الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
المتن: أَقَرَّ بِنَسَبٍ إنْ أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ اُشْتُرِطَ لِصِحَّتِهِ أَنْ لَا يُكَذِّبَهُ الْحِسُّ وَلَا الشَّرْعُ بِأَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُسْتَلْحَقُ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّصْدِيقِ.
الشَّرْحُ: فَصْلٌ فِي الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ، وَجَمْعُهُ أَنْسَابٌ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:. الْأَوَّلُ: أَنْ يُلْحِقَ النَّسَبَ بِنَفْسِهِ. وَالثَّانِي: بِغَيْرِهِ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: لَوْ (أَقَرَّ) الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الذَّكَرُ، وَلَوْ عَبْدًا وَكَافِرًا وَسَفِيهًا (بِنَسَبٍ) لِغَيْرِهِ (إنْ أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ) كَهَذَا ابْنِي أَوْ أَنَا أَبُوهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِكَوْنِ الْإِضَافَةِ فِيهِ إلَى الْمُقِرِّ (اُشْتُرِطَ لِصِحَّتِهِ) أَيْ هَذَا الْإِلْحَاقِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا (أَنْ لَا يُكَذِّبَهُ الْحِسُّ) بِأَنْ يَكُونَ فِي سِنٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ فِي سِنٍّ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مِنْهُ، أَوْ كَانَ قَدْ قُطِعَ ذَكَرُهُ وَأُنْثَيَاهُ مِنْ زَمَنٍ يَتَقَدَّمُ عَلَى زَمَنِ الْعُلُوقِ بِهِ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ الْحِسَّ يُكَذِّبُهُ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّسَبِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِتْقِ فَسَيَأْتِي، وَلَوْ قَدِمَتْ كَافِرَةٌ بِطِفْلٍ وَادَّعَاهُ رَجُلٌ وَأَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا أَوْ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ أَنْفَذَ إلَيْهَا مَاءَهُ فَاسْتَدْخَلَتْهُ لَحِقَهُ، وَإِلَّا فَلَا (وَ) ثَانِيهَا أَنْ (لَا) يُكَذِّبَهُ (الشَّرْعُ) وَتَكْذِيبُهُ (بِأَنْ يَكُونَ) الْمُسْتَلْحَقُ بِفَتْحِ الْحَاءِ (مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ) أَوْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الثَّابِتَ مِنْ شَخْصٍ لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَصَدَّقَهُ الْمُسْتَلْحَقُ أَمْ لَا. (وَ) ثَانِيهَا: (أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُسْتَلْحَقُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ (إنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّصْدِيقِ) بِأَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي نَسَبِهِ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
تَنْبِيهٌ: أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْفِيًّا بِلِعَانِ الْغَيْرِ عَنْ فِرَاشِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ اسْتِلْحَاقُهُ لِغَيْرِ النَّافِي. أَمَّا الْمَنْفِيُّ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَلْحِقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ قَبْلَ النَّفْيِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ وَلَدَ زِنًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمُسْتَلْحَقُ بِفَتْحِ الْحَاءِ رَقِيقًا لِلْغَيْرِ وَلَا عَتِيقًا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ اسْتِلْحَاقُهُ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّ الْوَلَاءِ لِلسَّيِّدِ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْكَبِيرُ الْعَاقِلُ قُبِلَ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي خِلَافًا لِمَا رَجَّحَهُ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ مِنْ عَدَم الْقَبُولِ، وَالرَّقِيقُ بَاقٍ عَلَى رِقِّهِ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَ النَّسَبِ وَالرِّقِّ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُرِّيَّةَ وَالْحُرِّيَّةُ لَمْ تَثْبُتْ، وَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ لَهُ وَهُوَ بِيَدِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ لُحُوقُهُ بِهِ كَأَنْ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ لَغَا قَوْلُهُ، وَإِنْ أَمْكَنَ لُحُوقُهُ بِهِ لَحِقَهُ الصَّغِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْمُصَدِّقُ لَهُ وَعَتَقُوا. أَمَّا ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ الْمُكَذِّبُ لَهُ فَلَا يَلْحَقَانِهِ وَيُعْتَقَانِ عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِاعْتِرَافِهِ بِبُنُوَّتِهِمَا وَلَا يَرِثَانِ مِنْهُ كَمَا لَا يَرِثُ مِنْهُمَا. ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِأُمٍّ فَفِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ لِلْعِمْرَانِيِّ عَنْ ابْنِ اللَّبَّانِ أَنَّ إقْرَارَ الشَّخْصِ بِالْأُمِّ لَا يَصِحُّ لِإِمْكَانِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ وَأَقَرَّهُ فِي الْكِفَايَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَبٍ فَكَذَّبَهُ أَوْ سَكَتَ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِلْحَاقُ أَوْ ابْنٍ.
المتن: فَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَكَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا ثَبَتَ، فَلَوْ بَلَغَ وَكَذَّبَهُ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (فَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَكَذَّبَهُ) أَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ، وَكَذَا لَوْ سَكَتَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ هُنَا، وَإِنْ صُحِّحَ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ فِي فَصْلِ التَّسَامُعِ فِي الشَّهَادَةِ أَنَّ سُكُوتَ الْبَالِغِ فِي النَّسَبِ كَالْإِقْرَارِ (لَمْ يَثْبُتْ) نَسَبُهُ (إلَّا بِبَيِّنَةٍ) كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَيَثْبُتُ أَيْضًا بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَإِنْ لَمْ تَصْدُقْ بِذَلِكَ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَلَوْ اسْتَلْحَقَ بَالِغًا عَاقِلًا وَصَدَّقَهُ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَسْقُطُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الْمَحْكُومَ بِثُبُوتِهِ لَا يَرْتَفِعُ بِالِاتِّفَاقِ كَالثَّابِتِ بِالِافْتِرَاشِ (، وَإِنْ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا) أَوْ مَجْنُونًا (ثَبَتَ) نَسَبُهُ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ مَا عَدَا التَّصْدِيقَ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى النَّسَبِ عَسِرَةٌ، وَالشَّارِعُ قَدْ اعْتَنَى بِهِ وَأَثْبَتَهُ بِالْإِمْكَانِ فَلِذَلِكَ أَثْبَتْنَاهُ بِالِاسْتِلْحَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُقِرُّ بِهِ أَهْلًا لِلتَّصْدِيقِ (فَلَوْ بَلَغَ) الصَّغِيرُ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ (وَكَذَّبَهُ) بَعْدَ كَمَالِهِ (لَمْ يَبْطُلْ) نَسَبُهُ (فِي الْأَصَحِّ) فِيهِمَا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ فَلَا يَنْدَفِعُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُقَرِّ بِهِ تَحْلِيفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ وَالثَّانِي: يَبْطُلُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْإِنْكَارِ، وَقَدْ صَارَ وَالْأَحْكَامُ تَدُورُ مَعَ عِلَلِهَا وُجُودًا وَعَدَمًا. فَإِنْ قِيلَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَجْنُونِ يُخَالِفُهُ مَا لَوْ قَالَ لِمَجْنُونٍ: هَذَا أَبِي حَيْثُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ حَتَّى يُفِيقَ وَيُصَدَّقَ، وَقَدْ قَالَ الرُّويَانِيُّ: مَا أَدْرِي مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يُقَالَ الِابْنُ بَعْدَ الْجُنُونِ يَعُودُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي صِبَاهُ بِخِلَافِ الْأَبِ. أُجِيبَ بِأَنَّ أَصْلَ هَذَا لِلْمَاوَرْدِيِّ، وَرَأْيُهُ أَنَّ الْمَجْنُونَ الْبَالِغَ لَا يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ إلَّا إنْ أَفَاقَ وَصَدَّقَ، وَلَا يَشْكُلُ بِاسْتِلْحَاقِ الْمَيِّتِ لِلْيَأْسِ مِنْ عَوْدِهِ وَهَذَا رَأْيٌ مَرْجُوحٌ، فَإِذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا أَبِي وَهَذَا ابْنِي كَمَا أَفَادَهُ شَيْخِي.
المتن: وَيَصِحُّ أَنْ يَسْتَلْحِقَ مَيِّتًا صَغِيرًا، وَكَذَا كَبِيرٌ فِي الْأَصَحِّ، وَيَرِثُهُ.
الشَّرْحُ: (وَيَصِحُّ أَنْ يَسْتَلْحِقَ مَيِّتًا صَغِيرًا) وَلَوْ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ وَلَا يُبَالِي بِتُهْمَةِ الْمِيرَاثِ وَلَا بِتُهْمَةِ سُقُوطِ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ فِيهِ، وَلِهَذَا لَوْ نَفَاهُ فِي الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَحِقَهُ وَوَرِثَهُ (وَكَذَا كَبِيرًا) مَيِّتٌ يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ (فِي الْأَصَحِّ)؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّصْدِيقِ فَصَحَّ اسْتِلْحَاقُهُ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِفَوَاتِ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الِاسْتِلْحَاقِ إلَى الْمَوْتِ يُشْعِرُ بِإِنْكَارِهِ لَوْ وَقَعَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَنْ جُنَّ بَعْدَ بُلُوغِهِ عَاقِلًا وَلَمْ يَمُتْ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ لَهُ حَالَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا تَصْدِيقُهُ، وَلَيْسَ الْآنَ مِنْ أَهْلِ التَّصْدِيقِ (وَ) عَلَى الْأَوَّلِ (يَرِثُهُ) أَيْ الْمَيِّتَ الْمُسْتَلْحَقَ وَلَا نَظَرَ إلَى التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ فَرْعُ النَّسَبِ وَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَمَسْأَلَةُ الْإِرْثِ مَزِيدَةٌ عَلَى الْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ. فَائِدَةٌ: لَوْ نَفَى الذِّمِّيُّ وَلَدَهُ: أَيْ: الصَّغِيرَ أَوْ الْمَجْنُونَ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنْ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَوْ مَاتَ هَذَا الْوَلَدُ، وَصَرَفْنَا مِيرَاثَهُ لِأَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ ثُمَّ اسْتَلْحَقَهُ النَّافِي حُكِمَ بِالنَّسَبِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا، وَيَسْتَرِدُّ مِيرَاثَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ وَتُصْرَفُ لَهُ.
