الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
المتن: هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
الشَّرْحُ: كِتَابُ الْقَضَاءِ بِالْمَدِّ: أَيْ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَمْعُهُ أَقْضِيَةٌ كَقَبَاءٍ وَأَقْبِيَةٌ، وَهُوَ لُغَةً: إحْكَامُ الشَّيْءِ وَإِمْضَاؤُهُ، وَمِنْهُ: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ} وَفَرَاغُهُ مِنْهُ {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} أَيْ قَتَلَهُ، وَفَرَغَ مِنْهُ، وَإِتْمَامُهُ، وَمِنْهُ: {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} لِيَتِمَّ الْأَجَلُ. وَشَرْعًا الْخُصُومَةُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فَأَكْثَرَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْحُكْمُ الَّذِي يَسْتَفِيدُهُ الْقَاضِي بِالْوِلَايَةِ هُوَ إظْهَارُ حُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعَةِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْضَاؤُهُ فِيهِ بِخِلَافِ الْمُفْتِي، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْضَاؤُهُ، وَسُمِّيَ الْقَضَاءُ حُكْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوجِبُ وَضْعَ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ لِكَوْنِهِ يَكُفُّ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ، أَوْ مِنْ إحْكَامِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ حَكَمَةُ اللِّجَامِ لِمَنْعِهِ الدَّابَّةَ مِنْ رُكُوبِهَا رَأْسِهَا، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحِكْمَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ هَذَا أَيْضًا لِمَنْعِهَا النَّفْسَ مِنْ هَوَاهَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَمِنْ الْكِتَابِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} وقَوْله تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} وَمِنْ السُّنَّةِ أَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ {إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ}، وَفِي رِوَايَةٍ صَحَّحَ الْحَاكِمُ إسْنَادَهَا {فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ}، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ خَبَرَ {إذَا جَلَسَ الْحَاكِمُ لِلْحُكْمِ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ مَلَكَيْنِ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ، فَإِنْ عَدَلَ أَقَامَا، وَإِنْ جَارَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ}. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَاكِمٍ عَالِمٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ. أَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ، وَإِنْ حَكَمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ، بَلْ هُوَ آثِمٌ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ إصَابَتَهُ اتِّفَاقِيَّةٌ لَيْسَتْ صَادِرَةً عَنْ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لَا، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ كُلُّهَا، وَلَا يُعْذَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى الْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، وَاَللَّذَانِ فِي النَّارِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ} فَالْقَاضِي الَّذِي يَنْفُذُ حُكْمُهُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لَا اعْتِبَارَ بِحُكْمِهِمَا، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى فِعْلِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا. وَقَدْ اسْتَقْضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَوَلِيَهُ سَادَاتٌ وَتَوَرَّعَ عَنْهُ مِثْلُهُمْ، وَوَرَدَ مِنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ إذَا قَامَ الْعَبْدُ بِحَقِّهِ، وَلَكِنَّهُ خَطِرٌ وَالسَّلَامَةُ فِيهِ بَعِيدَةٌ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ كَتَبَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَمَّا كَانَ قَاضِيًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ: " إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْمَرْءَ عَمَلُهُ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّك جُعِلْت طَبِيبًا تُدَاوِي، فَإِنْ كُنْت تُبْرِئُ فَنِعِمَّا لَك، وَإِنْ كُنْت مُطَبِّبًا فَاحْذَرْ أَنْ تَقْتُلَ أَحَدًا فَتَدْخُلَ النَّارَ "، فَمَا بَالُك بِمَنْ لَيْسَ بِطَبِيبٍ وَلَا مُطَبِّبٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ: أَنَا نَذِيرٌ لِمَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ أَهْلِيَّةُ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ. فَإِنَّ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ يُؤْخَذُ بِالْقَبُولِ، وَكَلَامَ الْقُضَاةِ تَسْرِي إلَيْهِ الظُّنُونُ، وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرٌ فِي وَقَائِعَ جُزْئِيَّةٍ، فَالْعِلْمُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ تَبْقَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ عَنْهُ {مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ}، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُكْرَهُ لَهُ الْقَضَاءُ، أَوْ يَحْرُمُ عَلَى مَا سَيَأْتِي (هُوَ) أَيْ قَبُولُ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ مِنْ الْإِمَامِ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) فِي حَقِّ الصَّالِحِينَ لَهُ فِي النَّاحِيَةِ. أَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وَلِأَنَّ طِبَاعَ الْبَشَرِ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّظَالُمِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ وَقَلَّ مَنْ يُنْصِفُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَقْدِرُ الْإِمَامُ عَلَى فَصْلِ الْخُصُومَاتِ بِنَفْسِهِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، وَهُمَا عَلَى الْكِفَايَةِ {وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعَثْتَنِي أَقْضِي بَيْنَهُمْ وَأَنَا شَابٌّ لَا أَدْرِي مَا الْقَضَاءُ فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ، قَالَ: فَوَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا شَكَكْت فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَاسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَالِيًا وَقَاضِيًا، وَقَلَّدَ مُعَاذًا قَضَاءَ الْيَمَنِ وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ إنْسَانًا إلَى الْبَحْرَيْنِ: وَبَعَثَ عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى الْبَصْرَةِ، فَلَوْ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ لَمْ يَكْفِ وَاحِدٌ، وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ اسْتِحْبَابُ نَصْبِ الْقُضَاةِ فِي الْبُلْدَانِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ إذَا قَامَ بِالْفَرْضِ مَنْ يَصْلُحُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ امْتَنَعُوا أَثِمُوا وَأَجْبَرَ الْإِمَامُ أَحَدَ الصَّالِحِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَخَرَجَ بِقَبُولِ التَّوْلِيَةَ إيقَاعُهَا لِلْقَاضِي مِنْ الْإِمَامِ فَإِنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حَتَّى يُسْأَلَ لِأَنَّهَا مِنْ الْحُقُوقِ الْمُسْتَرْعَاةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ فِي كُلِّ مَسَافَةِ عَدْوَى قَاضِيًا كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي كُلِّ مَسَافَةِ قَصْرٍ مُفْتِيًا، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَأَمَّا إيقَاعُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْإِمَامِ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ، وَإِنْ تَرَافَعَا إلَى النَّائِبِ فَإِيقَاعُ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ إذَا كَانَ فِيهِ تَعْطِيلٌ وَتَطْوِيلُ نِزَاعٍ.
المتن: فَإِنْ تَعَيَّنَ لَزِمَهُ طَلَبُهُ.
الشَّرْحُ: (فَإِنْ) (تَعَيَّنَ) لِلْقَضَاءِ وَاحِدٌ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِأَنْ لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ (لَزِمَهُ طَلَبُهُ) إنْ لَمْ يُعْرَضْ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَا يُعْذَرُ لِخَوْفِ مَيْلٍ مِنْهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَطْلُبَ وَيُقْبَلَ وَيُحْتَرَزَ مِنْ الْمَيْلِ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ وُجُوبِ الطَّلَبِ إذَا ظَنَّ الْإِجَابَةَ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ، فَإِنْ تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهَا لِمَا عَلِمَ مِنْ فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَئِمَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ عُرِضَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَصَى، وَلِلْإِمَامِ إجْبَارُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إلَى عِلْمِهِ وَنَظَرِهِ فَأَشْبَهَ صَاحِبَ الطَّعَامِ إذَا مَنَعَهُ الْمُضْطَرُّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ بِامْتِنَاعِهِ حِينَئِذٍ يَصِيرُ فَاسِقًا، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ أَوَّلًا، فَإِذَا تَابَ أُجْبِرَ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ غَالِبًا إلَّا مُتَأَوِّلًا لِلتَّحْذِيرَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْبَابِ وَاسْتِشْعَارِهِ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ، وَعَدَمِ اعْتِمَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ. وَكَيْفَ يَفْسُقُ مَنْ امْتَنَعَ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا سَائِغًا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُنْجِيَ لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ عَدَمُ التَّلَبُّسِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَقَدْ يَرَى هُوَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ إلَّا بِاعْتِرَافِهِ، فَالْوَجْهُ عَدَمُ فِسْقِهِ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهِ خَوْفًا عَلَى دِينِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْبَاطِنَةِ الْخَفِيَّةِ عَلَيْنَا، بَلْ وَلَا يُعْصِي بِذَلِكَ أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ، وَلَوْ خَلَا الزَّمَانُ عَنْ إمَامٍ رَجَعَ النَّاسُ إلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَثُرَ عُلَمَاءُ النَّاحِيَةِ فَالْمُتَّبَعُ أَعْلَمُهُمْ، فَإِنْ اسْتَوَوْا وَتَنَازَعُوا أُقْرِعَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ.
المتن: وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ، وَكَانَ يَتَوَلَّاهُ فَلِلْمَفْضُولِ الْقَبُولُ، وَقِيلَ: لَا، وَيُكْرَهُ طَلَبُهُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فَلَهُ الْقَبُولُ.
الشَّرْحُ: (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْقَضَاءِ وَاحِدٌ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ مَعَهُ نَظَرْت (فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَصْلَحَ) لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ مِنْهُ (وَكَانَ) الْأَصْلَحُ (يَتَوَلَّاهُ) أَيْ يَرْضَى بِتَوْلِيَتِهِ (فَلِلْمَفْضُولِ) الْمُتَّصِفِ بِصِفَةِ الْقَضَاءِ وَهُوَ غَيْرُ الْأَصْلَحِ (الْقَبُولُ) لِلتَّوْلِيَةِ إذَا بَذَلَ لَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فِي الْأَصَحِّ (وَقِيلَ: لَا) يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا (وَ) عَلَى الْأَوَّلِ (يُكْرَهُ طَلَبُهُ) لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ (وَقِيلَ: يَحْرُمُ) وَاسْتَشْكَلَهُ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ النَّصْبُ جَائِزًا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ طَلَبُ الْجَائِزِ؟، وَنَظِيرُ هَذَا سُؤَالُ الصَّدَقَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ إعْطَاؤُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، إذْ الْإِعْطَاءُ بِاخْتِيَارِ الْمُعْطِي فَالسُّؤَالُ كَالْعَدَمِ، وَعَلَى الثَّانِي يَحْرُمُ طَلَبُهُ. تَنْبِيهٌ: أَشْعَرَ قَوْلُهُ يَتَوَلَّاهُ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِرِضَاهُ بِالتَّوْلِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا فَكَالْعَدِمِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا حَيْثُ لَا عُذْرَ، فَإِنْ كَانَ لِكَوْنِ الْمَفْضُولِ أَطْوَعَ فِي النَّاسِ أَوْ أَقْرَبَ لِلْقُلُوبِ، أَوْ كَانَ الْأَفْضَلُ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا انْعَقَدَ لِلْمَفْضُولِ جَزْمًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (وَإِنْ كَانَ) غَيْرُهُ (مِثْلَهُ) وَسُئِلَ بِلَا طَلَبٍ (فَلَهُ الْقَبُولُ) لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ امْتَنَعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا سَأَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَضَاءَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعُرِضَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ النَّيْسَابُورِيِّ قَضَاءُ نَيْسَابُورَ، فَاخْتَفَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَوَرَدَ كِتَابُ السُّلْطَانِ بِتَوْلِيَةِ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ عَشِيَّةَ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: أُشَاوِرُ نَفْسِي اللَّيْلَةَ وَأُخْبِرُكُمْ غَدًا، وَأَتَوْا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا، وَقَالَ مَكْحُولٌ: لَوْ خُيِّرْت بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَتْلِ اخْتَرْت الْقَتْلَ وَامْتَنَعَ مِنْهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتَدْعَاهُ الْمَأْمُونُ لِقَضَاءِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَامْتَنَعَ مِنْهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اسْتَدْعَاهُ الْمَنْصُورُ فَحَبَسَهُ وَضَرَبَهُ، وَحَكَى الْقَاضِي الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْوَزِيرَ ابْنَ الْفُرَاتِ طَلَبَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ خَيْرَانَ لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ فَهَرَبَ مِنْهُ فَخَتَمَ عَلَى دُورِهِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا كَمَا قِيلَ فِيهِ: وَطَيَّنُوا الْبَابَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ عِشْرِينَ يَوْمًا لِيَلِيَ فَمَا وَلِي وَقَالَ بَعْضُ الْقُضَاةِ: وَلَيْت الْقَضَاءَ وَلَيْتَ الْقَضَاءَ لَمْ يَكُ شَيْئًا تَوَلَّيْته فَأَوْقَفَنِي فِي الْقَضَاءِ الْقَضَاءُ وَمَا كُنْت قِدْمًا تَمَنَّيْته وَقَالَ آخَرُ: فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ قَاضِيًا وَيَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَة تَنْبِيهٌ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلَهُ الْقَبُولُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَقَالَ الْإِمَامُ وَالرَّافِعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ، فَإِنَّ أَهَمَّ الْغَنَائِمِ حَفِظَ السَّلَامَةَ ا هـ. وَقَضِيَّتُهُ مَنْعُ الْإِقْدَامِ حِينَئِذٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ، بَلْ قَطَعَ فِي الذَّخَائِرِ بِوُجُوبِ الِامْتِنَاعِ.
