الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
المتن: التَّمْلِيكُ بِلَا عِوَضٍ هِبَةٌ
الشَّرْحُ: كِتَابُ الْهِبَةِ تُقَالُ لِمَا يَعُمُّ الْهَدِيَّةَ وَالصَّدَقَةَ، وَلِمَا يُقَابِلُهُمَا، وَاسْتُعْمِلَ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِهَا وَالثَّانِي: فِي أَرْكَانِهَا وَسَيَأْتِي. وَالْأَصْلُ فِيهَا عَلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَقَوْلُهُ {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} قِيلَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْهِبَةُ، وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ {لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ} أَيْ ظِلْفَهَا، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْهِبَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَالْهِبَةُ: بِرٌّ، وَلِأَنَّهَا سَبَبُ التَّوَادِّ وَالتَّحَابِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَهَادَوْا تَحَابُّوا} وَقَبِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقَسِ الْكَافِرِ وَتَسَرَّى مِنْ جُمْلَتِهَا بِمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ وَأَوْلَدَهَا، وَقَبِلَ هَدِيَّةَ النَّجَاشِيِّ الْمُسْلِمِ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَهَادَاهُ أَيْضًا " وَقَدْ يُعْرَضُ لَهَا أَسْبَابٌ تُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ: مِنْهَا الْهِبَةُ لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَاتِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ كَمَا هُوَ مُحَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ كَانَ الْمُتَّهَبُ يَسْتَعِينُ بِذَلِكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَصَرْفُهَا فِي الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ لِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلِمَا رُوِيَ فِي الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ} وَالصَّرْفُ إلَى الْأَوَّلِ أَفْضَلُ. ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْرِيفِهَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَقَالَ (التَّمْلِيكُ) لِعَيْنٍ (بِلَا عِوَضٍ) فِي حَالِ الْحَيَاةِ تَطَوُّعًا (هِبَةٌ) فَخَرَجَ بِالتَّمْلِيكِ الْعَارِيَّةُ وَالضِّيَافَةُ وَالْوَقْفُ، وَبِالْعَيْنِ الدَّيْنُ وَالْمَنْفَعَةُ وَسَيَأْتِي حُكْمُهُمَا، وَبِنَفْيِ الْعِوَضِ مَا فِيهِ عِوَضٌ كَالْبَيْعِ وَلَوْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَبِالْحَيَاةِ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ فِيهَا إنَّمَا يَتِمُّ بِالْقَبُولِ وَهُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالتَّطَوُّعِ الْوَاجِبِ مِنْ زَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَحْوِهِمَا، وَكَانَ الْأَوْلَى فِي تَعْرِيفِ الْهِبَةِ كَمَا فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ الْهِبَةُ تَمْلِيكٌ إلَخْ، فَإِنَّ الْهِبَةَ هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: يُرَدُّ عَلَى حَصْرِ الْهِبَةِ فِي التَّمْلِيكِ مَا لَوْ أُهْدِيَ إلَى غَنِيٍّ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّةٍ أَوْ هَدْيٍ أَوْ عَقِيقَةٍ، فَإِنَّهُ هِبَةٌ وَلَا تَمْلِيكَ فِيهِ، وَمَا لَوْ وَقَفَ شَيْئًا فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ وَلَيْسَ بِهِبَةٍ. أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِمَنْعِ أَنَّهُ لَا تَمْلِيكَ فِيهِ، بَلْ فِيهِ تَمْلِيكٌ. لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ بَابِ الْأُضْحِيَّةِ، وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ، وَإِطْلَاقُهُمْ التَّمْلِيكَ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْأَعْيَانَ.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ الْهِبَةَ بِثَوَابٍ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْهِبَةِ لِوُجُودِ الْعِوَضِيَّةِ، وَبِهِ صَرَّحَ الزُّبَيْرِيُّ.
المتن: فَإِنْ مَلَّكَ مُحْتَاجًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ فَصَدَقَةٌ، فَإِنْ نَقَلَهُ إلَى مَكَانِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إكْرَامًا لَهُ فَهَدِيَّةٌ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ قَسَّمَ التَّمْلِيكَ الْمَذْكُورَ إلَى الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ مَلَّكَ) بِلَا عِوَضٍ (مُحْتَاجًا) شَيْئًا (لِثَوَابِ الْآخِرَةِ) أَيْ لِأَجْلِهَا (فَصَدَقَةٌ) أَيْ فَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ، كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ قَالَ السُّبْكِيُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْحَاجَةُ أَوْ قَصْدُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ جَائِزَةٌ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا إذَا قَصَدَ الْقُرْبَةَ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ مَا لَوْ مَلَّكَ غَنِيًّا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ (فَإِنْ نَقَلَهُ) بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مَعَ قَصْدِ الثَّوَابِ (إلَى مَكَانِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إكْرَامًا لَهُ فَهَدِيَّةٌ) أَيْضًا، أَوْ بِدُونِ قَصْدِ الثَّوَابِ فَهَدِيَّةٌ فَقَطْ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ: وَإِنْ نَقَلَهُ بِالْوَاوِ وَهِيَ أَوْلَى، فَإِنَّ الْفَاءَ تَوَهُّمٌ لَوْلَا مَا قَدَّرْتُهُ أَنَّ الْهَدِيَّةَ قِسْمٌ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ هِيَ قَسِيمُهَا، وَإِذَا انْضَمَّ إلَى تَمْلِيكِ الْمُحْتَاجِ بِقَصْدِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ النَّقْلُ إلَى مَكَانِهِ فَتَكُونُ هَدِيَّةً وَصَدَقَةً، وَقَدْ تَجْتَمِعُ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ فِيمَا لَوْ مَلَّكَ مُحْتَاجًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ بِلَا عِوَضٍ وَنَقَلَهُ إلَيْهِ إكْرَامًا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِكْرَامَ لَيْسَ شَرْطًا فَالشَّرْطُ هُوَ النَّقْلُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ: اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الرِّشْوَةِ. وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْهَدِيَّةِ عَلَى الْعَقَارِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَرَّحُوا فِي بَابِ النَّذْرِ أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذَا الْبَيْتَ مَثَلًا صَحَّ وَبَاعَهُ وَنَقَلَ ثَمَنَهُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فِيهِ بِتَخْصِيصِهِ بِالْإِهْدَاءِ إلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَتَعْمِيمِهِ فِي الْمَنْقُولِ وَغَيْرِهِ.
