتْ غَيْبَةُ الْمَالِكِ أَيْ وَتَضْجَرُ مِنْ الْحِفْظِ كَمَا فِي التَّتِمَّةِ فَأَوْدَعَهَا الْوَدِيعُ الْقَاضِيَ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُ الْمُصَنَّفِ فَيَضْمَنُ أَيْ صَارَ طَرِيقًا فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي، فَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْحَالِ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْعَالِمِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَا مُودَعٌ. أَمَّا إذَا أَوْدَعَهَا لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَفَرِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. نَعَمْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا.
المتن: وَقِيلَ إنْ أَوْدَعَ الْقَاضِيَ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِذَا لَمْ يُزِلْ يَدَهُ عَنْهَا جَازَتْ الِاسْتِعَانَةُ بِمَنْ يَحْمِلُهَا إلَى الْحِرْزِ أَوْ يَضَعُهَا فِي خِزَانَةٍ مُشْتَرَكَةٍ.
الشَّرْحُ: (وَقِيلَ إنْ أَوْدَعَ الْقَاضِيَ) الْأَمِينَ (لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّ أَمَانَةَ الْقَاضِي أَظْهَرُ مِنْ أَمَانَتِهِ (وَإِذَا لَمْ يُزِلْ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ (يَدَهُ) وَلَا نَظَرَهُ (عَنْهَا جَازَتْ الِاسْتِعَانَةُ بِمَنْ يَحْمِلُهَا) مَعَهُ وَلَوْ أَجْنَبِيًّا (إلَى الْحِرْزِ أَوْ يَضَعُهَا فِي خِزَانَةٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ بِخَطِّهِ مَوْضِعٌ يُخْزَنُ فِيهِ (مُشْتَرَكَةٍ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْرِ كَالْعَارِيَّةِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَعَانَ فِي سَقْيِ الْبَهِيمَةِ وَعَلْفِهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِمَخْزَنِهِ فَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ وَاسْتَحْفَظَ عَلَيْهَا ثِقَةً يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ يُلَاحِظُهَا فِي عَوْدَاتِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِذَا قَطَعَ نَظَرَهُ عَنْهَا وَلَمْ يُلَاحِظْهَا فَكَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ فَحْوَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ، فَالْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ أَمْوَالُهُمْ فِي خَزَائِنِهِمْ بِأَيْدِي خُزَّانٍ لَهُمْ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ بِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَسْكَنِهِ وَلَمْ يُلَاحِظْهَا ضَمِنَ لِتَقْصِيرِهِ. أَمَّا إذَا اسْتَحْفَظَ غَيْرَ ثِقَةٍ أَوْ مَنْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
المتن: وَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا فَلْيَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ فَإِنْ فَقَدَهُمَا فَالْقَاضِي فَإِنْ فَقَدَهُ فَأَمِينٌ.
الشَّرْحُ: (وَإِذَا أَرَادَ) الْوَدِيعُ (سَفَرًا) وَلَوْ قَصِيرًا وَقَدْ أَخَذَ الْوَدِيعَةَ حَضَرًا (فَلْيَرُدَّ) هَا (إلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ) مُطْلَقًا أَوْ وَكِيلِهِ فِي اسْتِرْدَادِ هَذِهِ خَاصَّةً لِيَخْرُجَ مِنْ الْعُهْدَةِ، فَإِنْ دَفَعَ لِغَيْرِهِ ضَمِنَ فِي الْأَجْنَبِيِّ قَطْعًا، وَفِي الْقَاضِي عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ تَنْبِيهٌ: لَا يَخْفَى أَنَّ لَهُ دَفْعَهَا إلَى وَلِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِجُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ طَرَأَ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ (فَإِنْ فَقَدَهُمَا) أَيْ الْمَالِكُ وَوَكِيلُهُ لِغَيْبَةٍ أَيْ لِمَسَافَةِ قَصْرٍ كَمَا بَحَثَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي عَدْلِ الرَّاهِنِ (فَالْقَاضِي) أَيْ يَرُدُّهَا إلَيْهِ أَيْ إذَا كَانَ أَمِينًا كَمَا نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ تَصْرِيحِ الْأَصْحَابِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ لَا لِحَاجَةٍ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْغَائِبِينَ، وَكَذَا الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِهَا كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَإِنَّمَا يَحْمِلُهَا إلَى الْحَاكِمِ بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُ الْحَالَ وَيَأْذَنَ لَهُ، فَلَوْ حَمَلَهَا ابْتِدَاءً قَبْلَ أَنْ يُعَرِّفَهُ ضَمِنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِدَفْعِهَا إلَى أَمِينٍ كَفَى كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَسَلَّمَهَا بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ مَحْبُوسًا بِالْبَلَدِ وَتَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَكَالْغَائِبِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَيُقَاسُ بِالْحَبْسِ التَّوَارِي وَنَحْوُهُ، وَبِالْمَالِكِ عِنْدَ فَقْدِهِ وَكِيلَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ قَبُولُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا الْمَغْصُوبِ مِنْ غَاصِبِهِ لِلْغَائِبِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَحْفَظُ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَضْمُونًا لَهُ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّلَفِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ تَعَرَّضَ لَهُ، وَلِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْعَيْنُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا (فَإِنْ فَقَدَهُ) أَيْ الْقَاضِيَ، أَوْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ (فَأَمِينٌ) يَرُدُّهَا إلَيْهِ يَأْتَمِنُهُ الْمُودِعُ وَغَيْرُهُ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِتَأْخِيرِ السَّفَرِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُلَقَّنِ، فَإِنَّ الْأَمِينَ قَدْ يُنْكِرُ، فَإِنْ تَرَكَ هَذَا التَّرْتِيبَ ضَمِنَ لِعُدُولِهِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا رُتْبَةَ فِي الْأَشْخَاصِ بَعْدَ الْأَمِينِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَغْرَبَ فِي الْكَافِي فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ وَسَلَّمَهَا إلَى فَاسِقٍ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا فِي الْأَصَحِّ.
المتن: فَإِنْ دَفَنَهَا بِمَوْضِعٍ وَسَافَرَ ضَمِنَ فَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا أَمِينًا يَسْكُنُ الْمَوْضِعِ لَمْ يَضْمَنْ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (فَإِنْ دَفَنَهَا بِمَوْضِعٍ) وَلَوْ حِرْزًا (وَسَافَرَ ضَمِنَ) هَا لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْأَخْذِ، هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مَنْ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا أَمِينًا) يَجُوزُ الْإِيدَاعُ عِنْدَهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ (يَسْكُنُ الْمَوْضِعِ) الَّذِي دُفِنَتْ فِيهِ، وَهُوَ حِرْزُ مِثْلِهَا (لَمْ يَضْمَنْ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّ مَا فِي الْمَوْضِعِ فِي يَدِ سَاكِنِهِ فَكَأَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا فَشَرْطُهُ فَقْدُ الْقَاضِي الْأَمِينِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ الدَّفْعُ إلَى الْقَاضِي، أَوْ إعْلَامُهُ بِهِ، أَوْ الدَّفْعُ إلَى الْأَمِينِ، أَوْ إعْلَامُهُ بِهِ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ هَذَا إعْلَامٌ لَا إيدَاعٌ لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ، فَإِنْ أَعْلَمَ أَمِينًا لَا يَجُوزُ الْإِيدَاعُ عِنْدَهُ ضَمِنَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، وَهَذَا الْإِعْلَامُ لَيْسَ بِإِشْهَادٍ عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ ائْتِمَانٌ حَتَّى تَكْفِيَ فِيهِ امْرَأَةٌ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: أَعْلَمَ بِهَا يُشْعِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الْأَمِينِ لَهَا وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَوْلُهُ: يَسْكُنُ لَيْسَ بِقَيْدٍ، فَإِنَّ مُرَاقَبَةَ الْحَارِسِ لَهَا كَالسُّكْنَى. وَخَرَجَ بِقَوْلِي: وَهُوَ حِرْزٌ مِثْلُهَا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا جَزْمًا، وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا غَيْرَهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَمِنْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ السَّفَرُ كَمَا قَالَ:.
المتن: وَلَوْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ إلَّا إذَا وَقَعَ حَرِيقٌ أَوْ غَارَةٌ وَعَجَزَ عَمَّنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، وَالْحَرِيقُ وَالْغَارَةُ فِي الْبُقْعَةِ وَإِشْرَافُ الْحِرْزِ عَلَى الْخَرَابِ أَعْذَارٌ كَالسَّفَرِ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ سَافَرَ بِهَا) مِنْ حَضَرٍ (ضَمِنَ) وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَتَلِفَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ كَتَقْصِيرِهِ بِالسَّفَرِ الَّذِي حِرْزُهُ دُونَ حِرْزِ الْحَضَرِ، أَمَّا لَوْ أَوْدَعَهَا الْمَالِكُ مُسَافِرًا فَسَافَرَ بِهَا أَوْ مُنْتَجِعًا فَانْتَجَعَ بِهَا فَلَا ضَمَانَ لِرِضَا الْمَالِكِ بِهِ، وَلَهُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا ثَانِيًا لِرِضَا الْمَالِكِ بِهِ ابْتِدَاءً إلَّا إذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إحْرَازُهَا بِالْبَلَدِ فَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ الضَّمَانِ بِالسَّفَرِ قَوْلَهُ: (إلَّا إذَا) أَرَادَ سَفَرًا، وَ (وَقَعَ حَرِيقٌ) أَوْ نَهْبٌ (أَوْ غَارَةٌ وَعَجَزَ) عِنْدَ ذَلِكَ (عَمَّنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ كَمَا) أَيْ بِالتَّرْتِيبِ الَّذِي (سَبَقَ) فَلَا يَضْمَنُ لِقِيَامِ الْعُذْرِ، بَلْ يَلْزَمُهُ السَّفَرُ بِهَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يُسَافِرْ بِهَا كَانَ مُضَيِّعًا لَهَا. قَالَ الشَّيْخَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ احْتِمَالُ الْهَلَاكِ فِي الْحَضَرِ أَقْرَبَ مِنْهُ فِي السَّفَرِ فَلَهُ السَّفَرُ بِهَا، وَنَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ الدَّارِمِيِّ مَا يُؤَيِّدُهُ وَهُوَ حَسَنٌ. تَنْبِيهٌ: مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ: الْعُذْرُ الْمَذْكُورُ، وَالْعَجْزُ عَمَّنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْعَجْزُ كَافٍ، فَلَوْ سَافَرَ بِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ حَرِيقٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الْأَصَحِّ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْ مَصَالِحِهِ وَتَنْفِرَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ خَوْفٌ أَقَامَ بِهَا، فَإِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَطَرَحَهَا بِمَضْيَعَةٍ لِيَحْفَظَهَا فَضَاعَتْ ضَمِنَ، وَكَذَا لَوْ دَفَنَهَا خَوْفًا مِنْهُمْ عِنْدَ إقْبَالِهِمْ، ثُمَّ أَضَلَّ مَوْضِعَهَا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ إذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْهُ فَتَصِيرَ مَضْمُونَةً عَلَى آخِذِهَا (وَالْحَرِيقُ وَالْغَارَةُ فِي الْبُقْعَةِ وَإِشْرَافُ الْحِرْزِ عَلَى الْخَرَابِ) وَلَمْ يَجِدْ حِرْزًا هُنَاكَ يَنْقِلُهَا إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَعْذَارِ (أَعْذَارٌ كَالسَّفَرِ) فِي جَوَازِ الْإِيدَاعِ عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ عَلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: الْغَارَةُ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَالْأَفْصَحُ الْإِغَارَةُ.
المتن: وَإِذَا مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا فَلْيَرُدَّهَا إلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَإِلَّا فَالْحَاكِمِ أَوْ إلَى أَمِينٍ أَوْ يُوصِي بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ، إلَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِأَنْ مَاتَ فَجْأَةً.
الشَّرْحُ: وَمِنْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ تَرْكُ الْإِيصَاءِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِذَا مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا فَلْيَرُدَّهَا إلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ) الْمُطْلَقِ أَوْ فِي قَبْضِهَا. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ حَالَةٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا سَبَقَ كَالْمَرَضِ الْمَخُوفِ فِيمَا هَاهُنَا ا هـ. وَفِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ هُنَا: وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ هُنَا الْحَبْسُ لِيُقْتَلَ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّ الْحَبْسَ لِلْقَتْلِ لَيْسَ بِمَخُوفٍ، وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ هُنَاكَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَلْيُرَاجَعْ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَدُّهَا إلَى أَحَدِهِمَا (فَالْحَاكِمِ) الْأَمِينِ يَرُدُّهَا إلَيْهِ إنْ وَجَدَهُ أَوْ يُوصِي بِهَا إلَيْهِ (أَوْ) يَرُدُّهَا إنْ لَمْ يَجِدْ الْحَاكِمَ إلَى (أَمِينٍ أَوْ يُوصِي بِهَا) إلَيْهِ كَمَا لَوْ أَرَادَ سَفَرًا. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ لَوْلَا مَا قَدَّرْتُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ بَيْنَ الدَّفْعِ إلَيْهِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ بَيْنَ الدَّفْعِ لِأَمِينٍ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَطْلَقَ اسْتِغْنَاءً بِمَا قَدَّمَهُ فِي أَنَّهُ لَا يُودِعُهَا عِنْدَ أَمِينٍ إلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْقَاضِي، وَالْمُرَادُ بِالْوَصِيَّةِ الْإِعْلَامُ بِهَا وَوَصْفُهَا بِمَا يُمَيِّزُهَا أَوْ يُشِيرُ لِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ وَيَأْمُرَ بِالرَّدِّ إنْ مَاتَ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْإِشْهَادِ كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَأَسْقَطَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى عِنْدِي وَدِيعَةٌ فَكَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ، فَإِنْ ذَكَرَ الْجِنْسَ، فَقَالَ: عِنْدِي ثَوْبٌ لِفُلَانٍ ضَمِنَ إنْ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ أَثْوَابٌ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْبَيَانِ وَإِنْ وُجِدَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ ضَمِنَ أَيْضًا فِي الْأَصَحِّ، وَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِ الثَّوْبَ الْمَوْجُودَ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ الثَّوْبُ الْمَوْجُودُ (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ) شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فِي مَحِلِّهِ (ضَمِنَ) لِتَقْصِيرِهِ، فَإِنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ يَدَهُ وَيَدْعُهَا لِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى إلَى فَاسِقٍ أَوْ أَوْدَعَهُ. تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ الضَّمَانِ بِغَيْرِ إيصَاءٍ وَإِيدَاعٍ إذَا تَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا قَبْلَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَمَالَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَالسَّفَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ إلَّا بِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ: إنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْمَرَضِ يَصِيرُ ضَامِنًا لَهَا حَتَّى لَوْ تَلِفَتْ بِآفَةٍ فِي مَرَضِهِ أَوْ بَعْدَ صِحَّتِهِ ضَمِنَهَا كَسَائِرِ أَسْبَابِ التَّقْصِيرَاتِ، وَمَحِلُّهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْقَاضِي. أَمَّا الْقَاضِي إذَا مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ مَالُ الْيَتِيمِ فِي تَرِكَتِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُ الشَّرْعِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأُمَنَاءِ وَلِعُمُومِ وِلَايَتِهِ قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. قَالَ: وَإِنَّمَا يَضْمَنُ إذَا فَرَّطَ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّ عَدَمَ إيصَائِهِ لَيْسَ تَفْرِيطًا وَإِنْ مَاتَ عَنْ مَرَضٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْقَاضِي الْأَمِينِ، وَنُقِلَ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ. أَمَّا غَيْرُهُ فَيَضْمَنُ قَطْعًا، وَالضَّمَانُ فِيمَا ذُكِرَ ضَمَانُ التَّعَدِّي بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ لَا ضَمَانُ الْعَقْدِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ (إلَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِأَنْ) أَيْ كَأَنْ (مَاتَ فَجْأَةً) أَوْ قُتِلَ غِيلَةً فَلَا يَضْمَنُ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ. تَنْبِيهٌ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا. وَلَوْ لَمْ يُوصِ فَادَّعَى صَاحِبُهَا أَنَّهُ قَصَّرَ، وَقَالَ الْوَارِثُ: لَعَلَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى تَقْصِيرٍ، فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ وَأَقَرَّاهُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ الْإِمَامُ عِنْدَ جَزْمِ الْوَارِثِ بِالتَّلَفِ، فَأَمَّا عِنْدَ ذِكْرِهِ لَهُ احْتِمَالًا فَإِنَّهُ صَحَّحَ الضَّمَانَ ا هـ. لَكِنَّ شَيْخَنَا جَعَلَ هَذَا مِنْ الْجَزْمِ وَصَوَّرَ عَدَمَ الْجَزْمِ بِقَوْلِهِ: بِأَنْ قَالَ: عَرَفْتُ الْإِيدَاعَ لَكِنْ لَمْ أَدْرِ كَيْفَ كَانَ الْأَمْرُ، وَأَنَا أُجَوِّزُ أَنَّهَا تَلِفَتْ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانَةِ فَلَمْ يُوصِ بِهَا لِذَلِكَ فَيَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ مُسْقِطًا، وَصَحَّحَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي دَعْوَى التَّلَفِ وَالرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَسَائِرِ الْأُمَنَاءُ كَالْمُودَعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ الْعَامِلَ إذَا مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ مَالُ الْقِرَاضِ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ ضَمِنَ، وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّضْمِينِ مِنْ الْمُودَعِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِخِلَافِ الْقِرَاضِ.
المتن: وَمِنْهَا إذَا نَقَلَهَا مِنْ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ إلَى أُخْرَى دُونَهَا فِي الْحِرْزِ ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا.
الشَّرْحُ: (وَمِنْهَا) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ (إذَا نَقَلَهَا مِنْ مَحَلَّةٍ) إلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى (أَوْ) مِنْ (دَارٍ) إلَى دَارٍ أُخْرَى (دُونَهَا فِي الْحِرْزِ) وَلَوْ كَانَ حِرْزٌ مِثْلُهَا (ضَمِنَ) لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِلتَّلَفِ، سَوَاءٌ أَنْهَاهُ عَنْ النَّقْلِ أَمْ عَيَّنَ لَهُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ أَمْ أَطْلَقَ، بَعِيدَتَيْنِ كَانَتَا أَمْ قَرِيبَتَيْنِ لَا سَفَرَ بَيْنَهُمَا وَلَا خَوْفَ كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ مَا لَوْ نَقَلَهَا بِظَنِّ الْمِلْكِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ انْتَفَعَ بِهَا ظَانًّا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَتَلِفَتْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ كَمَا نَقَلَاهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الْغَصْبِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّاهُ (وَإِلَّا) بِأَنْ تَسَاوَيَا فِي الْحِرْزِ أَوْ كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ أَحْرَزَ (فَلَا) يَضْمَنُ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، وَخَرَجَ بِدَارٍ مَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ بَيْتٍ إلَى آخَرَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ خَانٍ وَاحِدٍ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَحْرَزَ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ، وَنَقْلُهَا مِنْ كِيسٍ أَوْ صُنْدُوقٍ إلَى آخَرَ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُودَعِ فَحُكْمُهُ كَالْبَيْتِ فِي النَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَالِكِ فَتَصَرُّفُهُ فِيهَا بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ بِمُضَمَّنٍ إلَّا إنْ فُضَّ الْخَتْمُ، أَوْ فُتِحَ الْقُفْلُ فَيَضْمَنُ فِي الْأَصَحِّ. تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ مَسَائِلُ: مِنْهَا لَوْ نَقَلَهَا وَالطَّرِيقُ مَخُوفٌ، وَمِنْهَا مَا لَوْ نَهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ النَّقْلِ وَنَقَلَ بَلَا ضَرُورَةٍ، وَمِنْهَا لَوْ تَلِفَتْ بِسَبَبِ النَّقْلِ كَانْهِدَامِ الدَّارِ الْمَنْقُولِ إلَيْهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالسَّرِقَةُ مِنْ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ كَالِانْهِدَامِ قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي، وَمِنْهَا مَا لَوْ كَانَ الْحِرْزُ الْمَنْقُولُ مِنْهُ لِمَالِكِ الْوَدِيعَةِ مِلْكًا أَوْ إجَارَةً أَوْ إعَارَةً، وَإِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ أَحْرَزَ إذَا لَمْ يَخَفْ الْهَلَاكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا.
المتن: وَمِنْهَا أَنْ لَا يَدْفَعَ مُتْلَفَاتِهَا.
الشَّرْحُ: (وَمِنْهَا) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ (أَنْ لَا يَدْفَعَ مُتْلَفَاتِهَا) لِوُجُوبِ الدَّفْعِ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ مِنْ حِفْظِهَا. تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَقَعَ فِي خِزَانَةِ الْوَدِيعِ حَرِيقٌ فَبَادَرَ لِنَقْلِ أَمْتِعَتِهِ فَاحْتَرَقَتْ الْوَدِيعَةُ لَمْ يَضْمَنْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا وَدَائِعُ فَبَادَرَ لِنَقْلِ بَعْضِهَا فَاحْتَرَقَ مَا تَأَخَّرَ نَقْلُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا آخِرَ الْبَابِ عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ.