المتن: وَلَوْ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ بَالِغًا ثَبَتَ لِمَنْ صَدَّقَهُ وَحُكْمُ الصَّغِيرِ يَأْتِي فِي اللَّقِيطِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ اسْتَلْحَقَ اثْنَانِ) فَأَكْثَرُ (بَالِغًا ثَبَتَ لِمَنْ صَدَّقَهُ) مِنْهُمَا أَوْ مِنْهُمْ لِاجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ فِيهِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا أَوْ لَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى الْقَائِفِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قُبَيْلَ بَابِ الْعِتْقِ (وَحُكْمُ الصَّغِيرِ) إذَا اسْتَلْحَقَهُ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ (يَأْتِي فِي) كِتَابِ (اللَّقِيطِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَيَأْتِي فِيهِ أَيْضًا حُكْمُ اسْتِلْحَاقِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ.
المتن: وَلَوْ قَالَ لِوَلَدِ أَمَتِهِ: هَذَا وَلَدِي ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأَظْهَرِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ وَلَدِي وَلَدْتُهُ فِي مِلْكِي، فَإِنْ قَالَ: عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِي ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ فَإِنْ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ لَحِقَهُ بِالْفِرَاشِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً فَالْوَلَدُ لِلزَّوْجِ، وَاسْتِلْحَاقُ السَّيِّدِ بَاطِلٌ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ قَالَ لِوَلَدِ أَمَتِهِ) غَيْرِ الْمُزَوَّجَةِ والمستفرشة لَهُ (هَذَا وَلَدِي ثَبَتَ نَسَبُهُ) عِنْدَ اجْتِمَاعِ شُرُوطِهِ، وَلَا بُدَّ فِي تَتِمَّةِ التَّصْوِيرِ أَنْ يَقُولَ مِنْهَا كَمَا فِي التَّنْبِيهِ كَذَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَلَعَلَّهُ لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ (وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأَظْهَرِ) وَإِلَّا فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ ثُمَّ مَلَكَهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَاعِدَةِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ. وَالثَّانِي: وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ يَثْبُتُ حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ أَوْلَدَهَا بِالْمِلْكِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النِّكَاحِ (وَكَذَا) لَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأَظْهَرِ. (لَوْ قَالَ): هَذَا (وَلَدِي وَلَدْتُهُ فِي مِلْكِي) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْبَلَهَا قَبْلَ الْمِلْكِ بِمَا مَرَّ ثُمَّ اشْتَرَاهَا حَامِلًا فَوَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ (فَإِنْ قَالَ: عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِي) أَوْ هَذَا وَلَدِي اسْتَوْلَدْتهَا بِهِ فِي مِلْكِي أَوْ هَذَا وَلَدِي مِنْهَا وَمِلْكِي عَلَيْهَا مُسْتَمِرٌّ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ مَثَلًا وَكَانَ الْوَلَدُ ابْنَ نَحْوَ سَنَةٍ (ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ) لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَتَبِعَهُ الْمُصَنَّفُ. فَإِنْ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ مَرْهُونَةً ثُمَّ أَوْلَدَهَا وَهُوَ مُعْسِرٌ فَبِيعَتْ فِي الدَّيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا، وَقُلْنَا بِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُسْتَوْلَدَةً عَلَى رَأْيٍ.. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا قَبْلَ إقْرَارِهِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ حَتَّى يَنْفِيَ احْتِمَالُ أَنَّهُ أَحْبَلَهَا زَمَنَ كِتَابَتِهِ؛ لِأَنَّ إحْبَالَ الْمُكَاتَبِ لَا يُثْبِتُ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى آخِرَ الْكِتَابِ، وَلَوْ قَالَ: يَدُ فُلَانٍ ابْنِي أَوْ أَخِي أَوْ يَدُ هَذِهِ الْأَمَةِ مُسْتَوْلَدَتِي لَيْسَ إقْرَارًا بِالنَّسَبِ وَلَا بِالِاسْتِيلَادِ، إذَا جَعَلْنَا نَظِيرَهُ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْجُزْءِ ثُمَّ يَسْرِي، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ عِبَارَةً عَنْ الْجُمْلَةِ عَلَى رَأْيٍ مَرْجُوحٍ كَانَ إقْرَارًا بِالنَّسَبِ وَالِاسْتِيلَادِ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ عَنْ التَّتِمَّةِ (فَإِنْ كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ لَحِقَهُ) الْوَلَدُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ (بِالْفِرَاشِ) بِأَنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا (مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقٍ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ} وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ (وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً فَالْوَلَدُ لِلزَّوْجِ) عِنْدَ إمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ (وَاسْتِلْحَاقُ السَّيِّدِ) لَهُ (بَاطِلٌ) لِلُحُوقِهِ بِالزَّوْجِ شَرْعًا. فَرْعٌ: لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ إلَّا أَوْلَادَهُ هَؤُلَاءِ وَزَوْجَتَهُ هَذِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: يَثْبُتُ حَصْرُ وَرَثَتِهِ فِيهِمْ بِإِقْرَارِهِ كَمَا يُعْتَمَدُ إقْرَارُهُ فِي أَصْلِ الْإِرْثِ يُعْتَمَدُ فِي حَصْرِهِ فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ لَهُ، وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي مَا يَدُلُّ لَهُ.
المتن: وَأَمَّا إذَا أَلْحَقَ النَّسَبَ بِغَيْرِهِ كَهَذَا أَخِي أَوْ عَمِّي، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُلْحَقِ بِهِ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُلْحَقِ بِهِ مَيِّتًا، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ نَفَاهُ فِي الْأَصَحِّ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقِرِّ وَارِثًا حَائِزًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُسْتَلْحَقَ لَا يَرِثُ وَلَا يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ، وَأَنَّ الْبَالِغَ مِنْ الْوَرَثَةِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِقْرَارِ.
الشَّرْحُ: تَنْبِيهٌ مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَوَرِثَ أَوْ مَاتَ عَنْ ابْنَيْنِ وَبَنَاتٍ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، فَقَالَ (وَأَمَّا إذَا أَلْحَقَ النَّسَبَ بِغَيْرِهِ) مِمَّنْ يَتَعَدَّى النَّسَبُ مِنْهُ إلَى نَفْسِهِ (كَهَذَا أَخِي) وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ، وَأَصْلُهَا: هَذَا أَخِي ابْنُ أَبِي وَأُمِّي، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْإِلْحَاقِ بِالْأُمِّ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ (أَوْ) هَذَا (عَمِّي، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُلْحَقِ بِهِ) إذَا كَانَ رَجُلًا؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَ مُوَرِّثَهُمْ فِي حُقُوقٍ وَالنَّسَبُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَإِنَّمَا مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ بِمِثَالَيْنِ لِيُعَرِّفكِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَدَّى النَّسَبُ مِنْهُ إلَى نَفْسِهِ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْأَبِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا أَخِي أَوْ ثِنْتَانِ كَالْجَدِّ فِي قَوْلِهِ هَذَا عَمِّي، وَقَدْ يَكُونُ بِثَلَاثَةٍ كَابْنِ الْعَمِّ.
تَنْبِيهٌ: إنَّمَا قَيَّدْتُ الْمُلْحَقَ بِهِ بِكَوْنِهِ رَجُلًا؛ لِأَنَّ اسْتِلْحَاقَ الْمَرْأَةِ لَا يُقْبَلُ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، فَبِالْأَوْلَى اسْتِلْحَاقُ وَارِثِهَا وَإِنْ كَانَ رَجُلًا؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَتُهَا. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَهُوَ وَاضِحٌ وَكَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ اللَّبَّانِ، وَنَقَلَ عَنْهُ الْعِمْرَانِيُّ فِي زَوَائِدِهِ: أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُمِّ لَا يَصِحُّ كَمَا مَرَّ لِإِمْكَانِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ كَمَا فِي اسْتِلْحَاقِ الْمَرْأَةِ. ا هـ. لَكِنَّ قَوْلَ الْأَصْحَابِ لَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَةِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَلَوْ بِزَوْجِيَّةٍ وَوَلَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي يَشْمَلُ الزَّوْجَةَ وَالزَّوْجَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ، وَهِيَ: وَيُشْتَرَطُ مُوَافَقَةُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى الصَّحِيحِ ا هـ. وَصُورَتُهُ فِي الزَّوْجِ أَنْ تَمُوتَ امْرَأَةٌ وَتُخَلِّفَ ابْنًا وَزَوْجًا،، فَيَقُولَ الِابْنُ لِشَخْصٍ: هَذَا أَخِي فَلَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَةِ الزَّوْجِ فَهَذَا اسْتِلْحَاقٌ بِامْرَأَةٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي خَادِمِهِ يَرُدُّ عَلَى ابْنِ اللَّبَّانِ وَالْعِمْرَانِيِّ فِي قَوْلِهِمَا، أَنَّ الِاسْتِلْحَاقَ بِالْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ، وَفَرَّقَ شَيْخِي بَيْنَ اسْتِلْحَاقِ الْوَارِثِ بِهَا وَبَيْنَ عَدَمِ صِحَّةِ اسْتِلْحَاقِهَا بِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ تَسْهُلُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْوَارِثِ خُصُوصًا إذَا تَرَاخَى النَّسَبُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ (بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ) فِيمَا إذَا أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ (وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُلْحَقِ بِهِ مَيِّتًا) فَلَا يُلْحَقُ بِالْحَيِّ وَلَوْ مَجْنُونًا لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ الشَّخْصِ مَعَ وُجُودِهِ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، فَلَوْ صَدَّقَ الْحَيُّ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِتَصْدِيقِهِ، وَالِاعْتِمَادُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى التَّصْدِيقِ لَا عَلَى الْمُقِرِّ. وَأَمَّا تَصْدِيقُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَسَائِطِ فَفِي الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْحَاوِي وَخَالَفَ فِي الْبَيَانِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اثْنَانِ بِأَنْ أَقَرَّ بِعَمٍّ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَكْفِي تَصْدِيقُ الْجَدِّ، فَإِنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي ثَبَتَ النَّسَبُ بِهِ، وَلَوْ اعْتَرَفَ بِهِ وَكَذَّبَهُ ابْنُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ تَكْذِيبُهُ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ تَصْدِيقِهِ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ لَا شَكّ فِيهِ ا هـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ. فَإِنْ قِيلَ مَا صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ إنْ كَانَ وَارِثًا فَالْمُقِرُّ غَيْرُ وَارِثٍ فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ؛ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ بِدُونِهِ إلْحَاقًا بِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الْمُقِرِّ، وَيَبْعُدُ إثْبَاتُ نَسَبِ الْأَصْلِ بِقَوْلِ الْفَرْعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَلْحَقَ النَّسَبَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ فِيهِ إلْحَاقًا بِأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ لَكِنَّهُ بِطَرِيقِ الْفَرْعِيَّةِ عَنَّ إلْحَاقُهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَبْعُدُ تَبَعِيَّةُ الْأَصْلِ لِلْفَرْعِ (وَلَا يُشْتَرَطُ) فِي إلْحَاقِ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ (أَنْ لَا يَكُونَ نَفَاهُ) الْمَيِّتُ (فِي الْأَصَحِّ)، فَيَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِهِ كَمَا لَوْ اسْتَلْحَقَهُ النَّافِي. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ مَا ذُكِرَ لِمَا فِي إلْحَاقِهِ مِنْ الْعَارِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالْوَارِثُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا فِيهِ حَظُّ الْمُوَرِّثِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: الْقَلْبُ إلَيْهِ أَمْيَلُ (وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقِرِّ) فِي إلْحَاقِ النَّسَبِ بِغَيْرِهِ (وَارِثًا) بِخِلَافِ غَيْرِهِ كَرَقِيقٍ وَقَاتِلٍ وَأَجْنَبِيٍّ (حَائِزًا) لِتَرِكَةِ الْمُلْحَقِ بِهِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَوْ مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَوَرِثَ أَوْ مَاتَ عَنْ ابْنَيْنِ وَبَنَاتٍ فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا، وَكَذَا يُعْتَبَرُ مُوَافَقَةُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ كَمَا مَرَّ وَالْمُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْوَرَثَةِ.