المتن: وَيُنْدَبُ الطَّلَبُ إنْ كَانَ خَامِلًا يَرْجُو بِهِ نَشْرَ الْعِلْمِ أَوْ مُحْتَاجًا إلَى الرِّزْقِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ. قُلْت: وَيُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ: (وَيُنْدَبُ) لَهُ (الطَّلَبُ) لِلْقَضَاءِ (إنْ كَانَ خَامِلًا) أَيْ غَيْرَ مَشْهُورٍ بَيْنَ النَّاسِ (يَرْجُو بِهِ) أَيْ الْقَضَاءِ (نَشْرَ الْعِلْمِ) لِتَحْصُلَ الْمَنْفَعَةُ بِنَشْرِهِ إذَا عَرَفَهُ النَّاسُ (أَوْ) لَمْ يَكُنْ خَامِلًا، لَكِنْ كَانَ (مُحْتَاجًا إلَى الرِّزْقِ) فَإِذَا وُلِّيَ حَصَلَ لَهُ كِفَايَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِسَبَبٍ هُوَ طَاعَةٌ لِمَا فِي الْعَدْلِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَفِي هَذَا إشْعَارٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَسَيَأْتِي إيضَاحُ ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: يُنْدَبُ الطَّلَبُ أَيْضًا إذَا كَانَتْ الْحُقُوقُ مُضَاعَةً لِجَوْرٍ أَوْ عَجْزٍ، أَوْ فَسَدَتْ الْأَحْكَامُ بِتَوْلِيَةِ جَاهِلٍ فَيُقْصَدُ بِالطَّلَبِ تَدَارُكُ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَبَ، فَقَالَ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} وَإِنَّمَا طَلَبَ ذَلِكَ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ لَا مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ خَامِلًا، بَلْ مَشْهُورًا وَلَا مُحْتَاجًا لِلرِّزْقِ بَلْ مَكْفِيًّا بِهِ (فَالْأَوْلَى) لَهُ (تَرْكُهُ) أَيْ طَلَبِ الْقَضَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَيَنْشُرُ الْعِلْمَ وَالْفُتْيَا (قُلْت:) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ (وَيُكْرَهُ) لَهُ حِينَئِذٍ الطَّلَبُ (عَلَى الصَّحِيحِ) وَكَذَا قَبُولُ التَّوْلِيَةِ أَيْضًا (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَخْصُوصٌ، وَعَلَيْهِ حُمِلَتْ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي التَّحْذِيرِ وَامْتِنَاعِ السَّلَفِ مِنْهُ، وَالثَّانِي لَا كَرَاهَةَ فِي طَلَبٍ وَلَا قَبُولٍ، بَلْ هُمَا خِلَافُ الْأُولَى. تَنْبِيهٌ: أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَقْسَامِ الطَّلَبِ التَّحْرِيمَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَمَا إذَا قَصَدَ انْتِقَامًا مِنْ الْأَعْدَاءِ أَوْ اكْتِسَابًا بِالِارْتِشَاءِ، وَجُعِلَ مِنْ الْمَكْرُوهِ طَلَبُهُ لِلْمُبَاهَاةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ، وَجَرَى بَعْضُهُمْ عَلَى الْحُرْمَةِ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ مُوَلًّى، فَإِنْ كَانَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحَقِّ الْقَضَاءِ فَكَالْمَعْدُومِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَطَلَبُ عَزْلِهِ حَرَامٌ وَلَوْ كَانَ دُونَ الطَّالِبِ، وَتَبْطُلُ بِذَلِكَ عَدَالَةُ الطَّالِبِ، فَإِنْ عُزِلَ وَوُلِّيَ الطَّالِبُ نَفَذَ حُكْمُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. أَمَّا عِنْدَ تَمَهُّدِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَنْفُذُ، وَهَذَا فِي الطَّلَبِ بِلَا بَذْلِ مَالٍ، فَإِنْ كَانَ نَظَرَ إنْ تَعَيَّنَ عَلَى الْبَاذِلِ الْقَضَاءُ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُسَنُّ لَهُ جَازَ لَهُ بَذْلُ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَهَذَا كَمَا إذَا تَعَذَّرَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا بِبَذْلِ مَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَمْ يُسَنَّ طَلَبُهُ لَمْ يَجُزْ بَذْلُ الْمَالِ لِيُوَلَّى، وَيَجُوزُ لَهُ الْبَذْلُ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ لِئَلَّا يُعْزَلَ، وَالْآخِذُ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَوَقَعَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِيُوَلَّى وَنُسِبَ إلَى الْغَلَطِ، وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ لِعَزْلِ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْقَضَاءِ فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْلِيصِ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ آخِذَهُ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَةِ الْقَضَاءِ فَهُوَ حَرَامٌ، فَإِنْ عَزَلَهُ وَوَلَّى الْبَاذِلَ نَفَذَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا مَرَّ. أَمَّا عِنْدَ تَمَهُّدِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَتَوْلِيَتُهُ بَاطِلَةٌ وَالْمَعْزُولُ عَلَى قَضَائِهِ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ بِالرِّشْوَةِ حَرَامٌ، وَتَوْلِيَةُ الْمُرْتَشِي لِلرَّاشِي حَرَامٌ.
المتن: وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ بِالنَّاحِيَةِ.
الشَّرْحُ: (وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّعْيِينِ) لِلْقَضَاءِ (وَعَدَمِهِ) بِبَلْدَةٍ (بِالنَّاحِيَةِ) وَكَذَا فِي وُجُوبِ الطَّلَبِ وَالْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ طَلَبٌ وَلَا قَبُولٌ لَهُ فِي غَيْرِ نَاحِيَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ الْوَطَنِ، وَفَارَقَ سَائِرَ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ بِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهَا وَالْعَوْدُ إلَى الْوَطَنِ وَالْقَضَاءُ لَا غَايَةَ لَهُ مَعَ قِيَامِ حَاجَةِ بَلَدِ الْمُعَيَّنِ إلَيْهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِنَاحِيَةٍ صَالِحَانِ وَوُلِّيَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْآخَرِ ذَلِكَ فِي نَاحِيَةٍ لَيْسَ بِهَا صَالِحٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ خِلَافًا لِلْبُلْقِينِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: حُكْمُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَصْلَحِ وَعَدَمِهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ: الْمُقَلِّدُ إذَا بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا، فَقَدْ اُعْتُبِرَ أَعْلَى الْمُقَلِّدِينَ، وَإِنْ كَانَ قُيِّدَ بِالِاجْتِهَادِ.
المتن: وَشَرْطُ الْقَاضِي مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ حُرٌّ ذَكَرٌ عَدْلٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ نَاطِقٌ كَافٍ مُجْتَهِدٌ وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَ خَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَمُجْمَلَهُ وَمُبَيَّنَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ وَغَيْرَهُ، وَ الْمُتَّصِلَ وَالْمُرْسَلَ، وَحَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَلِسَانَ الْعَرَبِ لُغَةً وَنَحْوًا، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا وَالْقِيَاسَ، بِأَنْوَاعِهِ
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يُشْتَرَطُ لِتَوْلِيَةِ الْقَاضِي، فَقَالَ (وَشَرْطُ الْقَاضِي) أَيْ مَنْ يُوَلَّى قَاضِيًا (مُسْلِمٌ) أَيْ إسْلَامٌ وَكَذَا الْبَاقِي، وَهَذَا الشَّرْطُ دَاخِلٌ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الرَّوْضَةِ، فَلَا يُوَلَّى كَافِرٌ عَلَى مُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَلَا سَبِيلَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَضَاءِ، وَلَا عَلَى كُفَّارٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ فَصْلُ الْأَحْكَامِ، وَالْكَافِرُ جَاهِلٌ بِهَا، وَأَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إنَّمَا هِيَ رِيَاسَةٌ وَزَعَامَةٌ لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ، وَلَا يُلْزَمُونَ بِالتَّحَاكُمِ عِنْدَهُ (مُكَلَّفٌ) أَيْ بَالِغٌ عَاقِلٌ، فَلَا يُوَلَّى صَبِيٌّ وَلَا مَجْنُونٌ، وَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ لِنَقْصِهِمَا. تَنْبِيهٌ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يَكْفِي الْعَقْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ حَتَّى يَكُونَ صَحِيحَ الْفِكْرِ، جَيِّدَ الْفَطِنَةِ، بَعِيدًا عَنْ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، يَتَوَصَّلُ بِذَكَائِهِ إلَى وُضُوحِ الْمُشْكِلِ وَحَلِّ الْمُعْضِلِ (حُرٌّ) فَلَا يُوَلَّى رَقِيقٌ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لِنَقْصِهِ كَالشَّهَادَةِ بَلْ أَوْلَى (ذَكَرٌ) فَلَا تُوَلَّى امْرَأَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ. تَنْبِيهٌ: شَمِلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ مَنْعَهَا وَلَوْ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ جَوَّزَهُ حِينَئِذٍ وَعَلَى ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَيْثُ جَوَّزَهُ مُطْلَقًا، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فِي ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، فَلَوْ وُلِّيَ ثُمَّ بَانَ رَجُلًا لَمْ يَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْبَحْرِ ، وَقَالَ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْلِيَةٍ جَدِيدَةٍ. أَمَّا إذَا بَانَتْ ذُكُورَتُهُ قَبْلَ التَّوْلِيَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ (عَدْلٌ) وَسَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ بَيَانُهُ، فَلَا يُوَلَّى فَاسِقٌ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ النَّظَرِ فِي مَالِ وَلَدِهِ مَعَ وُفُورِ شَفَقَتِهِ فَنَظَرُهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ. تَنْبِيهٌ: يُؤْخَذُ مِمَّا سَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَاضِي كَذَلِكَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبُلْقِينِيُّ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْقَضَاءِ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْقَبُولِ إلَّا فِيمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَلَا يُوَلَّى مُبْتَدَعٌ أَيْضًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلَا مَنْ يُنْكِرُ الْإِجْمَاعَ أَوْ أَخْبَارَ الْآحَادِ أَوْ الِاجْتِهَادَ الْمُتَضَمِّنَ إنْكَارُهُ إنْكَارَ الْقِيَاسِ (سَمِيعٌ) وَلَوْ بِصِيَاحٍ فِي أُذُنِهِ، فَلَا يُوَلَّى أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ إقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ (بَصِيرٌ) فَلَا يُوَلَّى أَعْمَى وَلَا مَنْ يَرَى الْأَشْبَاحَ، وَلَا يَعْرِفُ الصُّوَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الطَّالِبَ مِنْ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الصُّوَرَ إذَا قَرُبَتْ مِنْهُ صَحَّ، وَخَرَجَ بِالْأَعْمَى الْأَعْوَرُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ، وَكَذَا مَنْ يُبْصِرُ نَهَارًا دُونَ مَنْ يُبْصِرُ لَيْلًا فَقَطْ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَعْمَى، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ بِصِحَّةِ وِلَايَةِ الْأَعْمَى. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَخْلَفَهُ فِي إمَامَةِ الصَّلَاةِ دُونَ الْحُكْمِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ سَمِعَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ثُمَّ عَمِيَ قَضَى فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْأَصَحِّ - وَاسْتَثْنَى أَيْضًا لَوْ نَزَلَ أَهْلُ قَلْعَةٍ عَلَى حُكْمِ أَعْمَى، فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّهِ (نَاطِقٌ) فَلَا يُوَلَّى أَخْرَسُ، وَإِنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ (كَافٍ) لِلْقِيَامِ بِأُمُورِ الْقَضَاءِ، فَلَا يُوَلَّى مُغَفَّلٌ، وَمُخْتَلُّ نَظَرٍ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ الْكِفَايَةَ اللَّائِقَةَ بِالْقَضَاءِ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ قُوَّةٌ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ ضَعِيفَ النَّفْسِ جَبَانًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَكُونُ عَالِمًا دَيِّنًا وَنَفْسُهُ ضَعِيفَةٌ عَنْ التَّنْفِيذِ وَالْإِلْزَامِ وَالسَّطْوَةِ فَيُطْمَعُ فِي جَانِبِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلِلْوِلَايَةِ شَرْطَانِ، الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهَا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِهَا وَتَرْكِ مَفَاسِدِهَا، فَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطَانِ حَرُمَتْ الْوِلَايَةُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا لَا تَتَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَلِينَ مَالَ يَتِيمٍ} وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الشَّرْطَ خَارِجًا بِقَوْلِهِ (مُجْتَهِدٌ) فَلَا يُوَلَّى الْجَاهِلُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا الْمُقَلِّدِ، وَهُوَ مَنْ حَفِظَ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِغَوَامِضِهِ، وَقَاصِرٌ عَنْ تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى فَلِلْقَضَاءِ أَوْلَى. تَنْبِيهٌ: كَانَ يَنْبَغِي لَلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ إسْلَامٌ وَتَكْلِيفٌ. وَكَذَا مَا بَعْدَهُمَا فَيَأْتِي بِالْمَصْدَرِ كَمَا قَدَّرْته فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُمَا لَا الشَّخْصُ نَفْسُهُ، أَوْ أَنْ يَقُولَ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا إلَخْ بِنَصْبِ الْجَمِيعِ عَلَى خَبَرِ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ كَقَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ كَوْنُهُ مُسْلِمًا (وَهُوَ) أَيْ الْمُجْتَهِدُ (أَنْ يَعْرِفَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ) أَيْ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُ آيَاتِهَا وَلَا أَحَادِيثِهَا الْمُتَعَلِّقَاتِ بِهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ. وَآيُ الْأَحْكَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا خَمْسُمِائَةِ آيَةٍ، وَعَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ عَدَدَ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ خَمْسُمِائَةٍ كَعَدَدِ الْآيِ، وَاعْتُرِضَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ كَمَا تُسْتَنْبَطُ مِنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، تُسْتَنْبَطُ مِنْ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ وَنَحْوِهِمَا، وَالثَّانِي بِأَنَّ غَالِبَ الْأَحَادِيثِ، لَا تَكَادُ تَخْلُو عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَأَدَبٍ شَرْعِيٍّ وَسِيَاسَةٍ دِينِيَّةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الَّتِي هِيَ مَحَالُّ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْخَفَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ الْمَوَاعِظِ وَالْقَصَصِ (وَ) يَعْرِفُ (خَاصَّهُ وَعَامَّهُ) بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ نَظَرًا لِمَا، وَالْخَاصُّ خِلَافُ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ لَفْظٌ يَسْتَغْرِقُ الصَّالِحَ لَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَيَعْرِفُ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَالْخَاصَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ وَمُطْلَقَهُ وَمُقَيَّدَهُ (وَمُجْمَلَهُ) وَهُوَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دَلَالَتُهُ (وَمُبَيَّنَهُ) وَهُوَ الْمُتَّضِحُ دَلَالَتَهُ وَيَعْرِفُ نَصَّهُ وَظَاهِرَهُ (وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ) فَيَعْرِفُ مَا نُسِخَ لَفْظُهُ، وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ وَعَكْسُهُ، وَيَعْرِفُ الْمُتَشَابِهَ وَالْمُحْكَمَ (وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ وَغَيْرَهُ) أَيْ الْآحَادِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ التَّرْجِيحِ عِنْد تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، فَيُقَدِّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، وَالْمُقَيَّدَ عَلَى الْمُطْلَقِ وَالْمُبَيَّنَ عَلَى الْمُجْمَلِ، وَالنَّاسِخَ عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَالْمُتَوَاتِرَ عَلَى الْآحَادِ. تَنْبِيهٌ: أَفْرَدَ الْمُصَنِّفُ الضَّمِيرَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَا. قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ أَسْبَابَ النُّزُولِ (وَ) يَعْرِفَ (الْمُتَّصِلَ) مِنْ السُّنَّةِ (وَالْمُرْسَلَ) مِنْهَا، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا غَيْرُ الْمُتَّصِلِ (وَحَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا) بِنَصْبِهِمَا عَلَى التَّمْيِيزِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَتَوَصَّلُ إلَى تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ. تَنْبِيهٌ: إنَّمَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الرُّوَاةِ فِي حَدِيثٍ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى قَبُولِهِ. أَمَّا مَا أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ تَوَاتَرَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ فَلَا حَاجَةَ لِلْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يُكْتَفَى فِي عَدَالَةِ رُوَاتِهِ بِتَعْدِيلِ إمَامٍ مَشْهُورٍ عُرِفَ صِحَّةُ مَذْهَبِهِ. قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ: هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَشَذَّ مَنْ شَرَطَ فِي التَّعْدِيلِ اثْنَيْنِ ا هـ. وَلَا بُدَّ مَعَ الْعَدَالَةِ مِنْ الضَّبْطِ (وَ) يَعْرِفُ (لِسَانَ الْعَرَبِ لُغَةً وَنَحْوًا) بِنَصْبِهِمَا أَيْضًا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَأَرَادَ بِالنَّحْوِ مَا يَشْمَلُ الْبِنَاءَ وَالْإِعْرَابَ وَالتَّصْرِيفَ لِوُرُودِ الشَّرِيعَةِ بِهِ، وَلِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ عُمُومَ اللَّفْظِ وَخُصُوصَهُ وَإِطْلَاقَهُ وَتَقْيِيدَهُ وَإِجْمَالَهُ وَبَيَانَهُ وَصِيَغَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ وَالْحُرُوفَ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَ) يَعْرِفُ (أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ (فَمَنْ بَعْدَهُمْ إجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا) لِئَلَّا يَقَعَ فِي حُكْمٍ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ فِيهَا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فِيهَا إمَّا بِعِلْمِهِ بِمُوَافَقَةِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الْأَوَّلُونَ بَلْ تَوَلَّدَتْ فِي عَصْرِهِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّاهُ (وَ) يَعْرِفُ (الْقِيَاسَ) صَحِيحَهُ وَفَاسِدَهُ (بِأَنْوَاعِهِ) الْأَوْلَى وَالْمُسَاوِي وَالْأَدْوَنَ لِيَعْمَلَ، بِهَا، فَالْأَوَّلُ كَقِيَاسِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى التَّأْفِيفِ، وَالثَّانِي كَقِيَاسِ إحْرَاقِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى أَكْلِهِ فِي التَّحْرِيمِ فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: كَقِيَاسِ التُّفَّاحِ عَلَى الْبِرِّ فِي بَابِ الرِّبَا بِجَامِعِ الطَّعْمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُتَبَحِّرًا فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ حَتَّى يَكُونَ فِي النَّحْوِ كَسِيبَوَيْهِ، وَفِي اللُّغَةِ كَالْخَلِيلِ، بَلْ يَكْفِي مَعْرِفَةُ جُمَلٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إنَّ هَذَا سَهْلٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْعُلُومَ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ ا هـ. . وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَصْلٌ مُصَحَّحٌ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ غَالِبِ الْأَحْكَامِ كَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ وَلَا بَعْضَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ مَظَانَّ أَحْكَامِهِ فِي أَبْوَابِهَا فَيُرَاجِعَهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ. تَنْبِيهٌ: أَشْعَرَ اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَالْأَخْذِ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ وَكَالِاسْتِصْحَابِ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا، فَقَدْ حَكَى فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا عَنْ الْأَصْحَابِ اشْتِرَاطَهُ، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكِتَابَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ، وَصَحَّحَهُ الْجُرْجَانِيِّ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إنَّهُ الْمُخْتَارُ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكْتُبَ لِغَيْرِهِ وَيُكْتَبَ إلَيْهِ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ رُبَّمَا حَرَّفَ الْقَارِئُ بِخِلَافِ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّهِ مُعْجِزَةٌ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مَنْقَصَةٌ، وَبِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ لِتَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ الْحِسَابِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَوَّبَهُ فِي الْمَطْلَبِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ لَا يُوجِبُ الْخَلَلَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَا تُشْتَرَطُ، ثُمَّ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْعُلُومِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِمَذْهَبِ إمَامٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرِفَةِ قَوَاعِدِ إمَامِهِ، وَلْيُرَاعِ فِيهَا مَا يُرَاعِيه الْمُطْلَقُ فِي قَوَانِينِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ مَعَ الْمُجْتَهِدِ كَالْمُجْتَهِدِ مَعَ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ نَصِّ إمَامِهِ، كَمَا لَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ مَعَ النَّصِّ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا يَخْلُو الْعَصْرُ عَنْ مُجْتَهِدٍ إلَّا إذَا تَدَاعَى الزَّمَانُ وَقَرُبَتْ السَّاعَةُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَالْقَفَّالِ: إنَّ الْعَصْرَ خَلَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُجْتَهِدٌ قَائِمٌ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يَرْغَبُونَ عَنْهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ، أَوْ كَيْفَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَعْصَارِ بِخُلُوِّهَا عَنْ الْمُجْتَهِدِ وَالْقَفَّالُ نَفْسُهُ كَانَ يَقُولُ لِلسَّائِلِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّبْرَةِ: أَتَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَمْ مَا عِنْدِي؟. وَقَالَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ إسْنَادُ مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ، بَلْ وَافَقَ رَأْيُنَا رَأْيَهُ، فَمَا هَذَا كَلَامُ مَنْ يَدَّعِي زَوَالَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَذْهَبِ. فُرُوعٌ: يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُجْتَهِدًا فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ، فَيَكْفِيهِ عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَالتُّقَى أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ النَّسَبِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَا حِلْمٍ وَتَثَبُّتٍ وَلِينٍ وَفَطِنَةٍ وَيَقَظَةٍ وَكِتَابَةٍ وَصِحَّةِ حَوَاسٍّ وَأَعْضَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلُغَةِ الْبَلَدِ الَّذِي يَقْضِي لِأَهْلِهِ، قَنُوعًا سَلِيمًا مِنْ الشَّحْنَاءِ، صَدُوقًا، وَافِرَ الْعَقْلِ، ذَا وَقَارٍ وَسَكِينَةٍ، وَإِذَا عَرَفَ الْإِمَامُ أَهْلِيَّةَ أَحَدٍ وَلَّاهُ، وَإِلَّا بَحَثَ عَنْ حَالِهِ كَمَا اخْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا.
المتن: فَإِنْ تَعَذَّرَ جَمْعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَوَلَّى سُلْطَانٌ لَهُ شَوْكَةٌ فَاسِقًا أَوْ مُقَلِّدًا نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ.