المتن: وَشَرْطُ الْهِبَةِ إيجَابٌ وَقَبُولٌ لَفْظًا.
الشَّرْحُ: وَأَمَّا تَعْرِيفُهَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. فَأَرْكَانُهَا ثَلَاثَةٌ: عَاقِدٌ وَصِيغَةُ وَمَوْهُوبٌ، وَقَدْ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ بَعْضِ ذَلِكَ فَقَالَ (وَشَرْطُ الْهِبَةِ) لِتَتَحَقَّقَ عَاقِدَانِ كَالْبَيْعِ، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ، وَلَهُمَا شُرُوطٌ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْوَاهِبِ الْمِلْكُ، وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ وَلِيٍّ فِي مَالِ مَحْجُورِهِ وَلَا مِنْ مُكَاتَبٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْمِلْكِ لِمَا يُوهَبُ لَهُ مِنْ تَكْلِيفٍ وَغَيْرِهِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ يَقْبَلُ لَهُ وَلِيُّهُ فَلَا تَصِحُّ لِحَمْلٍ وَلَا لِبَهِيمَةٍ وَلَا لِرَقِيقِ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْهِبَةَ لَهُ فَهِيَ لِسَيِّدِهِ، وَ (إيجَابٌ وَقَبُولٌ لَفْظًا) مِنْ النَّاطِقِ مَعَ التَّوَاصُلِ الْمُعْتَادِ كَالْبَيْعِ. وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي، وَمِنْ صَرِيحِ الْإِيجَابِ وَهَبْتُك وَمَنَحْتُك وَمَلَّكْتُك بِلَا ثَمَنٍ، وَمِنْ صَرِيحِ الْقَبُولِ قَبِلْت وَرَضِيت، وَيُسْتَثْنَى مِنْ اعْتِبَارِهِمَا مَسَائِلُ: مِنْهَا الْهِبَةُ الضِّمْنِيَّةُ كَأَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي، فَفَعَلَ فَيَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ هِبَةً وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ لِلْقَبُولِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَوْبَتَهَا مِنْ ضَرَّتِهَا لَمْ يُحْتَجْ لِقَبُولِهَا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَسْمِ وَالنُّشُوزِ. وَمِنْهَا مَا يَخْلَعُهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ. وَمِنْهَا مَا لَوْ اشْتَرَى حُلِيًّا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَزَيَّنَهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَمْلِيكًا لَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِزَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهَا كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى الصَّغِيرِ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ كَذَا ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمُلَقَّنِ، وَيَرُدُّ هَذَا قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ وَهَبَ لِلصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ وَلِيٌّ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ قَبِلَ لَهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا تَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي بِدَرَاهِمِك لَحْمًا فَاشْتَرَاهُ وَصَحَّحْنَاهُ لِلسَّائِلِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ تَكُونُ هِبَةً لَا قَرْضًا، وَيَقْبَلُ الْهِبَةَ لِلصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْقَبُولِ الْوَلِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ انْعَزَلَ الْوَصِيُّ وَمِثْلُهُ الْقَيِّمُ وَأَثِمَا لِتَرْكِهِمَا الْأَحَظَّ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِمَا وَيَقْبَلُهَا السَّفِيهُ نَفْسُهُ وَكَذَا الرَّقِيقُ لَا سَيِّدُهُ وَإِنْ وَقَعَتْ لَهُ. أَمَّا الْأَخْرَسُ فَيَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ الْمُفْهِمَةُ، وَفِي الذَّخَائِرِ أَنَّ انْعِقَادَ الْهِبَةِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَبِالِاسْتِيجَابِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ: أَيْ فَتَصِحُّ وَمِنْ الْكِنَايَةِ الْكِتَابَةُ، وَاخْتَارَ فِي الْمَجْمُوعِ صِحَّتَهَا بِالْمُعَاطَاةِ وَقَوْلُهُ لِغَيْرِهِ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ كِنَايَةٌ فِي الْهِبَةِ، فَإِنْ قَالَ الْوَاهِبُ: لَمْ أُرِدْهَا صَدَقَ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْعَارِيَّةِ فَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فِي الْهِبَةِ كَالْبَيْعِ، وَهَلْ يَصِحُّ قَبُولُ بَعْضِ الْمَوْهُوبِ أَوْ قَبُولُ أَحَدِ شَخْصَيْنِ نِصْفَ مَا وَهَبَ لَهُمَا وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا، كَمَا قَالَ شَيْخِي تَبَعًا لِبَعْضِ الْيَمَانِيِّينَ الصِّحَّةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَاغْتُفِرَ فِيهَا مَا لَمْ يُغْتَفَرْ فِيهِ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. إنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَيْسَ بِقَادِحٍ.
المتن: وَلَا يُشْتَرَطَانِ فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ يَكْفِي الْبَعْثُ مِنْ هَذَا وَالْقَبْضُ مِنْ ذَاكَ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يُشْتَرَطَانِ) أَيْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ (فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ) وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ (بَلْ يَكْفِي الْبَعْثُ مِنْ هَذَا) أَيْ الْمُهْدِي، وَيَكُونُ كَالْإِيجَابِ (وَالْقَبْضُ مِنْ ذَاكَ) أَيْ الْمُهْدَى إلَيْهِ وَيَكُونُ كَالْقَبُولِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْأَعْصَارِ، وَقَدْ أَهْدَى الْمُلُوكُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِسْوَةَ وَالدَّوَابَّ وَالْجَوَارِيَ كَمَا مَرَّ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ} رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَعَنْ أَبَوَيْهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ إيجَابٌ وَلَا قَبُولٌ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطَانِ كَالْهِبَةِ، وَحُمِلَ مَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ عَلَى الْإِبَاحَةِ رُدَّ بِتَصَرُّفِهِمْ فِي الْمَبْعُوثِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ. وَالْفُرُوجُ لَا تُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ.