تَنْبِيهٌ: كَلَامُ الْمُصَنَّفِ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ اسْتِلْحَاقِ الْإِمَامِ فِيمَنْ إرْثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثٍ؛ لِأَنَّ إرْثَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْإِسْلَامِ، وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ. وَقَالَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: إنَّهُ الْأَقْرَبُ، وَصَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْوَارِثِ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُلْحِقَ النَّسَبَ بِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُوَافِقَ فِيهِ غَيْرُ الْحَائِزِ، وَدَخَلَ فِي كَلَامِهِ الْحَائِزُ بِوَاسِطَةٍ كَأَنْ أَقَرَّ بِعَمٍّ وَهُوَ حَائِزٌ تَرِكَةَ أَبِيهِ الْحَائِزِ تَرِكَةَ جَدِّهِ الْمُلْحَقِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ جَدِّهِ فَلَا وَاسِطَةَ صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ. وَهُوَ يُفْهِمُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمُقِرِّ حَائِزًا لِمِيرَاثِ الْمُلْحَقِ بِهِ لَوْ قُدِّرَ مَوْتُهُ حِينَ الْإِلْحَاقِ، وَكَلَامُهُمْ يَأْبَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ مُسْلِمًا وَكَافِرًا ثُمَّ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَتَرَكَ ابْنًا مُسْلِمًا وَأَسْلَمَ عَمُّهُ الْكَافِرُ، فَحَقَّ الْإِلْحَاقُ بِالْجَدِّ لِابْنِ ابْنِهِ الْمُسْلِمِ، لَا لِابْنِهِ الَّذِي أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قِيلَ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ ا هـ. وَيَصِحُّ إلْحَاقُ الْمُسْلِمِ الْكَافِرِ بِالْمُسْلِمِ وَإِلْحَاقُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُسْتَلْحَقَ لَا يَرِثُ) كَذَا فِي نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ كَمَا حَكَاهُ السُّبْكِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ: وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعَ كَوْنِ الْمُقِرِّ حَائِزًا أَنَّ الْمُسْتَلْحَقَ لَا يَرِثُ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ بَلْ هُوَ خِلَافُ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَقَطَ هُنَا شَيْءٌ إمَّا مِنْ أَصْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِمَّا مِنْ نَاسِخٍ، وَصَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَائِزًا فَالْأَصَحُّ إلَخْ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَعْضِ النُّسَخِ. ا هـ. وَيُوجَدُ فِي بَعْضِهَا، فَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَالْأَصَحُّ إلَخْ، وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ النُّسْخَةِ الْأُولَى. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ أَوْ سَكَتَ أَنَّ الْمُسْتَلْحَقَ لَا يَرِثُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي قَوْلِهِ (وَلَا يُشَارِكُ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ) ظَاهِرًا لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ فَهُوَ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ إقْرَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُقِرُّ حَائِزًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِصَّةٌ بَلْ جَمِيعُ الْإِرْثِ لَهُ. وَالثَّانِي: يَرِثُ بِأَنْ يُشَارِكَ الْمُقِرَّ فِي حِصَّتِهِ دُونَ الْمُنْكِرِ. أَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَهَلْ عَلَى الْمُقِرِّ إذَا كَانَ صَادِقًا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ. نَعَمْ وَهَلْ يُشَارِكُ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ أَوْ بِثُلُثِهِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، وَإِذَا قُلْنَا: لَا يَرِثُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ حَرُمَ عَلَى الْمُقِرِّ بِنْتُ الْمُقَرِّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ وَيُقَاسُ بِالْبِنْتِ مَنْ فِي مَعْنَاهَا وَفِي عِتْقِ حِصَّةِ الْمُقِرِّ إذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ كَأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِعَبْدٍ فِيهَا أَنَّهُ ابْنُ أَبِينَا وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا أَنَّهُ يُعْتَقُ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ (وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّ الْبَالِغَ) الْعَاقِلَ (مِنْ الْوَرَثَةِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِقْرَارِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ حَائِزٍ لِلْمِيرَاثِ. وَالثَّانِي: يَنْفَرِدُ بِهِ وَيُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي الْحَالِ احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ وَإِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ، فَإِذَا بَلَغَ الْأَوَّلُ وَأَفَاقَ الثَّانِي وَوَافَقَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ثَبَتَ النَّسَبُ حِينَئِذٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَةِ الْغَائِبِ أَيْضًا، وَتُعْتَبَرُ مُوَافَقَةُ وَارِثِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْكَمَالِ أَوْ الْحُضُورِ، فَإِنْ لَمْ يَرِثْ مَنْ ذُكِرَ غَيْرُ الْمُقِرِّ ثَبَتَ النَّسَبُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ.
المتن: وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، وَمَاتَ وَلَمْ يَرِثْهُ إلَّا الْمُقِرُّ ثَبَتَ النَّسَبُ.
الشَّرْحُ: (وَ) الْأَصَحُّ، (أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ) الْحَائِزَيْنِ بِثَالِثٍ (وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، وَمَاتَ وَلَمْ يَرِثْهُ إلَّا الْمُقِرُّ ثَبَتَ النَّسَبُ) وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ إقْرَارًا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ صَارَ لَهُ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ أَنَّ الْإِقْرَارَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْوَارِثِ الْحَائِزِ، فَإِنَّهُ مَا صَارَ حَائِزًا إلَّا بَعْدَ الْإِقْرَارِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْحِيَازَةَ تُعْتَبَرُ حَالًا أَوْ مَآلًا. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْفَرْعِ مَسْبُوقٌ بِإِنْكَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمُوَرِّثُ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْكَرَ الْآخَرُ مَا لَوْ سَكَتَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ جَزْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ تَكْذِيبُ أَصْلِهِ، فَإِنْ خَلَّفَ الْمُنْكِرُ أَوْ السَّاكِتُ وَرَثَةً غَيْرَ الْمُقِرِّ اُعْتُبِرَ مُوَافَقَتُهُمْ.
المتن: وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ابْنٌ حَائِزٍ بِأُخُوَّةِ مَجْهُولٍ فَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ نَسَبَ الْمُقِرِّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، وَيَثْبُتُ أَيْضًا نَسَبُ الْمَجْهُولِ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَارِثُ الظَّاهِرُ يَحْجُبُهُ الْمُسْتَلْحَقُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَا إرْثَ.
الشَّرْحُ: (وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ابْنٌ حَائِزٌ) مَشْهُورُ النَّسَبِ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ (بِأُخُوَّةِ مَجْهُولٍ، فَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ نَسَبَ الْمُقِرِّ) بِأَنْ قَالَ: أَنَا ابْنُ الْمَيِّتِ، وَلَسْت أَنْتَ ابْنَهُ (لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ) إنْكَارُهُ لِشُهْرَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَثَّرَ فِيهِ لَبَطَلَ نَسَبُ الْمَجْهُولِ، فَإِنَّهُ الثَّابِتُ بِقَوْلِ الْمُقِرِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِ الْمُقِرِّ إلَّا لِكَوْنِهِ حَائِزًا، وَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمَجْهُولِ كَمَا قَالَ (وَيَثْبُتُ أَيْضًا نَسَبُ الْمَجْهُولِ)؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْحَائِزَ قَدْ اسْتَلْحَقَهُ. وَالثَّانِي: يُؤَثِّرُ الْإِنْكَارُ، فَيَحْتَاجُ الْمُقِرِّ إلَى الْبَيِّنَةِ عَلَى نَسَبِهِ. الثَّالِثُ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْمَجْهُولِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْمُقِرَّ لَيْسَ بِوَارِثٍ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ أَقَرَّ الْحَائِزُ وَالْمَجْهُولُ بِنَسَبِ ثَالِثٍ، فَأَنْكَرَ الثَّالِثُ نَسَبَ الثَّانِي سَقَطَ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُ الثَّالِثِ، فَاعْتُبِرَ مُوَافَقَتُهُ فِي ثُبُوتِ نَسَبِ الثَّانِي، وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: أَدْخِلْنِي أُخْرِجْكَ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخَوَيْنِ مَجْهُولَيْنِ مَعًا فَكَذَّبَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَر أَوْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْ الْحَائِزِ، وَإِنْ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَكَذَّبَهُ الْآخَر سَقَطَ نَسَبُ الْمُكَذَّبِ، بِفَتْحِ الذَّالِ دُونَ نَسَبِ الْمُصَدَّقِ إنْ لَمْ يَكُونَا تَوْأَمَيْنِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لِتَكْذِيبِ الْآخَر؛ وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ بِأَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ مُقِرٌّ بِالْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ الْمُنْكِرُ اثْنَيْنِ وَالْمُقِرُّ وَاحِدًا فَلِلْمُقِرِّ تَحْلِيفُهُمَا، فَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا لَمْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ بِهَا نَسَبًا يَسْتَحِقُّ بِهَا إرْثًا. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَرَثَةُ بِزَوْجِيَّةِ امْرَأَةٍ لِلْمُوَرِّثِ ثَبَتَ لَهَا الْمِيرَاثُ كَمَا لَوْ أَقَرُّوا بِنَسَبِ شَخْصٍ، وَكَذَا لَوْ أَقَرُّوا بِزَوْجٍ لِلْمَرْأَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ الْبَعْضُ وَأَنْكَرَ الْبَعْضُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا مِيرَاثٌ فِي الظَّاهِرِ كَنَظِيرِهِ مِنْ النَّسَبِ. أَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّسَبِ، وَخَرَجَ بِمَنْ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِأَخٍ أَوْ أَبٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالسَّيِّدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِ ابْنٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ بِهِ حَاجَةً إلَى اسْتِلْحَاقِ الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْأَخِ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِمَا، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إنْشَاءِ الِاسْتِيلَادِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ (وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَارِثُ الظَّاهِرُ يَحْجُبُهُ الْمُسْتَلْحَقُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ (كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ النَّسَبُ) لِلِابْنِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْحَائِزَ فِي الظَّاهِرِ قَدْ اسْتَلْحَقَهُ (وَلَا إرْثَ) لَهُ لِلدَّوْرِ الْحُكْمِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ إثْبَاتِ الشَّيْءِ نَفْيُهُ، وَهُنَا يَلْزَمُ مِنْ إرْثِ الِابْنِ عَدَمُ إرْثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَحَجَبَ الْأَخَ، فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَارِثًا فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ الْأَخُ وَالزَّوْجَةُ لَمْ يَرِثْ مَعَهُمَا لِذَلِكَ، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَا يَرِثُ، وَلَوْ خَلَّفَ بِنْتًا أَعْتَقَتْهُ، فَأَقَرَّتْ بِأَخٍ لَهَا فَهَلْ يَرِثُ أَوْ لَا؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْجُبُهَا بَلْ يَمْنَعُهَا عُصُوبَةُ الْوَلَاءِ، وَلَوْ مَاتَ عَنْ بِنْتٍ وَأُخْتٍ فَأَقَرَّتَا بِابْنٍ لَهُ سَلَّمَ لِلْأُخْتِ نَصِيبَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَحَجَبَهَا، وَلَوْ ادَّعَى مَجْهُولٌ عَلَى أَخِي الْمَيِّتِ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ فَأَنْكَرَ الْأَخُ عَنْ الْيَمِينِ، فَحَلَفَ الْمُدَّعِي الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَمْ يَرِثْ لِمَا مَرَّ فِي إقْرَارِ الْأَخِ.