الشَّرْحُ: وَلَوْ وَلَّى مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ مَعَ وُجُودِ الصَّالِحِ لَهُ وَالْعِلْمِ بِالْحَالِ أَثِمَ الْمُوَلِّي بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْمَوْلَى بِفَتْحِهَا، وَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَإِنْ أَصَابَ فِيهِ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ (فَإِنْ) (تَعَذَّرَ) فِي رَجُلٍ (جَمْعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ) السَّابِقَةِ (فَوَلَّى سُلْطَانٌ لَهُ شَوْكَةٌ فَاسِقًا) مُسْلِمًا (أَوْ مُقَلِّدًا نَفَذَ) بِالْمُعْجَمَةِ (قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ) لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ النَّاسِ. تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ تَقْيِيدُهُ بِالْفَاسِقِ - أَيْ الْمُسْلِمِ كَمَا قَدَّرْته فِي كَلَامِهِ - أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْكَافِرِ إذَا وَلِيَا بِالشَّوْكَةِ، وَاسْتَظْهَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ، لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِنُفُوذِهِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ دُونَ الْكَافِرِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِ الْأَهْلِ طَرَفٌ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلِلْعَادِلِ أَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ الْأَمِيرِ الْبَاغِي، فَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ اسْتَقْضَاهُ زِيَادٌ. فَقَالَتْ: إنْ لَمْ يَقْضِ لَهُمْ خِيَارُهُمْ قَضَى لَهُمْ شِرَارُهُمْ.
المتن: وَيُنْدَبُ لِلْإِمَامِ إذَا وَلَّى قَاضِيًا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، فَإِنْ نَهَاهُ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، فَإِنْ أَطْلَقَ اسْتَخْلَفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا غَيْرِهِ فِي الْأَصَحِّ، وَشَرْطُ الْمُسْتَخْلَفِ كَالْقَاضِي، إلَّا أَنْ يُسْتَخْلَفَ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ: كَسَمَاعِ بَيِّنَةٍ فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ إنْ كَانَ مُقَلِّدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ خِلَافَهُ.
الشَّرْحُ: (وَيُنْدَبُ لِلْإِمَامِ إذَا وَلَّى قَاضِيًا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ) لِيَكُونَ أَسْهَلَ لَهُ وَأَسْرَعَ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْعَمَلِ وَكَثْرَةِ الرَّعِيَّةِ (فَإِنْ نَهَاهُ) عَنْ الِاسْتِخْلَافِ (لَمْ يَسْتَخْلِفْ) وَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ إنْ كَانَتْ تَوْلِيَتُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِنَظَرِ غَيْرِهِ، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُ خَلِيفَتِهِ، فَإِنْ تَرَاضَى الْخَصْمَانِ بِحُكْمِهِ الْتَحَقَ بِالْمُحَكِّمِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهِ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْلَافُهُ لِفَسَادِهِ وَلَا غَيْرِهِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ قَالَ: وَلَّيْتُك الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ تَسْتَخْلِفَ فِيهِ وَلَا تَنْظُرَ فِيهِ بِنَفْسِك. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا تَقْلِيدُ اخْتِيَارٍ وَمُرَاعَاةٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدِ حُكْمٍ وَلَا نَظَرٍ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُحْتَمَلُ فِي هَذَا إبْطَالُ التَّوْلِيَةِ، كَمَا لَوْ قَالَتْ لِلْوَلِيِّ: أَذِنْت لَك فِي تَزْوِيجِي وَلَا تُزَوِّجْ بِنَفْسِك انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ وَيُفَرَّقُ بِأَنَّ وَلِيَّ النِّكَاحِ ثَابِتٌ لَهُ الْوِلَايَةُ، وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَنْفِيَهَا عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يُوَلِّيَ الْقَضَاءَ (فَإِنْ أَطْلَقَ) أَيْ الْإِمَامُ الْوِلَايَةَ لِشَخْصٍ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى بَعْضِهِ (اسْتَخْلَفَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ) لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ (لَا) فِي (غَيْرِهِ) وَهُوَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ (فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ الْعَجْزِ مَا لَا يَرَاهُ الْمُسْتَخْلِفُ فِي مَذْهَبِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُخَالِفًا لِيَعْقِدَ مَا لَا يَرَاهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا وَلَّى فِيهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْقَادِرُ عَلَى مَا وَلِيَهُ لَا يَسْتَخْلِفُ فِيهِ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي: يَسْتَخْلِفُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كَالْإِمَامِ بِجَامِعِ النَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْعَجْزِ الْمُقَارَنَ. أَمَّا الطَّارِئُ كَمَا لَوْ مَرِضَ الْقَاضِي، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ لِشُغْلٍ فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ قَطْعًا، قَالَهُ فِي التَّهْذِيبِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَعَمَّمَ أَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يُعَمَّمْ لَهُ فِي الْإِذْنِ جَازَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَصَّصَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَتَعَدَّهُ (وَشَرْطُ) الشَّخْصِ (الْمُسْتَخْلَفِ) بِفَتْحِ اللَّامِ بِخَطِّهِ (كَالْقَاضِي) فِي شُرُوطِهِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِهِ جَوَازُ اسْتِخْلَافِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، لَكِنَّ مَحَلَّهُ إنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا عِنْدَ غَيْرِهِ. أَمَّا إذَا فَوَّضَ الْإِمَامُ لِشَخْصٍ اخْتِيَارَ قَاضٍ فَلَا يَخْتَارُ وَلَدَهُ وَلَا وَالِدَهُ، كَمَا لَا يَخْتَارُ نَفْسَهُ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ قَوْلَهُ (إلَّا أَنْ يُسْتَخْلَفَ) شَخْصٌ (فِي أَمْرٍ خَاصٍّ: كَسَمَاعِ بَيِّنَةٍ فَيَكْفِي عِلْمُهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ) أَيْ الْأَمْرِ الْخَاصِّ مِنْ شَرَائِطِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ وَأَقَرَّاهُ وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُ الْمَتْنِ بِاشْتِرَاطِهِ، أَيْضًا بِأَنَّ خِلَافَ الِاسْتِخْلَافِ يَجْرِي أَيْضًا فِي الْأَمْرِ الْخَاصِّ وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ، لَكِنْ قَطَعَ الْقَفَّالُ بِالْجَوَازِ، وَفِي كَلَامِ الرَّوْضَةِ مَا يُوَافِقُهُ وَحَيْثُ جَازَ الِاسْتِخْلَافُ فَاسْتَخْلَفَ شَافِعِيٌّ مُخَالِفًا أَوْ بِالْعَكْسِ جَازَ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَيَحْكُمَ) الْخَلِيفَةُ (بِاجْتِهَادِهِ) إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا (أَوْ بِاجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ) بِفَتْحِ اللَّام بِخَطِّهِ (إنْ كَانَ مُقَلِّدًا) بِكَسْرِهَا حَيْثُ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْمُقَلِّدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وَالْحَقُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ وَالْمُقَلِّدُ مُلْحَقٌ بِمَنْ يُقَلِّدُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْكُمُ بِمُعْتَقِدِهِ فَلِذَلِكَ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَنْ اسْتَخْلَفَهُ (خِلَافَهُ) أَيْ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَهُ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِخْلَافُ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ إنَّمَا يَعْمَلُ بِاجْتِهَادِهِ أَوْ اجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَهُ الْإِمَامُ فِي تَوْلِيَةِ الْقَاضِي لَمْ تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ قَالَ: لَا تَحْكُمْ فِي كَذَا فِيمَا يُخَالِفُهُ فِيهِ جَازَ وَحَكَمَ فِي غَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَوَادِثِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَحْكُمْ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ.
المتن: وَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَانِ رَجُلًا فِي غَيْرِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَفِي قَوْلٍ لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: بِشَرْطِ عَدَمِ قَاضٍ بِالْبَلَدِ. وَقِيلَ يَخْتَصُّ بِمَالٍ دُونَ قِصَاصٍ وَنِكَاحٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ إلَّا عَلَى رَاضٍ بِهِ فَلَا يَكْفِي رِضَا قَاتِلٍ فِي ضَرْبِ دِيَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا بَعْدَ الْحُكْمِ فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ) (حَكَّمَ) بِكَافٍ مُشَدَّدَةٍ (خَصْمَانِ رَجُلًا) غَيْرَ قَاضٍ (فِي غَيْرِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى) مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ (جَازَ مُطْلَقًا) عَلَى التَّفَاصِيلِ الْآتِيَةِ (بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ) وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ لِجَمْعٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَكَانَ إجْمَاعًا. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ خَصْمَانِ يُوهِمُ اعْتِبَارَ الْخُصُومَةِ، وَلَيْسَ مُرَادًا. فَإِنَّ التَّحْكِيمَ يَجْرِي فِي النِّكَاحِ. فَلَوْ قَالَ: اثْنَانِ كَانَ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ مَزِيدٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِيهَا، وَلَوْ قَالَ: فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ لِلَّهِ لِيَتَنَاوَلَ التَّعْزِيرَ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُ كَالْحَدِّ فِي ذَلِكَ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ عَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ أَهْلٍ، فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ قَطْعًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِيَّةِ الْأَهْلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ: وَيُشْتَرَطُ فِي صِفَةِ الْقَاضِي. نَعَمْ يُسْتَثْنَى التَّحْكِيمُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ تَحْكِيمُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا كَمَا مَرَّ ذَلِكَ فِي بَابِهِ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ جَوَازِ التَّحْكِيمِ الْوَكِيلَيْنِ، فَلَا يَكْفِي تَحْكِيمُهُمَا، بَلْ الْمُعْتَبَرُ تَحْكِيمُ الْمُوَكِّلَيْنِ وَالْوَلِيَّيْنِ، فَلَا يَكْفِي تَحْكِيمُهُمَا إذَا كَانَ مَذْهَبُ الْمُحَكِّمِ يَضُرُّ بِأَحَدِهِمَا، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ لَا يَكْفِي رِضَاهُ إذَا كَانَ مَذْهَبُ الْمُحَكِّمِ يَضُرُّ بِغُرَمَائِهِ، وَالْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَعَامِلُ الْقِرَاضِ لَا يَكْفِي تَحْكِيمُهُمَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْمَالِكِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ لَا أَثَرَ لِتَحْكِيمِهِ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ (وَفِي قَوْلٍ) مِنْ طَرِيقٍ (لَا يَجُوزُ) التَّحْكِيمُ مُطْلَقًا لِمَا فِيهِ مِنْ الِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ (وَقِيلَ) أَيْ وَفِي وَجْهٍ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ (بِشَرْطِ عَدَمِ قَاضٍ بِالْبَلَدِ) لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ حِينَئِذٍ (وَقِيلَ) أَيْ وَفِي وَجْهٍ مِنْ طَرِيقٍ (يَخْتَصُّ) جَوَازُ التَّحْكِيمِ (بِمَالٍ) لِأَنَّهُ أَخَفُّ (دُونَ قِصَاصٍ وَنِكَاحٍ وَنَحْوِهِمَا) كَلِعَانٍ وَحَدِّ قَذْفٍ لِخَطَرِ أَمْرِهَا فَتُنَاطُ بِنَظَرِ الْقَاضِي وَمَنْصِبِهِ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الِاخْتِصَاصِ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ حُكْمُهُ فِي مَالٍ صَحَّ فِي غَيْرِهِ كَالْمُوَلَّى مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ. تَنْبِيهٌ: لَا يَأْتِي التَّحْكِيمُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ لَيْسَ لَهَا طَالِبٌ مُعَيَّنٌ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّ الَّذِي لَا طَالِبَ لَهُ مُعَيَّنٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ (وَ) الْمُحَكَّمُ (لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ إلَّا عَلَى رَاضٍ بِهِ) قَبْلَ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ رِضَا الْخَصْمَيْنِ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْوِلَايَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِهِ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ اشْتِرَاطِ الرِّضَا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ الْقَاضِي، فَلَوْ تَحَاكَمَ الْقَاضِي مَعَ شَخْصٍ عِنْدَ مُحَكَّمٍ لَمْ يُشْتَرَطْ رِضَا الْآخَرِ عَلَى الْمَذْهَبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَوْلِيَةٌ، وَرَدَّهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِأَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ وَغَيْرَهُ قَالُوا: لَيْسَ التَّحْكِيمُ تَوْلِيَةٌ، فَلَا يَحْسُنُ الْبِنَاءُ،. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّ هَذَا إذَا صَدَرَ التَّحْكِيمُ مِنْ غَيْرِ قَاضٍ فَيَحْسُنُ الْبِنَاءُ (فَلَا يَكْفِي رِضَا قَاتِلٍ) بِحُكْمِهِ (فِي ضَرْبِ دِيَةٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ) بَلْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَاخَذُونَ بِإِقْرَارِ الْجَانِي فَكَيْفَ يُؤَاخَذُونَ بِرِضَاهُ. وَيُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الرِّضَا إلَى تَمَامِ الْحُكْمِ (وَ) حِينَئِذٍ (إنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ) تَمَامِ (الْحُكْمِ) وَلَوْ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالشُّرُوعِ فِيهِ (امْتَنَعَ الْحُكْمُ) لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ الرِّضَا (وَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا بَعْدَ الْحُكْمِ فِي الْأَظْهَرِ) كَحُكْمِ الْمُوَلَّى مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ رِضَاهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ فَكَذَا فِي لُزُومِهِ. تَنْبِيهٌ: لَيْسَ لَلْمُحَكَّمِ أَنْ يَحْبِسَ، بَلْ غَايَتُهُ الْإِثْبَاتُ وَالْحُكْمُ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّرْسِيمُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ نَقْلًا عَنْ الْغَزَالِيِّ: وَإِذَا حَكَمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَمْ يَسْتَوْفِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّمُ أُبَّهَةَ الْوِلَايَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ وَحَكَمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ فَلَهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَجْلِسِ خَاصَّةً، إذْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ: بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَالْقَاضِي بَعْدَ الْعَزْلِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَا يَحْكُمُ لِنَحْوِ وَلَدِهِ مِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي حَقِّهِ وَلَا عَلَى عَدُوِّهِ كَمَا فِي الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَمْضِي حُكْمُ الْمُحَكَّمِ كَالْقَاضِي، وَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ إلَّا بِمَا يُنْقَضُ بِهِ قَضَاءُ غَيْرِهِ. فَرْعٌ: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَاكَمَا إلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَجْتَمِعَا، وَيُفَارِقُ تَوْلِيَةُ قَاضِيَيْنِ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْحُكْمِ لِظُهُورِ الْفَرْقِ، قَالَهُ فِي الْمَطْلَبِ.