المتن: فَلَوْ أَوْدَعَهُ دَابَّةً فَتَرَكَ عَلْفَهَا ضَمِنَ، فَإِنْ نَهَاهُ عَنْهُ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَالِكُ عَلَفًا عَلَفَهَا مِنْهُ، وَإِلَّا فَيُرَاجِعُهُ أَوْ وَكِيلُهُ، فَإِنْ فُقِدَا فَالْحَاكِمُ، وَلَوْ بَعَثَهَا مَعَ مَنْ يَسْقِيهَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (فَلَوْ أَوْدَعَهُ دَابَّةً فَتَرَكَ عَلْفَهَا) بِإِسْكَانِ اللَّامِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ سَقْيَهَا مُدَّةً يَمُوتُ فِيهَا بِتَرْكِ ذَلِكَ (ضَمِنَ) هَا وَإِنْ لَمْ تَمُتْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا، وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِهِ عَنْ الْبَغَوِيِّ، سَوَاءٌ أَمَرَهُ الْمَالِكُ بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا أَمْ سَكَتَ لِتَعَدِّيهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَبِهِ يَحْصُلُ الْحِفْظُ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِقَبُولِهَا، وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ بِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَا، فَإِنْ مَاتَتْ دُونَ الْمُدَّةِ لَمْ يَضْمَنْهَا إلَّا إذَا كَانَ بِهَا جُوعٌ أَوْ عَطَشٌ سَابِقٌ وَعَلِمَهُ فَيَضْمَنُهَا كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَقِيلَ: يَضْمَنُ الْقِسْطَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِالْأَمْرَيْنِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا لَوْ جَوَّعَ إنْسَانًا وَبِهِ جُوعٌ سَابِقٌ وَمَنَعَهُ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَالِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْجَمِيعَ (فَإِنْ نَهَاهُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ فَمَاتَ بِسَبَبِ تَرْكِ ذَلِكَ (فَلَا) يَضْمَنُ (عَلَى الصَّحِيحِ) لِلْإِذْنِ فِي إتْلَافِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَ: اُقْتُلْ دَابَّتِي فَقَتَلَهَا. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ إذْ لَا حُكْمَ لِنَهْيِهِ عَمَّا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ تَنْبِيهٌ: لَوْ كَانَتْ الدَّابَّةُ مِلْكًا لِغَيْرِهِ كَأَنْ أَوْدَعَ الْوَلِيُّ حَيَوَانَ مَحْجُورِهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَيُشْبِهُ أَنَّ نَهْيَهُ كَالْعَدَمِ وَسَبَقَهُ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ وَقَيَّدَهُ بِعِلْمِ الْوَدِيعِ بِالْحَالِ أَيْ لِقَرَارِ الضَّمَانِ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ مُطْلَقًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَتْنِ فِي التَّضْمِينِ وَعَدَمِهِ كَمَا ذُكِرَ. أَمَّا التَّأْثِيمُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ لِيُجْبِرَ الْمَالِكَ عَلَى عَلْفِهَا وَسَقْيِهَا إنْ كَانَ حَاضِرًا، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي النَّفَقَةِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ غَائِبًا، هَذَا إذَا نَهَاهُ لَا لِعِلَّةٍ، فَإِنْ كَانَ كَقُولَنْجِ أَوْ تُخْمَةٍ لَزِمَهُ امْتِثَالُ نَهْيِهِ، فَلَوْ خَالَفَ وَفَعَلَ قَبْلَ زَوَالِ الْعِلَّةِ ضَمِنَ كَذَا أَطْلَقَاهُ. قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الضَّمَانُ بِمَا إذَا عَلِمَ بِعِلَّتِهَا (وَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَالِكُ عَلَفًا) بِفَتْحِ اللَّامِ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ وَلَمْ يَنْهَهُ (عَلَفَهَا) فِي الْأَصَحِّ، وَيَجُوزُ عَلْفُهَا (مِنْهُ، وَإِلَّا فَيُرَاجِعُهُ أَوْ وَكِيلُهُ) لِيَسْتَرِدَّهَا أَوْ يُعْطِيَ عَلَفَهَا أَوْ يَعْلِفَهَا (فَإِنْ فُقِدَا) بِالتَّثْنِيَةِ بِخَطِّهِ أَيْ الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ (فَالْحَاكِمُ) يُرَاجِعُهُ لِيَقْتَرِضَ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ يُؤَجِّرَهَا، وَيَصْرِفَ الْأُجْرَةَ فِي مُؤْنَتِهَا أَوْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنْهَا أَوْ جَمِيعَهَا إنْ رَآهُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْقَدْرُ الَّذِي يَعْلِفُهَا عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الَّذِي يَصُونُهَا عَنْ التَّلَفِ وَالتَّعْيِيبِ لَا مَا يَحْصُلُ بِهِ السِّمَنُ، فَإِنْ فَقَدَ الْحَاكِمَ تَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ لِيَرْجِعَ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا هُوَ هَرَبُ الْجَمَّالِ. نَعَمْ لَوْ كَانَتْ رَاعِيَةً. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ تَسْرِيحِهَا مَعَ ثِقَةٍ، فَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ أَيْ إذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ مَنْ يُسَرِّحُهَا مَعَهُ وَإِلَّا فَيَرْجِعُ (وَلَوْ بَعَثَهَا) أَيْ الدَّابَّةَ (مَعَ مَنْ) أَيْ أَمِينٍ (يَسْقِيهَا) أَوْ يَعْلِفُهَا حَيْثُ يَجُوزُ إخْرَاجُهَا لِذَلِكَ (لَمْ يَضْمَنْ فِي الْأَصَحِّ) لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ، وَالثَّانِي: يَضْمَنُ لِإِخْرَاجِهَا مِنْ حِرْزِهَا عَلَى يَدِ مَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ الْمَالِكُ تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْمَبْعُوثُ مَعَهُ أَمِينًا كَمَا مَرَّ وَلَا خَوْفَ، وَالْوَدِيعُ لَا يُخْرِجُ دَوَابَّهُ لِلسَّقْيِ أَوْ كَوْنُهُ لَا يَسْقِي وَعَادَتُهُ سَقْيُ دَوَابِّهِ فَمَعَ غَيْرِ الْأَمِينِ وَالْخَوْفِ يَضْمَنُ قَطْعًا، وَمَعَ إخْرَاجِ دَوَابِّهِ لِلسَّقْيِ أَوْ كَوْنِهِ لَا يَسْقِي دَوَابَّهُ بِنَفْسِهِ لَا يَضْمَنُ قَطْعًا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ دَابَّةٌ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ أَوْدَعَهُ نَخْلًا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسَقْيِهِ فَتَرَكَهُ لَا يَضْمَنُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا بَلَا تَرْجِيحٍ صَحَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَفَرَّقَ بِحُرْمَةِ الرُّوحِ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحِلَّ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ وَفِيمَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْ سَقْيِهِ. وَإِنْ أَوْدَعَهُ حِنْطَةً أَوْ أُرْزًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَوَقَعَ فِيهِ السُّوسُ لَزِمَهُ الدَّفْعُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَاعَهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ كَمَا قَالَهُ فِي الْأَنْوَارِ. وَلَوْ تَرَكَ شَخْصٌ عِنْدَ صَاحِبِ الْخَانِ مَثَلًا حِمَارًا وَقَالَ لَهُ: احْفَظْهُ كَيْ لَا يَخْرُجَ فَلَاحَظَهُ فَخَرَجَ فِي بَعْضِ غَفَلَاتِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْحِفْظِ الْمُعْتَادِ.
المتن: وَعَلَى الْمُودَعِ تَعْرِيضُ ثِيَابِ الصُّوفِ لِلرِّيحِ كَيْ لَا يُفْسِدَهَا الدُّودُ، وَكَذَا لِبْسُهَا عِنْدَ حَاجَتِهَا.
الشَّرْحُ: (وَعَلَى الْمُودَعِ) بِفَتْحِ الدَّالِ (تَعْرِيضُ ثِيَابِ الصُّوفِ) وَنَحْوِهِ، كَشَعْرٍ وَوَبَرٍ وَخَزٍّ مُرَكَّبٍ مِنْ حَرِيرٍ وَصُوفٍ وَلِبْدٍ، وَكَذَا بُسُطٌ وَأَكْسِيَةٌ وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ ثِيَابًا عُرْفًا (لِلرِّيحِ كَيْ لَا يُفْسِدَهَا الدُّودُ، وَكَذَا) عَلَيْهِ أَيْضًا (لُبْسُهَا) بِنَفْسِهِ إنْ لَاقَ بِهِ (عِنْدَ حَاجَتِهَا) لِتَعْبَقَ بِهَا رَائِحَةُ الْآدَمِيِّ فَتَدْفَعَ الدُّودَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفَسَدَتْ ضَمِنَ، سَوَاءٌ أَمَرَهُ الْمَالِكُ أَمْ سَكَتَ، فَإِنْ نَهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْوَدِيعُ كَأَنْ كَانَتْ فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ فَلَا ضَمَانَ، أَمَّا مَا لَا يَلِيقُ بِهِ لِبْسُهُ لِضِيقِهِ أَوْ صِغَرِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ يَلْبَسُهُ مَنْ يَلِيقُ بِهِ لُبْسُهُ بِهَذَا الْقَصْدِ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَيُلَاحِظُهُ، وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ لِبْسُهُ كَأَنْ كَانَ خَزًّا مُرَكَّبًا مِنْ صُوفٍ وَحَرِيرٍ وَالْأَكْثَرُ حَرِيرٌ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَلْبَسُهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ لِبْسُهُ أَوْ وَجَدَ وَلَمْ يَرْضَ إلَّا بِأُجْرَةٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ لِبْسُهُ؟ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ، وَلَوْ كَانَتْ ثِيَابُ الصُّوفِ كَثِيرَةً يَحْتَاجُ لِبْسُهَا إلَى طُوَلِ زَمَنٍ يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ هَلْ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيَجْعَلَ لَهُ أُجْرَةً فِي مُقَابَلَةِ لُبْسِهَا؟ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، إذْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ مَنْفَعَتَهُ مَجَّانًا كَالْحِرْزِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَكَنَشْرِ الصُّوفِ تَمْشِيَةُ الدَّابَّةِ وَتَسْيِيرُهَا الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَيْهَا مِنْ الزَّمَانَةِ لِطُوَلِ وُقُوفِهَا، وَجَعَلَ الزَّرْكَشِيُّ هَذَا مَثَلًا، وَجَعَلَ الضَّابِطَ خَوْفَ الْفَسَادِ.
المتن: وَمِنْهَا أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ وَتَلِفَتْ بِسَبَبِ الْعُدُولِ فَيَضْمَنُ، فَلَوْ قَالَ لَا تَرْقُدْ عَلَى الصُّنْدُوقِ فَرَقَدَ وَانْكَسَرَ بِثِقَلِهِ وَتَلِفَ مَا فِيهِ ضَمِنَ، وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِهِ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَا تُقْفِلْ عَلَيْهِ قُفْلَيْنِ فَأَقْفَلَهُمَا.
الشَّرْحُ: (وَمِنْهَا) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ (أَنْ يَعْدِلَ) فِي الْوَدِيعَةِ (عَنْ الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ) بِهِ فِيهَا (وَتَلِفَتْ بِسَبَبِ الْعُدُولِ) عَنْهُ إلَى الْوَجْهِ الْمَعْدُولِ إلَيْهِ (فَيَضْمَنُ) لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ (فَلَوْ) عَدَلَ كَأَنْ (قَالَ) لَهُ (لَا تَرْقُدْ) أَيْ لَا تَنَمْ (عَلَى الصُّنْدُوقِ) الَّذِي فِيهِ الْوَدِيعَةُ (فَرَقَدَ وَانْكَسَرَ بِثِقَلِهِ وَتَلِفَ مَا فِيهِ) بِانْكِسَارِهِ (ضَمِنَ) لِمُخَالَفَتِهِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى التَّلَفِ (وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِهِ) أَيْ بِسَبَبٍ غَيْرِ الِانْكِسَارِ كَسَرِقَةٍ (فَلَا) يَضْمَنُ (عَلَى الصَّحِيحِ) لِأَنَّهُ زَادَ خَيْرًا، وَلَمْ يَأْتِ التَّلَفُ مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَالثَّانِي يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ رُقُودَهُ عَلَيْهِ يُوهِمُ السَّارِقَ نَفَاسَةَ مَا فِيهِ فَيَقْصِدُهُ تَنْبِيهٌ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ فِي بَيْتٍ مُحْرَزٍ وَأَخَذَهُ السَّارِقُ. أَمَّا لَوْ سُرِقَ مَا فِيهِ مِنْ الصَّحْرَاءِ مِنْ جَانِبٍ كَأَنْ يَرْقُدَ فِيهِ إنْ لَمْ يَرْقُدْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَقَدَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْلَى جَانِبَ الصُّنْدُوقَ، وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ السَّارِقُ مِنْ الْأَخْذِ إذَا كَانَ بِجَانِبِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْجَانِبِ الْمَذْكُورِ (وَكَذَا) لَا يَضْمَنُ (لَوْ قَالَ) لَهُ (لَا تُقْفِلْ) بِمُثَنَّاةٍ مَضْمُومَةٍ وَفَاءٍ مَكْسُورَةٍ (عَلَيْهِ) أَيْ الصُّنْدُوقِ أَصْلًا فَاقْفِلْ عَلَيْهِ، أَوْ أَقْفِلْ عَلَيْهِ قُفْلًا فَقَطْ فَأَقْفَلَ عَلَيْهِ (قُفْلَيْنِ) أَوْ لَا تُقْفِلْ عَلَيْهِ قُفْلَيْنِ أَوْ لَا تُغْلِقْ بَابَ الْبَيْتِ (فَأَقْفَلَهُمَا) أَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ لَمْ يَضْمَنْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ زَادَ احْتِيَاطًا، وَالثَّانِي يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَغْرَى السَّارِقَ بِهِ. تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي بَلَدٍ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ جَزْمًا.
المتن: وَلَوْ قَالَ ارْبِطْ الدَّرَاهِمَ فِي كُمِّك فَأَمْسَكَهَا فِي يَدِهِ فَتَلِفَتْ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا إنْ ضَاعَتْ بِنَوْمٍ وَنِسْيَانٍ ضَمِنَ؛ أَوْ بِأَخْذِ غَاصِبٍ فَلَا؛ وَلَوْ جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ بَدَلًا عَنْ الرَّبْطِ فِي الْكُمِّ لَمْ يَضْمَنْ، وَبِالْعَكْسِ يَضْمَنُ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ قَالَ لَهُ: ارْبِطْ الدَّرَاهِمَ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فِي الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا (فِي كُمِّك) أَيْ شُدَّهَا فِيهِ، وَجَمْعُهُ أَكْمَامٌ (فَأَمْسَكَهَا فِي يَدِهِ فَتَلِفَتْ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا إنْ ضَاعَتْ بِنَوْمٍ وَنِسْيَانٍ) أَيْ أَوْ نِسْيَانٍ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ (ضَمِنَ) لِحُصُولِ التَّلَفِ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَرْبُوطَةً لَمْ تَضِعْ بِهَذَا السَّبَبِ (أَوْ) تَلِفَتْ (بِأَخْذِ غَاصِبٍ) لَهَا مِنْ يَدِهِ (فَلَا) يَضْمَنُ لِأَنَّ الْيَدَ أَمْنَعُ لِلْغَصْبِ حِينَئِذٍ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي إطْلَاقُ قَوْلَيْنِ، وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: إنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِمْسَاكِ ضَمِنَ، وَإِنْ أَمْسَكَ بَعْدَ الرَّبْطِ لَمْ يَضْمَنْ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا امْتَثَلَ أَمْرَهُ وَرَبَطَهَا فِي الْكُمِّ لَمْ يُكَلَّفْ مَعَهُ إمْسَاكُهَا بِالْيَدِ، بَلْ إنْ كَانَ الرَّبْطُ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ فَأَخَذَهَا الْقَاطِعُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَهَا وَتَنْبِيهُ الْقَاطِعِ وَإِغْرَاءَهُ عَلَيْهَا لِسُهُولَةِ قَطْعِهِ أَوْ حَلِّهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، لَا إنْ اسْتَرْسَلَتْ بِانْحِلَالِ الْعَقْدِ وَضَاعَتْ وَقَدْ احْتَاطَ فِي الرَّبْطِ فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهَا إذَا انْحَلَّتْ بَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ فِي الْكُمِّ، أَوْ كَانَ الرَّبْطُ مِنْ دَاخِلٍ فَبِالْعَكْسِ فَيَضْمَنُهَا إنْ اسْتَرْسَلَتْ لِتَنَاثُرِهَا بِالِانْحِلَالِ لَا إنْ أَخَذَهَا الْقَاطِعُ لِعَدَمِ تَنَبُّهِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَأْمُورُ بِهِ مُطْلَقُ الرَّبْطِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يُنْظَرُ إلَى جِهَةِ التَّلَفِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَدَلَ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَى غَيْرِهِ فَحَصَلَ بِهِ التَّلَفُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّبْطَ لَيْسَ كَافِيًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فُرِضَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَضَمُّنِهِ الْحِفْظَ، وَلِهَذَا لَوْ رَبَطَ رَبْطًا غَيْرَ مُحْكَمٍ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الرَّبْطِ يَشْمَلُ الْمُحْكَمَ وَغَيْرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ: احْفَظْ الْوَدِيعَةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَوَضَعَهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْهُ فَانْهَدَمَتْ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ، وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَتْ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى لَسَلِمَتْ . أُجِيبَ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْتِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلٍّ مِنْ زَوَايَاهُ، وَالْعُرْفُ لَا يُخَصِّصُ مَوْضِعًا مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ فَرَبَطَ فِي التَّحْتَانِيِّ مِنْهُمَا لَمْ يَضْمَنْ، سَوَاءٌ أَرَبَطَهَا دَاخِلَ الْكُمِّ أَمْ خَارِجَهُ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ لِانْتِفَاءِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ (وَلَوْ جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ) الَّذِي فِي جَنْبِ قَمِيصِهِ أَوْ لِبَتِّهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (بَدَلًا عَنْ الرَّبْطِ فِي الْكُمِّ لَمْ يَضْمَنْ) عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزُ إلَّا إذَا كَانَ وَاسِعًا غَيْرَ مَزْرُورٍ فَيَضْمَنُ لِسُهُولَةِ تَنَاوُلِهَا بِالْيَدِ مِنْهُ، وَقِيلَ: يَضْمَنُ لِمُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ (وَبِالْعَكْسِ) أَيْ أَمَرَهُ بِوَضْعِهَا فِي الْجَيْبِ فَرَبَطَهَا فِي الْكُمِّ (يَضْمَنُ) قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْجَيْبَ أَحْرَزُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرْسِلُ الْكُمَّ فَتَسْقُطُ.
المتن: وَلَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ بِالسُّوقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الْحِفْظِ فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ وَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ أَوْ جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ إنْ أَخَذَهَا غَاصِبٌ وَيَضْمَنُ إنْ تَلِفَتْ بِغَفْلَةٍ أَوْ نَوْمٍ
الشَّرْحُ: (وَلَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ بِالسُّوقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الْحِفْظِ) فِيهَا (فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ) أَوْ نَحْوِهِ كَعَلَى تِكَّتِهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، أَوْ عَلَى طَرَفِ ثَوْبِهِ (وَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ، أَوْ) لَمْ يَرْبِطْهَا بِهَا (جَعَلَهَا فِي جَيْبِهِ) الضَّيِّقِ أَوْ الْوَاسِعِ الْمَزْرُورِ (لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّهُ احْتَاطَ فِي الْحِفْظِ. أَمَّا إذَا كَانَ الْجَيْبُ وَاسِعًا غَيْرَ مَزْرُورٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ كَمَا مَرَّ لِسُهُولَةِ أَخْذِهَا مِنْهُ بِالْيَدِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَذَا لَوْ كَانَ الْجَيْبُ مَثْقُوبًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَسَقَطَتْ أَوْ حَصَلَتْ بَيْنَ ثَوْبَيْهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا فَسَقَطَتْ ضَمِنَهَا، وَفِي الْكَافِي فِي بَابِ الْغَصْبِ: إذَا كَانَ الثُّقْبُ مَوْجُودًا عِنْدَ جَعْلِهَا فِيهِ ضَمِنَ، وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَهُ فَلَا. تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الرَّبْطِ مِنْ غَيْرِ إمْسَاكٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا: وَقِيَاسُ مَا سَبَقَ النَّظَرُ لِكَيْفِيَّةِ الرَّبْطِ وَجِهَةِ التَّلَفِ، وَلَوْ وَضَعَهَا فِي كُمِّهِ وَلَمْ يَرْبِطْهَا فَسَقَطَتْ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا يَشْعُرُ بِهَا ضَمِنَ لِتَفْرِيطِهِ فِي الْإِحْرَازِ وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً يَشْعُرُ بِهَا لَمْ يَضْمَنْ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ، فَلَوْ نَفَضَ كُمَّهُ فَسَقَطَتْ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ سَهْوًا قَالَهُ الْقَاضِي، وَلَوْ وَضَعَهَا فِي كَوْرِ عِمَامَتِهِ وَلَمْ يَشُدَّهَا ضَمِنَ، وَخَرَجَ بِالسُّوقِ مَا لَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ فِي الْبَيْتِ وَقَالَ: احْفَظْهَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحِفْظُ فِيهِ فَوْرًا، فَإِنْ أَخَّرَ بَلَا مَانِعٍ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا فِيهِ وَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ أَوْ شَدَّهَا فِي عَضُدِهِ لَا مِمَّا يَلِي أَضْلَاعَهُ وَخَرَجَ بِهَا أَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَأَمْكَنَ إحْرَازُهَا فِي الْبَيْتِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ أَحْرَزَ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَدَّهَا فِي عَضُدِهِ مِمَّا يَلِي أَضْلَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزُ مِنْ الْبَيْتِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا حَصَلَ التَّلَفُ فِي زَمَنِ الْخُرُوجِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَفِي تَقْيِيدِهِمْ الصُّورَةَ بِمَا إذَا قَالَ: احْفَظْهَا فِي الْبَيْتِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهَا مَرْبُوطَةً، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ ا هـ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ (وَإِنْ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ إنْ أَخَذَهَا غَاصِبٌ وَيَضْمَنُ إنْ تَلِفَتْ بِغَفْلَةٍ أَوْ نَوْمٍ) لِتَقْصِيرِهِ.
المتن: وَإِنْ قَالَ احْفَظْهَا فِي الْبَيْتِ فَلْيَمْضِ إلَيْهِ وَيُحْرِزُهَا فِيهِ، فَإِنْ أَخَّرَ بَلَا عُذْرٍ ضَمِنَ.
الشَّرْحُ: (وَإِنْ) دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ بِالسُّوقِ، وَ (قَالَ: احْفَظْهَا فِي الْبَيْتِ فَلْيَمْضِ إلَيْهِ) فَوْرًا (وَيُحْرِزُهَا فِيهِ) عَقِبَ وُصُولِهِ (فَإِنْ أَخَّرَ بَلَا عُذْرٍ ضَمِنَ) لِتَفْرِيطِهِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَفَاسَةِ الْوَدِيعَةِ وَطُوَلِ التَّأْخِيرِ وَضِدِّهِمَا. وَقَالَ الْفَارِقِيُّ: إنْ كَانَ مِمَّنْ عَادَتُهُ الْقُعُودُ بِالسُّوقِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ لِاشْتِغَالِهِ بِتِجَارَةٍ وَغَيْرِهَا فَأَخَّرَهَا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَضْمَنْ، فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِالْقُعُودِ، وَلَا لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فِي الْمُضِيِّ إلَى الْبَيْتِ فَأَخَّرَهَا ضَمِنَ، هَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. فَأَمَّا إذَا قَالَ أَحْرِزْهَا الْآنَ فِي الْبَيْتِ فَقَبِلَ وَأَخَّرَهَا ضَمِنَ مُطْلَقًا ا هـ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهَذَا مُتَّجَهٌ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ، لَكِنَّ الْمَنْقُولَ فِي الشَّامِلِ وَحِلْيَةِ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ قَالَ لَهُ وَهُوَ فِي حَانُوتِهِ: احْمِلْهَا إلَى بَيْتِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ فِي الْحَالِ وَيَحْمِلَهَا إلَيْهِ، فَلَوْ تَرَكَهَا فِي حَانُوتِهِ وَلَمْ يَحْمِلْهَا إلَى الْبَيْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ ا هـ. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَا نَظَرَ إلَى عَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ شَنِيعَةٌ: ضَادُ الضَّمَانِ، وَطَاءُ الطَّلَاقِ، وَوَاوُ الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ قَالَ: احْفَظْ هَذَا فِي يَمِينِكَ فَجَعَلَهُ فِي يَسَارِهِ ضَمِنَ، وَبِالْعَكْسِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ أَحْرَزُ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ أَكْثَرَ غَالِبًا. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: لَكِنْ لَوْ هَلَكَ لِلْمُخَالَفَةِ ضَمِنَ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَعْسَرَ انْعَكَسَ الْحُكْمُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْمَلُ بِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ كَانَا سَوَاءٌ.