خَاتِمَةٌ: لَوْ أَقَرَّ ابْنَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ بَنِينَ بِأَخٍ لَهُمْ وَشَهِدَا لَهُ عِنْدَ إنْكَارِ الثَّالِثِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَجُرُّ لَهُمَا نَفْعًا بَلْ ضَرَرًا، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَقَالَ مُنْفَصِلًا أَرَدْتُ مِنْ الرَّضَاعِ لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا لَوْ فُسِّرَ بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْبَلْ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ الْعَبَّادِيُّ: لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَخُوهُ لَا يُكْتَفَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُقِرَّ يُحْتَاطُ لِنَفْسِهِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَا يُقِرَّ إلَّا عَنْ تَحْقِيقٍ، فَإِنْ ذَكَرَهُ مُتَّصِلًا قُبِلَ. كِتَابُ الْعَارِيَّةِ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِخَطِّهِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ، وَفِيهَا لُغَةٌ ثَالِثَةٌ عَارَةٌ بِوَزْنِ نَاقَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُعَارُ، وَلِعَقْدِهَا، مِنْ عَارَ إذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْغُلَامِ الْخَفِيفِ: عَيَّارٌ لِكَثْرَةِ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، وَقِيلَ: مِنْ التَّعَاوُرِ، وَهُوَ التَّنَاوُبُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارِ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ وَعَيْبٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَلَوْ كَانَتْ عَيْبًا مَا فَعَلَهَا، وَبِأَنَّ أَلِفَ الْعَارِيَّةِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، فَإِنَّ أَصْلَهَا عَوَرِيَّةٌ. وَأَمَّا أَلِفُ الْعَارِ فَمُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ بِدَلِيلِ عَيَّرْته بِكَذَا، وَحَقِيقَتُهَا شَرْعًا إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وَفَسَّرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْله تَعَالَى {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} بِمَا يَسْتَعِيرُهُ الْجِيرَانُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَالدَّلْوِ وَالْفَأْسِ وَالْإِبْرَةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: الْمَاعُونُ الزَّكَاةُ وَالطَّاعَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَعْلَاهَا الزَّكَاةُ وَأَدْنَاهَا عَارِيَّةُ الْمَتَاعِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ، وَهِيَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ فَرَكِبَهُ} وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ دِرْعًا مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ} قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: وَكَانَتْ وَاجِبَةً أَوَّلَ الْإِسْلَامِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهَا وَصَارَتْ مُسْتَحَبَّةً: أَيْ: أَصَالَةً، وَقَدْ تَجِبُ كَإِعَارَةِ الثَّوْبِ لِدَفْعِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، وَإِعَارَةِ الْحَبْلِ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ، وَالسِّكِّينِ لِذَبْحِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ يُخْشَى مَوْتُهُ، وَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْدِيُّ بِوُجُوبِ إعَارَةِ كُتُبِ الْحَدِيثِ إذَا كَتَبَ صَاحِبُهَا اسْمَ مَنْ سَمِعَهُ لِيَكْتُبَ نُسْخَةَ السَّمَاعِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَجِبُ عَيْنًا، بَلْ هِيَ أَوْ النَّقْلُ إذَا كَانَ النَّاقِلُ ثِقَةً، وَقَدْ تُحَرَّمُ كَإِعَارَةِ الصَّيْدِ مِنْ الْمُحْرِمِ وَالْأَمَةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَإِعَارَةِ الْغِلْمَانِ لِمَنْ عُرِفَ بِاللِّوَاطِ، وَقَدْ تُكْرَهُ كَإِعَارَةِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ كَافِرٍ.
المتن: شَرْطُ الْمُعِيرِ صِحَّةُ تَبَرُّعِهِ وَمِلْكُهُ الْمَنْفَعَةَ فَيُعِيرُ مُسْتَأْجِرٌ لَا مُسْتَعِيرٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ لَهُ.
الشَّرْحُ: وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ: مُعِيرٌ وَمُسْتَعِيرٌ وَمُعَارٌ وَصِيغَةٌ، وَقَدْ بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِأَوَّلِهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا لِشَرْطِهِ فَقَالَ: وَ (شَرْطُ الْمُعِيرِ صِحَّةُ تَبَرُّعِهِ) وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تَبَرُّعٌ بِإِبَاحَةِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا تَصِحُّ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ كَصَبِيٍّ وَسَفِيهٍ وَمُفْلِسٍ وَمُكَاتَبٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا مِنْ مُكْرَهٍ. فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ جَوَازُ إعَارَةِ السَّفِيهِ بَدَنَ نَفْسِهِ إذَا كَانَ عَمَلُهُ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي كَسْبِهِ لِاسْتِغْنَائِهِ بِمَالِهِ عَنْهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى عَارِيَّةً؛ لِأَنَّ بَدَنَهُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: تَبَرُّعٌ نَاجِزٌ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ أَهْلٌ لِلتَّبَرُّعِ بِالْوَصِيَّةِ وَلَا تَصِحُّ عَارِيَّتُهُ.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يُعِيرُ الْعَيْنَ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَالْمُتَّجَهُ جَوَازُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْإِعَارَةِ تَعْطِيلٌ لِلنِّدَاءِ عَلَيْهَا كَإِعَارَةِ الدَّارِ يَوْمًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ تُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ، وَإِلَّا، فَيَمْتَنِعُ (وَ) شُرِطَ لِلْمُعِيرِ أَيْضًا (مِلْكُهُ الْمَنْفَعَةَ) وَلَوْ بِوَصِيَّةٍ أَوْ وَقْفٍ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تُرَدُّ عَلَى الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَقَيَّدَ ابْنُ الرِّفْعَةِ جَوَازَ الْإِعَارَةِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَاظِرًا وَهُوَ وَاضِحٌ (فَيُعِيرُ مُسْتَأْجِرٌ)؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ (لَا مُسْتَعِيرٌ عَلَى الصَّحِيحِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ، وَلِهَذَا لَا يُؤَجِّرُ، وَالْمُسْتَبِيحُ لَا يَمْلِكُ نَقْلَ مَا أُبِيحَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الضَّيْفَ لَا يُبِيحُ لِغَيْرِهِ مَا قُدِّمَ لَهُ. وَالثَّانِي: يُعِيرُ كَمَا أَنَّ لِلْمُسْتَأْجَرِ أَنْ يُؤَجِّرَ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ صَحَّتْ الْإِعَارَةُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ثُمَّ إنْ لَمْ يُسَمِّ مَنْ يُعِيرُ لَهُ، فَالْأَوَّلُ عَلَى عَارِيَّتِهِ وَهُوَ الْمُعِيرُ مِنْ الثَّانِي وَالضَّمَانُ بَاقٍ عَلَيْهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَإِنْ رَدَّهَا الثَّانِي عَلَيْهِ بَرِئَ وَإِنْ سَمَّاهُ انْعَكَسَ هَذَا الْحُكْمُ (وَ) لَكِنْ (لَهُ) أَيْ الْمُسْتَعِيرِ (أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ لَهُ) كَأَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ الْمُسْتَعَارَةَ وَكِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ فِي حَاجَتِهِ أَوْ زَوْجَتُهُ أَوْ خَادِمُهُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ رَاجِعٌ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْمُبَاشَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ عَلَى قَيْدِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ صِحَّةُ إعَارَةِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ وَصِحَّةُ إعَارَةِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ الْمَنْذُورَيْنِ مَعَ خُرُوجِهِمَا عَنْ مِلْكِهِ، وَصِحَّةُ إعَارَةِ الْإِمَامِ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ أَرْضٍ وَغَيْرِهَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِلْكًا لَهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَتْ عَارِيَّةً حَقِيقَةً بَلْ شَبِيهَةً بِهَا، وَبِأَنَّهُمْ أَرَادُوا هُنَا بِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ مَا يَعُمُّ الِاخْتِصَاصَ بِهَا وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا إلَّا بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَعَلَى هَذَا لَا يُرَدُّ مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ إعَارَةِ الصُّوفِيِّ وَالْفَقِيهِ مَسْكَنَهُمَا بِالرِّبَاطِ وَالْمَدْرَسَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا ا هـ. أَيْ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُعِيرَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ. وَهُوَ مَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَهُوَ مَحْمُولٌ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَلَى خِدْمَةٍ تُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ. أَمَّا مَا لَا يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ لِحَقَارَتِهِ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَفْعَالُ السَّلَفِ، أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالصَّبِيِّ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُعِيرَ وَلَدَهُ لِخِدْمَةِ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ. وَلَوْ اسْتَعَارَ كِتَابًا يَقْرَأُ فِيهِ فَوَجَدَ فِيهِ خَطَأً لَا يُصْلِحُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا، فَيَجِبُ كَمَا قَالَهُ الْعَبَّادِيُّ وَتَقْيِيدُهُ بِالْإِصْلَاحِ يُعْلِمُ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى نَقْصِ قِيمَتِهِ لِرَدَاءَةِ خَطٍّ وَنَحْوِهِ امْتَنَعَ؛ لِأَنَّهُ إفْسَادٌ لِمَالِيَّتِهِ لَا إصْلَاحٌ، أَمَّا الْكِتَابُ الْمَوْقُوفُ فَيُصْلَحُ جَزْمًا خُصُوصًا مَا كَانَ خَطَأً مَحْضًا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ،. وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ شَرْطِ الْمُسْتَعِيرِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ، فَلَا تَصِحُّ لِمَنْ لَا عِبَارَةَ لَهُ كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَبَهِيمَةٍ كَمَا لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ مِنْهُمْ. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ صِحَّةُ اسْتِعَارَةِ السَّفِيهِ إذْ الصَّحِيحُ صِحَّةُ قَبُولِهِ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لَكِنْ كَيْفَ تَصِحُّ اسْتِعَارَتُهُ، مَعَ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ لَا جَرَمَ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ بِعَدَمِ صِحَّتِهَا. ا هـ. وَقَضِيَّتُهُ صِحَّتُهَا مِنْهُ، وَمِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ بِعَقْدِ وَلِيِّهِمَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً كَأَنْ اسْتَعَارَ مِنْ مُسْتَأْجِرٍ وَهُوَ وَاضِحٌ.