المتن: وَلَوْ نَصَبَ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَخَصَّ كُلًّا بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعٍ جَازَ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَخُصَّ فِي الْأَصَحِّ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ) (نَصَبَ) الْإِمَامُ بِبَلَدٍ (قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَخَصَّ كُلًّا بِمَكَانٍ) مِنْهُ يَحْكُمُ فِيهِ (أَوْ زَمَانٍ) كَيَوْمِ كَذَا (أَوْ نَوْعٍ) مِنْ الْحُكْمِ كَأَنْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا يَحْكُمُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْآخَرَ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ (جَازَ) لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا. تَنْبِيهٌ: شَمِلَ كَلَامُهُ مَا لَوْ وَلَّى الْإِمَامُ قَاضِيًا يَحْكُمُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَآخَرَ يَحْكُمُ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اخْتَصَمَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ لَمْ يَفْصِلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْخُصُومَةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ثَالِثٍ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَقِسْ بِهَذَا مَا يُشْبِهُهُ (وَكَذَا إنْ لَمْ يَخُصَّ) كُلًّا مِنْ الْقَاضِيَيْنِ بِمَا ذَكَرَ بَلْ عَمَّمَ وِلَايَتَهُمَا فَيَجُوزُ (فِي الْأَصَحِّ) كَنَصْبِ الْوَصِيَّيْنِ وَالْوَكِيلَيْنِ، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ النَّصِّ، وَنَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ إلَى الْأَكْثَرِينَ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ (إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ) فَلَا يَجُوزُ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْخِلَافِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا تَنْفَصِلُ الْخُصُومَاتُ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَلَّى الْإِمَامُ مُقَلِّدَيْنِ لِإِمَامٍ وَاحِدٍ، وَقُلْنَا: تَجُوزُ وِلَايَةُ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَافٍ؛ لِأَنَّ إمَامَهُمَا وَاحِدٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ لِلْإِمَامِ الْوَاحِدِ قَوْلَانِ فَيَرَى أَحَدُهُمَا الْعِلْمَ بِقَوْلٍ وَالْآخَرُ بِخِلَافِهِ فَيُؤَدِّي إلَى النِّزَاعِ وَالِاخْتِلَافِ. أَجَابَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيّ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ ظَاهِرٌ فِي الْمُقَلِّدِ الصِّرْفِ، وَعِنْدَ تَصْرِيحِ ذَلِكَ الْإِمَامِ بِتَصْحِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا إذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالتَّرْجِيحِ وَإِلْحَاقِ مَا لَمْ يَقِفَا فِيهِ عَلَى نَصٍّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ وَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَهَهُنَا يَقَعُ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ وَالِاخْتِلَافُ وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ فَيَتَّجِهُ الْمَنْعُ أَيْضًا. أَمَّا إذَا أَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يَشْرِطْ اسْتِقْلَالَهُمَا وَلَا اجْتِمَاعَهُمَا فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى إثْبَاتِ الِاسْتِقْلَالِ تَنْزِيلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى مَا يَجُوزُ، وَيُفَارِقُ نَظِيرُهُ فِي الْوَصِيَّيْنِ بِأَنَّ تَعْيِينَهُمَا بِشَرْطِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى التَّصَرُّفِ جَائِزٌ. فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَاضِيَيْنِ، وَإِنْ طَلَبَ الْقَاضِيَانِ خَصْمًا بِطَلَبِ خَصْمَيْهِ لَهُ مِنْهُمَا أَجَابَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بِالطَّلَبِ، فَإِنْ طَلَبَاهُ مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي اخْتِيَارِ الْقَاضِيَيْنِ. أُجِيبَ الطَّالِبُ لِلْحَقِّ دُونَ الْمَطْلُوبِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرُّويَانِيُّ، فَإِنْ تُسَاوَيَا بِأَنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَالِبًا وَمَطْلُوبًا كَتَحَاكُمِهِمَا فِي قِسْمَةِ مِلْكٍ أَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ صَدَاقٍ اخْتِلَافًا يُوجِبُ تَخَالُفَهُمَا تَحَاكَمَا عِنْدَ أَقْرَبِ الْقَاضِيَيْنِ إلَيْهِمَا، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ إلَيْهِمَا عَمِلَ بِالْقُرْعَةِ، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى طُولِ النِّزَاعِ. تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي نَصْبِ الْقَاضِيَيْنِ يَجْرِي أَيْضًا فِي أَكْثَرَ مِنْ قَاضِيَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: بِشَرْطِ أَنْ يَقِلَّ عَدَدُهُمْ، فَإِنْ كَثُرَ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا وَلَمْ يَحُدُّوا الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ بِشَيْءٍ. قَالَ فِي الْمَطْلَبِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُنَاطَ ذَلِكَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ا هـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ. تَتِمَّةٌ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ قَلَّدَهُ: أَيْ الْإِمَامُ بَلَدًا وَسَكَتَ عَنْ نَوَاحِيهَا، فَإِنْ جَرَى الْعُرْفُ بِإِفْرَادِهَا عَنْهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي وِلَايَتِهِ، وَإِنْ جَرَتْ بِإِضَافَتِهَا دَخَلَتْ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُرْفُ رُوعِيَ أَكْثَرُهَا عُرْفًا، فَإِنْ اسْتَوَيَا رُوعِيَ أَقْرَبُهُمَا عَهْدًا.
المتن: جُنَّ قَاضٍ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ عَمِيَ أَوْ ذَهَبَتْ أَهْلِيَّةُ اجْتِهَادِهِ وَضَبْطِهِ بِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَكَذَا لَوْ فُسِّقَ فِي الْأَصَحِّ، فَإِنْ زَالَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ لَمْ تَعُدْ وِلَايَتُهُ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: [ فَصْلٌ ] فِيمَا يَعْرِضُ لِلْقَاضِي مِمَّا يَقْتَضِي عَزْلَهُ أَوْ انْعِزَالَهُ (جُنَّ قَاضٍ) أَطْبَقَ جُنُونُهُ أَوْ تَقَطَّعَ كَمَا يَقْتَضِيه إطْلَاقُهُمْ، وَفِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا فِي بَابِ الْبُغَاةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ وَزَمَنُ الْإِفَاقَةِ أَكْثَرُ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ فِيهِ الْقِيَامُ بِالْأُمُورِ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ. قِيلَ: وَقِيَاسُهُ فِي الْقَاضِي كَذَلِكَ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي (أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ عَمِيَ) وَفِي مَعْنَى الْعَمَى الْخَرَسُ وَالصَّمَمُ (أَوْ ذَهَبَتْ أَهْلِيَّةُ اجْتِهَادِهِ وَضَبْطِهِ بِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ) مُخِلٍّ بِالضَّبْطِ (لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ) فِي حَالٍ مِمَّا ذُكِرَ لِانْعِزَالِهِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَمْنَعُ مِنْ وِلَايَةِ الْأَبِ، فَالْحَاكِمُ أَوْلَى. تَنْبِيهَاتٌ: أَحَدُهَا يُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ نُفُوذِ قَضَاءِ الْأَعْمَى مَا لَوْ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ وَتَعْدِيلَهَا ثُمَّ عَمِيَ فَإِنَّ قَضَاءَهُ يَنْفُذُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ إنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إشَارَةٍ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا انْعَزَلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، بَلْ لَوْ عَادَ بَصَرُهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَزِلْ لِأَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ لِمَا عَادَ كَمَا مَرَّ ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: ذَهَبَتْ أَهْلِيَّةُ اجْتِهَادِهِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ. أَمَّا الْمُقَلِّدُ لِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ وَأَوْلَى. قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الرُّتْبَةَ وَهُوَ الْمَوْجُودُ الْيَوْمَ غَالِبًا فَلَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا، وَيُشْبِهُ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ أَدْنَى تَغَفُّلٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ فَيُقْدَحُ فِي وِلَايَتِهِ مَا عَسَاهُ يُغْتَفَرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: الْمَرَضُ الْمُعْجِزُ لَهُ عَنْ النَّهْضَةِ وَالْحُكْمِ يَنْعَزِلُ بِهِ إذَا كَانَ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَإِنْ رُجِيَ أَوْ عَجَزَ عَنْ النَّهْضَةِ دُونَ الْحُكْمِ لَمْ يَنْعَزِلْ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. الرَّابِعُ لَوْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ قَاضِيًا، فَفِي الْبَحْرِ يَنْعَزِلُ، وَمَحِلُّهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إذَا تَعَمَّدَ وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي الْإِخْفَاءِ. الْخَامِسُ: لَوْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ كَوْنَهُ قَاضِيًا لَمْ يَنْعَزِلْ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (وَكَذَا لَوْ فُسِّقَ) لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَيَنْعَزِلُ (فِي الْأَصَحِّ) لِوُجُودِ الْمُنَافِي لِلْوِلَايَةِ. وَالثَّانِي يَنْفُذُ كَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِحُدُوثِ الْفِتَنِ وَاضْطِرَابِ الْأُمُورِ. تَنْبِيهٌ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُكَرَّرَةٌ لِتَقَدُّمِهَا فِي فَصْلِ الْإِيصَاءِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: ذُكِرَتْ هُنَاكَ لِلِانْعِزَالِ، وَهُنَا لِعَدَمِ نُفُوذِ الْحُكْمِ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلِانْعِزَالِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ. تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ قَاضِي الضَّرُورَةِ. أَمَّا هُوَ إذَا وَلَّاهُ ذُو شَوْكَةٍ وَالْقَاضِي فَاسِقٌ فَزَادَ فِسْقُهُ، فَلَا يَنْعَزِلُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَإِنْ قِيلَ: فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ إذَا أَحْدَثَ بَعْدَ إحْرَامِهِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الرَّاجِحِ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا بَطَلَتْ لِشُمُولِ النَّصِّ لَهَا، وَهُوَ حَتَّى يَجِدَ رِيحًا أَوْ يَسْمَعَ صَوْتًا. ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِفَرْعٍ مِنْ قَاعِدَةٍ أَنَّ الزَّائِلَ الْعَائِدَ كَاَلَّذِي لَمْ يَعُدْ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ زَالَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ) السَّابِقَةُ مِنْ جُنُونٍ وَمَا بَعْدَهُ ثُمَّ عَادَتْ الْأَهْلِيَّةُ (لَمْ تَعُدْ وِلَايَتُهُ) بِلَا تَوْلِيَةٍ (فِي الْأَصَحِّ) كَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا بَطَلَ لَمْ يَنْقَلِبْ إلَى الصِّحَّةِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ زَالَ الْمَانِعُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِي؛ تَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ كَالْأَبِ إذَا جُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ، أَوْ فَسَقَ ثُمَّ تَابَ. تَنْبِيهٌ: لَوْ زَالَتْ أَهْلِيَّةُ النَّاظِرِ عَلَى الْوَقْفِ ثُمَّ عَادَتْ، فَإِنْ كَانَ نَظَرُهُ مَشْرُوطًا فِي أَصْلِ الْوَقْفِ عَادَتْ وِلَايَتُهُ جَزْمًا كَمَا أَفْتَى بِهِ الْمُصَنِّفُ لِقُوَّتِهِ، إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَزْلُهُ، وَإِلَّا فَلَا يَعُودُ إلَّا بِتَوْلِيَةٍ جَدِيدَةٍ.