المتن: وَمِنْهَا أَنْ يُضَيِّعَهَا بِأَنْ يَضَعَهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ مِثْلِهَا، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهَا سَارِقًا أَوْ مَنْ يُصَادِرُ الْمَالِكَ.
الشَّرْحُ: (وَمِنْهَا) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ (أَنْ يُضَيِّعَهَا بِأَنْ يَضَعَهَا) بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا (فِي غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهَا) وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ إخْفَاءَهَا؛ لِأَنَّ الْوَدَائِعَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا (أَوْ يَدُلُّ) بِضَمِّ الدَّالِ (عَلَيْهَا سَارِقًا) بِأَنْ يُعَيِّنَ لَهُ مَكَانَهَا وَتَضِيعُ بِالسَّرِقَةِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا (أَوْ) يَدُلُّ عَلَيْهَا (مَنْ يُصَادِرُ الْمَالِكَ) فِيهَا بِأَنْ عَيَّنَ لَهُ مَوْضِعَهَا فَضَاعَتْ بِذَلِكَ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِلْحِفْظِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْلَمَهُ بِهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ حِفْظَهَا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا ضَاعَتْ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ بِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَهَا وَلَوْ أَعْلَمَهُ بِهَا هُوَ وَغَيْرُهُ لَا شَيْءَ عَلَى غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ هُوَ الضَّمَانُ لِمَا مَرَّ تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَضْمَنُ وَلَوْ أَعْلَمَ الْمُصَادِرَ بِهَا مُكْرَهًا وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَ السُّبْكِيُّ: وَهَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْرِمِ إذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْهُ بِأَنَّ الْوَدِيعَ الْتَزَمَ الْحِفْظَ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ، وَحَمَلَ الزَّرْكَشِيُّ نَقْلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ عَلَى قَرَارِ الضَّمَانِ لَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَيْضًا حَصْرُ التَّضْيِيعِ فِيمَا ذَكَرَهُ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ مِنْهُ الضَّيَاعُ بِالنِّسْيَانِ، وَمِنْهُ دَفْنُهَا فِي حِرْزٍ ثُمَّ يَنْسَاهُ. وَمِنْهُ مَا لَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ قَامَ وَنَسِيَ الْوَدِيعَةَ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمَالِكُ لِلْوَدِيعَةِ ظَرْفًا مِنْ ظُرُوفِهِ فَنَقَلَهَا الْوَدِيعُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْهَا وَهُوَ مُسَاوٍ لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْمَظْرُوفَ وَدِيعَتَانِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا حِفْظُ أَحَدِهِمَا فِي حِرْزٍ وَالْآخَرِ فِي آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي دُونَ الْمُعَيَّنِ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَتْ الظُّرُوفُ لِلْوَدِيعِ فَكَالْبُيُوتِ فِيمَا مَرَّ فِيهَا، وَلَوْ نَهَاهُ عَنْ دُخُولِ أَحَدٍ عَلَيْهَا، أَوْ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى حِفْظِهَا بِحَارِثٍ، أَوْ عَنْ الْإِخْبَارِ بِهَا فَخَالَفَهُ فِيهِ ضَمِنَ إنْ كَانَ أَخَذَهَا الدَّاخِلُ عَلَيْهَا أَوْ الْحَارِسُ لَهَا أَوْ تَلِفَتْ بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعَهَا، وَإِنْ أَخَذَهَا غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ أَوْ تَلِفَتْ لَا بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ فَلَا ضَمَانَ، فَقَوْلُ الْعَبَّادِيِّ: وَلَوْ سَأَلَهُ رَجُلٌ هَلْ عِنْدَك لِفُلَانٍ وَدِيعَةٌ وَأَخْبَرَهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ كِتْمَانَهَا مِنْ حِفْظِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الضَّمَانِ بِالْأَخْذِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ.
المتن: فَلَوْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ حَتَّى سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُهُ فِي الْأَصَحِّ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الظَّالِمِ.
الشَّرْحُ: (فَلَوْ أَكْرَهَهُ) أَيْ الْوَدِيعَ (ظَالِمٌ) عَلَى تَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ (حَتَّى سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُهُ) أَيْ الْوَدِيعِ (فِي الْأَصَحِّ) لِتَسْلِيمِهِ وَالضَّمَانُ يَسْتَوِي فِيهِ الِاخْتِيَارُ وَالِاضْطِرَارُ (ثُمَّ يَرْجِعُ) الْوَدِيعُ (عَلَى الظَّالِمِ) لِاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُهُ لِلْإِكْرَاهِ وَيُطَالَبُ الظَّالِمُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَهُ مُطَالَبَةُ الظَّالِمِ أَيْضًا، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: سَلَّمَهَا إلَيْهِ مَا لَوْ أَخَذَهَا الظَّالِمُ بِنَفْسِهِ قَهْرًا مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ فَقَطْ جَزْمًا. فَإِنْ قِيلَ: رَجَّحَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا لَوْ أُكْرِهَ الصَّائِمُ حَتَّى أَكَلَ عَدَمَ الْفِطْرِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ عَلَى تَرْجِيحِ التَّضْمِينِ هُنَا فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَا اسْتِيلَاءً عَلَى مَالِكِ الْغَيْرِ فَضَمَّنَّاهُ، وَفِي الصَّوْمِ فَعَلَهُ كَلَا فِعْلٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَيَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ إنْكَارُ الْوَدِيعَةِ عَنْ الظَّالِمِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إعْلَامِهِ بِهَا جَهْدَهُ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ضَمِنَ. وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ حِفْظِهَا. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَيَتَّجِهُ وُجُوبُ الْحَلِفِ إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ رَقِيقًا وَالظَّالِمُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، أَوْ الْفُجُورَ بِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُوَرِّيَ فِي يَمِينِهِ إذَا حَلَفَ وَأَمْكَنَتْهُ التَّوْرِيَةُ وَكَأَنْ يُعَرِّفَهَا لِئَلَّا يَحْلِفَ كَاذِبًا، فَإِنْ لَمْ يُوَرِّ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهَا، فَإِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى اعْتِرَافِهِ فَحَلَفَ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ فَدَى الْوَدِيعَةَ بِزَوْجَتِهِ أَوْ رَقِيقِهِ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِهَا وَسَلَّمَهَا ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ فَدَى زَوْجَتَهُ أَوْ رَقِيقَهُ بِهَا، وَلَوْ أَعْلَمَ اللُّصُوصَ بِمَكَانِهَا فَضَاعَتْ بِذَلِكَ ضَمِنَ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِلْحِفْظِ لَا إنْ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَكَانِهَا فَلَا يَضْمَنُ بِذَلِكَ.
المتن: وَمِنْهَا أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِأَنْ يَلْبَسَ أَوْ يَرْكَبَ خِيَانَةً، أَوْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ لِيَلْبَسَهُ أَوْ الدَّرَاهِمَ لِيُنْفِقَهَا فَيَضْمَنُ.
الشَّرْحُ: (وَمِنْهَا) أَيْ عَوَارِضِ الضَّمَانِ (أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِأَنْ يَلْبَسَ) الثَّوْبَ مَثَلًا (أَوْ يَرْكَبَ) الدَّابَّةَ (خِيَانَةً) بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ لَا لِعُذْرٍ فَيَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَمِنْهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْكِتَابِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: خِيَانَةً رُكُوبُ الْجُمُوحِ لِلسَّقْيِ، أَوْ خَوْفُ الزَّمَانَةِ عَلَيْهَا، وَلِبْسُ الصُّوفِ وَنَحْوُهُ لِدَفْعِ الدُّودِ وَنَحْوِهِ، وَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ خَاتَمَهُ وَأَمَرَهُ بِلُبْسِهِ فِي خِنْصَرِهِ فَجَعَلَهُ فِي بِنْصِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزُ لِكَوْنِهِ أَغْلَظَ إلَّا إنْ جَعَلَهُ فِي أَعْلَاهُ، أَوْ فِي وَسَطِهِ، أَوْ انْكَسَرَ لِغِلَظِ الْبِنْصِرِ فَيَضْمَنُ؛ لِأَنَّ أَسْفَلَ الْخِنْصَرِ أَحْفَظُ مِنْ أَعْلَى الْبِنْصِرِ وَوَسَطِهِ فِي غَيْرِ الْأَخِيرَةِ وَلِلْمُخَالَفَةِ فِي الْأَخِيرَةِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: اجْعَلْهُ فِي الْبِنْصِرِ فَجَعَلَهُ فِي الْخِنْصَرِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَنْتَهِي إلَى أَصْلِ الْبِنْصِرِ فَاَلَّذِي فَعَلَهُ أَحْرَزُ فَلَا ضَمَانَ وَإِلَّا ضَمِنَ، وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ فَوَضَعَهُ فِي الْخِنْصَرِ لَا غَيْرِهَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ بَلَا ضَرُورَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ اسْتِعْمَالًا. نَعَمْ إنْ قَصَدَ بِلُبْسِهِ فِيهَا الْحِفْظَ لَمْ يَضْمَنْ، وَغَيْرُ الْخِنْصَرِ لِلْمَرْأَةِ فِي حِفْظِهَا لِلْخَاتَمِ كَالْخِنْصَرِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَخَتَّمُ فِي غَيْرِهِ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَالْخُنْثَى يَحْتَمِلُ إلْحَاقُهُ بِالرَّجُلِ إذَا لَبِسَ الْخَاتَمَ فِي غَيْرِ خِنْصَرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّمَانِ، وَيَحْتَمِلُ مُرَاعَاةُ الْأَغْلَظِ هُنَا وَهُوَ الْتِحَاقُهُ بِالْمَرْأَةِ كَمَا غَلَّظْنَا فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالرَّجُلِ ا هـ. وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُتَّجَهُ تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ خِيَانَةً مَا لَوْ اسْتَعْمَلَ الْوَدِيعَةَ ظَانًّا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَيَضْمَنُ مَعَ أَنَّهُ لَا خِيَانَةَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي بَابِ الْغَصْبِ عَنْ جَزْمِ الْإِمَامِ ( أَوْ يَأْخُذُ الثَّوْبَ) مِنْ مَحِلِّهِ (لِيَلْبَسَهُ أَوْ الدَّرَاهِمَ) مِنْ مَحِلِّهَا (لِيُنْفِقَهَا) غَيْرَ ظَانٍّ أَنَّهَا مِلْكُهُ (فَيَضْمَنُ) بِمَا ذُكِرَ وَإِنْ لَمْ يَلْبَسْ وَلَمْ يُنْفِقْ لِاقْتِرَانِ الْفِعْلِ بِنِيَّةِ التَّعَدِّي، فَإِنْ تَلِفَ الْمَأْخُوذُ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ، فَإِنْ مَضَتْ فِي يَدِهِ مُدَّةً بَعْدَ التَّعَدِّي وَجَبَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَيَضْمَنُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَغْصُوبِ حَتَّى يَتَنَاوَل ضَمَانَ الْعَيْنِ فِي صُورَةِ التَّلَفِ وَالْأُجْرَةُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَ الْمُصَنِّفُ فِي نُكْتَةٍ كَلَامَ التَّنْبِيهِ، أَمَّا إذَا أَخَذَهَا ظَانًّا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا إلَّا إنْ انْتَفَعَ بِهَا كَمَا مَرَّ. تَنْبِيهٌ: احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: الدَّرَاهِمَ عَمَّا لَوْ أَخَذَ بَعْضَهَا كَأَنْ أَخَذَ مِنْهَا دِرْهَمًا لِيَنْتَفِعَ بِهِ، فَإِنْ رَدَّ بَدَلَهُ إلَيْهَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَالِكُ إلَّا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَمْ يَبْرَأْ عَنْ ضَمَانِهِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهَا ضَمِنَ الْجَمِيعَ لِخَلْطِ الْوَدِيعَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَإِنْ تَمَيَّزَ عَنْهَا فَالْبَاقِي غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَمَيَّزَ عَنْ بَعْضِهَا لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ بِصِفَةٍ كَسَوَادٍ وَبَيَاضٍ وَسِكَّةٍ ضَمِنَ مَا لَا يَتَمَيَّزُ خَاصَّةً، وَإِنْ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ إلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ تَلِفَتْ كُلُّهَا، أَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْ هُوَ عَنْهَا لِاخْتِلَاطِهِ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَلْطَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الْأَخْذِ، وَإِنْ تَلِفَ نِصْفُهَا ضَمِنَ نِصْفَ الدَّرَاهِمِ فَقَطْ، هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَفْتَحْ قُفْلًا عَنْ صُنْدُوقٍ، أَوْ خَتْمًا عَنْ كِيسٍ فِيهِ الدَّرَاهِمُ، فَإِنْ فَتَحَهُ، أَوْ أَوْدَعَهُ دَرَاهِمَ مَثَلًا مَدْفُونَةً فَنَبَشَهَا ضَمِنَ الْجَمِيعَ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ الْحِرْزَ، وَفِي ضَمَانِ الصُّنْدُوقِ وَالْكِيسِ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ فَتَحَ الرُّبُطَ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ رَأْسُ الْكِيسِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ مَنْعُ الِانْتِشَارِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكْتُومًا عَنْهُ فَيَضْمَنُ، وَلَوْ خَرَقَ الْكِيسَ مِنْ فَوْقَ الْخَتْمِ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا نُقْصَانَ الْخَرْقِ. نَعَمْ إنْ خَرَقَهُ مُتَعَمِّدًا ضَمِنَ جَمِيعَ الْكِيسِ، وَلَوْ عَدَّ الدَّرَاهِمَ الْمَوْدُوعَةَ، أَوْ وَزَنَهَا، أَوْ ذَرَعَ الثَّوْبَ كَذَلِكَ لِيَعْرِفَ قَدْرَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ فِي اللُّقَطَةِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَهَذِهِ أَوْلَى.
المتن: وَلَوْ نَوَى الْأَخْذَ وَلَمْ يَأْخُذ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الصَّحِيحِ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ نَوَى الْأَخْذَ) لِلْوَدِيعَةِ خِيَانَةً، أَوْ نَوَى تَعْيِيبَهَا (وَلَمْ يَأْخُذْ) وَلَمْ يُعَيِّبْ (لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الصَّحِيحِ) الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِعْلًا. وَالثَّانِي: يَضْمَنْ كَمَا لَوْ نَوَاهُ ابْتِدَاءً. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ اقْتَرَنَتْ بِالْفِعْلِ فَأَثَّرَتْ وَلَا كَذَلِكَ هُنَا تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي التَّضْمِينِ أَمَّا التَّأْثِيمُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِنِيَّةِ الْأَخْذِ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ إذَا أَخَذَهَا يَضْمَنُ مِنْ وَقْتِ نِيَّةِ الْأَخْذِ حَتَّى لَوْ نَوَى يَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَخَذَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَضْمَنُ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَالْمُرَادُ بِالنِّيَّةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ تَجْرِيدُ الْقَصْدِ لِأَخْذِهَا. فَأَمَّا مَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَدَاعِيَةُ الدِّينِ تَمْنَعُهُ فَلَا حُكْمَ لَهُ، وَإِنْ تَرَدَّدَ الرَّأْيُ وَلَمْ يَجْزِمْ قَصْدًا، فَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ حَتَّى يُجَرِّدَ قَصْدَ الْعُدْوَانِ.
المتن: وَلَوْ خَلَطَهَا بِمَالِهِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ ضَمِنَ، وَلَوْ خَلَطَ دَرَاهِمَ كِيسَيْنِ لِلْمُودِعِ ضَمِنَ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ خَلَطَهَا) أَيْ الْوَدِيعَةَ (بِمَالِهِ) وَإِنْ قَلَّ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ (وَلَمْ تَتَمَيَّزْ ضَمِنَ) لِأَنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ، فَإِنْ تَمَيَّزَتْ بِسِكَّةٍ أَوْ عِتْقٍ، أَوْ حَدَاثَةٍ، أَوْ كَانَتْ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهَا بِدَنَانِيرَ لَمْ يَضْمَنْ. نَعَمْ إنْ حَدَثَ بِالْخَلْطِ نَقْصٌ ضَمِنَهُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ الضَّابِطُ التَّمْيِيزَ بَلْ سُهُولَتَهُ حَتَّى لَوْ خَلَطَ حِنْطَةً بِشَعِيرٍ مَثَلًا كَانَ مُضَمَّنًا فِيمَا يَظْهَرُ ا هـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا عَسُرَ التَّمْيِيزُ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ ضَمِنَ أَيْ الْوَدِيعَةَ بِالْمِثْلِ إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَبِأَقْصَى الْقِيَمِ إنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً كَالْمَغْصُوبِ، وَيَمْلِكُ الْوَدِيعَةَ كَمَا صَرَّحَا بِهِ فِي بَابِ الْغَصْبِ فِيمَا إذَا خَلَطَ الْحِنْطَةَ وَالزَّيْتَ وَنَحْوَهُمَا بِمِثْلِهِمَا لَهُ، إذْ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُهَا لَكَ حَتَّى يَنْتَقِلَ ذَلِكَ إلَيْهِ وَيَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ الْغُرْمُ (وَلَوْ خَلَطَ دَرَاهِمَ كِيسَيْنِ) مَثَلًا غَيْرِ مَخْتُومَيْنِ (لِلْمُودِعِ) وَلَمْ تَتَمَيَّزْ بِسُهُولَةٍ (ضَمِنَ فِي الْأَصَحِّ) لِتَعَدِّيهِ، وَالثَّانِي: لِأَنَّ كُلًّا لِمَالِكٍ وَاحِدٍ. أَمَّا إذَا كَانَا مَخْتُومَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ بِالْفَضِّ وَإِنْ لَمْ يَخْلِطْ كَمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ لِمُودِعَيْنِ فَأَوْلَى بِالضَّمَانِ. وَلَوْ قَطَعَ الْوَدِيعُ يَدَ الدَّابَّةِ الْمُودَعَةِ، أَوْ أَحْرَقَ بَعْضَ الثَّوْبِ الْمُودَعِ عِنْدَهُ خَطَأً ضَمِنَ الْمُتْلَفَ فَقَطْ دُونَ الْبَاقِي لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ فِيهِ أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ عَمْدًا ضَمِنَهُمَا جَمِيعًا لِتَعَدِّيهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُخَالِفُ تَسْوِيَتَهُمْ الْخَطَأَ بِالْعَمْدِ فِي الضَّمَانِ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَحِلَّ التَّسْوِيَةِ فِي ضَمَانِ الْإِتْلَافِ كَمَا فِي بَعْضِ الْمُتْلَفِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا فِي ضَمَانِ التَّعَدِّي كَمَا فِي الْبَاقِي فِيهَا إذْ لَا تَعَدِّيَ فِيهِ.
المتن: وَمَتَى صَارَتْ مَضْمُونَةً بِانْتِفَاعٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ لَمْ يَبْرَأْ، فَإِنْ أَحْدَثَ لَهُ الْمَالِكُ اسْتِئْمَانًا بَرِئَ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَمَتَى صَارَتْ) أَيْ الْوَدِيعَةُ (مَضْمُونَةً بِانْتِفَاعٍ وَغَيْرِهِ) مِمَّا مَرَّ (ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ لَمْ يَبْرَأْ) مِنْ الضَّمَانِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ التَّعَدِّي حِفْظُهَا كَمَا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ، بَلْ عَلَيْهِ رَدُّهَا، بِخِلَافِ الْمَرْهُونِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمَالِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بَعْدَ تَعَدِّيهمَا (فَإِنْ أَحْدَثَ لَهُ الْمَالِكُ اسْتِئْمَانًا) كَقَوْلِهِ: اسْتَأْمَنْتُكَ عَلَيْهَا، أَوْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ ضَمَانِهَا، أَوْ أَمَرَهُ بِرَدِّهَا إلَى الْحِرْزِ (بَرِئَ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ. وَالثَّانِي: لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَرُدَّهَا إلَيْهِ أَوْ إلَى وَكِيلِهِ لِخَبَرِ: {عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ} تَنْبِيهٌ: احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: أَحْدَثَ عَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْدَعْتُكَ، فَإِنْ خُنْتَ ثُمَّ تَرَكْتَ الْخِيَانَةَ عُدْتَ أَمِينًا فَخَانَ ثُمَّ تَرَكَ الْخِيَانَةَ فَلَا يَعُودُ أَمِينًا قَطْعًا كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّاهُ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ وَتَعْلِيقٌ لِلْوَدِيعَةِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَلَا خَفَاءَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِئْمَانَ إنَّمَا هُوَ لِلْمَالِكِ خَاصَّةً لَا لِلْوَلِيِّ وَالْوَكِيلِ وَنَحْوِهِمَا بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلُوهُ لَمْ يُعَدَّ أَمِينًا قَطْعًا. وَلَوْ أَتْلَفَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ أَحْدَثَ لَهُ الْمَالِكُ اسْتِئْمَانًا فِي الْبَدَلِ لَمْ يَبْرَأْ بَلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْبَدَلَ إلَى الْمَالِكِ.
المتن: وَمَتَى طَلَبَهَا الْمَالِكُ لَزِمَهُ الرَّدُّ بِأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ رَدُّهَا عِنْدَ بَقَائِهَا عَلَى مَالِكِهَا إذَا طَلَبَهَا فَقَالَ: (وَمَتَى طَلَبَهَا) أَيْ الْوَدِيعَةَ (الْمَالِكُ) أَوْ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْقَبْضِ (لَزِمَهُ) أَيْ الْوَدِيعَ (الرَّدُّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} . أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْقَبْضِ كَمَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إلَيْهِ، بَلْ يَحْرُمُ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ ضَمِنَ، وَلَوْ رَدَّ عَلَى الْمَالِكِ فِي حَالِ سُكْرِهِ. قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ مُخَاطَبٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ا هـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ حَمْلَهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ يَحْصُلُ (بِأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا) فَقَطْ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمَالِكَ الْإِشْهَادَ، وَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الدَّفْعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَبَهَا وَكِيلُ الْمُودِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَفْعِهَا إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَوْدَعَهُ حَاكِمًا ثُمَّ طَلَبَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عُزِلَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيَجِيءُ مِثْلُهُ إذَا كَانَ الْمُودِعُ يَنُوبُ عَنْ غَيْرِهِ بِوِلَايَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَلَوْ أَوْدَعَ شَخْصٌ يُعْرَفُ بِاللُّصُوصِيَّةِ وَدِيعَةً عِنْدَ آخَرَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْوَدِيعِ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ ثُمَّ طَالَبَهُ بِالرَّدِّ هَلْ يَلْزَمُهُ أَوْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ وَيَطْلُبُ صَاحِبَهَا فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَعَ امْتِدَادِ الزَّمَانِ رَدَّهُ؟ احْتِمَالَانِ فِي الْبَحْرِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ امْتِنَاعٌ لِظَاهِرِ الْيَدِ، وَلَوْ بَعَثَ شَخْصٌ رَسُولًا لِقَضَاءِ حَاجَةٍ وَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ أَمَارَةً لِمَنْ يَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ وَقَالَ: رُدَّهُ عَلَيَّ بَعْدَ قَضَائِهَا فَوَضَعَهُ بَعْدَ قَضَائِهَا فِي حِرْزٍ مِثْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا التَّخْلِيَةُ لَا النَّقْلُ، وَلَوْ قَالَ مَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لِمَالِكِهَا: خُذْ وَدِيعَتَكَ لَزِمَهُ أَخْذُهَا كَمَا فِي الْبَيَانِ، وَعَلَى الْمَالِكِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ. تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ لَا شَرِيكَ لِلْمُودِعِ، فَلَوْ أَوْدَعَهُ اثْنَانِ وَجَاءَ أَحَدُهُمَا يَسْتَرِدُّ نَصِيبَهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي الْإِيدَاعِ فَكَذَا فِي الِاسْتِرْدَادِ بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيُقَسِّمَهُ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ نَصِيبَهُ، وَاحْتَرَزَ بِتَفْسِيرِ الرَّدِّ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْ رَدِّ الْأَمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَثَوْبٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ فِي دَارِهِ، فَإِنْ رَدَّهَا بِالْإِعْلَامِ بِحُصُولِهَا فِي يَدِهِ.