المتن: وَالْمُسْتَعَارِ كَوْنُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الثَّالِثِ، فَقَالَ (وَ) شَرْطُ (الْمُسْتَعَارِ كَوْنُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ)، فَلَا يُعَارُ مَا لَا يَنْفَعُ كَالْحِمَارِ الزَّمِنِ. وَأَمَّا مَا تُوُقِّعَ نَفْعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْجَحْشِ الصَّغِيرِ، فَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ أَنَّ الْعَارِيَّةَ إنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً أَوْ مُؤَقَّتَةً بِزَمَنٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيهِ صَحَّتْ وَإِلَّا فَلَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ. أُجِيبَ بِأَنَّ تِلْكَ مُقَابَلَةٌ بِعِوَضٍ، وَلَيْسَ هَذِهِ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ انْتِفَاعًا مُبَاحًا لِيَخْرُجَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مُحَرَّمًا كَآلَاتِ الْمَلَاهِي، فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ إعَارَتُهُ وَأَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةً قَوِيَّةً فَلَا يُعَارُ النَّقْدَانِ إذْ مَنْفَعَةُ التَّزْيِينِ بِهِمَا وَالضَّرْبِ عَلَى طَبْعِهِمَا مَنْفَعَةٌ ضَعِيفَةٌ قَلَّ مَا تُقْصَدُ وَمُعْظَمُ مَنْفَعَتِهِمَا فِي الْإِنْفَاقِ وَالْإِخْرَاجِ، نَعَمْ إنْ صَرَّحَ بِالتَّزْيِينِ أَوْ الضَّرْبِ عَلَى طَبْعِهِمَا، أَوْ نَوَى ذَلِكَ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا صَحَّتْ لِاِتِّخَاذِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مَقْصِدًا وَإِنْ ضَعُفَتْ. وَيَنْبَغِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَطْعُومِ بِالْآتِي كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ) كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ، فَلَا يُعَارُ الْمَطْعُومُ وَنَحْوُهُ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ إنَّمَا هُوَ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَانْتَفَى الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِعَارَةِ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ، وَيَدْخُلُ فِي الضَّابِطِ مَا لَوْ اسْتَعَارَ قَيِّمُ الْمَسْجِدِ أَحْجَارًا أَوْ أَخْشَابًا يَبْنِي بِهَا الْمَسْجِدَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْبَغَوِيّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوَارِيِّ جَوَازُ اسْتِرْدَادِهَا، وَالشَّيْءُ إذَا صَارَ مَسْجِدًا لَا يَجُوزُ اسْتِرْدَادُهُ.
المتن: وَتَجُوزُ إعَارَةُ جَارِيَةٍ لِخِدْمَةِ امْرَأَةٍ أَوْ مَحْرَمٍ.
الشَّرْحُ: (وَتَجُوزُ إعَارَةُ جَارِيَةٍ لِخِدْمَةِ امْرَأَةٍ أَوْ) ذَكَرٍ (مَحْرَمٍ) لِلْجَارِيَةِ لِعَدَمِ الْمَحْذُورِ فِي ذَلِكَ، وَفِي مَعْنَى الْمَرْأَةِ وَالْمَحْرَمِ الْمَمْسُوحُ وَزَوْجُ الْجَارِيَةِ وَمَالِكُهَا، كَأَنْ يَسْتَعِيرَهَا مِنْ مُسْتَأْجِرِهَا أَوْ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ، وَكَذَا الطِّفْلُ قِيَاسًا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ، وَكَذَا الْمَرِيضُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَخْدُمُهُ غَيْرَ الْمَرْأَةِ، فَيَجُوزُ إعَارَةُ الْجَارِيَةِ لِخِدْمَتِهِ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ الذَّكَرُ الْأَجْنَبِيُّ، فَلَا تَجُوزُ إعَارَتُهَا لَهُ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى أَوْ قَبِيحَةً يُؤْمَنُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهَا فَلَا يَحْرُمُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ لِانْتِفَاءِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَإِنْ رَجَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمَنْعَ فِيهِمَا. وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ: الصَّوَابُ الْجَوَازُ فِي الصَّغِيرَةِ دُونَ الْكَبِيرَةِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيُلْحَقُ بِالْمُشْتَهَاةِ الْأَمْرَدُ الْجَمِيلُ لَا سِيَّمَا مَنْ عُرِفَ بِالْفُجُورِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَفِي جَوَازِ إعَارَةِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ لِلْكَافِرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْهَا لِخِدْمَتِهَا الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْ رُؤْيَتِهَا مَعَهَا نَظَرٌ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا وَجْهَ لِاسْتِثْنَاءِ الذِّمِّيَّةِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ نَظَرُ الزَّائِدِ عَلَى مَا يَبْدُو فِي الْمِهْنَةِ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يُمْكِنُ مَعَهُ الْخِدْمَةُ ا هـ. وَهَذَا أَوْجَهُ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَسَكَتُوا عَنْ إعَارَةِ الْعَبْدِ لِلْمَرْأَةِ وَهُوَ كَعَكْسِهِ بِلَا شَكٍّ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ الْمُعَارُ خُنْثَى امْتَنَعَ احْتِيَاطًا وَالْمَفْهُومُ مِنْ الِامْتِنَاعِ فِيهِ، وَفِي الْأَمَةِ الْفَسَادُ كَالْإِجَارَةِ لِلْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهُوَ مَا بَحَثَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ جَزَمَ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِالصِّحَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَرَّحُوا بِجَوَازِ إجَارَةِ الْأَمَةِ الْمُشْتَهَاةِ وَالْوَصِيَّةِ بِمَنَافِعِهَا لِلْأَجْنَبِيِّ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَالْمُوصَى لَهُ يَمْلِكَانِ الْمَنْفَعَةَ فَيُعِيرَانِ وَيُؤَجِّرَانِ لِمَنْ يَخْلُو بِهَا إنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِمَا الِانْتِفَاعُ بِأَنْفُسِهِمَا وَالْإِعَارَةُ إبَاحَةٌ لَهُ فَقَطْ فَإِذَا لَمْ يَسْتَبِحْ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ.
المتن: وَيُكْرَهُ إعَارَةُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ.
الشَّرْحُ: (وَيُكْرَهُ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ (إعَارَةً) وَإِجَارَةُ (عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ)؛ لِأَنَّ فِيهَا امْتِهَانًا، وَقِيلَ تَحْرُمُ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِيرَ وَيَسْتَأْجِرَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ، وَإِنْ عَلَا لِلْخِدْمَةِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ الْإِذْلَالِ. نَعَمْ إنْ قَصَدَ بِاسْتِعَارَتِهِ وَاسْتِئْجَارِهِ لِذَلِكَ تَوْقِيرَهُ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِمَا بَلْ هُمَا مُسْتَحَبَّانِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَأَمَّا إعَارَةُ وَإِجَارَةُ الْوَالِدِ نَفْسَهُ لِوَلَدِهِ فَلَيْسَتَا مَكْرُوهَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا إعَانَةٌ عَلَى مَكْرُوهٍ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: لِأَنَّ نَفْسَ الْخِدْمَةِ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْكَرَاهَةُ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ لِمَكَانِ الْوِلَادَةِ فَلَمْ تَتَعَدَّ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ إعَارَةِ الصَّيْدِ مِنْ الْمُحْرِمِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ يَجِبُ احْتِرَامُهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ، وَلَوْ قَالَ: أَعِرْنِي دَابَّةً فَقَالَ: اُدْخُلْ الدَّارَ فَخُذْ مَا أَرَدْتُ صَحَّتْ الْإِعَارَةُ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمُسْتَعَارِ عِنْدَ الْإِعَارَةِ، وَخَالَفَتْ الْإِجَارَةَ بِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، وَالْغَرَرُ لَا يُحْتَمَلُ فِيهَا. فَرْعٌ: يَحْرُمُ إعَارَةُ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ لِلْحَرْبِيِّ وَالْمُصْحَفِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِلْكَافِرِ وَإِعَارَةُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ. فَإِنْ اسْتَعَارَهُ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ الْجَزَاءَ لَلَهُ تَعَالَى وَالْقِيمَةَ لِمَالِكِهِ، وَلَوْ اسْتَعَارَ حَلَالٌ مِنْ مُحْرِمٍ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ، وَعَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْإِعَارَةِ إذْ يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ، وَيَجُوزُ إعَارَةُ فَحْلٍ لِلضِّرَابِ وَكَلْبٍ لِلصَّيْدِ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، وَلَوْ أَعَارَهُ شَاةً أَوْ دَفَعَهَا لَهُ وَمَلَّكَهُ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ آخِذُهَا الدَّرَّ وَالنَّسْلَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِهِبَةٍ فَاسِدَةٍ، وَيَضْمَنُ الشَّاةَ بِحُكْمِ الْعَارِيَّةِ الْفَاسِدَةِ، فَلَوْ أَبَاحَهُمَا لَهُ أَوْ اسْتَعَارَ مِنْهُ الشَّاةَ لَأَخَذَ ذَلِكَ أَوْ الشَّجَرَةَ لِيَأْخُذَ ثَمَرَهَا أَوْ الْبِئْرَ لِيَأْخُذَ مَاءَهَا أَوْ الْجَارِيَةَ لِيَأْخُذَ لَبَنَهَا جَازَ وَكَانَ إبَاحَةً لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالثَّمَرَةِ وَالْمَاءِ وَاللَّبَنِ، وَعَلَى هَذَا قَدْ تَكُونُ الْعَارِيَّةُ لِاسْتِفَادَةِ عَيْنٍ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَالشَّرْطُ فِي الْعَارِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا اسْتِهْلَاكٌ لِلْمُعَارِ، لَا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا اسْتِيفَاءُ عَيْنٍ. قَالَ الْأُشْمُونِيُّ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ لَيْسَ مُسْتَفَادًا بِالْعَارِيَّةِ بَلْ بِالْإِبَاحَةِ، وَالْمُسْتَعَارُ هُوَ الشَّاةُ لِمَنْفَعَةٍ، وَهِيَ التَّوَصُّلُ لِمَا أُبِيحَ لَهُ، وَكَذَا الْبَاقِي ا هـ. . وَهُوَ كَلَامٌ مَتِينٌ لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ مَلَّكَهُ دَرَّ الشَّاةِ وَنَسْلَهَا أَوْ أَبَاحَهَا لَهُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ عَلْفَهَا، فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ فَاسِدَانِ، فَيَضْمَنُ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ دُونَ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ كَمَنْ أَعْطَى سَقَّاءً شَيْئًا لِيَشْرَبَ فَأَعْطَاهُ كُوزًا فَانْكَسَرَ فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ دُونَ الْكُوزِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْرَبُهُ لَمْ يَضْمَنْ الزَّائِدَ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، فَإِنْ سَقَاهُ مَجَّانًا فَانْكَسَرَ الْكُوزُ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِعَارَةٍ فَاسِدَةٍ دُونَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِهِبَةٍ فَاسِدَةٍ.