المتن: وَلِلْإِمَامِ عَزْلُ قَاضٍ ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ، وَهُنَاكَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ وَفِي عَزْلِهِ بِهِ مَصْلَحَةٌ كَتَسْكِينِ فِتْنَةٍ، وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ يَنْفُذُ الْعَزْلُ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَ) يَجُوزُ (لِلْإِمَامِ) (عَزْلُ قَاضٍ ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ) لَا يَقْتَضِي انْعِزَالَهُ، وَيَكْفِي فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْوَسِيطِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ، وَمِنْ الظَّنِّ كَثْرَةُ الشَّكَاوَى مِنْهُ، بَلْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إذَا كَثُرَتْ الشَّكَاوَى مِنْهُ وَجَبَ عَزْلُهُ ا هـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَلَ إمَامًا يُصَلِّي بِقَوْمٍ بَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ وَقَالَ: لَا يُصَلِّي بِهِمْ بَعْدَهَا أَبَدًا} وَإِذَا جَازَ هَذَا فِي إمَامِ الصَّلَاةِ جَازَ فِي الْقَاضِي، بَلْ أَوْلَى. نَعَمْ إنْ كَانَ مُتَعَيَّنًا لِلْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ عَزْلُهُ، وَلَوْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِلْ. أَمَّا ظُهُورُ خَلَلٍ يَقْتَضِي انْعِزَالَهُ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عَزْلٍ لِانْعِزَالِهِ بِهِ (أَوْ لَمْ يَظْهَرْ) مِنْهُ خَلَلٌ (وَ) لَكِنَّ (هُنَاكَ) مَنْ هُوَ (أَفْضَلُ مِنْهُ) تَحْصِيلًا لِتِلْكَ الْمَزِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ وِلَايَةَ الْمَفْضُولِ لَا تَنْعَقِدُ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قَدْ تَمَّتْ فَلَا يُقْدَحُ فِيهَا مَا يَحْدُثُ (أَوْ) كَانَ هُنَاكَ (مِثْلُهُ) أَيْ أَوْ دُونَهُ (وَ) لَكِنْ (فِي عَزْلِهِ بِهِ) لِلْمُسْلِمِينَ (مَصْلَحَةٌ كَتَسْكِينِ فِتْنَةٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي عَزْلِهِ مَصْلَحَةٌ (فَلَا) يَجُوزُ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ وَتَصَرُّفُ الْإِمَامِ يُصَانُ عَنْهُ. وَهَذَا قَيْدٌ فِي الْمِثْلِ لَا فِي الْأَفْضَلِ، وَقَيَّدَهُ فِي الْمُحَرَّرِ أَيْضًا بِعَدَمِ الْفِتْنَةِ فِي عَزْلِهِ، فَقَالَ: أَوْ مِثْلُهُ، وَفِي عَزْلِهِ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ، وَلَيْسَ فِي عَزْلِهِ فِتْنَةٌ وَلَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ، وَفِي عَزْلِهِ بِهِ مَصْلَحَةٌ فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَصْلَحَةً مِنْ وَجْهِ آخَرَ، وَ (لَكِنْ يَنْفُذُ الْعَزْلُ فِي الْأَصَحِّ) مُرَاعَاةً لِطَاعَةِ الْإِمَامِ. وَالثَّانِي: لَا لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي الْأَوَّلِ وَلَا مَصْلَحَةَ فِي عَزْلِهِ. أَمَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ، وَمَتَى كَانَ الْعَزْلُ فِي مَحِلِّ النَّظَرِ وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ وَيَحْكُمُ بِنُفُوذِهِ.
المتن: وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ بُلُوغِهِ خَبَرَ عَزْلِهِ.
الشَّرْحُ: وَلَوْ وَلَّى الْإِمَامُ قَاضِيًا ظَانًّا مَوْتَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ أَوْ فِسْقَهُ فَبَانَ حَيًّا أَوْ عَدْلًا لَمْ يَقْدَحْ فِي وِلَايَةِ الثَّانِي كَذَا قَالَاهُ، وَقَضِيَّتُهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ انْعِزَالُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَهُ لَا أَنَّهُ ضَمَّهُ إلَيْهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبَغَوِيّ فِي تَعْلِيقِهِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْقَفَّالِ عَدَمُ انْعِزَالِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَوْلِيَةَ قَاضٍ بَعْدَ قَاضٍ هَلْ هِيَ عَزْلٌ لِلْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ وَلِيَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ قَاضِيَانِ ا هـ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَزْلٍ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الرَّوْضَةِ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ شَخْصًا، ثُمَّ وَكَّلَ آخَرَ فَلَيْسَ بِعَزْلٍ لِلْأَوَّلِ قَطْعًا مَعَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ أَضْعَفُ مِنْ تَصَرُّفِ الْقَاضِي، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْإِمَامِ عَنْ الْقَاضِي مَعَ خَلِيفَتِهِ فَلَهُ عَزْلُهُ بِلَا مُوجِبٍ بِنَاءً عَلَى انْعِزَالِهِ بِمَوْتِهِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالسُّبْكِيُّ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ: وَلِلْإِمَامِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي عَزْلُ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ كَالْوَكِيلِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: إلَّا أَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَلَا يَعْزِلُ نَفْسَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلَا يَنْعَزِلُ. تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ جَوَازِ الْعَزْلِ مَحِلُّهُ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ. أَمَّا الْخَاصُّ. فَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ نَقْلًا عَنْ إفْتَاءِ جَمْعٍ مُتَأَخِّرِينَ: وَلَا يَنْعَزِلُ أَرْبَابُ الْوَظَائِفِ الْخَاصَّةِ كَالْإِمَامَةِ، وَالْأَذَانِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَالتَّدْرِيسِ، وَالطَّلَبِ، وَالنَّظَرِ بِالْعَزْلِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَقَاسَهُ عَلَى الْجُنْدِ الْمُثْبَتِينَ فِي الدِّيوَانِ، وَفِيهِ كَلَامٌ لِلسُّبْكِيِّ ذَكَرْتُهُ فِي بَابِ الْوَقْفِ (وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ) أَيْ الْقَاضِيَ (لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ بُلُوغِهِ خَبَرَ عَزْلِهِ) وَفِي قَوْلِهِ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِي أَنَّهُ يَنْعَزِلُ كَأَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَكِيلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَوَّلِ عِظَمُ الضَّرَرِ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، وَقَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَلَوْ عَلِمَ الْخَصْمُ أَنَّهُ مَعْزُولٌ لَمْ يُنَفِّذْ حُكْمَهُ لَهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَاكِمٍ بَاطِنًا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي النِّكَاحِ. نَعَمْ لَوْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ كَانَ كَالتَّحْكِيمِ. تَنْبِيهٌ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ بُلُوغُ خَبَرِ الْعَزْلِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يَنْبَغِي إلْحَاقُ ذَلِكَ بِخَبَرِ التَّوْلِيَةِ أَيْ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، بَلْ أَوْلَى حَتَّى يُعْتَبَرَ شَاهِدَانِ وَتَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ، وَلَا يَكْفِي الْكِتَابُ الْمُجَرَّدُ فِي الْأَصَحِّ فِيهِمَا. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكْفِي خَبَرُ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ عَبْدًا وَامْرَأَةً ا هـ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّوْلِيَةِ وَالْعَزْلِ، بِأَنَّ التَّوْلِيَةَ فِيهَا إقْدَامٌ عَلَى الْأَحْكَامِ فَيُحْتَاطُ لَهَا، وَالْعَزْلُ فِيهِ تَوَقُّفٌ عَنْهَا، وَهُوَ أَحْوَطُ. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: لَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَلَمْ يَبْلُغْ نُوَّابَهُ لَا يَنْعَزِلُونَ حَتَّى يَبْلُغَهُمْ الْخَبَرُ وَتَبْقَى وِلَايَةُ أَصْلِهِمْ مُسْتَمِرَّةً حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَيَسْتَمِرُّ مَا رَتَّبَ لَهُ عَلَى سَدِّ الْوَظِيفَةِ لِسَدِّهَا بِنُوَّابِهِ. قَالَ: وَالْقِيَاسُ فِي عَكْسِهِ -: أَيْ فِيمَا لَوْ بُلِّغَ النَّائِبُ قَبْلَ أَصْلِهِ أَنَّ النَّائِبَ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَبْلُغَ أَصْلَهُ خَبَرُ الْعَزْلِ وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ كَمَا يَنْفُذُ حُكْمُ أَصْلِهِ. قَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ ا هـ. وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ فِي الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ فِي الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ دَخَلَ فِي عُمُومِ كَلَامِ الْأَصْحَابِ حَتَّى يَبْلُغَهُ الْخَبَرُ وَالنَّائِبُ قَاضٍ فَيَنْعَزِلُ بِبُلُوغِ الْخَبَرِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَلَوْ وَلَّى السُّلْطَانُ قَاضِيًا بِبَلَدٍ فَحَكَمَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ السُّلْطَانَ وَلَّاهُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْفُذَ حُكْمُهُ: كَمَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِبَيْعِ شَيْءٍ فَتَصَرَّفَ الْوَكِيلُ وَبَاعَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ وَغَيْرَهُ قَالُوا: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ فَبَانَ مَيِّتًا. ا هـ. وَالظَّاهِرُ عَدَمُ نُفُوذِ حُكْمِهِ لِاشْتِرَاطِ قَبُولٍ مِنْ الْقَاضِي وَأَخْذًا مِمَّا بَحَثَهُ فِي قَاضٍ أَقْدَمَ عَلَى تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا فِي غَيْرِ مَحِلِّ وِلَايَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا بِمَحِلِّ وِلَايَتِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، قَالَ: لِأَنَّهُ بِالْإِقْدَامِ يَفْسُقُ وَيَخْرُجُ عَنْ الْوِلَايَةِ.