المتن: فَإِنْ أَخَّرَ بَلَا عُذْرٍ ضَمِنَ.
الشَّرْحُ: (فَإِنْ أَخَّرَ) رَدَّ الْوَدِيعَةَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ (بَلَا عُذْرٍ ضَمِنَ) لِتَعَدِّيهِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ لِعُذْرٍ كَصَلَاةٍ وَطَهَارَةٍ وَلَيْلٍ وَمُلَازَمَةِ غَرِيمٍ وَأَكْلٍ لَمْ يُضْمَنْ، هَذَا إنْ كَانَ الْعُذْرُ لَا يَطُولُ زَمَنُهُ، فَإِنْ كَانَ يَطُولُ كَنَذْرِ اعْتِكَافِ شَهْرٍ مَثَلًا أَوْ إحْرَامٍ يَطُولُ زَمَنُهُ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنْ تَمَكَّنَ مِنْ تَوْكِيلِ أَمِينٍ مُتَبَرِّعٍ يُخَلِّي بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَخَّرَ ضَمِنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْ الْمَالِكُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيَبْعَثَ إلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِيدَاعِ عِنْدَهُ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ مَنْ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَإِنْ أَبَى بَعَثَ الْحَاكِمُ مَعَهُ أَمِينًا يُسَلِّمُهَا إلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَدِيعُ غَائِبًا ا هـ. وَلَوْ قَالَ لَهُ الْمَالِكُ: أَعْطِ وَكِيلِي فُلَانًا وَتَمَكَّنَ ضَمِنَ بِالتَّأْخِيرِ وَلَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ الْوَكِيلُ، وَكَذَا مَنْ يَعْرِفُ مَالِكَ الضَّالَّةِ وَمَا طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ وَكِيلٍ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إلَيْهِ أَوْ لِيُعْطِيَ آخَرَ وَقَدْ قَالَ لَهُ: أَعْطِهَا أَحَدَ وُكَلَائِي ضَمِنَ، فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: وَلَا تُؤَخِّرْ فَأَخَّرَ عَصَى أَيْضًا، فَإِنْ قَالَ: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ لَمْ يَعْصِ بِالتَّأْخِيرِ وَلَمْ يَضْمَنْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ، رَجَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ.
المتن: وَإِنْ ادَّعَى تَلَفَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا أَوْ ذَكَرَ خَفِيًّا كَسَرِقَةٍ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ ظَاهِرًا كَحَرِيقٍ فَإِنْ عُرِفَ الْحَرِيقُ وَعُمُومُهُ صُدِّقَ بَلَا يَمِينٍ، وَإِنْ عُرِفَ دُونَ عُمُومِهِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ جُهِلَ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى التَّلَفِ بِهِ.
الشَّرْحُ: (وَإِنْ ادَّعَى تَلَفَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ) لَهُ (سَبَبًا أَوْ ذَكَرَ) لَهُ سَبَبًا (خَفِيًّا كَسَرِقَةٍ صُدِّقَ) فِي ذَلِكَ (بِيَمِينِهِ) بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَنَهُ فَلْيُصَدِّقْهُ وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ السَّبَبِ فِي الْأَوْلَى. نَعَمْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ أَنَّهَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَإِذَا نَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ الْخَفِيِّ حَلَفَ أَيْ الْمَالِكُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: عَلَى الْبَتِّ وَالْغَصْبِ كَالسَّرِقَةِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهُ الْأَقْرَبُ، وَقِيلَ: كَالْمَوْتِ، وَرَجَّحَهُ الْمُتَوَلِّي. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إنْ ادَّعَى وُقُوعَهُ فِي مَجْمَعٍ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ وَإِلَّا فَلَا ا هـ. وَيَنْبَغِي حَمْلُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: شَمِلَ إطْلَاقُ دَعْوَى السَّرِقَةِ مَا لَوْ طَلَبَهَا الْمَالِكُ، فَقَالَ: أَرُدُّهَا وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ طَالَبَهُ فَأَخْبَرَهُ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ إنْ كَانَ يَرْجُو وُجُودَهَا فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ أَيِسَ مِنْهَا ضَمِنَ، نَقَلَهُ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ وَأَقَرَّهُ، وَالْإِطْلَاقُ أَظْهَرُ (وَإِنْ ذَكَرَ) سَبَبًا (ظَاهِرًا كَحَرِيقٍ، فَإِنْ عُرِفَ الْحَرِيقُ وَعُمُومُهُ) وَلَمْ يَحْتَمِلْ سَلَامَةُ الْوَدِيعَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي (صُدِّقَ بَلَا يَمِينٍ) لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ يُغْنِيهِ عَنْ الْيَمِينِ. أَمَّا إذَا اُحْتُمِلَ سَلَامَتُهَا بِأَنْ عَمَّ ظَاهِرًا لَا يَقِينًا فَيَحْلِفُ لِاحْتِمَالِ سَلَامَتِهَا كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ (وَإِنْ عُرِفَ) الْحَرِيقُ (دُونَ عُمُومِهِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ) لِاحْتِمَالِ مَا ادَّعَاهُ (وَإِنْ جُهِلَ) مَا ادَّعَاهُ مِنْ السَّبَبِ الظَّاهِرِ (طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ) عَلَيْهِ (ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى التَّلَفِ بِهِ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تَتْلَفُ بِهِ، وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّلَفِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ أَوْ نَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَ الْمَالِكُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالتَّلَفِ وَاسْتَحَقَّ.
المتن: وَإِنْ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِهِ كَوَارِثِهِ أَوْ ادَّعَى وَارِثُ الْمُودِعِ الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ سَفَرِهِ أَمِينًا فَادَّعَى الْأَمِينُ الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ، وَجُحُودُهَا بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ مُضَمِّنٍ.
الشَّرْحُ: (وَإِنْ ادَّعَى) وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى أَمَانَتِهِ (رَدَّهَا عَلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ) مِنْ مَالِكٍ وَحَاكِمٍ وَوَلِيٍّ وَوَصِيٍّ وَقَيِّمٍ (صُدِّقَ بِيَمِينِهِ) وَإِنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا عِنْدَ دَفْعِهَا لِأَنَّهُ ائْتَمَنَهُ. أَمَّا لَوْ ضَمِنَهَا بِتَفْرِيطٍ أَوْ عُدْوَانٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ رَدَّهَا. تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَجْرِي فِي كُلِّ أَمِينٍ كَوَكِيلٍ وَشَرِيكٍ وَعَامِلِ قِرَاضٍ وَجَابٍ فِي رَدِّ مَا جَبَاهُ عَلَى الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ لِلْجِبَايَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَأَمِينٍ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَدِيعِ إذَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ سَفَرِهِ؛ لِأَنَّهُ ائْتَمَنَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْوَدِيعِ الِاسْتِرْدَادَ إذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الرَّدَّ إلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُمَا. وَضَابِطُ الَّذِي يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي الرَّدِّ هُوَ كُلُّ أَمِينٍ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ إلَّا الْمُرْتَهِنَ وَالْمُسْتَأْجِرَ فَإِنَّهُمَا يُصَدَّقَانِ فِي التَّلَفِ لَا فِي الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُمَا أَخَذَا الْعَيْنَ لِغَرَضِ أَنْفُسِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ: كُلُّ مَالٍ تَلِفَ فِي يَدِ أَمِينٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا إذَا اسْتَسْلَفَ السُّلْطَانَ لِحَاجَةِ الْمَسَاكِينِ زَكَّاهُ قَبْلَ حَوْلِهَا فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهَا لَهُمْ أَيْ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا الْمُقَرَّرَةِ فِي مَحِلِّهَا. وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ: وَيَلْحَقُ بِهَا مَا لَوْ اشْتَرَى عَيْنًا وَحَبَسَهَا الْبَائِعُ عَلَى الثَّمَنِ ثُمَّ أَوْدَعَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَتَلِفَتْ فَإِنَّهَا مِنْ ضَمَانِهِ وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ مَمْنُوعٌ، بَلْ الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ (أَوْ) ادَّعَى الرَّدَّ (عَلَى غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَنْ ائْتَمَنَهُ (كَوَارِثِهِ) أَيْ الْمَالِكِ (أَوْ) ادَّعَى وَارِثُ الْمُودَعِ بِفَتْحِ الدَّالِ (الرَّدَّ) لِلْوَدِيعَةِ مِنْهُ لَا مِنْ مُوَرِّثِهِ ( عَلَى الْمَالِكِ أَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ سَفَرِهِ أَمِينًا فَادَّعَى الْأَمِينُ الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ طُولِبَ) كُلٌّ مِمَّنْ ذُكِرَ (بِبَيِّنَةٍ) بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ ذُكِرَ، إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الرَّدِّ وَلَمْ يَأْتَمِنْهُ. أَمَّا إذَا ادَّعَى الْوَارِثُ الرَّدَّ مِنْ مُوَرِّثِهِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ لِدُخُولِ ذَلِكَ فِي الضَّابِطِ الْمُتَقَدِّمِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْوَجْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ حُصُولِهَا فِي يَدِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: إنَّهُ الْأَصَحُّ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمُتَوَلِّي وَقَالَ: يُطَالَبُ بِالْبَيِّنَةِ (وَجُحُودُهَا) بِلَا عُذْرٍ (بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ) لَهَا (مُضَمَّنٌ) كَخِيَانَتِهِ. أَمَّا لَوْ جَحَدَهَا بِعُذْرٍ كَأَنْ طَالَبَ الْمَالِكَ بِهَا ظَالِمٌ فَطَلَبَ الْمَالِكُ الْوَدِيعَ بِهَا فَجَحَدَهَا دَفْعًا لِلظَّالِمِ أَوْ جَحَدَهَا بِلَا طَلَبٍ مِنْ مَالِكِهَا، وَإِنْ كَانَ الْجَحْدُ بِحَضْرَتِهِ كَقَوْلِهِ ابْتِدَاءً: لَا وَدِيعَةَ عِنْدِي لِأَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ إخْفَاءَهَا أَبْلَغُ فِي حِفْظِهَا وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْهَا الْمَالِكُ، وَلَكِنْ قَالَ لِي: عِنْدَك وَدِيعَةٌ فَأَنْكَرَ لَمْ يَضْمَنْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْإِخْفَاءِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَلَوْ جَحَدَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ غَلِطْتُ أَوْ نَسِيتُ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَالِكُ. . فَائِدَةٌ: سُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ وَدِيعَةٌ مَضَتْ عَلَيْهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ وَلَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهَا وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ، فَقَالَ: يَصْرِفُهَا فِي أَهَمِّ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَدِّمُ أَهْلَ الضَّرُورَةِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ، وَلَا يَبْنِي بِهَا مَسْجِدًا، وَلَا يَصْرِفُهَا إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ صَرْفُهَا فِيهِ، وَإِنْ جَهِلَهُ فَلْيَسْأَلْ أَوْرَعَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَصَالِحِ الْوَاجِبَةِ التَّقْدِيمِ. خَاتِمَةٌ: لَوْ تَنَازَعَا الْوَدِيعَةَ اثْنَانِ بِأَنْ ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ فَصَدَّقَ الْوَدِيعُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَلِلْآخِرِ تَحْلِيفُهُ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ دَعْوَى الْآخَرِ، وَإِنْ نَكِلَ حَلَفَ الْآخَرُ وَغَرِمَ لَهُ الْوَدِيعُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا فَالْيَدُ لَهُمَا وَالْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَالَ: هِيَ لِأَحَدِكُمَا وَنَسِيتُهُ وَكَذَّبَاهُ فِي النِّسْيَانِ ضَمِنَ كَالْغَاصِبِ، وَالْغَاصِبُ إذَا قَالَ الْمَغْصُوبُ لِأَحَدِكُمَا وَأُنْسِيتُهُ فَحَلَفَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْبَتِّ أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْهُ تَعَيَّنَ الْمَغْصُوبُ لِلْآخَرِ بَلَا يَمِينٍ، وَلَوْ ادَّعَى الْوَارِثُ عِلْمَ الْوَدِيعِ بِمَوْتِ الْمَالِكِ وَطَلَبَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَإِنْ نَكِلَ حَلَفَ الْوَارِثُ وَأَخَذَهَا، وَإِنْ قَالَ الْوَدِيعُ: حَبَسْتُهَا عِنْدِي لِأَنْظُرَ هَلْ أَوْصَى بِهَا مَالِكُهَا أَمْ لَا فَهُوَ مُتَعَدٍّ ضَامِنٌ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ وَرَقَةً مَكْتُوبَةً فِيهَا الْحَقُّ الْمُقَرُّ بِهِ وَتَلِفَتْ بِتَقْصِيرٍ ضَمِنَ قِيمَتَهَا مَكْتُوبَةً وَأُجْرَةَ الْكِتَابَةِ كَذَا قَالَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّ الْوَرَقَةَ الْمَكْتُوبَةَ مُتَقَوِّمَةٌ فَإِذَا تَلِفَتْ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا وَلَا نَظَرَ لِأُجْرَةِ الْكِتَابَةِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَلَزِمَ أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ ثَوْبًا مُطَرَّزًا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَأُجْرَةَ التَّطْرِيزِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَالْغَاصِبُ إنَّمَا يَغْرَمُ الْقِيمَةَ فَقَطْ كَمَا أَجَابَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، فَالصَّوَابُ لُزُومُهَا فَقَطْ. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّطْرِيزَ يُزِيدُ قِيمَةَ الثَّوْبِ غَالِبًا، وَلَا كَذَلِكَ الْكِتَابَةُ فَإِنَّهَا قَدْ تُنْقِصُهَا، وَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِ الْكَامِلِ وَغَيْرِهِ.
المتن: الْفَيْءُ: مَالٌ حَصَلَ مِنْ كُفَّارٍ بَلَا قِتَالٍ وَإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ كَجِزْيَةٍ وَعُشْرِ تِجَارَةٍ وَمَا جَلَوْا عَنْهُ خَوْفًا وَمَالِ مُرْتَدٍّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ وَذِمِّيٍّ مَاتَ بَلَا وَارِثٍ فَيُخَمَّسُ.
الشَّرْحُ: كِتَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ هَذَا شَطْرُ بَيْتٍ مَوْزُونٍ، وَالْقَسْمُ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَسَمْتُ الشَّيْءَ، وَالْفَيْءُ مَصْدَرُ فَاءَ يَفِيءُ إذَا رَجَعَ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَالِ الرَّاجِعِ مِنْ الْكُفَّارِ إلَيْنَا مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ، وَالْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ مَرْدُودٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي الْمَحَاسِنِ: سُمِّيَ الْفَيْءُ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى طَاعَتِهِ، فَمَنْ خَالَفَهُ فَقَدْ عَصَاهُ وَسَبِيلُهُ الرَّدُّ إلَى مَنْ يُطِيعُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ الْغَنِيمَةَ أَيْضًا فَلِذَلِكَ قِيلَ اسْمُ الْفَيْءِ يَشْمَلُهَا دُونَ الْعَكْسِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: يُسَنُّ وَسْمُ نَعَمِ الْفَيْءِ، وَقِيلَ: اسْمُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا افْتَرَقَا كَالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، وَالْمَشْهُورُ تَغَايُرُهُمَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْغَنِيمَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ مِنْ الْغُنْمِ وَهُوَ الرِّبْحُ اُسْتُعْمِلَتْ شَرْعًا فِي رِبْحٍ مِنْ الْكُفَّارِ خَاصٍّ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا فَضْلٌ وَفَائِدَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} وقَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الْآيَتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ {وَقَدْ فَسَّرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بَلْ كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ إذَا غَنِمُوا مَالًا جَمَعُوهُ فَتَأْتِي نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ تَأْخُذُهُ، ثُمَّ أُحِلَّتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقَاتِلِينَ كُلِّهِمْ نُصْرَةً وَشَجَاعَةً بَلْ أَعْظَمُ يَصْنَعُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ إعْطَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَأْتِي، وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُ هَذَا الْكِتَابَ بَعْدَ كِتَابِ الْجِهَادِ، وَهُوَ أَنْسَبُ. وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا اقْتِدَاءً بِالْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ: (الْفَيْءُ: مَالٌ) أَوْ نَحْوُهُ كَكَلْبٍ يُنْتَفَعُ بِهِ (حَصَلَ) لَنَا (مِنْ كُفَّارٍ) مِمَّا هُوَ لَهُمْ (بَلَا قِتَالٍ وَ) لَا (إيجَافِ) أَيْ إسْرَاعِ (خَيْلٍ وَ) لَا سَيْرِ (رِكَابٍ) أَيْ إبِلٍ وَنَحْوِهَا كَبِغَالٍ وَحَمِيرٍ وَسُفُنٍ وَرَجَّالَةٍ، وَخَرَجَ بِزِيَادَةِ لَنَا مَا حَصَّلَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَا يُنْزَعُ مِنْهُمْ وَبِزِيَادَةِ مِمَّا هُوَ لَهُمْ مَا أَخَذُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّا لَمْ نَمْلِكْهُ بَلْ يُرَدُّ عَلَى مَالِكِهِ إنْ عُرِفَ وَإِلَّا فَيُحْفَظُ. تَنْبِيهٌ: اعْتَبَرَ الْمُصَنِّفُ فِي حُصُولِ الْفَيْءِ انْتِفَاءَ الْقِتَالِ وَإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِانْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ وَبِانْتِفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَالْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ كَافٍ فِي حُصُولِ اسْمِ الْغَنِيمَةِ فَلَا يَكُونُ فَيْئًا حَتَّى تَنْتَفِيَ الثَّلَاثَةُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَلَا إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْهُ بِأَنَّ الْوَاوَ فِي كَلَامِهِ بِمَعْنَى أَوْ أَيْ الْفَيْءُ مَا حَصَلَ عِنْدَ انْتِفَاءِ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَالْأَعَمُّ إذَا انْتَفَى يَنْتَفِي الْأَخَصُّ لِانْتِفَاءِ الْإِنْسَانِ بِانْتِفَاءِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْوَاوِ بِمَعْنَى أَوْ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ فِي حَدِّ الْغَنِيمَةِ. وَأَمَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ فِي حَدِّ الْفَيْءِ فَالْوَاوُ عَلَى بَابِهَا، وَالْمُرَادُ انْتِفَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ كَمَا مَرَّ، وَهَذَا أَظْهَرُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنْوَاعًا سِتَّةً مِنْ الْفَيْءِ أَشَارَ لَهَا بِقَوْلِهِ: (كَجِزْيَةٍ وَعُشْرِ تِجَارَةٍ) مِنْ كُفَّارٍ شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ إذَا دَخَلُوا دَارَنَا، وَخَرَاجٍ ضُرِبَ عَلَيْهِمْ عَلَى اسْمِ جِزْيَةٍ (وَمَا جَلَوْا) أَيْ تَفَرَّقُوا (عَنْهُ خَوْفًا) مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ (وَمَالِ مُرْتَدٍّ قُتِلَ أَوْ مَاتَ) عَلَى الرِّدَّةِ (وَذِمِّيٍّ) أَوْ نَحْوِهِ (مَاتَ بَلَا وَارِثٍ) أَوْ تَرَكَ وَارِثًا غَيْرَ حَائِزٍ. تَنْبِيهٌ: هَذَا التَّعْرِيفُ لَيْسَ بِجَامِعٍ فَإِنَّ الْمَالَ يُخْرِجُ الِاخْتِصَاصَاتِ مَعَ أَنَّهَا فَيْءٌ كَمَا مَرَّ، فَلَوْ قَالَ: مَا حَصَلَ كَانَ أَوْلَى، وَلَيْسَ بِمَانِعٍ لِدُخُولِ مَا حَصَلَ مِنْ سَرِقَةٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَلُقَطَةٍ فَإِنَّهُ غَنِيمَةٌ لَا فَيْءٌ وَمَا أَهْدَوْهُ لَنَا فِي غَيْرِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَيْءٍ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ بَلْ هُوَ لِمَنْ أَهْدَى لَهُ، وَأَمَّا مَا أَهْدَوْهُ لَنَا وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَهُوَ غَنِيمَةٌ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَوْ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الْخَوْفِ لَكَانَ أَوْلَى لِيَدْخُلَ الْمَالُ الَّذِي جَلَوْا عَنْهُ لِضُرٍّ أَصَابَهُمْ أَوْ صُولِحُوا عَلَيْهِ بَلَا قِتَالٍ فَإِنَّهُ فَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ. ثُمَّ أَشَارَ لِحُكْمِ الْفَيْءِ بِقَوْلِهِ: (فَيُخَمَّسُ) جَمِيعُهُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ مُتَسَاوِيَةٍ كَالْغَنِيمَةِ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُخَمَّسُ بَلْ جَمِيعُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. لَنَا قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الْآيَةَ، فَأَطْلَقَ هَهُنَا، وَقَيَّدَ فِي الْغَنِيمَةِ فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا لِاتِّحَادِ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ، وَهُوَ رُجُوعُ الْمَالِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ بِالْقِتَالِ وَعَدَمِهِ كَمَا حَمَلْنَا الرَّقَبَةَ فِي الظِّهَارِ عَلَى الْمُؤْمِنَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُ لَهُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَخُمْسَ خُمْسِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِينَ مَعَهُ فِي الْآيَةِ خُمْسُ خُمْسٍ. وَأَمَّا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصْرَفُ مَا كَانَ لَهُ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ لِمَصَالِحِنَا، وَمِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ لِلْمُرْتَزِقَةِ كَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ.