المتن: وَالْأَصَحُّ اشْتِرَاطُ لَفْظٍ كَأَعَرْتُكَ أَوْ أَعِرْنِي، وَيَكْفِي لَفْظُ أَحَدِهِمَا مَعَ فِعْلِ الْآخَرِ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الرَّابِعِ، فَقَالَ (وَالْأَصَحُّ) فِي نَاطِقٍ (اشْتِرَاطُ لَفْظٍ) فِي الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَالِ الْغَيْرِ يَعْتَمِدُ إذْنَهُ (كَأَعَرْتُكَ)، هَذَا أَوْ أَعَرْتُكَ مَنْفَعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى الْعَيْنِ كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْإِجَارَةِ (أَوْ أَعِرْنِي) أَوْ خُذْهُ لِتَنْتَفِعَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا الْقَلْبِيِّ فَأُنِيطَ الْحُكْمُ بِهِ (وَيَكْفِي لَفْظُ أَحَدِهِمَا مَعَ فِعْلِ الْآخَرِ) كَمَا فِي إبَاحَةِ الطَّعَامِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ مِنْ جَانِبِ الْمُعِيرِ بِخِلَافِهِ فِي الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهَا مَقْبُوضَةٌ لِغَرَضِ الْمَالِكِ، وَغَرَضُهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِلَفْظٍ مِنْ جَانِبِهِ وَالْعَارِيَّةُ بِالْعَكْسِ فَاكْتُفِيَ فِيهَا بِلَفْظِ الْمُسْتَعِيرِ، وَلَا يَكْفِي الْفِعْلُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ إلَّا فِيمَا سَيَأْتِي اسْتِثْنَاؤُهُ. فَرْعٌ: لَوْ أَضَافَ شَخْصًا وَفَرَشَ لَهُ لِيَنَامَ فِيهِ، وَقَالَ: قُمْ وَنَمْ فِيهِ فَقَامَ أَوْ فَرَشَ بِسَاطًا فِي بَيْتٍ وَقَالَ لِآخَرَ: اُسْكُنْ فِيهِ تَمَّتْ الْعَارِيَّةُ، وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ حَتَّى لَوْ رَآهُ حَافِيًا، فَأَعْطَاهُ نَعْلًا أَوْ عَارِيًّا فَأَلْبَسَهُ قَمِيصًا أَوْ فَرَشَ لَهُ مُصَلًّى أَوْ وِسَادَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ عَارِيَّةً، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُتَوَلِّي بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا اللَّفْظُ قَالَ: بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشٍ مَبْسُوطٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ انْتِفَاعَ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، وَالْعَارِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْيِينِ الْمُسْتَعِيرِ. ا هـ. وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُتَوَلِّي إبَاحَةٌ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي لِقَضَاءِ الْعُرْفِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِ أَصْلِهِ مَا يَقْتَضِي تَقْرِيرَ الْمُتَوَلِّي، عَلَى مَا قَالَهُ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ مَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا وَسَلَّمَهُ لَهُ فِي ظَرْفٍ، فَالظَّرْفُ مُعَارٌ فِي الْأَصَحِّ، وَمَا لَوْ أَكَلَ الْمُهْدَى إلَيْهِ الْهَدِيَّةَ فِي ظَرْفِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ إنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهَا مِنْهُ كَأَكْلِ الطَّعَامِ مِنْ الْقَصْعَةِ الْمَبْعُوثِ فِيهَا، وَهُوَ مُعَارٌ، فَيَضْمَنُهُ بِحُكْمِ الْعَارِيَّةِ لَا إنْ كَانَ لِلْهَدِيَّةِ عِوَضٌ وَجَرَتْ الْعَادَةُ بِالْأَكْلِ مِنْهُ فَلَا يَضْمَنُهُ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ ضَمِنَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَلَا خَفَاءَ فِي جَوَازِ إعَارَةِ الْأَخْرَسِ الْمَفْهُومِ الْإِشَارَةِ وَاسْتِعَارَتِهِ بِهَا وَبِكِتَابَتِهِ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ جَوَازُهَا بِالْمُكَاتَبَةِ مِنْ النَّاطِقِ كَالْبَيْعِ وَأَوْلَى بِالْمُرَاسَلَةِ.
المتن: وَلَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَهُ لِتَعْلِفهُ أَوْ لِتُعِيرَنِي فَرَسَكَ فَهُوَ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ تُوجِبُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ.
الشَّرْحُ:
فَرْعٌ: يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْإِعَارَةِ وَتَأْخِيرُ الْقَبُولِ، فَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، أَنَّهُ لَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا وَأَذِنَ لَهُ فِي غِرَاسِهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَهِيَ بَعْدَ الشَّهْرِ عَارِيَّةٌ غَرَسَ أَمْ لَا، وَقَبْلَهُ أَمَانَةٌ حَتَّى لَوْ غَرَسَ قَبْلَهُ قَلَعَ (وَلَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَهُ) أَيْ فَرَسِي مَثَلًا (لِتَعْلِفَهُ) أَوْ عَلَى أَنْ تَعْلِفَهُ بِعَلَفِك (أَوْ لِتُعِيرَنِي فَرَسَكَ) أَوْ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ مَثَلًا (فَهُوَ إجَارَةٌ) نَظَرًا لِلْمَعْنَى (فَاسِدَةٌ) لِجَهَالَةِ الْعَلَفِ فِي الْأُولَى وَالْعِوَضِ فِي الثَّانِيَةِ وَالْمُدَّةُ فِي الثَّالِثَةِ (تُوجِبُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ) إذَا مَضَى بَعْدَ قَبْضِهِ زَمَنٌ لِمِثْلِهِ أُجْرَةٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ عَارِيَّةٌ فَاسِدَةٌ نَظَرًا لِلَّفْظِ فَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَمَضْمُونَةٌ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا عِنْدَ جَهْلِ الْعِوَضَيْنِ كَمَا فَرَضَهُ الْمُصَنِّف. أَمَّا لَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَهَا شَهْرًا مِنْ الْآنَ بِعَشْرَةٍ، أَوْ لِتُعِيرَنِي فَرَسَكَ سَنَةً مِنْ الْآنَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ نَظَرًا لِلْمَعْنَى، وَالثَّانِي: إعَارَةٌ فَاسِدَةٌ نَظَرًا لِلَّفْظِ، وَأَصَحُّهُمَا كَمَا فِي الْأَنْوَارِ الْأَوَّلُ.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمُسْتَعَارِ لَيْسَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بَلْ عَلَى الْمَالِكِ، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطُهُ مُفْسِدًا، وَإِنْ كَانَ فِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ.
المتن: وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ.
الشَّرْحُ: (وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ) لِلْعَارِيَّةِ إذَا كَانَ لَهَا مُؤْنَةٌ (عَلَى الْمُسْتَعِيرِ) مِنْ الْمَالِكِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ نَحْوِهِ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ} حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَأَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ، هَذَا إنْ رَدَّ عَلَى مَنْ اسْتَعَارَ مِنْهُ، فَلَوْ اسْتَعَارَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَرَدَّ عَلَى الْمَالِكِ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الرَّدُّ عِنْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ إلَّا إذَا حُجِرَ عَلَى الْمَالِكِ الْمُعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّدُّ إلَيْهِ بَلْ إلَى وَلِيِّهِ، وَلَوْ اسْتَعَارَ مُصْحَفًا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا مِنْ مُسْلِمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ وَطَلَبَهُ لَمْ يَجُزْ الرَّدُّ إلَيْهِ.