المتن: وَإِذَا كَتَبَ الْإِمَامُ إلَيْهِ إذَا قَرَأْتَ كِتَابِي فَأَنْتَ مَعْزُولٌ فَقَرَأَهُ انْعَزَلَ، وَكَذَا إنْ قُرِئَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَإِذَا) عَلَّقَ الْإِمَامُ عَزْلَ الْقَاضِي بِقِرَاءَةِ كِتَابٍ كَأَنْ (كَتَبَ الْإِمَامُ إلَيْهِ إذَا قَرَأْتَ كِتَابِي فَأَنْتَ مَعْزُولٌ فَقَرَأَهُ انْعَزَلَ) لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَكَذَا لَوْ طَالَعَهُ وَفَهِمَ مَا فِيهِ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ (وَكَذَا إنْ قُرِئَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّ الْقَصْدَ إعْلَامُهُ بِالْعَزْلِ لَا قِرَاءَتُهُ بِنَفْسِهِ، وَالثَّانِي: لَا يَنْعَزِلُ نَظَرًا إلَى صُورَةِ اللَّفْظِ، وَلَوْ كَتَبَ إلَيْهِ عَزَلْتُكَ أَوْ أَنْتَ مَعْزُولٌ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَى الْقِرَاءَةِ لَمْ يَنْعَزِلْ مَا لَمْ يَأْتِهِ الْكِتَابُ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ. تَنْبِيهٌ: لَوْ جَاءَهُ بَعْضُ الْكِتَابِ فَقِيَاسُ مَا قَالُوهُ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ إنْ انْمَحَى مَوْضِعُ الْعَزْلِ لَا يَنْعَزِلُ وَإِلَّا انْعَزَلَ.
المتن: وَيَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَانْعِزَالِهِ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي شَغْلٍ مُعَيَّنٍ كَبَيْعِ مَالِ مَيِّتٍ وَالْأَصَحُّ انْعِزَالُ نَائِبِهِ الْمُطْلَقِ إنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، أَوْ قِيلَ لَهُ: اسْتَخْلِفْ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ أَطْلَقَ، فَإِنْ قَالَ اسْتَخْلِفْ عَنِّي فَلَا.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ انْعِزَالِ نُوَّابِ الْقَاضِي. فَقَالَ (وَيَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ) أَيْ الْقَاضِي (وَانْعِزَالِهِ) نَائِبُهُ الْمُقَيَّدُ، وَهُوَ كُلُّ (مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي شَغْلٍ مُعَيَّنٍ كَبَيْعِ مَالِ مَيِّتٍ) أَوْ غَائِبٍ وَسَمَاعِ شَهَادَةٍ فِي حَادِثَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ كَالْوَكِيلِ، وَالْمُرَادُ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ سُرَاقَةَ، وَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ نَصَّبَ نَائِبًا عَنْ الْقَاضِي لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْإِذْنُ مُقَيَّدًا بِالنِّيَابَةِ وَلَمْ يَبْقَ الْأَصْلُ لَمْ يَبْقَ النَّائِبُ. ا هـ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَزْلٍ، بَلْ يَنْتَهِي بِهِ الْقَضَاءُ (وَالْأَصَحُّ انْعِزَالُ نَائِبِهِ الْمُطْلَقِ) بِمَا ذَكَرَهُ، وَهَذَا (إنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ) لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي هَذِهِ لِلْمُعَاوَنَةِ، وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ فَبَطَلَتْ الْمُعَاوَنَةُ (أَوْ) إنْ (قِيلَ لَهُ) أَيْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ (اسْتَخْلِفْ عَنْ نَفْسِكَ، أَوْ أَطْلَقَ) لَهُ الِاسْتِخْلَافَ لِظُهُورِ غَرَضِ الْمُعَاوَنَةِ وَبُطْلَانِهَا بِبُطْلَانِ وِلَايَتِهِ. تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ انْعِزَالِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ، فَإِنْ قَالَ: اسْتَخْلِفْ فُلَانًا فَهُوَ كَقَوْلِهِ اسْتَخْلِفْ عَنِّي فَلَا يَنْعَزِلُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ نَظَرَهُ بِالتَّعْيِينِ وَجَعَلَهُ سَفِيرًا، أَشَارَ إلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ (فَإِنْ قَالَ:) أَيْ قَالَ الْإِمَامُ لَهُ (اسْتَخْلِفْ عَنِّي فَلَا) يَنْعَزِلُ الْخَلِيفَةُ بِمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْإِمَامِ. وَالْأَوَّلُ سَفِيرٌ فِي التَّوْلِيَةِ. وَالثَّانِي يَنْعَزِلُ مُطْلَقًا كَالْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ. وَالثَّالِثُ: لَا مُطْلَقًا رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ. تَنْبِيهٌ: مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ انْعِزَالُ نُوَّابِ قَاضِي الْإِقْلِيمِ الْكَبِيرِ بِمَوْتِهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْإِمَامُ اسْتَخْلِفْ عَنِّي وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: نُوَّابُ الْقَاضِي الْكَبِيرِ كَقَاضِي خُرَاسَانَ يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِهِ، وَعَزْلُهُ عَلَى الصَّحِيحِ بِخِلَافِ قُضَاةِ الْإِمَامِ. قَالَ: وَجَعَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ قُضَاةُ وَالِي الْإِقْلِيمِ كَقُضَاةِ الْإِمَامِ، مَحِلُّهُ فِيمَا إذَا صَرَّحَ الْإِمَامُ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ اقْتَضَاهُ الْعُرْفُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ كَالْمَنْصُوبِينَ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ.
المتن: وَلَا يَنْعَزِلُ قَاضٍ بِمَوْتِ الْإِمَامِ وَلَا نَاظِرُ يَتِيمٍ وَوَقْفٍ بِمَوْتِ قَاضٍ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يَنْعَزِلُ قَاضٍ) وَغَيْرُهُ مِمَّنْ وَلِيَ أَمْرًا عَامًّا كَوَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ (بِمَوْتِ الْإِمَامِ) وَانْعِزَالِهِ لِشِدَّةِ الضَّرَرِ فِي تَعْطِيلِ الْحَوَادِثِ، وَفَرَّقَ فِي الْحَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلِيفَةِ الْقَاضِي بِأَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَنِيبُ الْقُضَاةَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِ وَالْقَاضِي يَسْتَنِيبُ خَلِيفَتَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَانْعَزَلَ بِمَوْتِهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ خَلِيفَتَهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ عَزْلُ الْقَاضِي بِغَيْرِ مُوجِبٍ ا هـ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَأَفْتَى بَعْضُ الْعَصْرِيِّينَ بِانْعِزَالِ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ بِمَوْتِ السُّلْطَانِ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا جُمُودٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَذُهُولٌ عَنْ الْمَعْنَى، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ بَلْ غَلَطٌ (وَلَا) يَنْعَزِلُ (نَاظِرُ يَتِيمٍ، وَ) نَاظِرُ (وَقْفٍ بِمَوْتِ قَاضٍ) وَانْعِزَالِهِ لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ أَبْوَابُ الْمَصَالِحِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ بِبَلَدِ كَذَا فَفَوَّضَ النَّظَرَ فِيهِ لِوَاحِدٍ. ثُمَّ تَوَلَّى قَاضٍ جَدِيدٌ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: الظَّاهِرُ انْعِزَالُهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ آلَ إلَى الْقَاضِي الْجَدِيدِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ كَمَا لَوْ شَرَطَ النَّظَرَ لِزَيْدٍ. ثُمَّ لِعَمْرٍو فَنَصَّبَ زَيْدٌ لِنَفْسِهِ نَائِبًا فِيهِ. ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ نَائِبُهُ لَا مَحَالَةَ وَيَصِيرُ النَّظَرُ لِعَمْرٍو، فَلْيُحْمَلْ إذًا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا إذَا آلَ النَّظَرُ إلَى الْقَاضِي لِكَوْنِ الْوَاقِفِ لَمْ يَشْرُطْ نَاظِرًا، أَوْ انْقَرَضَ مَنْ شَرَطَ لَهُ، أَوْ خَرَجَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ. قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ: وَيَقَعُ فِي كُتُبِ الْأَوْقَافِ كَثِيرًا. فَإِذَا انْقَرَضَتْ الذُّرِّيَّةُ يَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِحَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ بِبَلَدِ كَذَا يُوَلِّيهِ مَنْ شَاءَ مِنْ نُقَبَائِهِ وَنُوَّابِهِ فَإِذَا آلَ النَّظَرُ إلَى قَاضٍ فَوَلَّى النَّظَرَ لِشَخْصٍ، فَهَلْ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ ذَلِكَ الْقَاضِي أَوْ انْعِزَالِهِ، وَالْأَقْرَبُ عَدَمُ انْعِزَالِهِ.
المتن: وَلَا يَقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ انْعِزَالِهِ: حَكَمْت بِكَذَا، فَإِنْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ بِحُكْمِهِ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ، أَوْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ جَائِزِ الْحُكْمِ قُبِلَتْ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يَقْبَلُ) (قَوْلُهُ) أَيْ الْقَاضِي (بَعْدَ انْعِزَالِهِ) كُنْتُ (حَكَمْت بِكَذَا) لِفُلَانٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ حِينَئِذٍ، فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ، نَعَمْ لَوْ انْعَزَلَ بِالْعَمَى قَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا انْعَزَلَ بِالْعَمَى فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِبْصَارِ، وَقَوْلُهُ: حَكَمْتُ عَلَيْكَ بِكَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ: وَلَوْ قَالَ: صَرَفْتُ مَالَ الْوَقْفِ لِجِهَتِهِ أَوْ عِمَارَتِهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْحَالُ صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ (فَإِنْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ بِحُكْمِهِ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ)؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَالثَّانِي: يُقْبَلُ كَمَا لَوْ شَهِدَتْ الْمُرْضِعَةُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ وَلَمْ تُطَالِبْ بِأُجْرَةٍ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِعْلَهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْإِثْبَاتِ، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهَا عَلَى فِعْلِهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَزْكِيَتُهَا بِخِلَافِ الْقَاضِي فِيهِمَا، وَاحْتُرِزَ بِحُكْمِهِ عَمَّا لَوْ شَهِدَ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ بِكَذَا، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى إقْرَارٍ سَمِعَهُ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مَعَ آخَرَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَطْعًا، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَلَوْ حَذَفَهُ لَكَانَ أَوْلَى، قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ: (أَوْ) شَهِدَ (بِحُكْمِ حَاكِمٍ جَائِزِ الْحُكْمِ) وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى نَفْسِهِ (قُبِلَتْ) شَهَادَتُهُ (فِي الْأَصَحِّ) كَالْمُرْضِعَةِ إذَا شَهِدَتْ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ فِعْلَ نَفْسِهِ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ " جَائِزِ الْحُكْمِ " تَأْكِيدٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَحِلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي أَنَّهُ حُكْمُهُ، وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ جَزْمًا نَظَرًا لِبَقَاءِ التُّهْمَةِ، وَمَحِلُّهُ أَيْضًا إذَا قُلْنَا: لَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْحَاكِمِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُكْمِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُكُومَةِ حَاكِمٍ مِنْ الْحُكَّامِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ. أَمَّا إذَا قُلْنَا بِاشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا.
المتن: وَيُقْبَلُ، قَوْلُهُ قَبْلَ عَزْلِهِ: حَكَمْت بِكَذَا.
الشَّرْحُ: (وَيُقْبَلُ،) (قَوْلُهُ قَبْلَ عَزْلِهِ: حَكَمْت بِكَذَا) حَتَّى لَوْ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ نِسَاءُ الْقَرْيَةِ طَوَالِقُ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ قُبِلَ قَوْلُهُ بِلَا حُجَّةٍ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْشَاءِ حِينَئِذٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحِلُّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا مَا لَوْ أَسْنَدَهُ إلَى مَا قَبْلَ وِلَايَتِهِ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَمَا قَالُوهُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهَدِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ. أَمَّا غَيْرُهُمَا فَفِي قَبُولِهِ وَقْفَةٌ. وَقَدْ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ وَأَفْتَيْتُ فِيمَنْ سُئِلَ مِنْ قُضَاةِ الْعَصْرِ عَنْ مُسْتَنَدِ قَضَائِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ مَا لَيْسَ بِمُسْتَنَدٍ مُسْتَنَدًا كَمَا هُوَ كَثِيرٌ أَوْ غَالِبٌ. قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَحِلُّ مَا ذُكِرَ فِي قَرْيَةٍ أَهْلُهَا مَحْصُورُونَ. أَمَّا فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ كَبَغْدَادَ فَلَا لِأَنَّا نَقْطَعُ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ وَإِلَى مَا قَالَهُ يُشِيرُ تَعْبِيرُ الشَّيْخَيْنِ بِالْقَرْيَةِ.