تَنْبِيهٌ: سُكُوتُ الْمُصَنِّفِ عَنْ احْتِيَاجِ الصَّدَقَةِ إلَى الصِّيغَةِ يُشْعِرُ بِعَدَمِ افْتِقَارِهَا إلَيْهَا قَطْعًا. وَقَالَ الْإِمَامُ: إنَّهُ الظَّاهِرُ لَكِنْ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا: إنَّ الصَّدَقَةَ كَالْهَدِيَّةِ بِلَا فَرْقٍ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ كَلَامُهُ إنَّمَا يُشْعِرُ بِاشْتِرَاطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ إلَّا الْهَدِيَّةَ.. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِبَةِ فِي قَوْلِهِ وَشَرْطُ الْهِبَةِ إيجَابٌ وَقَبُولٌ الْهِبَةُ الْخَاصَّةُ الْمُقَابِلَةُ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ لَا الْهِبَةُ الْعَامَّةُ الْمُرَادَةُ أَوَّلَ الْبَابِ، وَقَوْلُهُ لَفْظًا تَأْكِيدٌ وَنَصْبُهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ الْبَاءِ. فَرْعٌ: لَوْ خَتَنَ شَخْصٌ وَلَدَهُ وَاتَّخَذَ دَعْوَةً، فَأُهْدِيَ إلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّ أَصْحَابَ الْهَدَايَا الِابْنُ وَلَا الْأَبُ، حُكِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لِلِابْنِ وَصَحَّحَهُ الْعَبَّادِيُّ وَصَاحِبُ الْكَافِي وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَالثَّانِي وَيُحْكَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّهُ أَقْوَى وَأَصَحُّ أَنَّهَا لِلْأَبِ، وَلَوْ غَرَسَ شَجَرًا وَقَالَ عِنْدَ غَرْسِهِ: غَرَسْته لِطِفْلِي لَمْ يَمْلِكْهُ، فَإِنْ قَالَ: جَعَلْته لَهُ صَارَ مِلْكَهُ: أَيْ إذَا قَبِلَهُ لَهُ كَمَا مَرَّ.
المتن: وَلَوْ قَالَ أَعَمَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِوَرَثَتِك فَهِيَ هِبَةٌ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَعَمَرْتُك فَكَذَا فِي الْجَدِيدِ، وَلَوْ قَالَ فَإِذَا مِتُّ عَادَتْ إلَيَّ فَكَذَا فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: أَرْقَبْتُكَ أَوْ جَعَلْتُهَا لَك رُقْبَى: أَيْ إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك اسْتَقَرَّتْ لَك فَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ.
الشَّرْحُ: وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الصِّيغَةِ وَتَوْقِيتُهَا إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ بِقَوْلِهِ (وَلَوْ قَالَ: أَعَمَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ) مَثَلًا: أَيْ جَعَلْتُهَا لَك عُمْرَك أَوْ حَيَاتَك أَوْ مَا عِشْت أَوْ حَيِيت أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (فَإِذَا مِتَّ) بِفَتْحِ التَّاءِ (فَهِيَ لِوَرَثَتِك) أَوْ لِعَقِبِك كَمَا فِي الرَّوْضَةِ (فَهِيَ هِبَةٌ) حُكْمًا، وَلَكِنَّهُ طَوَّلَ الْعِبَارَةَ فَيُعْتَبَرُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَتَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا مَاتَ كَانَتْ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَلِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَعُودُ لِلْوَاهِبِ بِحَالٍ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ {أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا} (وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى) قَوْلِهِ: (أَعَمَرْتُك) هَذِهِ الدَّارَ مَثَلًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ (فَكَذَا) هِيَ هِبَةٌ (فِي الْجَدِيدِ) لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ {الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا} وَلَيْسَ فِي جَعْلِهَا لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مَا يُنَافِي انْتِقَالَهَا إلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنَّ الْأَمْلَاكَ كُلَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِحَيَاتِهِ وَالْقَدِيمُ بُطْلَانُهُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعَمَرْتُك سَنَةً (وَ) عَلَى الْجَدِيدِ (لَوْ قَالَ) مَعَ قَوْلِهِ أَعْمَرْتُكَهَا: (فَإِذَا مِتَّ عَادَتْ إلَيَّ) أَوْ إلَى وَارِثِيَّ (فَكَذَا) هِيَ هِبَةٌ وَإِعْمَارٌ صَحِيحٌ (فِي الْأَصَحِّ) وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَيَلْغُو ذِكْرُ الشَّرْطِ لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ فَهَلَّا بَطَلَتْ الْعُمْرَى كَالْبَيْعِ. أُجِيبَ بِأَنَّ شُرُوطَ الْبَيْعِ تُقَابَلُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، فَإِذَا بَطَلَتْ يَسْقُطْ مَا يُقَابِلُهَا فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا فَيَبْطُلُ، وَالْعُمْرَى لَا ثَمَنَ فِيهَا فَلِذَلِكَ صَحَّتْ، وَبِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَقْتَضِي فَسْخًا مُنْتَظَرًا وَلَا يَضُرُّ الْهِبَةَ بِدَلِيلِ هِبَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ وَيَضُرُّ الْبَيْعَ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَقَضِيَّةُ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ قَيَّدَ الْهِبَةَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ صَحَّتْ كَالْعُمْرَى وَهُوَ كَذَلِكَ. فَائِدَةٌ: قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يَصِحُّ فِيهِ الْعَقْدُ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ الْمُنَافِي لِمُقْتَضَاهُ إلَّا هَذَا. وَالثَّانِي: يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ يَبْطُلُ مِنْ بَابِ أَوْلَى كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّرِ.