المتن: فَإِنْ تَلِفَتْ لَا بِاسْتِعْمَالٍ ضَمِنَهَا، وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا يَنْمَحِقُ أَوْ يَنْسَحِقُ بِاسْتِعْمَالٍ، وَالثَّالِثُ يَضْمَنُ الْمُنْمَحِقَ، وَالْمُسْتَعِيرُ مِنْ مُسْتَأْجِرٍ لَا يَضْمَنُ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْعَارِيَّةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ الضَّمَانُ وَقَدْ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ تَلِفَتْ) أَيْ الْعَيْنُ الْمُسْتَعَارَةُ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ (لَا بِاسْتِعْمَالٍ) لَهَا مَأْذُونٍ فِيهِ (ضَمِنَهَا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْبَابِ، {بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ}؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ رَدُّهُ لِمَالِكِهِ، فَيَضْمَنُ عِنْدَ تَلَفِهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ، فَلَوْ أَعَارَهَا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً لَغَا الشَّرْطُ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِصِحَّتِهَا وَلَا لِفَسَادِهَا، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِسْنَوِيِّ صِحَّتُهَا وَإِلَيْهِ يُومِئُ تَعْبِيرُهَا بِأَنَّ الشَّرْطَ لَغْوٌ. فَرْعٌ: لَوْ أَعَارَ عَيْنًا بِشَرْطِ ضَمَانِهَا عِنْدَ تَلَفِهَا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ فَسَدَ الشَّرْطُ دُونَ الْعَارِيَّةِ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: فِيهِ وَقْفَةٌ، وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ خِلَافٌ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آخِرَ الْبَابِ، وَسَكَتَ عَنْ ضَمَانِ الْأَجْزَاءِ، إذَا أُتْلِفَتْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كَالْعَيْنِ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُهَا إلَّا بِالتَّعَدِّي، وَلَوْ اسْتَعَارَ حِمَارَةً مَعَهَا جَحْشٌ فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْهُ: لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَهُ لِتَعَذُّرِ حَبْسِهِ عَنْ أُمِّهِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَعَارَهَا فَتَبِعَهَا وَلَدُهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمَالِكُ لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ فَهُوَ أَمَانَةٌ. قَالَهُ الْقَاضِي، وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا لِيَسْتَعْمِلَهَا بِخِلَافِ إكَافِ الدَّابَّةِ. قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ مَسَائِلَ مِنْهَا جِلْدُ الْأُضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَةِ. فَإِنَّ إعَارَتَهُ جَائِزَةٌ، وَلَا يَضْمَنُهُ الْمُسْتَعِيرُ إذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَالْبُلْقِينِيُّ لِابْتِنَاءِ يَدِهِ عَلَى يَدِ مَنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ، وَمِنْهَا الْمُسْتَعَارُ لِلرَّهْنِ إذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الرَّهْنِ، وَمِنْهَا لَوْ اسْتَعَارَ صَيْدًا مِنْ مُحْرِمٍ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ فِي الْأَصَحِّ، وَمِنْهَا مَا لَوْ أَعَارَ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِمَنْ لَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَتَلِفَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فَلَا ضَمَانَ لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَارِيَّةٍ وَمِثْلُهُ لَوْ اسْتَعَارَ الْفَقِيهُ كِتَابًا مَوْقُوفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَفْتَى الْأَذْرَعِيُّ بِأَنَّ الْفَقِيهَ لَا يَضْمَنُ الْكِتَابَ الْمَوْقُوفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا اسْتَعَارَهُ وَتَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَمِنْهَا مَا لَوْ أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ مَنْفَعَةً أَوْ صَالَحَ عَلَى مَنْفَعَةٍ أَوْ جَعَلَ رَأْسَ مَالٍ السَّلَمِ مَنْفَعَةً. فَإِنَّهُ إذَا أَعَارَهَا مُسْتَحِقُّ الْمَنْفَعَةِ شَخْصًا فَتَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى الْأَصَحِّ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ)، أَيْ الْمُسْتَعِيرَ (لَا يَضْمَنُ مَا يَنْمَحِقُ) أَيْ يَتْلَفُ بِالْكُلِّيَّةِ (أَوْ يَنْسَحِقُ)، أَيْ يَنْقُصُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ (بِاسْتِعْمَالٍ) مَأْذُونٍ فِيهِ لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: اُقْتُلْ عَبْدِي أَوْ اقْطَعْ يَدَهُ، وَالثَّانِي: يَضْمَنُ لِحَدِيثِ {عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ} فَإِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ ضَمِنَهُ (وَالثَّالِثُ) وَهُوَ مِنْ زِيَادَةِ الْمُصَنِّفِ (يَضْمَنُ الْمُنْمَحِقَ) دُونَ الْمُنْسَحِقِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِعَارَةِ الرَّدُّ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمُنْمَحِقِ، فَيَضْمَنُهُ بِخِلَافِ الْمُنْسَحِقِ
تَنْبِيهٌ: تَلَفُ الدَّابَّةِ بِرُكُوبٍ أَوْ حَمْلٍ مُعْتَادَيْنِ كَالِانْمِحَاقِ وَتَعِيبُهَا بِذَلِكَ كَالِانْسِحَاقِ، وَلَوْ أَعَارَهُ سَيْفًا يُقَاتِلُ بِهِ فَانْكَسَرَ فِي الْقِتَالِ لَمْ يَضْمَنْهُ كَانْسِحَاقِ الثَّوْبِ، قَالَهُ الصَّيْمَرِيُّ، وَيُسْتَثْنَى الْهَدْيُ وَالْأُضْحِيَّةُ الْمَنْذُورَانِ يَجُوزُ إعَارَتُهُمَا. قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَإِنْ نَقَصَا بِذَلِكَ ضَمِنَ. ا هـ. فَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَعِيرَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُعِيرَ لَزِمَ مِنْهُ ضَمَانُ الْمُسْتَعِيرِ أَيْضًا، وَصَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ أَيْضًا بِضَمَانِ الْمُعِيرِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ لَنَا عَارِيَّةٌ جَائِزَةٌ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ يَضْمَنُ الْمُعِيرُ فِيهَا إلَّا هَذِهِ الصُّورَةُ: أَيْ إذَا كَانَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعِيرِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُعِيرِ يَدُ أَمَانَةٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْعِمَادِ (وَالْمُسْتَعِيرُ مِنْ مُسْتَأْجِرٍ) إجَارَةً صَحِيحَةً (لَا يَضْمَنُ) التَّالِفَ (فِي الْأَصَحِّ)؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ وَهُوَ لَا يَضْمَنُ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ كَالْمُسْتَقْرِضِ مِنْ الْمَالِكِ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً ضَمِنَا مَعًا، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَاسِدُ كُلِّ عَقْدٍ كَصَحِيحِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي هُنَا عَدَمُ الضَّمَانِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَاسِدَةَ لَيْسَتْ حُكْمَ الصَّحِيحَةِ فِي كُلِّ مَا يَقْتَضِيه بَلْ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ بِمَا يَتَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ لَا بِمَا اقْتَضَاهُ حُكْمُهَا وَالْمُسْتَعِيرُ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَيْهِ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الْإِعَارَةُ كَالْمُسْتَعِيرِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَالضَّابِطُ لِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُسْتَحَقَّةً لِشَخْصٍ اسْتِحْقَاقًا لَازِمًا وَلَيْسَتْ الرَّقَبَةُ لَهُ، فَإِذَا أَعَارَ لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْمُسْتَعِيرِ مِنْ الْغَاصِبِ فِي بَابِهِ، وَلَوْ اسْتَعَارَ فَقِيهٌ كِتَابًا مَوْقُوفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَرَطَ وَاقِفُهُ أَنْ لَا يُعَارَ إلَّا بِرَهْنٍ بِحِرْزِ قِيمَتِهِ فَسُرِقَ مِنْ حِرْزِهِ لَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ تَلِفَ فِي يَدِهِ بِلَا تَفْرِيطٍ وَإِنْ سُمِّيَ عَارِيَّةً عُرْفًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى الْعَارِيَّةِ رَهْنٌ وَلَا ضَامِنٌ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهَا ذَلِكَ بَطَلَتْ.
المتن: وَلَوْ تَلِفَتْ دَابَّتُهُ فِي يَدِ وَكِيلٍ بَعْثُهُ فِي شُغْلِهِ أَوْ فِي يَدِ مَنْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ لِيُرَوِّضَهَا فَلَا ضَمَانَ، وَلَهُ الِانْتِفَاعُ بِحَسَبِ الْإِذْنِ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ تَلِفَتْ دَابَّتُهُ فِي يَدِ وَكِيلٍ) لَهُ (بَعْثُهُ فِي شُغْلِهِ، أَوْ) تَلِفَتْ (فِي يَدِ مَنْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ لِيُرَوِّضهَا) أَيْ: يُعَلِّمَهَا الْمَشْيَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ (فَلَا ضَمَانَ) عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا لِغَرَضِ نَفْسِهِ بَلْ لِغَرَضِ الْمَالِكِ، هَذَا، إذَا رَكِبَهَا فِي الرِّيَاضَةِ، فَإِنْ رَكِبَهَا فِي غَيْرِهَا فَتَلِفَتْ ضَمِنَ، وَهَكَذَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ غُلَامَهُ لِيُعَلِّمَهُ حِرْفَةً فَاسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهَا، وَلَوْ أَرْكَبَ الْمَالِكُ دَابَّتَهُ مُنْقَطِعًا فِي الطَّرِيقِ تَقَرُّبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَتَلِفَتْ ضَمِنَهَا سَوَاءٌ الْتَمَسَ الرَّاكِبَ أَمْ ابْتَدَأَهُ الْمُرْكَبُ وَإِنْ أَرْدَفَهُ فَتَلِفَتْ بِغَيْرِ الرُّكُوبِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ، وَلَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ عَلَى دَابَّةِ شَخْصٍ، وَقَالَ لَهُ: سَيِّرْهَا فَفَعَلَ فَتَلِفَتْ بِغَيْرِ الْوَضْعِ ضَمِنَهَا كَسَائِرِ الْعَوَارِيِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مَتَاعٌ لِغَيْرِهِ فَتَلِفَتْ بِذَلِكَ ضَمِنَ مِنْهَا بِقِسْطِ مَتَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ مِنْهَا بِقِسْطِهِ مِمَّا عَلَيْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَيْهَا مِثْلُ مَتَاعِهِ ضَمِنَ نِصْفَهَا، فَإِنْ سَيَّرَهَا مَالِكُهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَاضِعِ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ الْوَاضِعُ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَ يَدِ مَالِكِهَا، بَلْ يَضْمَنُ الْمَالِكُ مَتَاعَهُ إذْ لَهُ طَرْحُهُ عَنْهَا، وَلَوْ حَمَلَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ مَتَاعَ شَخْصٍ بِسُؤَالِ الشَّخْصِ فَهُوَ مُعِيرٌ، أَوْ بِسُؤَالِهِ هُوَ فَهُوَ وَدِيعٌ (وَلَهُ) أَيْ الْمُسْتَعِيرِ (الِانْتِفَاعُ) بِالْمُعَارِ (بِحَسَبِ الْإِذْنِ) لِرِضَا الْمَالِكِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَوْضِعِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرُّكُوبِ فِي الرُّجُوعِ أَنَّهُ لَا يَرْكَبُهَا فِي الرُّجُوعِ، لَكِنْ فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ أَوْ أَخَّرَ الْإِجَارَةَ. عَنْ الْعَبَّادِيِّ: أَنَّ لَهُ الرُّكُوبَ فِي الرَّدِّ وَأَقَرَّاهُ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ إلَى مَوْضِعٍ، فَلَيْسَ لَهُ رُكُوبُهَا فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّدَّ لَازِمٌ لِلْمُسْتَعِيرِ فَالْإِذْنُ يَتَنَاوَلُ رُكُوبَهَا فِي الْعَوْدِ بِالْعُرْفِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا رَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَعَارَ لِلرُّكُوبِ إلَى مَوْضِعٍ فَجَاوَزَهُ ضَمِنَ أُجْرَةَ ذَهَابِ مُجَاوَزَتِهِ عَنْهُ وَرُجُوعِهِ إلَيْهِ لِتَعَدِّيهِ. وَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا إلَى مَكَانِهَا الَّذِي اسْتَعَارَهَا مِنْهُ أَوْ لَا؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ انْقَطَعَ بِالْمُجَاوَزَةِ فَيُسَلِّمُهَا إلَى حَاكِمِ تِلْكَ الْبَلَدِ. وَثَانِيهمَا: نَعَمْ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَصَحَّحَهُ السُّبْكِيُّ وَتَبِعَهُ الْبُلْقِينِيُّ، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ عَنْ وَكَالَتِهِ بِتَعَدِّيهِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدٌ جَائِزٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا أُجْرَةُ الرُّجُوعِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ بِالْقُرْعَةِ وَزَادَ مُقَامُهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي مَضَى إلَيْهِ قَضَى الزَّائِدَ لِبَقِيَّةِ نِسَائِهِ، وَفِي قَضَاءِ الرُّجُوعِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا قَضَاءَ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ ثَوْبًا مَثَلًا ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي لُبْسِهِ، فَإِنْ لَبِسَهُ صَارَ عَارِيَّةً وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كَوْنِهِ وَدِيعَةً، وَلَوْ اسْتَعَارَ صُنْدُوقًا فَوَجَدَ فِيهِ دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرَهَا فَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، كَمَا لَوْ طَرَحَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي دَارِهِ فَإِنْ أَتْلَفَهَا وَلَوْ جَاهِلًا بِهَا أَوْ تَلِفَتْ بِتَقْصِيرِهِ ضَمِنَهَا.