المتن: وَخُمْسُهُ لِخَمْسَةٍ: أَحَدُهَا مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ كَالثُّغُورِ وَالْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ يُقَدَّمُ الْأَهَمُّ، وَالثَّانِي بَنُو هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ يَشْتَرِكُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَالنِّسَاءُ وَيُفَضَّلُ الذَّكَرُ كَالْإِرْثِ، وَالثَّالِثُ الْيَتَامَى، وَهُوَ صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ، وَيُشْتَرَطُ فَقْرُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ، وَيَعُمُّ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ، وَقِيلَ يُخَصُّ بِالْحَاصِلِ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ فِيهَا مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ، وَهُمْ الْأَجْنَادُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ
الشَّرْحُ: (وَخُمْسُهُ) أَيْ الْفَيْءِ (لِخَمْسَةٍ) فَالْقِسْمَةُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ (أَحَدُهَا: مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ) فَلَا يُصْرَفُ مِنْهُ شَيْءٌ لِكَافِرٍ، ثُمَّ مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ لِلْمَصَالِحِ بِقَوْلِهِ: (كَالثُّغُورِ) جَمْعُ ثَغْرٍ: أَيْ سَدُّهَا وَشَحْنُهَا بِالْعَدَدِ. وَالْمُقَاتِلَةُ، وَهِيَ مَوَاضِعُ الْخَوْفِ مِنْ أَطْرَافِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَلِيهَا بِلَادُ الْمُشْرِكِينَ فَيَخَافُ أَهْلُهَا مِنْهُمْ، وَكَعَمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْحُصُونِ (وَ) أَرْزَاقِ (الْقُضَاةِ) الْأَئِمَّةِ (وَالْعُلَمَاءِ) بِعُلُومٍ تَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَتَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَفِقْهٍ وَطَلَبَةِ هَذِهِ الْعُلُومِ تَنْبِيهٌ: نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْعُلَمَاءِ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَالْأَئِمَّةِ وَمُعَلِّمِي الْقُرْآنِ وَالْمُؤَذِّنِينَ؛ لِأَنَّ الثُّغُورَ حِفْظُ الْمُسْلِمِينَ وَلِئَلَّا يَتَعَطَّلَ مَنْ ذُكِرَ بِالِاكْتِسَابِ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَعَنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ وَعَنْ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ فَيُرْزَقُونَ مَا يَكْفِيهِمْ لِيَتَفَرَّغُوا لِذَلِكَ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ نَقْلًا عَنْ الْغَزَالِيِّ: تُعْطَى الْعُلَمَاءُ وَالْقُضَاةُ مَعَ الْغِنَى وَقَدْرُ الْمُعْطَى إلَى رَأْيِ السُّلْطَانِ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِضِيقِ الْمَالِ وَسَعَتِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُعْطَى أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ الْكَسْبِ لَا مَعَ الْغِنَى، وَالْمُرَادُ بِالْقُضَاةِ غَيْرُ قُضَاةِ الْعَسْكَرِ. أَمَّا قُضَاتُهُمْ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فِي مَغْزَاهُمْ فَيُرْزَقُونَ مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ لَا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ: وَكَذَا أَئِمَّتُهُمْ وَمُؤَذِّنُوهُمْ وَعُمَّالُهُمْ (يُقَدَّمُ الْأَهَمُّ) فَالْأَهَمُّ مِنْهَا وُجُوبًا، وَأَهَمُّهَا كَمَا فِي التَّنْبِيهِ سَدُّ الثُّغُورِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ الْمُسْلِمِينَ تَنْبِيهٌ: قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: لَوْ لَمْ يَدْفَعْ السُّلْطَانُ إلَى الْمُسْتَحِقِّينَ حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ وَلَا يَدْرِي قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْهُ. قَالَ: وَهَذَا غُلُوٌّ، وَالثَّانِي: يَأْخُذُ كُلَّ يَوْمٍ قُوتَ يَوْمٍ، وَالثَّالِثُ: يَأْخُذُ كِفَايَةَ سَنَةٍ، وَالرَّابِعُ: يَأْخُذَ مَا يُعْطَى وَهُوَ حِصَّتُهُ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالْمِيرَاثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لَهُمْ، حَتَّى لَوْ مَاتُوا قُسِّمَ بَيْنَ وَرَثَتِهِمْ، وَهُنَا لَوْ مَاتَ لَمْ يَسْتَحِقَّ وَارِثُهُ شَيْئًا ا هـ. وَأَقَرَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَلَى هَذَا الرَّابِعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي فَتَاوَى الْمُصَنِّفِ: لَوْ غَصَبَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا مُعَيَّنًا وَخَلَطَ الْجَمِيعَ ثُمَّ فَرَّقَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ الْمُخْتَلِطِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَجَدَ قَدْرَ حِصَّتِهِ، فَإِنْ فَرَّقَ عَلَى بَعْضِهِمْ فَلِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَ الْقَدْرَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْبَاقِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ ا هـ. وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْغَصْبِ (وَالثَّانِي بَنُو هَاشِمٍ) بَنُو (الْمُطَّلِبِ) وَمِنْهُمْ إمَامُنَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَهُمْ آلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الْمُرَادُ بِذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْبَعَةُ أَوْلَادَ عَبْدِ مَنَافٍ لِاقْتِصَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَسْمِ عَلَى بَنِي الْأَوَّلِينَ مَعَ سُؤَالِ بَنِي الْآخِرِينَ لَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ نَصَرُوهُ وَذَبُّوا عَنْهُ، بِخِلَافِ بَنِي الْآخَرِينَ بَلْ كَانُوا يُؤَذُّونَهُ، وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ أَشِقَّاءُ، وَنَوْفَلٌ أَخُوهُمْ لِأَبِيهِمْ، وَعَبْدُ شَمْسٍ هُوَ جَدُّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَالْعِبْرَةُ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْآبَاءِ. أَمَّا مَنْ انْتَسَبَ مِنْهُمْ إلَى الْأُمَّهَاتِ فَلَا، كَذَا قَالَاهُ، وَاسْتَثْنَى السُّبْكِيُّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ بِنْتِهِ زَيْنَبَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ مِنْ بِنْتِهِ رُقَيَّةَ فَإِنَّهُمْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى بَلَا شَكٍّ. قَالَ: وَلَمْ أَرَهُمْ تَعَرَّضُوا لِذَلِكَ، فَيَنْبَغِي الضَّبْطُ بِقَرَابَةِ هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ لَا بَيْنَهُمَا ا هـ. وَحِينَئِذٍ فَيُسْتَثْنَى أَوْلَادُ بَنَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْأُمَّهَات، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّحُوهُ أَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتِسَابُ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ. وَأَجَابَ شَيْخُنَا بِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ تُوُفِّيَا صَغِيرَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا نَسْلٌ فَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِمَا ا هـ. فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِثْنَاءِ السُّبْكِيّ مَعَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي عِبَارَتِهِ غَيْرُ الْمُرَادِ، فَإِنَّ قَرَابَةَ هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ أَعَمُّ مِنْ فُرُوعِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (يَشْتَرِكُ) فِي خُمُسِ الْخُمُسِ (الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ) لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ، وَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ مِنْهُ، وَكَانَ مِنْ أَغْنِيَاءِ قُرَيْشٍ (وَالنِّسَاءُ) لِأَنَّ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَأْخُذُ سَهْمَ أُمِّهِ صَفِيَّةَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْفَعُ لِلسَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهُ، وَلَوْلَا هَذِهِ الْأَدِلَّةُ لَمْ يُدْفَعْ لِلنِّسَاءِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الصَّرْفِ لِلذُّكُورِ، فَإِنَّ " ذُو " اسْمٌ مُذَكَّرٌ وَجَعْلَهُ لِلشَّخْصِ الَّذِي يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ قَالَهُ السُّبْكِيُّ (وَ) لَكِنْ ( يُفَضَّلُ الذَّكَرُ) وَلَوْ صَغِيرًا عَنْ الْأُنْثَى، فَلَهُ سَهْمَانِ وَلَهَا سَهْمٌ فَإِنَّهُ عَطِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - يَسْتَحِقُّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخُنْثَى كَالْأُنْثَى، وَلَا يُوقَفُ لَهُ شَيْءٌ ا هـ. بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُوقَفُ لَهُ تَمَامُ نَصِيبِ الذَّكَرِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (كَالْإِرْثِ) وَحَكَى الْإِمَامُ فِي أَنَّ الذَّكَرَ يُفَضَّلُ عَلَى الْأُنْثَى إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَنُقِلَ عَنْ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ جَرِيرٍ التَّسْوِيَةُ. تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ كَالْإِرْثِ أَنَّهُمْ لَوْ أَعْرَضُوا عَنْ سَهْمِهِمْ لَمْ يَسْقُطْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي السِّيَرِ، وَمِنْ إطْلَاقِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُجِبْ تَعْمِيمُهُمْ، وَأَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ مُدْلٍ بِجِهَتَيْنِ وَمُدْلٍ بِجِهَةٍ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ كَبِيرٌ عَلَى صَغِيرٍ وَلَا قَرِيبٌ عَلَى بَعِيدٍ وَلَا حَاضِرٌ بِمَوْضِعِ الْفَيْءِ عَلَى غَائِبٍ عَنْهُ (وَالثَّالِثُ الْيَتَامَى) لِلْآيَةِ جَمْعُ يَتِيمٍ (وَهُوَ صَغِيرٌ) ذَكَرٌ أَوْ خُنْثَى أَوْ أُنْثَى لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ (لَا أَبَ لَهُ) أَمَّا كَوْنُهُ صَغِيرًا فَلِخَبَرِ: {لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَحَسَّنَهُ الْمُصَنِّفُ وَإِنْ ضَعَّفَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ. أَمَّا كَوْنُهُ لَا أَبَ لَهُ فَلِلْوَضْعِ وَالْعُرْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْتَزِقَةِ أَمْ لَا، قُتِلَ أَبُوهُ فِي الْجِهَادِ أَمْ لَا، لَهُ جَدٌّ أَمْ لَا. وَوَقَعَ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ هِيَ الَّتِي لَا جَدَّ لَهَا، وَالْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْيَتِيمَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ هِيَ الَّتِي لَا تُزَوَّجُ إلَّا فِي صِغَرِهَا فَإِنَّ الْجَدَّ يُزَوِّجُهَا، فَلَا يُنَافِي مَا هُنَا، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُهُ بَلَا شَكٍّ تَنْبِيهٌ: كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَيِّدَ الْيَتِيمَ بِالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ أَيْتَامَ الْكُفَّارِ لَا يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْيَتَامَى شَيْئًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي ذَوِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِذَلِكَ، وَيَنْدَرِجُ فِي تَفْسِيرِهِمْ الْيَتِيمَ وَلَدُ الزِّنَا وَاللَّقِيطُ وَالْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ، وَلَا يُسَمَّوْنَ أَيْتَامًا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا أَبَ لَهُ شَرْعًا فَلَا يُوصَفُ بِالْيُتْمِ، وَاللَّقِيطُ قَدْ يَظْهَرُ أَبُوهُ، وَالْمَنْفِيُّ بِلِعَانٍ قَدْ يَسْتَلْحِقُهُ نَافِيهِ. وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْيَتَامَى. فَائِدَةٌ: يُقَالُ لِمَنْ فَقَدَ أُمَّهُ دُونَ أَبِيهِ مُنْقَطِعٌ، وَالْيَتِيمُ فِي الْبَهَائِمِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ، وَفِي الطَّيْرِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ وَأَبَاهُ (وَيُشْتَرَطُ) فِي إعْطَاءِ الْيَتِيمِ لَا فِي تَسْمِيَتِهِ يَتِيمًا (فَقْرُهُ) الْآتِي تَعْرِيفُهُ فِي الْكِتَابِ الْآتِي الشَّامِلُ لِمَسْكَنَتِهِ (عَلَى الْمَشْهُورِ) لِإِشْعَارِ لَفْظِ الْيُتْمِ بِهِ، وَلِأَنَّ اغْتِنَاءَهُ بِمَالِ أَبِيهِ إذَا مُنِعَ اسْتِحْقَاقُهُ فَاغْتِنَاؤُهُ بِمَالِهِ أَوْلَى بِمَنْعِهِ. وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ. وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَإِلَّا لَمَا كَانَ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ لِدُخُولِهِ فِي الْفُقَرَاءِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَائِدَةَ عَدَمُ حِرْمَانِهِ (وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْمَسَاكِينُ) الشَّامِلُونَ لِلْفُقَرَاءِ (وَابْنُ السَّبِيلِ) لِلْآيَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُمَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، وَيُشْتَرَطُ فِي ابْنِ السَّبِيلِ الْفَقْرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ عَدَمَ الِاشْتِرَاطِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمَسَاكِينِ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ وَسَهْمِهِمْ مِنْ الْخُمْسِ وَحَقِّهِمْ مِنْ الْكَفَّارَاتِ فَيَصِيرُ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ يُتْمٌ وَمَسْكَنَةٌ أُعْطِيَ بِالْيُتْمِ دُونَ الْمَسْكَنَةِ؛ لِأَنَّ الْيُتْمَ وَصْفٌ لَازِمٌ وَالْمَسْكَنَةَ زَائِلَةٌ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْيُتْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فَقْرٍ وَمَسْكَنَةٍ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَازِي مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لَا يَأْخُذَ بِالْغَزْوِ بَلْ بِالْقَرَابَةِ فَقَطْ. لَكِنْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ أَنَّهُ يَأْخُذَ بِهِمَا، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَزْوِ وَالْمَسْكَنَةِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْغَزْوِ لِحَاجَتِنَا وَبِالْمَسْكَنَةِ لِحَاجَةِ صَاحِبِهَا (وَيَعُمُّ) الْإِمَامُ وَلَوْ بِنَائِبِهِ (الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ) بِالْعَطَاءِ وُجُوبًا غَائِبُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ الْفَيْءِ وَحَاضِرُهُمْ. نَعَمْ يُجْعَلُ مَا فِي كُلِّ إقْلِيمٍ لِسَاكِنِيهِ، فَإِنْ عَدِمَهُ بَعْضُ الْأَقَالِيمِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَعْضِهَا شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَسْتَوْعِبْهُمْ السَّهْمُ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِمَنْ فِيهِ إذَا وُزِّعَ عَلَيْهِمْ نُقِلَ إلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِمَامُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَنْقُولِ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ كَمَا فِي الزَّكَاةِ كَمَا جَزَمَا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ الْيَتَامَى وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِالْحَاجَةِ فَتُرَاعَى حَاجَتُهُمْ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِالْقَرَابَةِ كَمَا مَرَّ، فَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ يَسِيرًا لَا يَسُدُّ مَسَدًّا بِالتَّوْزِيعِ قُدِّمَ الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ وَلَا يُسْتَوْعَبُ لِلضَّرُورَةِ وَتَصِيرُ الْحَاجَةُ مُرَجَّحَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَنْ فُقِدَ مِنْ الْأَصْنَافِ أُعْطِيَ الْبَاقُونَ نَصِيبَهُ كَمَا فِي الزَّكَاةِ إلَّا سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لِلْمَصَالِحِ كَمَا مَرَّ، وَيُصَدَّقُ مُدَّعِي الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ بِلَا بَيِّنَةٍ وَإِنْ اُتُّهِمَ، وَلَا يُصَدَّقُ مُدَّعِي الْيُتْمِ وَلَا مُدَّعِي الْقَرَابَةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ (وَقِيلَ: يُخَصُّ بِالْحَاصِلِ) مِنْ مَالِ الْفَيْءِ ( فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مَنْ فِيهَا مِنْهُمْ) كَالزَّكَاةِ وَلِمَشَقَّةِ النَّقْلِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى حِرْمَانِ بَعْضِهِمْ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ (وَأَمَّا الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ) الَّتِي كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضْمُومَةً إلَى خُمْسِ الْخُمْسِ (فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ) لِعَمَلِ الْأَوَّلِينَ بِهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُصُولِ النُّصْرَةِ بِهِ كَمَا مَرَّ، وَالْمُقَاتِلُونَ بَعْدَهُ هُمْ الْمُرْصَدُونَ لَهَا كَمَا قَالَ (وَهُمْ الْأَجْنَادُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ) بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ لَهُمْ، سُمُّوا مُرْتَزِقَةً؛ لِأَنَّهُمْ أَرْصَدُوا أَنْفُسَهُمْ لِلذَّبِّ عَنْ الدِّينِ وَطَلَبُوا الرِّزْقَ مِنْ مَالِ اللَّهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ الْمُتَطَوِّعَةُ وَهُمْ الَّذِينَ يَغْزُونَ إذَا نَشَطُوا، فَإِنَّمَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ لَا مِنْ الْفَيْءِ عَكْسُ الْمُرْتَزِقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِلْمَصَالِحِ كَخُمْسِ الْخُمْسِ، وَأَهَمُّهَا الْمُرْتَزِقَةُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ لَمْ يَفِ الْمَالُ بِحَاجَةِ الْمُرْتَزِقَةِ وَهُمْ فُقَرَاءُ صَرَفَ الْإِمَامُ لَهُمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ.
المتن: فَيَضَعُ الْإِمَامُ دِيوَانًا، وَيُنَصِّبُ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ عَرِيفًا وَيَبْحَثُ عَنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ وَعِيَالِهِ وَمَا يَكْفِيهِمْ فَيُعْطِيهِ كِفَايَتَهُمْ وَيُقَدِّمُ فِي إثْبَاتِ الِاسْمِ وَالْإِعْطَاءِ قُرَيْشًا، وَهُمْ وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ ثُمَّ عَبْدِ شَمْسٍ ثُمَّ نَوْفَلٍ ثُمَّ عَبْدِ الْعُزَّى ثُمَّ سَائِرَ الْبُطُونِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْأَنْصَارَ، ثُمَّ سَائِرَ الْعَرَبِ، ثُمَّ الْعَجَمَ وَلَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ أَعْمَى وَلَا زَمِنًا وَلَا مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ، وَلَوْ مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَالُهُ أُعْطِيَ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُعْطَى، وَكَذَا زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ إذَا مَاتَ فَتُعْطَى الزَّوْجَةُ حَتَّى تُنْكَحَ وَالْأَوْلَادُ حَتَّى يَسْتَقِلُّوا.