تَنْبِيهٌ: قَدْ يَقْتَضِي كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا لَك عُمْرِي أَوْ عُمْرَ زَيْدٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِخُرُوجِهِ عَنْ اللَّفْظِ الْمُعْتَادِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْقِيتِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ الْوَاهِبَ أَوْ زَيْدًا قَدْ يَمُوتُ أَوَّلًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَكَأَنْ لَا تَوْقِيتَ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْعُمْرَى كَإِذَا مِتُّ أَوْ جَاءَ فُلَانٌ أَوْ رَأْسُ الشَّهْرِ فَهَذِهِ الدَّارُ لَك عُمْرَك، فَلَوْ قَالَ: إنْ مِتُّ فَهِيَ لَك عُمْرَك فَوَصِيَّةٌ يُعْتَبَرُ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ (وَلَوْ قَالَ: أَرْقَبْتُك) هَذِهِ الدَّارَ مَثَلًا (أَوْ جَعَلْتُهَا لَك رُقْبَى) وَفَسَّرَ الْمُصَنِّفُ مُدَّةَ طُولِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَيْ إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك اسْتَقَرَّتْ لَك فَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ الْجَدِيدِ) وَهُوَ الصِّحَّةُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ (وَالْقَدِيمِ) وَهُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ الْقَطْعُ بِالْبُطْلَانِ، وَلَا يَحْتَاجُ لِلتَّفْسِيرِ فِي عَقْدِ الرُّقْبَى بَلْ يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى أَرْقَبْتُك. نَعَمْ إنْ عَقَدَهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ كَوَهَبْتُهَا لَك عُمْرَك اُحْتِيجَ لِلتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ. وَالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى كَانَا عَقْدَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَطِيَّتَيْنِ مَخْصُوصَتَيْنِ، فَالْعُمْرَى مِنْ الْعُمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا عُمْرَهُ، وَالرُّقْبَى مِنْ الرُّقُوبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَصِحَّةُ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى بَعِيدٌ عَنْ الْقِيَاسِ. لَكِنَّ الْحَدِيثَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ وَكُلِّ قِيَاسٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِمَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، فَلَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهِمَا لِلنَّهْيِ وَصِحَّتِهِمَا لِلْحَدِيثِ، كَمَا قُلْنَا فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ لَمْ يَبْعُدْ وَبُسِطَ ذَلِكَ، وَلَا بُدَّ فِي الرُّقْبَى مِنْ الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ كَمَا مَرَّ فِي الْعُمْرَى، وَلَوْ جَعَلَ رَجُلَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا دَارِهِ لِلْآخَرِ رُقْبَى عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ عَادَتْ لِلْآخَرِ فَرُقْبَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
المتن: وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ، وَمَا لَا كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ وَضَالٍّ فَلَا إلَّا حَبَّتَيْ حِنْطَةٍ وَنَحْوِهِمَا.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ ضَابِطًا لَهُ بِضَابِطٍ، فَقَالَ (وَ) كُلُّ (مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ) بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ بَابَهَا أَوْسَعُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ التَّاءَ مِنْ جَازَ هِبَتُهُ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْنِيثَ الْهِبَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ أَوْ لِمُشَاكَلَةِ جَازَ بَيْعُهُ.
تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الضَّابِطِ مَسَائِلُ: مِنْهَا الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا الرَّاهِنُ أَوْ أَعْتَقَهَا، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ هِبَتُهَا لَا مِنْ الْمُرْتَهِنِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَمِنْهَا بَيْعُ الْمَوْصُوفِ سَلَمًا فِي الذِّمَّةِ جَائِزٌ، وَيَمْتَنِعُ هِبَتُهُ كَوَهَبْتُكَ دِينَارًا فِي ذِمَّتِي ثُمَّ يُعَيِّنُهُ فِي الْمَجْلِسِ. وَمِنْهَا الْمُكَاتَبُ يَصِحُّ بَيْعُهُ مَا فِي يَدِهِ وَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ. وَمِنْهَا الْقَيِّمُ وَالْوَصِيُّ عَلَى مَالِ الطِّفْلِ يَصِحُّ مِنْهُمَا بَيْعُ مَالِهِ لَا هِبَتُهُ. وَمِنْهَا هِبَةُ الْمَنَافِعِ فَإِنَّهَا تُبَاعُ بِالْإِجَارَةِ، وَفِي هِبَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وَهَبَ مَنَافِعَهُ عَارِيَّةً وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَرَجَّحَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وَهَبَ مَنَافِعَهُ أَمَانَةً، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ (وَ) كُلُّ (مَا لَا) يَجُوزُ بَيْعُهُ (كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ) لِغَيْرِ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ (وَضَالٍّ) وَآبِقٍ، (فَلَا) تَجُوزُ هِبَتُهُ بِجَامِعِ أَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ.
تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الضَّابِطِ مَسَائِلُ: مِنْهَا مَا اسْتَثْنَاهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (إلَّا حَبَّتَيْ حِنْطَةٍ وَنَحْوِهِمَا) مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ كَشَعِيرٍ، فَإِنَّهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ وَتَجُوزُ هِبَتُهُمَا لِانْتِفَاءِ الْمُقَابِلِ فِيهِمَا، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِمَّا زَادَهُ عَلَى الْمُحَرَّرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الرَّوْضَةِ. وَقَالَ ابْنُ النَّقِيبِ: إنَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ، فَفِي الرَّافِعِيِّ فِي تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ أَنَّ مَا لَا يُتَمَوَّلُ كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ وَزَبِيبَةٍ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ. لَكِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَغَيْرُهُ إنَّ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ مَا فِي الْمَتْنِ وَهُوَ كَذَلِكَ. وَمِنْهَا إذَا لَمْ تَعْلَمُ الْوَرَثَةُ مِقْدَارَ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ الْإِرْثِ، كَمَا لَوْ خَلَّفَ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا خُنْثَى. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْفَرَائِضِ أَنَّهُ لَوْ اصْطَلَحَ الَّذِينَ وَقَفَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى تَسَاوٍ أَوْ تَفَاوُتٍ جَازَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ تَوَاهُبٌ، وَهَذَا التَّوَاهُبُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ جَهَالَةٍ وَلَكِنَّهَا تُحْتَمَلُ لِلضَّرُورَةِ. وَمِنْهَا مَا إذَا اخْتَلَطَ حَمَامُ بُرْجَيْنِ فَوَهَبَ صَاحِبُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ لِلْآخَرِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ اخْتَلَطَتْ حِنْطَتُهُ بِحِنْطَةِ غَيْرِهِ، أَوْ مَائِعُهُ بِمَائِعِ غَيْرِهِ، أَوْ ثَمَرَتُهُ بِثَمَرَةِ غَيْرِهِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّا تَأْخُذُ مِنْ مَالِي أَوْ تُعْطِي أَوْ تَأْكُلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ دُونَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ إبَاحَةٌ، وَهِيَ تَصِحُّ مَجْهُولَةً بِخِلَافِهِمَا. وَمِنْهَا صُوفُ الشَّاةِ الْمَجْعُولَةِ أُضْحِيَّةً وَلَبَنُهَا كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَمِنْهَا الطَّعَامُ الْمَغْنُومُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ تَجُوزُ هِبَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُمْ أَكْلُهُ هُنَاكَ، وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ تَبَايُعُهُ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تُسْتَثْنَى؛ لِأَنَّ الْآخِذَ لَا يَمْلِكُ الْمَأْخُوذَ حَتَّى يُمَلِّكَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ لِلْغَانِمِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ. وَمِنْهَا الثِّمَارُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ تَجُوزُ هِبَتُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَكَذَا الزَّرْعُ الْأَخْضَرُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ. وَمِنْهَا مَا لَوْ وَهَبَ الْأَرْضَ مَعَ بَذْرٍ أَوْ زَرْعٍ لَا يُفَرَّدُ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ تَصِحُّ فِي الْأَرْضِ وَتُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ هُنَا عَلَى الْأَرْجَحِ، وَالْجَهَالَةُ فِي الْبَذْرِ لَا تَضُرُّ فِي الْأَرْضِ إذْ لَا ثَمَنَ وَلَا تَوْزِيعَ. وَمِنْهَا مَا لَوْ بَاعَ الْمُتَحَجِّرُ مَا تَحَجَّرَهُ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ لَا يُبَاعُ وَتَجُوزُ هِبَتُهُ، قَالَهُ الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ وَهَبَ مَرْهُونًا أَوْ كَلْبًا وَلَوْ مُعَلَّمًا، أَوْ خَمْرًا وَلَوْ مُحْتَرَمَةً، أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ قَبْلَ الدِّبَاغِ، أَوْ دُهْنًا نَجِسًا لَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ، وَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْأَوَانِي مِنْ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ تَصِحُّ هِبَتُهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَقْلِ الْيَدِ لَا عَلَى التَّمْلِيكِ كَمَا صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ هِبَتَهُ لَا تَصِحُّ.
المتن: وَهِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إبْرَاءٌ وَلِغَيْرِهِ بَاطِلَةٌ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَهِبَةُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إبْرَاءٌ) لَهُ مِنْهُ لَا يَحْتَاجُ قَبُولًا نَظَرًا لِلْمَعْنَى.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ صَرِيحٌ فِي الْإِبْرَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَ فِي الذَّخَائِرِ: إنَّهُ كِنَايَةٌ، وَتَرْكُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ كِنَايَةُ إبْرَاءٍ (وَ) هِبَتُهُ (لِغَيْرِهِ) وَهُوَ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ (بَاطِلَةٌ فِي الْأَصَحِّ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنَّمَا يُقْبَضُ مِنْ الدُّيُونِ عَيْنٌ لَا دَيْنٌ، وَالْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: صَحِيحَةٌ وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ تَبَعًا لِلنَّصِّ كَمَا مَرَّ فِي بَيْعِهِ عَلَى مَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ قِيلَ بَلْ أَوْلَى، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ هِبَةَ مَا فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، بِخِلَافِ بَيْعِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ تَرْجِيحُ الشَّيْخَيْنِ فِي بُطْلَانِ هِبَةِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَرْجِيحِ الْبَيْعِ لَهُ، وَعَلَى هَذَا يُسْتَثْنَى مِنْ طَرْدِ الْقَاعِدَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ. فَرْعٌ: تَمْلِيكُ الْمِسْكِينِ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ عَنْ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا عَلَيْهِ إبْدَالٌ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَفِيمَا عَلَى غَيْرِهِ تَمْلِيكٌ وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا.
المتن: وَلَا يُمْلَكُ مَوْهُوبٌ إلَّا بِقَبْضٍ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ.
الشَّرْحُ: (وَلَا يُمْلَكُ مَوْهُوبٌ) بِالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ غَيْرِ الضِّمْنِيَّةِ وَذَاتِ الثَّوَابِ الشَّامِلَةِ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ (إلَّا بِقَبْضٍ)، فَلَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى إلَى النَّجَاشِيِّ ثَلَاثِينَ أُوقِيَّةً مِسْكًا ثُمَّ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ إنِّي لَأَرَى النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي قَدْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ إلَّا تُسْتَرَدُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَيَّ فَهِيَ لَكِ فَكَانَ كَذَلِكَ} لِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ كَالْقَرْضِ فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَخَرَجَ بِالصَّحِيحَةِ الْفَاسِدَةُ، فَلَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَالْمَقْبُوضُ بِهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ كَالْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ كَصَحِيحِهِ، وَبِغَيْرِ الضِّمْنِيَّةِ الضِّمْنِيَّةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي مَجَّانًا، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَنْهُ وَيَسْقُطُ الْقَبْضُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا يَسْقُطُ الْقَبُولُ إذَا كَانَ الْتِمَاسُ الْعِتْقِ بِعِوَضٍ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ، وَبِغَيْرِ ذَاتِ الثَّوَابِ ذَاتُهُ، فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ الثَّوَابَ اسْتَقَلَّ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ.