المتن: فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحِلِّ وِلَايَتِهِ فَكَمَعْزُولٍ.
الشَّرْحُ: وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِكَذَا وَأَنْكَرَا لَمْ يَلْتَفِتْ لِإِنْكَارِهِمَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ (فَإِنْ كَانَ) أَيْ الْقَاضِي (فِي غَيْرِ مَحِلِّ وِلَايَتِهِ فَكَمَعْزُولٍ) فِي أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْشَاءِ ثَمَّ. تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِمَحِلِّ وِلَايَتِهِ بَلَدُ قَضَائِهِ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ الْمُعَدِّ لِلْحُكْمِ وَهُوَ خَطَأٌ صَرِيحٌ، نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفُ فِي الطَّبَقَاتِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُحِيطُ بِهَا السُّوَرُ وَالْبِنَاءُ الْمُتَّصِلُ دُونَ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَ الْقَاضِي امْرَأَةً فِي الْبَلَدِ وَهُوَ بِالْمَزَارِعِ أَوْ الْبَسَاتِينِ أَوْ عَكْسِهِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحِلِّ وِلَايَتِهِ. قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُكَّامِ يَتَسَاهَلُ فِي ذَلِكَ. وَالْأَحْوَطُ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْبَلَدِ ا هـ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَلَوْ قَالَ الْمَعْزُولُ لِلْأَمِينِ: أَعْطَيْتُك الْمَالَ أَيَّامَ قَضَائِي لِتَحْفَظَهُ لِفُلَانٍ، فَقَالَ الْأَمِينُ بَلْ لِفُلَانٍ صُدِّقَ الْمَعْزُولُ، وَهَلْ يَغْرَمُ الْأَمِينُ لِمَنْ عَيَّنَهُ هُوَ قَدْرُ ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمَنْعُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ الْأَمِينُ: لَمْ تُعْطِنِي شَيْئًا بَلْ هُوَ لِفُلَانٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِعْطَاءِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ أَذِنَ الْإِمَامُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ وِلَايَتِهِ حَيْثُمَا كَانَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحِلِّ وِلَايَتِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ، وَقَالَهُ فِي الذَّخَائِرِ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ أَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِكَذَا.
المتن: وَلَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَعْزُولٍ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ بِرِشْوَةٍ أَوْ شَهَادَةِ عَبْدَيْنِ مَثَلًا أُحْضِرَ وَفُصِلَتْ خُصُومَتُهُمَا.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ) (ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَعْزُولٍ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ بِرِشْوَةٍ) أَيْ عَلَى سَبِيلِ الرِّشْوَةِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ، وَهِيَ بِتَثْلِيثِ الرَّاءِ دَفَعَ لِمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْحَقِّ أَوْ يَمْتَنِعْ عَنْ الْحُكْمِ بِهِ (أَوْ شَهَادَةِ عَبْدَيْنِ مَثَلًا) أَيْ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَأَعْطَاهُ لِفُلَانٍ، وَمُعْتَقَدُهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا (أُحْضِرَ وَفُصِلَتْ خُصُومَتُهُمَا) كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ غَصْبًا لِتَعَذُّرِ إثْبَاتِ ذَلِكَ بِغَيْرِ حُضُورِهِ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَلَا يَحْضُرَ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَطْلَبِ، وَإِذَا حَضَرَ فَإِنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ أَقَرَّ حُكِمَ عَلَيْهِ وَإِلَّا صُدِّقَ بِيَمِينِهِ كَسَائِرِ الْأُمَنَاءِ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِمَا جِنَايَةً وَلِعُمُومِ خَبَرِ {الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ} وَقِيلَ: بِلَا يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ أَمِينُ الشَّرْعِ فَيُصَانُ مَنْصِبُهُ عَنْ التَّحْلِيفِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا فِيمَنْ عُزِلَ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ. أَمَّا مَنْ ظَهَرَ فِسْقُهُ وَشَاعَ جَوْرُهُ وَخِيَانَتُهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَطْعًا. تَنْبِيهٌ: لَوْ حَضَرَ إنْسَانٌ إلَى الْقَاضِي الْجَدِيدِ، وَتَظَلَّمَ مِنْ الْمَعْزُولِ وَطَلَبَ إحْضَارَهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَمْ يُبَادِرْ بِإِحْضَارِهِ بَلْ يَقُولُ مَا تُرِيدُ مِنْهُ؟. فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا أَحْضَرَهُ، وَلَا يَجُوزُ إحْضَارُهُ قَبْلَ تَحَقُّقِ الدَّعْوَى، إذْ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ حَقٌّ، وَإِنَّمَا قَصَدَ ابْتِذَالَهُ بِالْحُضُورِ.
المتن: وَإِنْ قَالَ حَكَمَ بِعَبْدَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَالًا أُحْضِرَ. وَقِيلَ: لَا حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَإِنْ أُحْضِرَ وَأَنْكَرَ صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ فِي الْأَصَحِّ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ بِيَمِينٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ: (وَإِنْ) (قَالَ) الشَّخْصُ (حَكَمَ) عَلَيَّ الْقَاضِي (بِعَبْدَيْنِ) أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَفَاسِقَيْنِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: أَيْ وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَنَا أُطَالِبُهُ بِالْغُرْمِ (وَلَمْ يَذْكُرْ) رِشْوَةً وَلَا (مَالًا أُحْضِرَ) الْمَعْزُولُ لِيُجِيبَ عَنْ دَعْوَاهُ (وَقِيلَ: لَا حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ) لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينَ الشَّرْعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ جَرَيَانُهَا عَلَى الصِّحَّةِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الظَّاهِرِ إلَّا بَيِّنَةً (فَإِنْ أُحْضِرَ) عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَادَّعَى عَلَيْهِ (وَأَنْكَرَ) بِأَنْ قَالَ: لَمْ أَحْكُمْ عَلَيْهِ أَصْلًا، أَوْ لَمْ أَحْكُمْ إلَّا بِشَهَادَةِ حُرَّيْنِ (صُدِّقَ بِلَا يَمِينٍ فِي الْأَصَحِّ)؛ لِأَنَّهُ أَمِينُ الشَّرْعِ فَيُصَانُ مَنْصِبُهُ عَنْ الْحَلِفِ وَالِابْتِذَالِ بِالْمُنَازَعَاتِ (قُلْتُ: الْأَصَحُّ بِيَمِينٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ} وَلِأَنَّ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْمَعْزُولِ أَنْ يَكُونَ مُؤْتَمَنًا، وَالْمُؤْتَمَنُ كَالْمُودِعِ يَحْلِفُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَقَدْ اخْتَلَفَ تَصْحِيحُ الْمُصَنِّفِ، فَقَدْ صَحَّحَ الْأَوَّلَ فِي الرَّوْضَةِ، وَالصَّوَابُ مَا صَحَّحَهُ هُنَا فَإِنَّهُ الْمَنْصُوصُ، قَالَ الْفَارِقِيُّ: وَمَحِلُّ الْخِلَافِ، إذَا عَلِمَ الشَّاهِدَانِ وَإِلَّا فَيَنْظُرُ فِيهِمَا لِيَعْرِفَ حَالَهُمَا. قَالَ الْغَزِّيُّ: وَهُوَ مُتَّجِهٌ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْفَسَقَةِ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الْعَبْدِ ا هـ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
المتن: وَلَوْ اُدُّعِيَ عَلَى قَاضٍ جَوْرٌ فِي حُكْمٍ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ بَيِّنَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحُكْمِهِ حَكَمَ بَيْنَهُمَا خَلِيفَتُهُ أَوْ غَيْرُهُ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ) (اُدُّعِيَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (عَلَى قَاضٍ) حَالَ وِلَايَتِهِ (جَوْرٌ فِي حُكْمٍ) أَوْ اُدُّعِيَ عَلَى شَاهِدٍ زُورٌ، وَأُرِيدَ تَحْلِيفُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الدَّعَاوَى (لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ بَيِّنَةٌ) بِهِ فَلَا يَحْلِفُ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَمِينَانِ شَرْعًا، وَلَوْ فُتِحَ بَابُ التَّحْلِيفِ لَاشْتَدَّ الْأَمْرُ وَرَغِبَ النَّاسُ عَنْ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا إذَا كَانَ مَوْثُوقًا بِهِ وَإِلَّا حَلَفَ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: قَوْلُهُمْ فِي تَوْجِيهِ مَنْعِ التَّحْلِيفِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ إلَخْ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى كَمَالِ الْقَاضِي وَوُجُودِ أَهْلِيَّتِهِ التَّامَّةِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ غَالِبَ مَنْ يَلِي الْقَضَاءَ فِي عَصْرِنَا، لَوْ حَلَفَ الْوَاحِدُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً عَلَى عَدَمِ جَوْرِهِ فِي الْحُكْمِ وَارْتِشَائِهِ لَمْ يَرُدَّهُ ذَلِكَ عَنْ الْحِرْصِ عَلَى الْقَضَاءِ وَدَوَامِ وِلَايَتِهِ مَعَ ذَلِكَ، بَلْ يَشْتَدُّ حِرْصُهُ وَتَهَافُتُهُ عَلَيْهِ وَطَلَبُهُ هُوَ وَغَيْرَهُ {فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} ا هـ. هَذَا فِي زَمَانِهِ فَلَوْ أَدْرَكَ زَمَانَنَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَشْتَرِطُ الْبَيِّنَةَ مَعَ عَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى؟. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى لِقَصْدِ تَحْلِيفِهِ وَإِنْ سُمِعَتْ لِأَجْلِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ لَا مَحَالَةَ (وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ) تِلْكَ الدَّعْوَى عَلَى قَاضٍ (بِحُكْمِهِ) بَلْ يُخَاصِمُهُ نَفْسَهُ (حَكَمَ بَيْنَهُمَا) فِيهَا (خَلِيفَتُهُ، أَوْ) قَاضٍ آخَرُ (غَيْرُهُ) كَآحَادِ الرَّعَايَا. قَالَ السُّبْكِيُّ: هَذَا إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ وَلَا يَخِلُّ بِمَنْصِبِهِ وَلَا يُوجِبُ عَزْلُهُ، وَإِلَّا فَاقْطَعْ بِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ وَلَا يَحْلِفُ وَلَا طَرِيقَ لِلْمُدَّعِي حِينَئِذٍ إلَّا الْبَيِّنَةَ. ثُمَّ قَالَ: بَلْ أَقُولُ لِكُلِّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ بِدَعْوَى يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَفِي إنْكَارِ ذَلِكَ الْعَدْلِ بِهَا، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَنْ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ أَوْ اجْتِهَادٍ وَتَأْوِيلٍ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ لَا يَخِلُّ بِعَدَالَتِهِ فَيَسْمَعُهَا وَيَقْبَلُهَا بِيَمِينٍ كَغَيْرِهَا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مِنْ الْمُدَّعِي تَعَنُّتٌ فَيَدْفَعُهُ، وَإِنْ كَانَ إنْكَارُهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إلَّا قَادِحًا فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْمَعَ دَعْوَى الْمُدَّعِي فِي ذَلِكَ وَطَلَبَ تَحْلِيفِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيه وَالْحَالَةَ هَذِهِ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ عَدَالَتِهِ، وَلَهُ طَرِيقٌ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ. تَتِمَّةٌ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى مُتَوَلٍّ فِي مَحِلِّ وِلَايَتِهِ عِنْدَ قَاضٍ أَنَّهُ حَكَمَ بِكَذَا، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا أَوْ مَعْزُولًا سُمِعَتْ وَلَا يَحْلِفُ، ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، فَمَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعْزُولِ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّحَهُ هُنَا كَمَا مَرَّ.
|