الشَّرْحُ: وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ لِلْمُرْتَزِقَةِ (فَيَضَعُ الْإِمَامُ) لَهُمْ (دِيوَانًا) نَدْبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الطَّيِّبِ، وَإِنْ أَفْهَمَ كَلَامُ الرَّوْضَةِ الْوُجُوبَ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَهُوَ بِكَسْرِ الدَّالِ أَشْهَرُ مِنْ فَتْحِهَا الدَّفْتَرُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَقَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ، وَيُطْلَقُ الدِّيوَانُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ لِلْكِتَابَةِ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ كِسْرَى؛ لِأَنَّهُ اطَّلَعَ يَوْمًا عَلَى دِيوَانِهِ وَهُمْ يَحْسِبُونَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ دِيوَانُهُ: أَيْ مَجَانِينَ. ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَاءُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ تَخْفِيفًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَاسْتُحْسِنَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ} (وَيُنْصَبُ) نَدْبًا كَمَا فِي الرَّوْضَةِ (لِكُلِّ قَبِيلَةٍ) مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ (أَوْ جَمَاعَةٍ) مِنْهُمْ (عَرِيفًا) لِيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِمْ، وَيَسْهُلَ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْهُمْ وَيُعَرِّفَهُ بِأَحْوَالِهِمْ وَيَرْجِعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ {صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ: ارْجِعُوا حَتَّى أَسْأَلَ عُرَفَاءَكُمْ} وَكَانَ قَدْ عَرَّفَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا، وَزَادَ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَيُنَصِّبُ الْإِمَامُ صَاحِبَ جَيْشٍ وَهُوَ يُنَصِّبُ النُّقَبَاءَ وَكُلُّ نَقِيبٍ يُنَصِّبُ الْعُرَفَاءَ، وَكُلُّ عَرِيفٍ يُحِيطُ بِأَسْمَاءِ الْمَخْصُوصِينَ بِهِ، فَيَدْعُو الْإِمَامُ صَاحِبَ الْجَيْشِ، وَهُوَ يَدْعُو النُّقَبَاءَ، وَكُلُّ نَقِيبٍ يَدْعُو الْعُرَفَاءَ الَّذِينَ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَكُلُّ عَرِيفٍ يَدْعُو مَنْ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَالْعَرِيفُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ مَنَاقِبَ الْقَوْمِ. فَائِدَةٌ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ الْجَنَّةِ. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ رُءُوسُ أَهْلِهَا (وَيَبْحَثُ) الْإِمَامُ وُجُوبًا (عَنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ) مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ (وَ) عَنْ (عِيَالِهِ) وَهُمْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ أَوْلَادٍ وَزَوْجَاتٍ وَرَقِيقٍ لِحَاجَةِ غَزْوٍ أَوْ لِخِدْمَةٍ إنْ اعْتَادَهَا، لَا رَقِيقُ زِينَةٍ وَتِجَارَةٍ (وَمَا يَكْفِيهِمْ فَيُعْطِيهِ) كِفَايَتَهُ وَ (كِفَايَتَهُمْ) مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْجِهَادِ، وَيُرَاعَى فِي الْحَاجَةِ حَالُهُ فِي مُرُوءَتِهِ وَضِدِّهَا وَالْمَكَانُ وَالزَّمَانُ وَالرُّخْصُ وَالْغَلَاءُ وَعَادَةُ الْبَلَدِ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ، وَيُزَادُ إنْ زَادَتْ حَاجَتُهُ بِزِيَادَةِ وَلَدٍ وَحُدُوثِ زَوْجَةٍ فَأَكْثَرَ وَمَا لَا رَقِيقَ لَهُ يُعْطَى مِنْ الرَّقِيقِ مَا يَحْتَاجُهُ لِلْقِتَالِ مَعَهُ أَوْ لِخِدْمَتِهِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُخْدَمُ وَيُعْطَى مُؤْنَتُهُ، وَمَنْ يُقَاتِلُ فَارِسًا وَلَا فَرَسَ لَهُ يُعْطَى مِنْ الْخَيْلِ مَا يَحْتَاجُهُ لِلْقِتَالِ، وَيُعْطَى مُؤْنَتُهُ بِخِلَافِ الزَّوْجَاتِ يُعْطَى لَهُنَّ مُطْلَقًا لِانْحِصَارِهِنَّ فِي أَرْبَعٍ. ثُمَّ مَا يُدْفَعُ إلَيْهِ لِزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الْمِلْكُ فِيهِ لَهُمَا حَاصِلٌ مِنْ الْفَيْءِ، وَقِيلَ: يَمْلِكُهُ هُوَ وَيَصِيرُ إلَيْهِمَا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يُزَادُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِنَسَبٍ عَرِيقٍ وَسَبْقٍ فِي الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَسَائِرِ الْخِصَالِ الْمَرَضِيَّةِ وَإِنْ اتَّسَعَ الْمَالُ، بَلْ يَسْتَوُونَ كَالْإِرْثِ وَالْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ بِسَبَبِ تَرَصُّدِهِمْ لِلْجِهَادِ وَكُلُّهُمْ مُتَرَصِّدُونَ لَهُ (وَيُقَدَّمُ) نَدْبًا (فِي إثْبَاتِ الِاسْمِ) فِي الدِّيوَانِ (وَ) فِي (الْإِعْطَاءِ) أَيْضًا (قُرَيْشًا) عَلَى غَيْرِهِمْ، لِخَبَرِ {: قَدِّمُوا قُرَيْشًا}، وَلِشَرَفِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهُمْ وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ) أَحَدُ أَجْدَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَقَرُّشِهِمْ وَهُوَ تَجَمُّعُهُمْ، وَقِيلَ: لِشِدَّتِهِمْ (وَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ) أَيْ قُرَيْشٍ (بَنِي هَاشِمٍ) وَهُوَ جَدُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَهْشِمُ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ (وَ) يُقَدِّمُ مِنْهُمْ أَيْضًا بَنِي (الْمُطَّلِبِ) شَقِيقَ هَاشِمٍ. تَنْبِيهٌ: عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَنِي الْمُطَّلِبِ بِالْوَاوِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْمُطَّلِبِ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (ثُمَّ) بَنِي (عَبْدِ شَمْسٍ) لِأَنَّهُ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبَوَيْهِ (ثُمَّ) بَنِي (نَوْفَلٍ) لِأَنَّهُ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ عَبْدِ مُنَافٍ (ثُمَّ) بَنِي (عَبْدِ الْعُزَّى) لِمَكَانِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ أَصْهَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى (ثُمَّ سَائِرَ الْبُطُونِ) أَيْ بَاقِيهَا مِنْ قُرَيْشٍ (الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). فَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَعْدَ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ. ثُمَّ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْوَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ بَنِي تَيْمٍ لِمَكَانِ عَائِشَةَ وَأَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ يُقَدِّمُ بَنِي مَخْزُومٍ. ثُمَّ بَنِي عَدِيٍّ لِمَكَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. ثُمَّ بَنِي جُمَحٍ وَبَنِي سَهْمٍ فَهُمَا فِي مَرْتَبَةٍ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي. ثُمَّ بَنِي عَامِرٍ. ثُمَّ بَنِي الْحَارِثِ (ثُمَّ) بَعْدَ قُرَيْشٍ يُقَدِّمُ (الْأَنْصَارَ) لِآثَارِهِمْ الْحَمِيدَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا تَقْدِيمُ الْأَوْسِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْوَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ (ثُمَّ) بَعْدَ الْأَنْصَارِ يُقَدِّمُ (سَائِرَ) أَيْ بَاقِيَ (الْعَرَبِ) وَمِنْهُمْ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ لَا قَرَابَةَ لَهُمْ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِخِلَافِهِ، فَقَالَ: بَعْدَ الْأَنْصَارِ مُضَرُ، ثُمَّ رَبِيعَةُ، ثُمَّ وَلَدُ عَدْنَانَ، ثُمَّ وَلَدُ قَحْطَانَ، فَيُرَتِّبُهُمْ عَلَى السَّابِقَةِ كَقُرَيْشٍ، فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ بِالسَّبْقِ إلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ بِالدِّينِ، ثُمَّ بِالسِّنِّ، ثُمَّ بِالْهِجْرَةِ، ثُمَّ بِالشَّجَاعَةِ ثُمَّ بِرَأْيِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُقْرِعَ، وَأَنْ يُقَدِّمَ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ (ثُمَّ) يُقَدِّمُ بَعْدَ الْعَرَبِ (الْعَجَمَ) وَقُدِّمَتْ الْعَرَبُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَأَشْرَفُ، وَالتَّقْدِيمُ فِيهِمْ إنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى نَسَبٍ بِالْأَجْنَاسِ كَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَبِالْبُلْدَانِ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُمْ سَابِقَةٌ فِي الْإِسْلَامِ تَرَتَّبُوا عَلَيْهَا وَإِلَّا فَبِالْقُرْبِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ، ثُمَّ بِالسَّبْقِ إلَى طَاعَتِهِ، فَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى نَسَبٍ اُعْتُبِرَ فِيهِمْ قُرْبُهُ وَبُعْدُهُ كَالْعَرَبِ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا اعْتِبَارُ السِّنِّ، ثُمَّ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ الشَّجَاعَةِ، ثُمَّ رَأْيِ وَلِيِّ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْعَرَبِ، وَالتَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ مُسْتَحَبٌّ لَا مُسْتَحَقٌّ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ فِي الْمَطْلَبِ، وَاَلَّذِي يَثْبُتُ فِي الدِّيوَانِ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ هُوَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ الْحُرُّ الْبَصِيرُ الْقَادِرُ عَلَى الْقِتَالِ الْعَارِفُ بِهِ (وَ) حِينَئِذٍ (لَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ) شَخْصًا (أَعْمَى وَلَا زَمِنًا) وَلَا امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا مَجْنُونًا وَلَا كَافِرًا، وَقَوْلُهُ: (وَلَا مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ) كَأَقْطَعَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ كَفَى، وَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَخْرَسِ وَالْأَصَمِّ، وَكَذَا الْأَعْرَجِ إنْ كَانَ فَارِسًا وَإِلَّا فَلَا، وَيُمَيَّزُ الْمَجْهُولُ بِصِفَةٍ فَيُذْكَرُ نَسَبُهُ وَسِنُّهُ وَلَوْنُهُ، وَيُحْكَى وَجْهُهُ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ (وَلَوْ مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَالُهُ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْمَرَضِ وَالْجُنُونِ وَإِنْ طَالَ زَمَنُهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ (أُعْطِيَ) جَزْمًا كَصَحِيحٍ وَيَبْقَى اسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ عَارِضٍ فَرُبَّمَا يَرْغَبُ النَّاسُ عَنْ الْجِهَادِ وَيُقْبِلُوا عَلَى الْكَسْبِ لِهَذِهِ الْعَوَارِضِ (فَإِنْ لَمْ يُرْجَ) زَوَالُهُ (فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُعْطَى) أَيْضًا لِمَا ذَكَرَهُ، وَلِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى، وَلَكِنْ يُمْحَى اسْمُهُ مِنْ الدِّيوَانِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي إبْقَائِهِ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُعْطَى ذَلِكَ الْقَدْرَ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ لِأَجْلِ فَرَسِهِ وَقِتَالِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ يُعْطَى كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ اللَّائِقَةَ بِهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ، وَالثَّانِي: لَا يُعْطَى لِعَدَمِ رَجَاءِ نَفْعِهِ أَيْ لَا يُعْطَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَلَكِنْ يُعْطَى مِنْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا، وَمَحِلُّ الْخِلَافِ فِي إعْطَائِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. أَمَّا الْمَاضِي فَيُعْطَاهُ جَزْمًا (وَكَذَا) تُعْطَى (زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ) الَّذِينَ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُمْ فِي حَيَاتِهِ (إذَا مَاتَ) بَعْدَ أَخْذِ نَصِيبِهِ فِي الْأَظْهَرِ لِئَلَّا يُشْغَلَ النَّاسُ بِالْكَسْبِ عَنْ الْجِهَادِ إذَا عَلِمُوا ضَيَاعَ عِيَالِهِمْ بَعْدَهُمْ. تَنْبِيهٌ: إفْرَادُهُ الزَّوْجَةَ وَجَمْعُهُ الْأَوْلَادَ يُوهِمُ اعْتِبَارَ الْوَحْدَةِ فِي الزَّوْجَةِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ تُعْطَى الزَّوْجَاتُ وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا، وَاقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَوْلَادِ يُوهِمُ عَدَمَ الدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ كَالْوَالِدَيْنِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، فَقَدْ نَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ قَضِيَّةِ كَلَامِ الْبَغَوِيِّ الْإِعْطَاءَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَلَوْ كَانَ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ: أَيْ وَالزَّوْجَةِ كُفَّارًا هَلْ يُعْطَوْنَ لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ ا هـ. لَكِنَّ قَضِيَّةَ إطْلَاقِهِمْ إعْطَاؤُهُمْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ إذْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِمْ الْإِسْلَامَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ قَدْرَ مَا يُعْطَوْنَ، وَالْمُرَادُ مَا يَلِيقُ بِهِمْ لَا مَا كَانَ لِلْمُرْتَزِقِ أَخَذَهُ وَالثَّانِي: لَا يُعْطَوْنَ لِزَوَالِ تَبَعِيَّتِهِمْ لَهُ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَظْهَرِ (فَتُعْطَى الزَّوْجَةُ حَتَّى تُنْكَحَ) وَكَذَا الزَّوْجَاتُ كَمَا مَرَّ لِاسْتِغْنَائِهَا بِالزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الثَّانِي مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ قَرَّرَ لَهَا كِفَايَتَهَا تَبَعًا لَهُ، وَلَوْ اسْتَغْنَتْ الزَّوْجَةُ بِكَسْبٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَحْوِهِ، كَوَصِيَّةٍ لَمْ تُعْطَ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْبَيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَسْبِ، وَصَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ بِالْبَاقِي، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ كَالزَّوْجَةِ.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: حَتَّى تُنْكَحَ يَقْتَضِي أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ فِي نِكَاحِهِ أَيْ وَلَمْ تَسْتَغْنِ بِمَا ذُكِرَ أَنَّهَا تُعْطَى إلَى الْمَوْتِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهَا لَوْ امْتَنَعَتْ مِنْ التَّزْوِيجِ مَعَ رَغْبَةِ الْأَكْفَاءِ فِيهَا أَنَّهَا تُعْطَى وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا وَإِنْ نُظِرَ فِيهِ (وَ) تُعْطَى (الْأَوْلَادُ حَتَّى يَسْتَقِلُّوا) بِكَسْبٍ أَوْ نَحْوِهِ، كَوَصِيَّةٍ أَوْ يَقْدِرُ الذُّكُورُ عَلَى الْغَزْوِ، فَمَنْ أَحَبَّ إثْبَاتَ اسْمِهِ فِي الدِّيوَانِ أُثْبِتَ وَإِلَّا قُطِعَ، فَإِذَا بَلَغَ عَاجِزًا لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَكَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ تَزَوَّجَ الْإِنَاثَ. . تَنْبِيهٌ: اسْتَنْبَطَ السُّبْكِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْفَقِيهَ أَوْ الْمُعِيدَ أَوْ الْمُدَرِّسَ إذَا مَاتَ تُعْطَى زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ مِمَّا كَانَ يَأْخُذُ مَا يَقُومُ بِهِمْ تَرْغِيبًا فِي الْعِلْمِ كَالتَّرْغِيبِ هُنَا فِي الْجِهَادِ، فَإِنْ فَضُلَ الْمَالُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ صُرِفَ إلَى مَنْ يَقُومُ بِالْوَظِيفَةِ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَعْطِيلٌ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ إذَا اشْتَرَطَ مُدَرِّسًا بِصِفَةٍ فَإِنَّهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ. قُلْنَا: قَدْ حَصَلَتْ الصِّفَةُ مُدَّةً مِنْ أَبِيهِمْ وَالصَّرْفُ لَهُمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَمُدَّتُهُمْ مُغْتَفَرَةٌ فِي جَنْبِ مَا مَضَى كَزَمَنِ الْبَطَالَةِ، وَلَا يَقْدَحُ تَقْرِيرُ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلتَّدْرِيسِ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِوِلَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ تَقْرِيرُ مَنْ لَا يَصْلُحُ ابْتِدَاءً كَمَا يَمْتَنِعُ إثْبَاتُ اسْمِ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْجِهَادِ فِي الدِّيوَانِ ابْتِدَاءً. قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ: وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِلْمَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ لَا يَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ شَيْءٌ فَيُوَكِّلُ النَّاسَ فِيهِ إلَى مَيْلِهِمْ إلَيْهِ، وَالْجِهَادَ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ فَيَحْتَاجُ النَّاسُ فِي إرْصَادِ أَنْفُسِهِمْ إلَيْهِ إلَى التَّآلُفِ وَإِلَّا فَمَحَبَّةُ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ قَدْ تَصُدُّ عَنْهُ. قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: وَفَرْقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ وَهِيَ أَمْوَالُ الْمَصَالِحِ أَقْوَى مِنْ الْخَاصَّةِ كَالْأَوْقَافِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّوَسُّعِ فِي تِلْكَ التَّوَسُّعُ فِي هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُعَيَّنٌ أَخْرَجَهُ شَخْصٌ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ نَشْرِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ الْمَخْصُوصِ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ مَعَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وَمُقْتَضَى هَذَا الْفَرْقِ الصَّرْفُ لِأَوْلَادِ الْعَالِمِ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ كِفَايَتَهُمْ كَمَا كَانَ يُصْرَفُ لِأَبِيهِمْ، وَمُقْتَضَى الْفَرْقِ الْأَوَّلِ عَدَمُهُ ا هـ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي أَظْهَرُ، وَلْيَكُنْ وَقْتُ الْعَطَاءِ مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ أَوْ غَيْرِهِ أَوَّلَ كُلِّ شَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِعْطَاءَ يَكُونُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً لِئَلَّا يَشْغَلَهُمْ الْإِعْطَاءُ كُلَّ أُسْبُوعٍ أَوْ كُلَّ شَهْرٍ عَنْ الْجِهَادِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَهِيَ مُعْظَمُ الْفَيْءِ لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ جَمْعِ الْمَالِ وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَنَصِيبُهُ لِوَارِثِهِ كَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ، أَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَقَبْلَ جَمْعِ الْمَالِ فَلَا شَيْءَ لِوَارِثِهِ، إذْ الْحَقُّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِجَمْعِ الْمَالِ وَذِكْرُ الْحَوْلِ مِثَالٌ فَمِثْلُهُ الشَّهْرُ وَنَحْوُهُ، وَعَلَى الْأَظْهَرِ السَّابِقِ مِنْ اخْتِصَاصِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ بِالْمُرْتَزِقَةِ.
المتن: فَإِنْ فَضَلَتْ الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ حَاجَاتِ الْمُرْتَزِقَةِ وُزِّعَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِمْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ بَعْضُهُ فِي إصْلَاحِ الثُّغُورِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، هَذَا حُكْمُ مَنْقُولِ الْفَيْءِ. فَأَمَّا عَقَارُهُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْعَلُ وَقْفًا، وَتُقَسَّمُ غَلَّتُهُ كَذَلِكَ.
الشَّرْحُ: (فَإِنْ فَضَّلَتْ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ. أَيْ زَادَتْ (الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ حَاجَةِ الْمُرْتَزِقَةِ وُزِّعَ) الْفَاضِلُ (عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِمْ) لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ. مِثَالُ ذَلِكَ كِفَايَةُ وَاحِدٍ أَلْفٌ، وَكِفَايَةُ الثَّانِي أَلْفَانِ، وَكِفَايَةُ الثَّالِثُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَكِفَايَةُ الرَّابِعِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَجْمُوعِ كِفَايَتِهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ فَيُفْرَضُ الْحَاصِلُ عَلَى ذَلِكَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَيُعْطَى الْأَوَّلُ عُشْرَهَا، وَالثَّانِي خُمْسَهَا، وَالثَّالِثُ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِهَا، وَالرَّابِعُ خُمُسَيْهَا، وَكَذَا يُفْعَلُ إنْ زَادَ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ أَنَّ صَرْفَ الزَّائِدِ لَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ قَالَ: الَّذِي فَهِمْتُهُ عَنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِرِجَالِهِمْ حَتَّى لَا يُصْرَفَ مِنْهُ لِلذَّرَارِيِّ أَيْ الَّذِينَ لَا رَجُلَ لَهُمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ صَرْفِهِ إلَى الْمُرْتَزِقَةِ عَنْ كِفَايَةِ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ (وَالْأَصَحُّ) عَلَى الْأَظْهَرِ السَّابِقُ أَيْضًا (أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ بَعْضُهُ) أَيْ الْفَاضِلُ عَنْ حَاجَاتِ الْمُرْتَزِقَةِ (فِي إصْلَاحِ الثُّغُورِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ) وَهُوَ الْخَيْلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعُونَةٌ لَهُمْ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ بَلْ يُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ كَالْغَنِيمَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُبْقِي فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ الْفَيْءِ مَا وَجَدَ لَهُ مَصْرِفًا فَيَصْرِفُ مَالَ كُلِّ سَنَةٍ إلَى مَصَارِفِهِ وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئًا خَوْفًا لِنَازِلَةٍ تَأَسِّيًا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِنَّهُمَا مَا كَانَا يَدَّخِرَانِ شَيْئًا، ثُمَّ إنْ نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِأَمْرِهَا، وَإِنْ غَشِيَهُمْ الْعَدُوُّ عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ يَنْفِرُوا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَصْرِفًا ابْتِدَاء رِبَاطَات الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَسَبِ رَأْيِهِ، وَهَذَا مَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَدَّخِرَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَجْلِ الْحَوَادِثِ ا هـ. فَإِنْ ضَاقَ الْفَيْءُ عَنْ كِفَايَتِهِمْ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ (هَذَا) السَّابِقُ كُلُّهُ (حُكْمُ مَنْقُولِ) مَالِ (الْفَيْءِ. فَأَمَّا عَقَارُهُ) مِنْ أَرْضٍ أَوْ بِنَاءٍ (فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ) أَيْ جَمِيعَهُ (يُجْعَلُ وَقْفًا) أَيْ يُنْشِئُ الْإِمَامُ وَقْفَهُ (وَتُقَسَّمُ غَلَّتُهُ) كُلَّ سَنَةٍ (كَذَلِكَ) أَيْ مِثْلَ قِسْمَةِ الْمَنْقُولِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمْ فَتُصْرَفُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَلَّةِ لِلْمُرْتَزِقَةِ وَخُمْسُهَا لِلْمَصَالِحِ وَذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل. تَنْبِيهٌ: يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَشْيَاءُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الْحُصُولِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إنْشَاءِ وَقْفٍ كَمَا مَرَّ، وَقِيلَ: يَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الْحُصُولِ كَرِقِّ النِّسَاءِ بِنَفْسِ الْأَسْرِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَذْهَبِ. ثَانِيهَا: تَحَتُّمُ الْوَقْفِ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ الَّذِي فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى قِسْمَتَهُ أَوْ بَيْعَهُ وَقِسْمَةَ ثَمَنِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُقَسَّمُ سَهْمُ الْمَصَالِحِ، بَلْ يُوقَفُ وَتُصْرَفُ غَلَّتُهُ فِي الْمَصَالِحِ، أَوْ تُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إلَيْهَا، وَلَكِنَّ الْوَقْفَ أَوْلَى. ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَقْفِ الْوَقْفُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْوَقْفُ عَنْ التَّصَرُّفِ بِالْقِسْمَةِ لَا الْوَقْفُ الشَّرْعِيُّ.
المتن: [فَصْلٌ فِي الْغَنِيمَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا] الْغَنِيمَةُ: مَالٌ حَصَلَ مِنْ كُفَّارٍ بِقِتَالٍ وَإِيجَافٍ.
الشَّرْحُ: فَصْلٌ فِي الْغَنِيمَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا (الْغَنِيمَةُ) لُغَةً الرِّبْحُ كَمَا سَبَقَ أَوَّلَ الْبَابِ، وَشَرْعًا (مَالٌ) وَمَا الْتَحَقَ بِهِ كَخَمْرَةٍ مُحْتَرَمَةٍ (حَصَلَ) لَنَا (مِنْ كُفَّارٍ) أَصْلِيِّينَ حَرْبِيِّينَ مِمَّا هُوَ لَهُمْ (بِقِتَالٍ) مِنَّا (وَإِيجَافٍ) بِخَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا مَرَّ وَلَوْ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ فِي الْقِتَالِ، أَوْ قَبْلَ شَهْرِ السِّلَاحِ حِينَ الْتَقَى الصَّفَّانِ. وَمِنْ الْغَنِيمَةِ مَا أُخِذَ مِنْ دَارِهِمْ سَرِقَةً، أَوْ اخْتِلَاسًا، أَوْ لُقَطَةً، أَوْ مَا أَهْدَوْهُ لَنَا، أَوْ صَالَحُونَا عَلَيْهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ. وَأَمَّا الْمَرْهُونُ الَّذِي لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَالْمُؤَجَّرُ الَّذِي لَهُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا إذَا انْفَكَّ الرَّهْنُ وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فَهَلْ هُوَ فَيْءٌ أَوْ غَنِيمَةٌ؟ وَجْهَانِ أَشْبَهَهُمَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ. الثَّانِي؛ وَيُرَدُّ عَلَى طَرْدِ هَذَا الْحَدِّ الْمَتْرُوكِ بِسَبَبِ حُصُولِنَا فِي دَارِهِمْ وَضَرْبِ مُعَسْكَرِنَا فِيهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ غَنِيمَةً فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْإِمَامِ مَعَ وُجُودِ الْإِيجَافِ، وَعَلَى عَكْسِهِ مَا أُخِذَ عَلَى وَجْهِ السَّرِقَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَإِنَّهُ غَنِيمَةٌ كَمَا مَرَّ، وَخَرَجَ بِمَا ذُكِرَ مَا حَصَّلَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِقِتَالٍ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ فَلَا يُنْزَعُ مِنْهُمْ، وَمَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ فَيْءٌ لَا غَنِيمَةٌ كَمَا مَرَّ، وَمَا أُخِذَ مِنْ ذِمِّيٍّ كَجِزْيَةٍ فَإِنَّهُ فَيْءٌ كَمَا مَرَّ أَيْضًا، وَلَوْ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مَا أَخَذُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ نَمْلِكْهُ، وَلَوْ غَنِمَ ذِمِّيٌّ وَمُسْلِمٌ فَهَلْ يُخَمَّسُ الْجَمِيعُ أَوْ نَصِيبُ الْمُسْلِمِ؟ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا الثَّانِي كَمَا رَجَّحَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ بِأَنَّهُ لَا يُغْنَمُ مَالُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَمَسَّك بِدِينٍ حَقٍّ وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ أَصْلًا. أَمَّا لَوْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِدِينٍ بَاطِلٍ فَلَا، بَلْ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: وَإِيجَافٍ بِالْوَاوِ هُنَا بِمَعْنَى أَوْ لِئَلَّا يُرَدَّ الْمَأْخُوذُ بِقِتَالِ الرَّجَّالَةِ وَبِالسُّفُنِ فَإِنَّهُ غَنِيمَةٌ كَمَا تَقَرَّرَ وَلَا إيجَافَ فِيهِ.
المتن: فَيُقَدَّمُ مِنْهُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ
الشَّرْحُ: وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ (فَيُقَدَّمُ مِنْهُ) أَيْ أَصْلِ مَالِ الْغَنِيمَةِ (السَّلَبُ) بِالتَّحْرِيكِ (لِلْقَاتِلِ) الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ حُرًّا أَمْ لَا، ذَكَرًا أَمْ لَا، بَالِغًا أَمْ لَا، شَرَطَهُ لَهُ الْإِمَامُ أَمْ لَا، فَارِسًا أَمْ لَا، وَذَلِكَ لِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ: {مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ}. وَرَوَى أَبُو دَاوُد: {أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ عِشْرِينَ قَتِيلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ}. تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ الذِّمِّيُّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ لِسَلَبٍ سَوَاءٌ أُحْضِرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَمْ لَا، وَالْمُخَذِّلُ وَالْمُرْجِفُ وَالْخَائِنُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ وَلَا رَضْخَ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَأَطْلَقُوا اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ السَّلَبَ، وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِكَوْنِهِ لِمُسْلِمٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْقَتِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْ قَتْلِهِ، فَلَوْ قَتَلَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَمْ يُقَاتِلَا فَلَا سَلَبَ لَهُ، فَإِنْ قَاتَلَا اسْتَحَقَّهُ فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ أَعْرَضَ مُسْتَحِقُّ السَّلَبِ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لَهُ.