تَنْبِيهٌ: شَمَلَ كَلَامُهُ هِبَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ خِلَافًا لِمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ (بِإِذْنِ الْوَاهِبِ) فِيهِ إنْ لَمْ يَقْبِضْهُ الْوَاهِبُ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي يَدِ الْمُتَّهَبِ أَمْ لَا، فَلَوْ قَبَضَ بِلَا إذْنٍ وَلَا إقْبَاضٍ لَمْ يَمْلِكْهُ وَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ سَوَاءٌ أَقَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَمْ بَعْدَهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ السَّيْرِ إلَيْهِ إنْ كَانَ غَائِبًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْقَبْضِ فِي بَابِ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَكْفِي الْإِتْلَافُ وَلَا الْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقِّ الْقَبْضِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ أَوْ الْعِتْقِ عَنْهُ فَأَكَلَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ كَانَ قَبْضًا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ مِنْ الْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِلْوَاهِبِ لِبَقَائِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَقَبْضُ الْمُشَاعِ بِقَبْضِ الْجَمِيعِ مَنْقُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا وَمَنَعَ مِنْ الْقَبْضِ شَرِيكَهُ وَوَكَّلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي قَبْضِ نَصِيبِهِ صَحَّ، فَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبَضَ لَهُ الْحَاكِمُ وَيَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا، وَيَصِحُّ بَيْعُ الْوَاهِبِ لِلْمَوْهُوبِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَإِنْ ظَنَّ لُزُومَ الْهِبَةِ بِالْعَقْدِ، وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ بِالْهِبَةِ وَلَوْ مَعَ الْمِلْكِ إقْرَارًا بِقَبْضِ الْمَوْهُوبِ لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَقِدَ لُزُومَهَا بِالْعَقْدِ، وَالْإِقْرَارُ يُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ إلَّا إنْ قَالَ: وَهَبْته لَهُ وَخَرَجْت مِنْهُ إلَيْهِ وَكَانَ فِي يَدِ الْمُتَّهَبِ وَإِلَّا فَلَا، وَقَوْلُهُ: وَهَبْته وَأَقْبَضْته لَهُ إقْرَارٌ بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ صُدِّقَ الْوَاهِبُ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَالَ الْوَاهِبُ: رَجَعْت قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَقَالَ الْمُتَّهَبُ: بَلْ بَعْدَهُ صُدِّقَ الْمُتَّهَبُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَلَوْ أَقَبَضَهُ، وَقَالَ قَصَدْت بِهِ الْإِيدَاعَ أَوْ الْعَارِيَّةَ وَأَنْكَرَ الْمُتَّهَبُ صُدِّقَ الْوَاهِبُ كَمَا فِي الِاسْتِقْصَاءِ.
المتن: فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ، وَقِيلَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ.
الشَّرْحُ: (فَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا) أَيْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ (بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ) لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ، وَ (قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ) أَيْ وَارِثُ الْوَاهِبِ فِي الْإِقْبَاضِ وَالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَوَارِثُ الْمُتَّهَبِ فِي الْقَبْضِ (وَقِيلَ: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ) لِجَوَازِهِ كَالْوَكَالَةِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ: بِأَنَّهَا تُؤَوَّلُ إلَى اللُّزُومِ فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْعِ الْجَائِزِ بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَيَقْبِضَانِ إذَا أَفَاقَا، وَلِوَلِيِّ الْمَجْنُونِ قَبْضُهَا قَبْلَ الْإِفَاقَةِ. فَرْعٌ: لَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ الشَّامِلُ لِلْمُهْدِي وَالْمُتَصَدِّقُ أَوْ وَارِثُهُ فِي الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ أَوْ مَاتَ هُوَ أَوْ الْمُتَّهَبُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيهِمَا بَطَلَ الْإِذْنُ فَلَيْسَ لِلرَّسُولِ إيصَالُ الْهِبَةِ إلَى الْمُتَّهَبِ أَوْ وَارِثِهِ إلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ. وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ يَكُونَ جُنُونُ الْوَاهِبِ وَإِغْمَاؤُهُ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
المتن: وَيُسَنُّ لِلْوَالِدِ الْعَدْلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ بِأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَقِيلَ كَقِسْمَةِ الْإِرْثِ.
الشَّرْحُ: (وَيُسَنُّ لِلْوَالِدِ) وَإِنْ عَلَا (الْعَدْلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ بِأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى)، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: {وَهَبَنِي أَبِي هِبَةً فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمَّ هَذَا أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْهُ} وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ " وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ قَالَ " فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي " وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ " لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ إنَّ لِبَنِيكَ مِنْ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ " وَلِئَلَّا يُفْضِيَ بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى الْعُقُوقِ أَوْ التَّحَاسُدِ.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ تَرْكَ هَذَا خِلَافُ الْأَوْلَى، وَالْمَجْزُومُ بِهِ فِي الرَّافِعِيِّ الْكَرَاهَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، بَلْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: إنَّ تَرْكَهُ حَرَامٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ " لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ " وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِرِوَايَةِ {فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي}؛ وَلِأَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَضَّلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَوْلَادِهِ، وَفَضَّلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ابْنًا عَاصِمًا بِشَيْءٍ، وَفَضَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ (وَقِيلَ: كَقِسْمَةِ الْإِرْثِ) فَيُضَعَّفُ حَظُّ الذَّكَرِ كَالْمِيرَاثِ كَمَا أَعْطَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْوَارِثَ رَضِيَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ بِخِلَافِ هَذَا، بَلْ قِيلَ: إنَّ الْأَوْلَى أَنْ تُفَضَّلَ الْأُنْثَى حَكَاهُ ابْنُ جَمَاعَةِ الْمَقْدِسِيِّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ؛ وَلِأَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْعُصُوبَةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالرَّحِمِ فَهُمَا سَوَاءٌ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأُمِّ، وَلَوْ كَانَ فِي أَوْلَادِهِ خُنْثَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ الذَّكَرِ لَا الْأُنْثَى حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الْوَجْهَانِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ خِلَافُ قِيَاسِ الْمِيرَاثِ مِنْ وَقْفِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ.
تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْحَاجَةِ أَوْ عَدَمِهَا وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ تَفْضِيلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِيمَا مَرَّ، وَيُسْتَثْنَى الْعَاقُّ وَالْفَاسِقُ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَصْرِفُهُ فِي الْمَعَاصِي فَلَا يُكْرَهُ حِرْمَانُهُ، وَيُسَنُّ أَيْضًا أَنْ يُسَوِّيَ الْوَلَدُ إذَا وَهَبَ لِوَالِدَيْهِ شَيْئًا، وَيُكْرَهُ لَهُ تَرْكُ التَّسْوِيَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْأَوْلَادِ، فَإِنْ فَضَّلَ أَحَدَهُمَا فَالْأُمُّ أَوْلَى لِخَبَرِ {إنَّ لَهَا ثُلُثَيْ الْبِرِّ} وَالْإِخْوَةُ وَنَحْوُهُمْ لَا يَجْرِي فِيهِمْ هَذَا الْحُكْمُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ مَطْلُوبَةٌ لَكِنْ دُونَ طَلَبِهَا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ} وَفِي رِوَايَةٍ {الْأَكْبَرُ مِنْ الْإِخْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ}.
المتن: وَلِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ وَكَذَا لِسَائِرِ الْأُصُولِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
الشَّرْحُ: (وَلِلْأَبِ الرُّجُوعُ) عَلَى التَّرَاخِي (فِي هِبَةِ وَلَدِهِ) الشَّامِلَةِ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَكَذَا لِبَعْضِهَا كَمَا فُهِمَ بِالْأُولَى مِنْ دُونِ حُكْمِ حَاكِمٍ (وَكَذَا لِسَائِرِ الْأُصُولِ) مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَلَوْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ (عَلَى الْمَشْهُورِ) سَوَاءٌ أَقَبَضَهَا الْوَلَدُ أَمْ لَا، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، لِخَبَرِ {لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ. وَالْوَالِدُ يَشْمَلُ كُلَّ الْأُصُولِ إنْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَإِلَّا أُلْحِقَ بِهِ بَقِيَّةُ الْأُصُولِ بِجَامِعِ أَنَّ لِكُلٍّ وِلَادَةً كَمَا فِي النَّفَقَةِ وَحُصُولِ الْعِتْقِ وَسُقُوطِ الْقَوَدِ وَالثَّانِي: لَا رُجُوعَ لِغَيْرِ الْأَبِ مُسْتَدِلًّا بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقُصِرَ الْوَالِدُ عَلَى الْأَبِ وَعَمَّمَهُ الْأَوَّلُ، وَعَبْدُ الْوَلَدِ غَيْرُ الْمُكَاتَبِ كَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لِعَبْدِ الْوَلَدِ هِبَةٌ لِلْوَلَدِ بِخِلَافِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ. نَعَمْ إنْ انْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَقَدْ بَانَ بِآخِرِ الْأَمْرِ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْوَلَدِ فَهُوَ كَهِبَةِ اثْنَيْنِ لِوَلَدٍ تَنَازَعَا فِيهِ ثُمَّ أُلْحِقَ بِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِثُبُوتِ بُنُوَّتِهِ، وَهِبَتُهُ لِمُكَاتَبِ نَفْسِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا لِوَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَرِثْهُ الْوَلَدُ لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ، وَإِنَّمَا وَرِثَهُ جَدُّ الْوَلَدِ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْهِبَةِ الْجَدُّ الْحَائِزُ لِلْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تُورَثُ وَحْدَهَا إنَّمَا تُورَثُ بِتَبَعِيَّةِ الْمَالِ وَهُوَ لَا يَرِثُهُ. وَيُكْرَهُ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لِأَوْلَادِهِ إنْ عَدَلَ بَيْنَهُمْ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ كَأَنْ يَسْتَعِينُوا بِمَا أَعْطَاهُ لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَأَصَرُّوا عَلَيْهَا بَعْدَ إنْذَارِهِ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ فَلَا يُكْرَهُ، وَهَلْ يُكْرَهُ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ كَالْهِبَةِ أَوْ لَا؟ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْإِعْطَاءِ. وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي الْبَحْرِ: أَوْجَهُهُمَا الْكَرَاهَةُ.
تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الرُّجُوعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا. أَمَّا الْهِبَةُ لِوَلَدِهِ الرَّقِيقِ فَهِبَةٌ لِسَيِّدِهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِي هِبَةِ الْأَعْيَانِ. أَمَّا لَوْ وَهَبَ وَلَدَهُ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ جَزْمًا، سَوَاءٌ أَقُلْنَا إنَّهُ تَمْلِيكٌ أَمْ إسْقَاطٌ، إذْ لَا بَقَاءَ لِلدَّيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ شَيْئًا فَتَلِفَ.