المتن: فَإِنْ أَعَارَهُ لِزِرَاعَةِ حِنْطَةٍ زَرَعَهَا وَمِثْلَهَا إنْ لَمْ يَنْهَهُ، أَوْ لِشَعِيرٍ لَمْ يَزْرَعْ فَوْقَهُ كَحِنْطَةٍ، وَلَوْ أَطْلَقَ الزِّرَاعَةَ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ وَيَزْرَعُ مَا شَاءَ وَإِذَا اسْتَعَارَ لِبِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ فَلَهُ الزَّرْعُ وَلَا عَكْسَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَغْرِسُ مُسْتَعِيرٌ لِبِنَاءٍ وَكَذَا الْعَكْسُ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ إعَارَةُ الْأَرْضِ مُطْلَقَةً، بَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ نَوْعِ الْمَنْفَعَةِ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي، وَهُوَ تَسَلُّطُ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَقَالَ: (فَإِنْ أَعَارَهُ) أَرْضًا (لِزِرَاعَةِ حِنْطَةٍ) مَثَلًا (زَرَعَهَا) لِإِذْنِهِ فِيهَا (وَمِثْلَهَا) أَوْ دُونَهَا فِي الضَّرَرِ، فَإِنْ قَالَ: أَزْرَعُ الْبُرَّ فَلَهُ زَرْعُ الشَّعِيرِ وَالْبَاقِلَّاءِ وَنَحْوِهِمَا كَالْجُلُبَّانِ وَالْحِمَّصِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا فِي الْأَرْضِ فَوْقَ ضَرَرِ مَا ذُكِرَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ مَا فَوْقَهُ كَالذُّرَةِ وَالْقُطْنِ وَالْأُرْزِ هَذَا (إنْ لَمْ يَنْهَهُ) عَنْ غَيْرِهَا فَإِنْ نَهَاهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَرْعُهُ تَبَعًا لِنَهْيِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ بِمِائَةٍ وَلَا تَشْتَرِ بِخَمْسِينَ، وَلَوْ عَيَّنَ نَوْعًا وَنَهَى عَنْ غَيْرِهِ اُتُّبِعَ، صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ (أَوْ) أَعَارَهُ أَرْضًا (لِشَعِيرٍ) يَزْرَعُهُ فِيهَا (لَمْ يَزْرَعْ فَوْقَهُ كَحِنْطَةٍ)؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَإِنْ خَالَفَهُ وَزَرَعَ مَا لَيْسَ لَهُ زَرْعُهُ، كَأَنْ أَذِنَ فِي الْبُرِّ فَزَرَعَ الذُّرَةَ جَازَ لِلْمُعِيرِ قَلْعُهُ مَجَّانًا، فَلَوْ مَضَتْ مُدَّةٌ لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، أَوْ مَا بَيْنَ زِرَاعَةِ الْبُرِّ وَزِرَاعَةِ الذُّرَةِ؟ احْتِمَالَانِ: أَوْجَهُهُمَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْمُتَوَلِّي، فَإِنْ فَعَلَ فَكَالْغَاصِبِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ جَزَمَ فِي الْأَنْوَارِ.
تَنْبِيهٌ: تَنْكِيرُ الْمُصَنِّفِ لِلْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يُوهِمُ أَنَّهُ إذَا أَشَارَ إلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُمَا وَأَعَارَهُ لِزِرَاعَتِهِ جَوَازَ الِانْتِقَالِ عَنْهُ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْإِجَارَةِ. وَالْمُتَّجِهُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ هُنَا مَنْعُهُ. وَلِهَذَا عَرَّفَهَا فِي الْمُحَرَّرِ. وَصَرَّحَ فِي الشَّعِيرِ بِمَا لَا يَجُوزُ بِقَوْلِهِ لَمْ يُزْرَعْ فَوْقَهُ. وَفِي الْحِنْطَةِ بِمَا يَجُوزُ بِقَوْلِهِ وَمِثْلِهَا لِدَلَالَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ (وَلَوْ أَطْلَقَ) الْمُعِيرُ (الزِّرَاعَةَ) أَيْ: الْإِذْنَ فِيهَا كَقَوْلِهِ: أَعَرْتُك لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لِتَزْرَعَهَا (صَحَّ) عَقْدُ الْإِعَارَةِ (فِي الْأَصَحِّ، وَيَزْرَعُ مَا شَاءَ) لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ. وَالْمُرَادُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: أَنْ يَزْرَعَ مَا شَاءَ مِمَّا اُعْتِيدَ زَرْعُهُ هُنَاكَ وَلَوْ نَادِرًا حَمْلًا لِلْإِطْلَاقِ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِتَفَاوُتِ ضَرَرِ الْمَزْرُوعِ. قَالَ الشَّيْخَانِ: وَلَوْ قِيلَ يَصِحُّ وَيَقْتَصِرُ عَلَى أَخَفِّهَا ضَرَرًا لَكَانَ مَذْهَبًا، وَرَدَّهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ الْمُطْلَقَاتِ، إنَّمَا تُنَزَّلُ عَلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ لَصَحَّ، وَهَذَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّ أَقَلِّ الْأَنْوَاعِ ضَرَرًا فَيُؤَدِّي إلَى النِّزَاعِ، وَالْعُقُودُ تُصَانُ عَنْ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَلْ أَوْلَى مَا أَعَارَهُ لِيَزْرَعَ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ لَا مُطْلَقٌ (وَإِذَا اسْتَعَارَ لِبِنَاءٍ أَوْ) لِغَرْسِ (غِرَاسٍ فَلَهُ الزَّرْعُ) إنْ لَمْ يَنْهَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ، وَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّهُ يُرْخِي الْأَرْضَ، فَإِنْ نَهَاهُ لَمْ يَفْعَلْهُ (وَلَا عَكْسَ) أَيْ إذَا اسْتَعَارَ لِلزَّرْعِ فَلَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُمَا أَكْثَرُ وَيُقْصَدُ بِهِمَا الدَّوَامُ (وَالصَّحِيحُ) وَفِي الرَّوْضَةِ: الْأَصَحُّ (أَنَّهُ لَا يَغْرِسُ مُسْتَعِيرٌ لِبِنَاءٍ وَكَذَا الْعَكْسُ)، أَيْ لَا يَبْنِي مُسْتَعِيرٌ لِغِرَاسٍ لِاخْتِلَافِ الضَّرَرِ، فَإِنَّ ضَرَرَ الْبِنَاءِ فِي ظَاهِرِ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ بَاطِنِهَا، وَالْغِرَاسُ بِالْعَكْسِ لِانْتِشَارِ عُرُوقِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ لِلتَّأْبِيدِ.
تَنْبِيهٌ: مَوْضِع الْمَنْعِ فِي الْغِرَاسِ مَا يُرَادُ لِلدَّوَامِ. أَمَّا مَا يُغْرَسُ لِلنَّقْلِ فِي عَامِهِ، وَيُسَمَّى الْفَسِيلَ بِالْفَاءِ، وَهُوَ صِغَارُ النَّخْلِ فَكَالزَّرْعِ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْجُوَيْنِيِّ قَالَ السُّبْكِيُّ: وَسَكَتُوا عَنْ الْبُقُولِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُجَزُّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُ عُرُوقِهِ بِالْغِرَاسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْقَلُ أَصْلُهُ، فَيَكُونُ كَالْفَسِيلِ الَّذِي يُنْقَلُ (وَ) الصَّحِيحُ، (أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إعَارَةُ الْأَرْضِ مُطْلَقَةً، بَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ نَوْعِ الْمَنْفَعَةِ) مِنْ زَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي: تَصِحُّ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ. قَالَ: وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِيهَا مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْإِجَارَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ الصِّحَّةَ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ، وَجَزَمَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، فَالْخِلَافُ قَوِيٌّ مَعَ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّف يَقْتَضِي ضَعْفَهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَهَا لِتَنْتَفِعَ بِهَا كَيْفَ شِئْت أَوْ بِمَا بَدَا لَك، فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا كَمَا فِي الْمَطْلَبِ الصِّحَّةُ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ: يَنْبَغِي الْقَطْعُ بِهِ، وَقَدْ صَحَّحَ الشَّيْخَانِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْإِجَارَةِ الصِّحَّةَ وَالْعَارِيَّةُ بِهِ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا فَقِيلَ يَنْتَفِعُ بِهَا كَيْفَ شَاءَ، وَقِيلَ: يَنْتَفِعُ بِمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْمُعَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ. ا هـ. وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ إطْلَاقَ الْإِعَارَةِ لَا يُسَلَّطُ عَلَى الدَّفْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ اللُّزُومِ.
تَنْبِيهٌ: ذِكْرُ الْمُصَنِّفِ الْأَرْضَ مِثَالٌ لِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِجِهَتَيْنِ فَأَكْثَرَ كَالدَّابَّةِ تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ. أَمَّا مَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ كَالْبِسَاطِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْفِرَاشِ فَلَا حَاجَةَ فِي إعَارَتِهِ إلَى بَيَانٍ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالتَّعْيِينِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْجَوَازُ مُتَرْجِمًا لَهُ بِفَصْلٍ، فَقَالَ.
|