المتن: وَهُوَ ثِيَابُ الْقَتِيلِ وَالْخُفُّ وَالرَّانُ وَآلَاتُ الْحَرْبِ كَدِرْعٍ وَسِلَاحٍ وَمَرْكُوبٍ وَسَرْجٍ وَلِجَامٍ وَكَذَا سِوَارٌ وَمِنْطَقَةٌ وَخَاتَمٌ، وَنَفَقَةٌ مَعَهُ وَجَنِيبَةٌ تُقَادُ مَعَهُ فِي الْأَظْهَرِ، لَا حَقِيبَةٌ مَشْدُودَةٌ عَلَى الْفَرَسِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
الشَّرْحُ: (وَهُوَ) أَيْ السَّلَبُ (ثِيَابُ الْقَتِيلِ) الَّتِي عَلَيْهِ (وَالْخُفُّ وَالرَّانُ) وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ وَأَلْفٍ وَنُونٍ خُفٌّ لَا قَدَمَ لَهُ أَطْوَلُ مِنْ الْخُفِّ يُلْبَسُ لِلسَّاقِ، قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْحَجِّ (وَآلَاتُ الْحَرْبِ كَدِرْعٍ) وَهُوَ بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ الزَّرَدِيَّةُ (وَسِلَاحٍ) لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ عَطْفِهِ السِّلَاحَ عَلَى الدِّرْعِ أَنَّ الدِّرْعَ لَيْسَ بِسِلَاحٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَإِنْ كَانَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْمُصَنِّفِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْهُ، وَعَطْفُهُ أَيْضًا مَا بَعْدَ الثِّيَابِ عَلَيْهَا يُشْعِرُ بِمُغَايَرَتِهِ لَهَا، وَهُوَ عَكْسُ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ أَوْصَى بِثِيَابِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلُّ مَا عَلَى بَدَنِهِ، وَمِنْهُ الْخُفُّ وَالرَّانُ وَالطَّيْلَسَانُ، وَلَوْ كَانَ غُلَامُهُ حَامِلًا لِسِلَاحِهِ يُعْطِيهِ مَتَى شَاءَ. قَالَ الْإِمَامُ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السِّلَاحُ كَالْفَرَسِ الْمَجْنُوبِ مَعَ الْغُلَامِ، وَيَحْتَمِلُ خِلَافُهُ ا هـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلَوْ زَادَ سِلَاحُهُ عَلَى الْعَادَةِ فَقِيَاسُ مَا يَأْتِي فِي الْجَنِيبَةِ أَنَّهُ لَا يُعْطَى إلَّا وَاحِدَةً أَنَّهُ هُنَا لَا يُعْطَى إلَّا سِلَاحًا وَاحِدًا. وَقَالَ الْإِمَامُ: إذَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ لَا سِلَاحٌ ا هـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ (وَمَرْكُوبٍ) لِلْقَتِيلِ قَاتَلَ عَلَيْهِ أَوْ أَمْسَكَهُ بِعِنَانِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ رَاجِلًا (وَ) آلَتِهِ نَحْوِ (سَرْجٍ وَلِجَامٍ) وَمِهْمَازٍ مَعْقُودٍ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى ذَلِكَ حِسًّا (وَكَذَا) لِبَاسُ زِينَتِهِ، وَهُوَ (سِوَارٌ) وَطَوْقٌ (وَمِنْطَقَةٌ) وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهَا الْوَسَطُ (وَخَاتَمٌ، وَ) كَذَا (نَفَقَةٌ مَعَهُ) مَعَ هِمْيَانِهَا لَا الْمُخَلَّفَةِ فِي رَحْلِهِ (وَجَنِيبَةٍ تُقَادُ مَعَهُ فِي الْأَظْهَرِ) سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَمَامَهُ أَمْ خَلْفَهُ أَمْ بِجَنْبِهِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقَادُ مَعَهُ لِيَرْكَبَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ يَقُودُهَا بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، وَالْجَنِيبَةُ قَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا فَهِيَ كَمَرْكُوبِهِ الَّذِي أَمْسَكَ بِعَنَانِهِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ رَاجِلًا، بِخِلَافِ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهَا أَثْقَالَهُ، وَبِخِلَافِ الْمُهْرِ التَّابِعِ لَهُ فَإِنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي فُرُوعِهِ، وَالثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقَاتِلًا بِهَا فَأَشْبَهَتْ مَا فِي خَيْمَتِهِ، وَلَوْ تَعَدَّدَتْ الْجَنَائِبُ اخْتَارَ الْقَاتِلُ مِنْهَا وَاحِدَة كَمَا صَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَعْيِينِ الْإِمَامِ وَاحِدَةً مِنْهَا أَوْ يُقْرِعُ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ قَائِدَهَا بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا لَقَالَ يَقُودُهَا وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ، وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِ يَقُودُهَا بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَتْ سَلَبًا كَسَائِرِ مَالِهِ الَّذِي مَعَهُ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ مَعَهُ جَنَائِبُ اسْتَحَقَّ وَاحِدَةً، إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْجَنَائِبَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ عَدَدٍ يَقُودُونَهَا (لَا حَقِيبَةٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وِعَاءٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْمَتَاعُ وَيُجْعَلُ عَلَى حَقْوِ الْبَعِيرِ (مَشْدُودَة عَلَى الْفَرَسِ) فَلَا يَأْخُذُهَا وَلَا مَا فِيهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالْأَمْتِعَةِ (عَلَى الْمَذْهَبِ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لِبَاسِهِ وَلَا مِنْ حِلْيَتِهِ وَلَا حِلْيَةِ فَرَسِهِ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ كَالْجَنِيبَةِ، وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا لِأَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَى فَرَسِهِ لِتَوَقُّعِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا.
المتن: وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِرُكُوبِ غَرَرٍ يَكْفِي بِهِ شَرَّ كَافِرٍ فِي حَالِ الْحَرْبِ، فَلَوْ رَمَى مِنْ حِصْنٍ أَوْ مِنْ الصَّفِّ أَوْ قَتَلَ نَائِمًا أَوْ أَسِيرًا أَوْ قَتَلَهُ وَقَدْ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ فَلَا سَلَبَ، وَكِفَايَةُ شَرِّهِ أَنْ يُزِيلَ امْتِنَاعَهُ بِأَنْ يَفْقَأَ عَيْنَيْهِ أَوْ يَقْطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ.
الشَّرْحُ: (وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ) الْقَاتِلُ السَّلَبَ (بِرُكُوبِ غَرَرٍ يَكْفِي بِهِ) أَيْ بِرُكُوبِ الْغَرَرِ (شَرَّ كَافِرٍ) أَصْلِيٍّ مُشْتَغِلٍ بِالْقِتَالِ (فِي حَالِ الْحَرْبِ) هَذِهِ قُيُودٌ ثَلَاثَةٌ فُرِّعَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: (فَلَوْ رَمَى مِنْ حِصْنٍ أَوْ) رُمِيَ (مِنْ الصَّفِّ) الَّذِينَ لِلْمُسْلِمِينَ (أَوْ قَتَلَ) كَافِرًا (نَائِمًا) أَوْ مُشْتَغِلًا بِأَكْلٍ وَنَحْوِهِ (أَوْ أَسِيرًا أَوْ قَتَلَهُ) أَيْ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ (وَقَدْ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ) الْمُحَارِبُونَ غَيْرَ مُتَحَيِّزِينَ لِقِتَالٍ أَوْ إلَى فِئَةٍ (فَلَا سَلَبَ) لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْخَطَرِ وَالتَّغْرِيرِ بِالنَّفْسِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هَهُنَا، {وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ ابْنَ مَسْعُودٍ سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَثْخَنَهُ فَتَيَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ} رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَوْ أَغْرَى بِهِ كَلْبًا عَقُورًا فَقَتَلَهُ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ خَاطَرَ بِرُوحِهِ حَيْثُ صَبَرَ فِي مُقَاتَلَتِهِ حَتَّى عَقَرَهُ الْكَلْبُ ا هـ. وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ: وَقِيَاسُهُ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ لَوْ أَغْرَى بِهِ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا أَعْجَمِيًّا مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ وَالْمَقِيسَ يَمْلِكُ السَّلَبَ فَهُوَ لِلْمَجْنُونِ وَلِمَالِكِ الرَّقِيقِ لَا لِآمِرِهِمَا، فَإِنْ أَغْرَى الْكَلْبَ بَلَا مُقَاتَلَةٍ كَرَامِي السَّهْمِ فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ. أَمَّا إذَا تَحَيَّزُوا لِقِتَالٍ أَوْ فِئَةٍ فَحُكْمُ الْقِتَالِ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ مِنْ الصَّفِّ، عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ مِنْ وَرَاءِ الصَّفِّ، وَكَذَا كَتَبَهَا الْمُصَنِّفُ بِخَطِّهِ فِي الْمِنْهَاجِ. ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى لَفْظَةِ وَرَاءَ، وَالصُّورَتَانِ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ، فَأَتَى الْمِنْهَاجُ بِمَا لَيْسَ فِي أَصْلِهِ لِكَوْنِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ مَا فِي أَصْلِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ لِمَنْ لَا يَلْتَزِمُ فِي الِاخْتِصَارِ الْإِتْيَانَ بِمَعْنَى الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، وَقَوْلُهُ: انْهَزَمَ الْكُفَّارُ يُفْهَمُ أَنَّ انْهِزَامَ الْكَافِرِ الْوَاحِدِ لَا يُعْتَبَرُ حَتَّى لَوْ هَرَبَ فَقَتَلَهُ فِي إدْبَارِهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ (وَكِفَايَةُ شَرِّهِ أَنْ يُزِيلَ امْتِنَاعَهُ بِأَنْ يَفْقَأَ عَيْنَيْهِ أَوْ يَقْطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ) فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لِمُثْخِنِهِ كَمَا مَرَّ دُونَ قَاتِلِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنَاطَ كِفَايَةُ شَرِّهِ. تَنْبِيهٌ: عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يُزِيلَ امْتِنَاعَهُ، فَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الثَّانِي لِفَهْمِ الْأَوَّلِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ بِأَنْ يُعْمِيَهُ، وَهِيَ صَادِقَةٌ بِأَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ فَيَذْهَبَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ، وَبِمَنْ لَهُ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ فَيَقْلَعَهَا، فَهِيَ أَحْسَنُ لِشُمُولِهَا مَا ذُكِرَ.
المتن: وَكَذَا لَوْ أَسَرَهُ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ: (وَكَذَا لَوْ أَسَرَهُ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ فِي الْأَظْهَرِ) وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَوْ فَدَاهُ أَوْ أَرَقَّهُ. أَمَّا فِي الْأَسْرِ فَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الْقَطْعِ. وَأَمَّا فِي الْقَطْعِ فَكَمَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ، وَالثَّانِي: لَا، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إلَّا بِالْقَتْلِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ} وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ الِامْتِنَاعَ فَرُبَّمَا أَعْمَى شَرٌّ مِنْ الْبَصِيرِ وَمَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يَحْتَالُ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِ نَفْسِهِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا وَرِجْلًا لِضَعْفِ حَرَكَتِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَ طَرَفًا وَفَقَأَ عَيْنًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ. وَلَوْ مَسَكَهُ شَخْصٌ بِحَيْثُ مَنَعَهُ الْهَرَبَ وَلَمْ يَضْبِطْهُ فَقَتَلَهُ آخَرُ أَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِهِ أَوْ إثْخَانِهِ اشْتَرَكَا فِي سَلَبِهِ لِانْدِفَاعِ شَرِّهِ بِهِمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ مَنُوطٌ بِالْقَتْلِ. نَعَمْ، إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ كَمُخَذِّلٍ رُدَّ نَصِيبُهُ إلَى الْغَنِيمَةِ، قَالَهُ الدَّارِمِيُّ. أَمَّا إذَا ضَبَطَهُ فَهُوَ أَسِيرٌ وَقَتْلُ الْأَسِيرِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ السَّلَبَ كَمَا مَرَّ، وَالْجَارِحُ إنْ أَثْخَنَ جَرِيحَهُ فَالسَّلَبُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُثْخِنْهُ فَدَفَعَهُ آخَرُ فَالسَّلَبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي رَكِبَ الْغَرَرَ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا حَقَّ لِلْآسِرِ فِي رَقَبَةِ أَسِيرِهِ وَلَا فِدَائِهِ، فَلَوْ أَرَقَّهُ الْإِمَامُ أَوْ فَدَاهُ فَالرَّقَبَةُ وَالْفِدَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا حَقَّ فِيهِمَا لِآسِرِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّلَبِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِمَا.
المتن: وَلَا يُخَمَّسُ السَّلَبُ عَلَى الْمَشْهُورِ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يُخَمَّسُ السَّلَبُ عَلَى الْمَشْهُورِ) لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّسْهُ} وَالثَّانِي: يُخَمَّسُ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ، فَيَدْفَعَ خُمُسَهُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْبَاقِيَ لِلْقَاتِلِ.
المتن: وَبَعْدَ السَّلَبِ تُخْرَجُ مُؤْنَةُ الْحِفْظِ وَالنَّقْلِ وَغَيْرِهِمَا
الشَّرْحُ: (وَبَعْدَ السَّلَبِ تُخْرَجُ) بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ أَوَّلَهُ بِخَطِّهِ (مُؤْنَةُ الْحِفْظِ وَالنَّقْلِ وَغَيْرِهِمَا) مِنْ الْمُؤَنِ اللَّازِمَةِ كَأُجْرَةِ حَمَّالٍ وَرَاعٍ إنْ لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ بِذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ كَالْوَلِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.
المتن: ثُمَّ يُخَمَّسُ الْبَاقِي فَخُمُسُهُ لِأَهْلِ خُمُسِ الْفَيْءِ يُقَسَّمُ كَمَا سَبَقَ.
الشَّرْحُ: (ثُمَّ يُخَمَّسُ الْبَاقِي) بَعْدَ السَّلَبِ وَالْمُؤَنُ خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَيُؤْخَذُ خَمْسُ رِقَاعٍ وَيُكْتَبُ عَلَى وَاحِدَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْمَصَالِحِ وَعَلَى أَرْبَعٍ لِلْغَانِمِينَ. ثُمَّ تُدْرَجُ فِي بَنَادِقَ مُتَسَاوِيَةٍ وَيُخْرَجُ لِكُلِّ خُمْسٍ رُقْعَةٌ، فَمَا خَرَجَ لِلَّهِ أَوَ لِلْمَصَالِحِ جُعِلَ بَيْنَ أَهْلِ الْخُمْسِ عَلَى خُمْسِهِ كَمَا قَالَ: (فَخُمُسُهُ) أَيْ الْمَالِ الْبَاقِي (لِأَهْلِ خُمُسِ الْفَيْءِ يُقَسَّمُ) بَيْنَهُمْ (كَمَا سَبَقَ) فِي قَسْمِ الْفَيْءِ. تَنْبِيهٌ: يُقَسَّمُ مَا لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ قِسْمَةِ هَذَا الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ وَمَحْصُورُونَ. لَكِنْ بَعْدَ إفْرَازِهِ بِقُرْعَةٍ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْخُمُسِ يَفُوزُونَ بِسِهَامِهِمْ قَبْلَ قِسْمَةِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأْخِيرُهَا بَلَا عُذْرٍ إلَى الْعَوْدِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مَكْرُوهٌ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ التَّعْجِيلُ، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْغَانِمِينَ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إنَّهُ ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ إذَا طَلَبَهَا الْغَانِمُونَ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ الْحَالِ.
المتن: وَالْأَصَحُّ أَنَّ النَّفَلَ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ إنْ نَفَلَ مِمَّا سَيُغْنَمُ فِي هَذَا الْقِتَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلِ عِنْدَهُ، وَالنَّفَلُ زِيَادَةٌ يَشْتَرِطُهَا الْإِمَامُ أَوْ الْأَمِيرُ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا فِيهِ نِكَايَةَ الْكُفَّارِ وَيَجْتَهِدُ فِي قَدْرِهِ، وَالْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَقَارُهَا وَمَنْقُولُهَا لِلْغَانِمِينَ.
الشَّرْحُ: وَلَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ لِلْجَيْشِ أَنْ لَا يُخَمَّسَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ وَوَجَبَ تَخْمِيسُ مَا غَنِمُوهُ سَوَاءٌ أَشَرَطَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ أَمْ لَا، وَقِيلَ: إنْ شَرَطَهُ لِضَرُورَةِ لَمْ يُخَمَّسْ. قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ آخِرَ الْبَابِ وَهُوَ شَاذٌّ بَاطِلٌ (وَالْأَصَحُّ أَنَّ النَّفَلَ) بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ فَفَاءٍ خَفِيفَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتُسَكَّنُ أَيْضًا (يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ الْمُرْصَدِ لِلْمَصَالِحِ) لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفَلَ مِنْ الْخُمُسِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: يُرِيدُ مِنْ خُمُسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ كَالسَّلَبِ، وَالثَّالِثُ: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا كَالْمُصَحَّحِ فِي الرَّضْخِ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَحَلُّهُ (إنْ نَفَلَ مِمَّا سَيُغْنَمُ فِي هَذَا الْقِتَالِ) وَفَاءٌ بِالشَّرْطِ أَوْ الْوَعْدِ وَيُغْتَفَرُ الْجَهْلُ بِهِ لِلْحَاجَةِ، فَيُشْتَرَطُ الرُّبْعُ أَوْ الثُّلُثُ أَوْ غَيْرُهُمَا. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: نَفْلٌ. قَالَ السُّبْكِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ التَّشْدِيدُ إذَا عَدَّيْتُهُ إلَى اثْنَيْنِ وَالتَّخْفِيفُ إذَا عَدَّيْتُهُ إلَى وَاحِدٍ، وَقَدْ كَتَبَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ بِخَطِّهِ خَفَّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَعَلَ النَّفَلَ (وَيَجُوزُ) جَزْمًا (أَنْ يُنَفِّلَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلِ عِنْدَهُ) فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ وَلَا تُغْتَفَرُ الْجَهَالَةُ حِينَئِذٍ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى احْتِمَالِ الْجَهْلِ فِي الْجُعْلِ. تَنْبِيهٌ: لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْحَاصِلِ عِنْدَهُ كَمَا يُفْهِمُهُ كَلَامُهُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِمَّا يَتَجَدَّدُ فِيهِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ خُمُسِ الْخُمُسِ وَالْمَصَالِحِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُرَاعِيَ الْمَصْلَحَةَ (وَالنَّفَلُ) لُغَةً الزِّيَادَةُ، وَشَرْعًا (زِيَادَةٌ) عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ (يَشْتَرِطُهَا الْإِمَامُ أَوْ الْأَمِيرُ لِمَنْ يَفْعَلُ مَا فِيهِ نِكَايَةُ الْكُفَّارِ) زَائِدَةٌ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ بَقِيَّةُ الْجَيْشِ كَالتَّقَدُّمِ عَلَى طَلِيعَةٍ وَالتَّهَجُّمِ عَلَى قَلْعَةٍ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا وَحِفْظِ مَكْمَنٍ، وَيَجُوزُ إفْرَادُ الْمَشْرُوطِ لَهُ وَتَعَدُّدُهُ وَتَعْيِينُهُ وَعَدَمُ تَعْيِينِهِ كَمَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا. هَذَا أَحَدُ قِسْمَيْ النَّفَلِ، وَشَرْطُهُ أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتَضَى الْحَالُ بَعْثَ السَّرَايَا وَحِفْظَ الْمَكَامِنِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ أَثَرٌ مَحْمُودٌ كَمُبَارَزَةٍ وَحُسْنِ إقْدَامٍ، وَهَذَا يُسَمَّى إنْعَامًا وَجَزَاءً عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ شُكْرًا، وَالْأَوَّلُ جَعَالَةٌ. وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ كَوْنُ هَذَا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْغَنِيمَةِ. تَنْبِيهٌ: قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ أَنَّ التَّنْفِيلَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ إصَابَةِ الْمَغْنَمِ، وَهُوَ مَا قَالَ الْإِمَامُ: إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ. أَمَّا بَعْدَ إصَابَتِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ مَا أَصَابُوهُ (وَيَجْتَهِدُ) الشَّارِطُ (فِي قَدْرِهِ) بِحَسَبِ قِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ وَقَدْ صَحَّ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ فِي الْبَدْأَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ}، وَالْبَدْأَةُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ السَّرِيَّةُ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْإِمَامُ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مُقَدِّمَةً لَهُ، وَالرَّجْعَةُ وَهِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ السَّرِيَّةُ الَّتِي يَأْمُرُهَا بِالرُّجُوعِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْجَيْشِ لِدَارِنَا، وَإِنَّمَا نَقَصَ فِي الْبَدْأَةِ لِأَنَّهُمْ مُسْتَرِيحُونَ إذْ لَمْ يَطُلْ بِهِمْ السَّفَرُ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ فِي غَفْلَةٍ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مِنْ وَرَائِهِمْ يَسْتَظْهِرُونَ بِهِ، وَالرَّجْعَةُ بِخِلَافِهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْبَدْأَةُ السَّرِيَّةُ الْأُولَى وَالرَّجْعَةُ الثَّانِيَةُ، وَيُقَالُ لِلرَّجْعَةِ: الْقُفُولُ بِضَمِّ الْقَافِ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالنَّقْصُ عَنْ الرُّبْعِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ (وَالْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ عَقَارُهَا وَمَنْقُولُهَا) أَيْ الْبَاقِي مِنْهَا بَعْدَ تَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْ الْمُؤَنِ كَمَا سَبَقَ (لِلْغَانِمِينَ) لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَعَمَلًا بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ.
المتن: وَهُمْ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ.
الشَّرْحُ: (وَهُمْ) أَيْ الْغَانِمُونَ (مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ) وَلَوْ فِي أَثْنَائِهَا قَبْلَ الِانْقِضَاءِ وَلَوْ عِنْدَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْفَتْحِ، وَعَلَّقَ بِحَضَرَ قَوْلَهُ: (بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ) مَعَ الْجَيْشِ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: إنَّمَا الْغَنِيمَةُ لِمَنْ يَشْهَدُ الْوَقْعَةَ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَهَيُّؤُهُ لِلْجِهَادِ وَحُصُولُهُ هُنَاكَ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ بَاعِثَةٌ عَلَى الْقِتَالِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فِي الْغَالِبِ إلَّا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مَعَ تَكْثِيرِهِ سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا مَنْ حَضَرَ لَا بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَقَاتَلَ فِي الْأَظْهَرِ. تَنْبِيهٌ: هَذَا الضَّابِطُ يَشْمَلُ مَنْ يَرْضَخُ لَهُ كَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ، فَلَوْ قَالَ: مِمَّنْ يُسْهَمُ لَهُ كَمَا فَعَلَ فِي الرَّوْضَةِ لَخَرَجَ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَيَحْتَمِلُ إبْقَاءُ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِهِ وَمَنْ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْغَانِمِينَ فَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِهِمْ وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّضْخَ مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ، وَأُورِدَ عَلَى مَنْطُوقِ الْمَتْنِ صُورَتَانِ: الْأُولَى الْمُخَذِّلُ وَالْمُرْجِفُ وَالْخَائِنُ إذَا حَضَرُوا الْوَقْعَةَ لَا يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا وَلَا رَضْخًا وَإِنْ حَضَرُوا بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَقَاتَلُوا، بَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ حُضُورِ الصَّفِّ وَلَا يُمْنَعُ الْفَاسِقُ مِنْ الصَّفِّ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ تَخْذِيلُهُ، وَالْمُخَذِّلُ مَنْ يُثَبِّطُ الْقَوْمَ كَأَنْ يَقُولَ: الْعَدُوُّ كَثِيرٌ وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرْجِفُ مَنْ يُخَوِّفُ الْقَوْمَ كَأَنْ يَقُولَ: جَاءَ الْعَدُوَّ مَدَدٌ، وَالْخَائِنُ مَنْ يُطْلِعُ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّانِيَةُ: الْمُنْهَزِمُ غَيْرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ وَلَمْ يَعُدْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مَعَ حُضُورِهِ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْوَقْعَةِ اسْتَحَقَّ مِنْ الْمَحُوزِ بَعْدَهُ فَقَطْ، وَكَذَا مَنْ حَضَرَ فِي الْأَثْنَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْمَحُوزِ قَبْلَهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُتَحَيِّزِ إلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ فَإِنَّهُ يُعْطَى لِبَقَائِهِ فِي الْحَرْبِ مَعْنًى بِخِلَافِ الْمُتَحَيِّزِ إلَى بَعِيدَةٍ، وَإِنْ ادَّعَى التَّحَيُّزَ إلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ، أَوْ التَّحَرُّفَ لِقِتَالٍ صَدَّقْنَاهُ بِيَمِينِهِ إنْ أَدْرَكَ الْحَرْبَ، وَإِنْ حَلَفَ اسْتَحَقَّ مِنْ الْجَمِيعِ، وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا مِنْ الْمَحُوزِ بَعْدَ عَوْدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُدْرِكْ الْحَرْبَ لَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ، وَعَلَى مَفْهُومِهِ ثَلَاثُ صُورٍ، الْأُولَى: مَا لَوْ بَعَثَ الْإِمَامُ جَاسُوسًا فَغَنِمَ الْجَيْشُ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَإِنَّهُ يُشَارِكهُمْ فِي الْأَصَحِّ، الثَّانِيَةُ: لَوْ طَلَبَ الْإِمَامُ بَعْضَ الْعَسْكَرِ لِيُحْرَسَ مِنْ هُجُومِ عَدُوٍّ، أَوْ أَفْرَدَ مِنْ الْجَيْشِ كَمِينًا، فَإِنَّهُ يُسْهِمُ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا الْوَقْعَةَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِهِمْ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ. الثَّالِثَةُ: لَوْ دَخَلَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ دَارَ الْحَرْبِ بِجَيْشٍ فَبَعَثَ سَرِيَّةً فِي نَاحِيَةٍ فَغَنِمَتْ شَارَكَهَا جَيْشُ الْإِمَامِ وَبِالْعَكْسِ لِاسْتِظْهَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَوْ بَعَثَ سَرِيَّتَيْنِ إلَى جِهَةٍ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِيمَا تَغْنَمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَكَذَا لَوْ بَعَثَهُمَا إلَى جِهَتَيْنِ وَإِنْ تَبَاعَدَتَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يُشَارِكُ السَّرَايَا الْإِمَامُ وَلَا جَيْشُهُ إنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ قَصَدَ لُحُوقَهُمْ.
المتن: وَلَا شَيْءَ لِمَنْ حَضَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ، وَفِيمَا قَبْلَ حِيَازَةِ الْمَالِ وَجْهٌ.
الشَّرْحُ: (وَلَا شَيْءَ لِمَنْ حَضَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ) وَلَوْ قَبْلَ حِيَازَةِ الْمَالِ، أَوْ خِيفَ رُجُوعُ الْكُفَّارِ لِعَدَمِ شُهُودِ الْوَقْعَةِ (وَفِيمَا) بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَ (قَبْلَ حِيَازَةِ الْمَالِ وَجْهٌ) أَنَّهُ يُعْطَى؛ لِأَنَّهُ لَحِقَ قَبْلَ تَمَامِ الِاسْتِيلَاءِ. تَنْبِيهٌ: تَرَدَّدَ الرَّافِعِيُّ فِي حِكَايَةِ هَذَا وَجْهًا أَوْ قَوْلًا، وَرَجَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ قَوْلٌ، وَصُوَرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعٌ: حَاضِرٌ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَالْحِيَازَةِ فَيَسْتَحِقُّ جَزْمًا، أَوْ بَعْدَهُمَا فَلَا جَزْمًا، أَوْ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ، أَوْ عَكْسُهُ فَيَسْتَحِقُّ كَمَا يَفْهَمُهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ.
المتن: وَلَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَالْحِيَازَةِ فَحَقُّهُ لِوَارِثِهِ وَكَذَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ) أَيْ الْغَانِمِينَ، أَوْ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ (بَعْدَ انْقِضَائِهِ) أَيْ الْقِتَالِ (وَ) بَعْدَ (الْحِيَازَةِ فَحَقُّهُ) مِنْ الْمَالِ إنْ قُلْنَا: إنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ بِالِانْقِضَاءِ وَالْحِيَازَةِ، أَوْ حَقَّ تَمَلُّكِهِ إنْ قُلْنَا: إنَّهَا إنَّمَا تُمْلَكُ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ أَوْ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ (لِوَارِثِهِ) كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَعِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَصْدُقُ بِمَا قُلْنَاهُ (وَكَذَا) لَوْ مَاتَ (بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَقَبْلَ الْحِيَازَةِ فِي الْأَصَحِّ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ بِالِانْقِضَاءِ. وَالثَّانِي: لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تُمْلَكُ بِالِانْقِضَاءِ مَعَ الْحِيَازَةِ، وَهَلْ الْمَمْلُوكُ عَلَيْهِمَا نَفْسُ الْأَعْيَانِ أَوْ حَقَّ تَمَلُّكِهَا؟ وَجْهَانِ وَكِلَاهُمَا يُورِثُ كَمَا مَرَّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا إنَّمَا تُمْلَكُ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ أَوْ الْقِسْمَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
المتن: وَلَوْ مَاتَ فِي الْقِتَالِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ مَاتَ فِي) أَثْنَاءِ (الْقِتَالِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ) هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ فَلَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ، وَنَصَّ فِي مَوْتِ الْفَرَسِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَهَا، وَالْأَصَحُّ تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَارِسَ مَتْبُوعٌ، فَإِذَا مَاتَ فَاتَ الْأَصْلُ وَالْفَرَسُ تَابِعٌ، فَإِذَا مَاتَ جَازَ أَنْ يَبْقَى سَهْمُهُ لِلْمَتْبُوعِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ فِيهِمَا وَجْهُ الِاسْتِحْقَاقِ شُهُودُ بَعْضِ الْوَقْعَةِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ اعْتِبَارُ آخِرِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ وَقْتُ الظَّفَرِ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ مَاتَ فِي الْقِتَالِ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حِيَازَةِ الْمَالِ أَوَّلًا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ: إنَّ الْقِيَاسَ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ حِيَازَةِ الْمَالِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّا لَمْ نَأْمَنْ شَرَّهُمْ مَا دَامَتْ الْحَرْبُ بَاقِيَةً، وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِ كَلَامِ الْأَصْحَابِ. وَلَوْ مَرِضَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ مَرَضًا يَمْنَعُ الْقِتَالَ وَهُوَ يُرْجَى زَوَالُهُ اسْتَحَقَّ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُرْجَ كَالْفَالِجِ وَالزَّمَانَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ فِي الرَّوْضَةِ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ وَدُعَائِهِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ، وَالْجُنُونُ كَالْمَوْتِ وَأَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَالْجِرَاحَةُ فِي الْحَرْبِ كَالْمَرَضِ، وَأَوْلَى بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَجْهَانِ أَوْجُهُهُمَا أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَرَضِ.
المتن: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَجِيرَ لِسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ، وَالتَّاجِرَ وَالْمُحْتَرِفَ يُسْهَمُ لَهُمْ إذَا قَاتَلُوا.
الشَّرْحُ: (وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَجِيرَ) الَّذِي وَرَدَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لَا لِجِهَادٍ، بَلْ (لِسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ) وَنَحْوِهَا (وَالتَّاجِرَ وَالْمُحْتَرِفَ) كَالْخَيَّاطِ وَالْبَقَّالِ (يُسْهَمُ لَهُمْ إذَا قَاتَلُوا) لِشُهُودِهِمْ الْوَقْعَةَ وَقِتَالِهِمْ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الْجِهَادَ. أَمَّا مَنْ وَرَدَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى ذِمَّتِهِ أَوْ بِغَيْرِ مُدَّةً كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ فَيُعْطَى وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَأَمَّا الْأَجِيرُ لِلْجِهَادِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِبُطْلَانِ إجَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِحُضُورِ الصَّفِّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ، قَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَاقْتَضَى كَلَامُ الرَّافِعِيِّ تَرْجِيحَهُ لِإِعْرَاضِهِ عَنْهُ بِالْإِجَارَةِ وَلَمْ يَحْضُرْ مُجَاهِدًا، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى إجَارَةِ الذِّمِّيِّ. وَلَوْ أَفْلَتَ أَسِيرٌ مِنْ يَدِ الْكُفَّارِ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أُسْهِمَ لَهُ إنْ حَضَرَ الصَّفَّ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِشُهُودِهِ الْوَقْعَةَ وَلِقَصْدِ مَنْ أَسْلَمَ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْإِسْلَامِ فَيُقَبَّحُ حِرْمَانُهُ، وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِمَّا حِيزَ بَعْدَ حُضُورِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَسِيرُ مِنْ جَيْشٍ آخَرَ أُسْهِمَ لَهُ إنْ قَاتَلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَانَ بِقِتَالِهِ قَصْدُهُ لِلْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَكَذَا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ لِشُهُودِهِ الْوَقْعَةَ.
المتن: وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ.
الشَّرْحُ: (وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ) لَهُ سَهْمٌ وَلِلْفَرَسِ سَهْمَانِ لِلِاتِّبَاعِ فِيهِمَا. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَمَنْ حَضَرَ بِفَرَسٍ يَرْكَبُهُ يُسْهَمُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ رُكُوبُهُ لَا إنْ حَضَرَ مَعَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ، وَلَوْ اسْتَعَارَ فَرَسًا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ أَوْ غَصَبَهُ وَلَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ الْوَقْعَةَ أَوْ حَضَرَ وَلَهُ فَرَسٌ غَيْرُهُ أُسْهِمَ لَهُ لَا لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَحْضَرَهُ وَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ. أَمَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَلَا فَرَسَ لَهُ وَعَلِمَ بِفَرَسِهِ، أَوْ ضَاعَ فَرَسُهُ الَّذِي يُرِيدُ الْقِتَالَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فَرَسٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْمَغْصُوبِ وَلَا الضَّائِعِ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ لَا يُعْطَى إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ رَكِبَ شَخْصَانِ فَرَسًا وَشَهِدَا الْوَقْعَةَ، وَقَوِيَتْ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ بِهِمَا أُعْطِيَا أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمَانِ لَهُمَا وَسَهْمَانِ لِلْفَرَسِ، وَإِنْ لَمْ تَقْوَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُمَا سَهْمَانِ. وَلَوْ قَاتَلُوا فِي مَاءٍ أَوْ حِصْنٍ وَقَدْ أَحْضَرَ الْفَارِسُ فَرَسَهُ أُعْطَى الْأَسْهُمَ الثَّلَاثَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الرُّكُوبِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَحَمَلَهُ ابْنُ كَجٍّ عَلَى مَنْ بِقُرْبِ السَّاحِلِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَخْرُجَ وَيَرْكَبَ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِإِعْطَائِهِ سَهْمَ الْفَرَسِ وَأَقَرَّاهُ. تَنْبِيهٌ هَذَا كُلُّهُ فِي غَنِيمَةِ الْكَامِلِينَ، فَلَوْ انْفَرَدَ أَهْلُ الرَّضْخِ بِغَنِيمَةٍ خُمِّسَتْ وَقُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِمْ، وَيَتْبَعُهُمْ صِغَارُ السَّبْيِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ حَضَرَ مَعَهُمْ كَامِلٌ فَالْغَنِيمَةُ لَهُ وَيَرْضَخُ لَهُمْ.
المتن: وَلَا يُعْطَى إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، لَا لِبَعِيرٍ وَغَيْرِهِ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يُعْطَى) الْفَارِسُ (إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَكْثَرُ لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ الزُّبَيْرَ إلَّا لِفَرَسٍ وَكَانَ مَعَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَفْرَاسٌ} (عَرَبِيًّا كَانَ) الْفَرَسُ (أَوْ غَيْرَهُ) كَالْبِرْذَوْنِ، وَهُوَ مَا أَبَوَاهُ أَعْجَمِيَّانِ، وَالْهَجِينُ وَهُوَ مَا أَبُوهُ عَرَبِيٌّ دُونَ أُمِّهِ، وَالْمُقْرِفُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ يَحْصُلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يَضُرُّ تَفَاوُتُهُمَا كَالرِّجَالِ (لَا لِبَعِيرٍ وَغَيْرِهِ) كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَالْفِيلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْحَرْبِ صَلَاحِيَّةَ الْخَيْلِ لَهُ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَاسْتَأْنَسُوا لَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ، وَصَوَّبَ فِي الشَّامِلِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْإِبِلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} لَكِنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ أَنَّهُ إنَّمَا يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَيُرْضَخُ لَهُ، وَيُفَضَّلُ الْفِيلُ عَلَى الْبَغْلِ، وَالْبَغْلُ عَلَى الْحِمَارِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَفْضِيلِ الْبَعِيرِ عَلَى الْبَغْلِ وَعَكْسِهِ فَقِيلَ: يُفَضَّلُ الْبَعِيرُ لِمَا نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقِيلَ: يُفَضَّلُ الْبَغْلُ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْأَنْوَارِ، وَالْأَوَّلُ اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُنَا، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَ مَنْ فَضَّلَ الْبَعِيرَ عَلَى الْبَغْلِ عَلَى الْهَجِينِ وَكَلَامَ مَنْ عَكَسَ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَالْحَيَوَانُ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ مَا يُرْضَخُ لَهُ، وَمَا يُسْهَمُ لَهُ حُكْمُ مَا يُرْضَخُ لَهُ.
المتن: وَلَا يُعْطَى لِفَرَسٍ أَعْجَفَ وَمَا لَا غَنَاءَ فِيهِ، وَفِي قَوْلٍ يُعْطَى إنْ لَمْ يُعْلَمْ نَهْيُ الْأَمِيرِ عَنْ إحْضَارِهِ.
الشَّرْحُ: وَلَا يُدْخِلُ الْإِمَامُ دَارَ الْحَرْبِ إلَّا فَرَسًا شَدِيدًا (وَ) حِينَئِذٍ (لَا يُعْطَى) السَّهْمُ (لِفَرَسٍ أَعْجَفَ) أَيْ مَهْزُولٍ بَيِّنِ الْهُزَالِ (وَمَا لَا غَنَاءَ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ أَيْ لَا نَفْعَ (فِيهِ) كَالْهَرِمِ وَالْكَبِيرِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ بَلْ هُوَ عَلَى صَاحِبِهِ (وَفِي قَوْلٍ: يُعْطَى إنْ لَمْ يُعْلَمْ نَهْيُ الْأَمِيرِ عَنْ إحْضَارِهِ) بِأَنْ لَمْ يَنْهَهُ الْأَمِيرُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ كَمَا يُعْطَى الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إذَا حَضَرَ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الشَّيْخَ يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ وَدُعَائِهِ. نَعَمْ يُرْضَخُ لَهُ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا تَأَتَّى رُكُوبُهُ وَإِلَّا لَمْ يُعْطِ قَطْعًا. قَالَهُ الْإِمَامُ، وَأَفْهَمَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِنَهْيِ الْأَمِيرِ عَنْ إحْضَارِهِ لَا يُسْهَمُ لَهُ قَطْعًا، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَوْ أَحْضَرَهُ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَجَفُهُ فَكَطُرُوءِ مَوْتِهِ، وَلَوْ أَحْضَرَهُ أَعْجَفَ فَصَحَّ نَظَرَ إنْ كَانَ حَالَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ صَحِيحًا أُسْهِمَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِالْأَعْجَفِ الْحَرُونُ الْجَمُوحُ، وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا قَوِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُرُّ وَلَا يَفِرُّ عِنْدَ الْحَاجَةِ، بَلْ قَدْ يُهْلَكُ رَاكِبُهُ ا هـ. وَهُوَ حَسَنٌ وَلَمْ يَتَعَرَّضُ الْمُصَنِّفُ لِسِنِّ الْفَرَسِ، وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُسَابَقَةِ، فَقَالَ: وَاَلَّذِي تَجُوزُ الْمُسَابِقَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْلِ مَا يُسْهَمُ لَهُ. وَهُوَ الْجَذَعُ وَالثَّنِيُّ، وَقِيلَ: وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا.
المتن: وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالذِّمِّيُّ إذَا حَضَرُوا فَلَهُمْ الرَّضْخُ وَهُوَ دُونَ سَهْمٍ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي قَدْرِهِ.
الشَّرْحُ: (وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ) وَالْمَجْنُونُ (وَالْمَرْأَةُ) وَالْخُنْثَى (وَالذِّمِّيُّ) وَالذِّمِّيَّةُ (إذَا حَضَرُوا) الْوَقْعَةَ مَعَ غَيْرِهِمْ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ وَأَذِنَ الْإِمَامُ لِلذِّمِّيِّ وَالذِّمِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَأْجِرَا كَمَا سَيَأْتِي وَفِيهِمْ نَفْعٌ (فَلَهُمْ الرَّضْخُ) لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ فِي الْعَبْدِ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَفِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا، وَفِي قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِ {أُسْهِمَ وَحُمِلَ عَلَى الرَّضْخِ،} وَالرَّضْخُ مُسْتَحَقٌّ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ السَّيِّدُ وَالْوَلِيُّ وَالزَّوْجُ فِي الْحُضُورِ أَمْ لَا، وَالرَّضْخُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إذَا كَانَ فِيهِمْ نَفْعٌ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ تَبَعًا لِنَصِّ الْبُوَيْطِيِّ وَتَعْبِيرُهُ بِالذِّمِّيِّ يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْكُفَّارِ لَا يُرْضَخُ لَهُ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ إلْحَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُعَاهَدِ وَالْحَرْبِيِّ بِالذِّمِّيِّ إذَا حَضَرُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِحَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ، وَيَدُلُّ تَعْبِيرُ التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ بِالْكَافِرِ. قَالَ: وَأَمَّا الْمُبَعَّضُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَالْعَبْدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ هُنَاكَ مُهَايَأَةٌ وَحَضَرَ فِي نَوْبَتِهِ أُسْهِمَ لَهُ وَإِلَّا رُضِخَ ا هـ. وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخِي الْأَوَّلُ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْوَجْهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَالْمُبَعَّضِ كَذَلِكَ، وَيُرْضَخُ أَيْضًا لِلْأَعْمَى إنْ حَضَرَ وَالزَّمِنِ وَفَاقِدِ أَطْرَافٍ، وَكَذَا تَاجِرٌ وَمُحْتَرِفٌ حَضَرَا وَلَمْ يُقَاتِلَا (وَهُوَ) أَيْ الرَّضْخُ لُغَةً الْعَطَاءُ الْقَلِيلُ، وَشَرْعًا شَيْءٌ (دُونَ سَهْمٍ) لِرَاجِلٍ (يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي قَدْرِهِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَحْدِيدٌ فَرَجَعَ إلَى رَأْيِهِ. وَيُفَاوِتُ عَلَى قَدْرِ نَفْعِ الْمُرْضَخِ لَهُ فَيُرَجَّحُ الْمُقَاتِلُ وَمَنْ قِتَالُهُ أَكْثَرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِلِ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَسْقِي الْعَطْشَى عَلَى الَّتِي تَحْفَظُ الرِّجَالَ بِخِلَافِ سَهْمِ الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُقَاتِلُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَالرَّضْخُ بِالِاجْتِهَادِ لَكِنْ لَا يَبْلُغُ بِهِ سَهْمَ رَاجِلٍ، وَلَوْ كَانَ الرَّضْخُ لِفَارِسٍ، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّهَامِ فَنَقَصَ بِهِ عَنْ قَدْرِهَا كَالْحُكُومَةِ مَعَ الْأُرُوشِ الْمُقَدَّرَةِ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ وَإِنْ اسْتَحَقَّ السَّلَبَ، وَهُوَ كَذَلِكَ خِلَافًا لِابْنِ الرِّفْعَةِ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ.
المتن: وَمَحِلُّهُ الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ: (وَمَحِلُّهُ) أَيْ الرَّضْخُ (الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْأَظْهَرِ) لِأَنَّهُ سَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ يُسْتَحَقُّ بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ إلَّا أَنَّهُ نَاقِصٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ كَالْمُؤَنِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ سَهْمُ الْمَصَالِحِ.
المتن: قُلْتُ: إنَّمَا يَرْضَخُ لِذِمِّيٍّ حَضَرَ بَلَا أُجْرَةٍ، وَبِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ: (قُلْتُ: إنَّمَا يَرْضَخُ لِذِمِّيٍّ) وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ الْكُفَّارِ (حَضَرَ بَلَا أُجْرَةٍ، وَ) كَانَ حُضُورُهُ (بِإِذْنِ الْإِمَامِ) أَوْ الْأَمِيرِ وَبِلَا إكْرَاهٍ مِنْهُ (عَلَى الصَّحِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) وَلَا أَثَرَ لِإِذْنِ الْآحَادِ. وَالثَّانِي: فِيمَا إذَا أَذِنَ الْإِمَامُ لَا يُرْضَخُ لَهُ. وَالثَّالِثُ: إنْ قَاتَلَ اسْتَحَقَّ وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ حَضَرَ بِأُجْرَةٍ فَلَهُ الْأُجْرَةُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهَا جَزْمًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ عَنْ حُضُورِهِ بَدَلًا فَلَا يُقَابِلُ بِبَدَلٍ آخَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالْأُجْرَةِ سَهْمَ رَاجِلٍ. تَنْبِيهٌ: إنَّمَا قَالَ: بِأُجْرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ: بِإِجَارَةٍ لِيَشْمَلَ الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ، فَإِنْ حَضَرَ بَلَا إذْنِ الْإِمَامِ أَوْ الْأَمِيرِ فَلَا رَضْخَ لَهُ بَلْ يُوزِرُهُ الْإِمَامُ إنْ رَآهُ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ سَهْمٍ وَرُضِخَ لِاسْتِهْلَاكِ عَمَلِهِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. خَاتِمَةٌ: لَوْ زَالَ نَقْصُ أَهْلِ الرَّضْخِ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْحَرْبُ بِإِسْلَامٍ أَوْ بُلُوغٍ أَوْ إفَاقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ وُضُوحِ ذُكُورَةِ مُشْكِلٍ أُسْهِمَ لَهُمْ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا الرَّضْخُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَوْ غَزَتْ طَائِفَةٌ وَلَيْسَ فِيهِمْ أَمِيرٌ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ فَحَكَّمُوا وَاحِدًا فِي الْقِسْمَةِ صَحَّتْ إنْ كَانَ أَهْلًا وَإِلَّا فَلَا، حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ.
|