المتن: وَشَرْطُ رُجُوعِهِ بَقَاءُ الْمَوْهُوبِ فِي سَلْطَنَةِ الْمُتَّهَبِ فَيَمْتَنِعُ بِبَيْعِهِ وَوَقْفِهِ، لَا بِرَهْنِهِ وَهِبَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَتَعْلِيقِ عِتْقِهِ وَتَزْوِيجِهَا وَزِرَاعَتِهَا، وَكَذَا الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
الشَّرْحُ: (وَشَرْطُ رُجُوعِهِ) أَيْ الْأَبِ أَوْ أَحَدِ سَائِرِ الْأُصُولِ (بَقَاءُ الْمَوْهُوبِ فِي سَلْطَنَةِ) أَيْ وِلَايَةِ (الْمُتَّهَبِ) وَهُوَ الْوَلَدُ، وَيَدْخُلُ فِي السَّلْطَنَةِ مَا لَوْ أَبِقَ الْمَوْهُوبُ أَوْ غَصَبَ فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا، وَيَخْرُجُ بِهَا مَا لَوْ جَنَى الْمَوْهُوبُ أَوْ أَفْلَسَ الْمُتَّهَبُ وَحُجِرَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا. نَعَمْ إنْ قَالَ: أَنَا أُؤَدِّي أَرْشَ الْجِنَايَةِ وَأَرْجِعُ مُكِّنَ فِي الْأَصَحِّ. فَإِنْ قِيلَ: سَيَأْتِي أَنَّهُ لَوْ رَهَنَهُ وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَقَالَ: أَنَا أَبْذُلُ قِيمَتَهُ وَأَرْجِعُ لَمْ يُمَكَّنْ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ؟. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ خُرُوجِ دَرَاهِمِهِ مُسْتَحَقَّةً فَيَفُوتُ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ الْعَقْدَ وَلَا يَقَعُ مَوْقُوفًا، بِخِلَافِ بَذْلِ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ مَوْقُوفًا، فَإِنْ سَلَّمَ مَا بَذَلَهُ وَإِلَّا رَجَعَ إلَيْهِ، وَأَيْضًا لِمَا فِي الرُّجُوعِ بَعْدَ الرَّهْنِ مِنْ إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُتَّهَبِ. نَعَمْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ بِكُلِّ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ لَكِنْ بِشَرْطِ رِضَا الْغَرِيمِ، وَخَرَجَ بِحَجْرِ الْفَلَسِ: حَجْرُ السَّفَهِ فَلَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا الرُّجُوعُ فِي صُوَرٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَهَا فِي قَوْلِهِ (فَيَمْتَنِعُ) الرُّجُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ بِزَوَالِ السَّلْطَنَةِ، سَوَاءٌ أَزَالَتْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ (بِبَيْعِهِ) كُلِّهِ (وَوَقْفِهِ) وَعِتْقِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَمْ لَا، كَأَنْ كَاتَبَ الْمَوْهُوبَ أَوْ اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ. أَمَّا لَوْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بَعْضُهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الْبَاقِي.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ أَبِيهِ الْوَاهِبِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا ظَاهِرٌ (لَا بِرَهْنِهِ وَ) لَا (هِبَتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ) فِيهِمَا لِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ، وَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لَهُمَا ثُبُوتُ الرُّجُوعِ لِبَقَاءِ سَلْطَنَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ لِزَوَالِهَا (وَ) لَا (تَعْلِيقِ عِتْقِهِ) وَلَا تَدْبِيرِهِ (وَ) لَا (تَزْوِيجِهَا) الْجَارِيَةَ (و) لَا (زِرَاعَتِهَا) أَيْ الْأَرْضِ فَلَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِكُلٍّ مِنْهَا لِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ (وَكَذَا الْإِجَارَةُ) لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ (عَلَى الْمَذْهَبِ)؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا وَمَوْرِدُ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا يَسْتَوْفِي الْمُسْتَأْجِرُ الْمَنْفَعَةَ، وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ قَوْلُ الْإِمَامِ إنْ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُ الْمُؤَجَّرِ فَفِي الرُّجُوعِ تَرَدُّدٌ.
تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ الرُّجُوعِ مَعَ بَقَاءِ السَّلْطَنَةِ مَا إذَا مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ. مِنْهَا مَا لَوْ جُنَّ الْأَبُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ حَالَ جُنُونِهِ، وَلَا رُجُوعَ لِوَلِيِّهِ، بَلْ إذَا أَفَاقَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ أَحْرَمَ وَالْمَوْهُوبُ صَيْدٌ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْحَالِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ يَدِهِ عَلَى الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ ارْتَدَّ الْوَالِدُ وَفَرَّعْنَا عَلَى وَقْفِ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَقْبَلُ الْوَقْفَ كَمَا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، فَلَوْ حَلَّ: أَيْ مِنْ إحْرَامِهِ أَوْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَوْهُوبُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَلَدِ رَجَعَ، وَلَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ شَيْئًا وَوَهَبَهُ الْوَلَدُ لِوَلَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ الْأَوَّلُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْهُ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ ابْنِهِ أَوْ انْتَقَلَ بِمَوْتِهِ إلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ الْأَبُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ ابْنَهُ لَا رُجُوعَ لَهُ، فَالْأَبُ أَوْلَى، وَلَوْ وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ فَوَهَبَهُ الْوَلَدُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ، لَمْ يَثْبُتْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فَالْأَبُ أَوْلَى، وَلَوْ وَهَبَهُ الْوَلَدُ لِجَدِّهِ ثُمَّ الْجَدُّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ فَالرُّجُوعُ لِلْجَدِّ فَقَطْ.
المتن: وَلَوْ زَالَ مِلْكُهُ وَعَادَ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ زَالَ مِلْكُهُ) أَيْ الْوَلَدِ عَنْ الْمَوْهُوبِ (وَعَادَ) إلَيْهِ بِإِرْثٍ أَمْ لَا (لَمْ يَرْجِعْ) أَيْ الْأَصْلُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فِيهِ (فِي الْأَصَحِّ)؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى يَرْجِعَ فِيهِ، وَالثَّانِي: يَرْجِعُ نَظَرًا إلَى مِلْكِهِ السَّابِقِ.
تَنْبِيهٌ: شَمَلَ كَلَامُهُ مَا لَوْ عَادَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لِلْوَلَدِ بِالْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ. نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَهَبَ لَهُ عَصِيرًا ثُمَّ تَخَمَّرَ ثُمَّ تَخَلَّلَ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْكَائِنَ فِي الْخَلِّ سَبَبُهُ مِلْكُ الْعَصِيرِ، وَمَا لَوْ كَاتَبَهُ ثُمَّ عَجَزَ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَاسْتَثْنَى الدَّمِيرِيُّ مَا لَوْ وَهَبَهُ صَيْدًا فَأَحْرَمَ الْوَلَدُ وَلَمْ يُرْسِلْهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَلَدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ وَلَمْ يَعُدْ بِالتَّحَلُّلِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، وَلَوْ زَرَعَ الْوَلَدُ الْحَبَّ أَوْ فَرَّخَ الْبَيْضَ لَمْ يَرْجِعْ الْأَصْلُ فِيهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَإِنْ جَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا.
المتن: وَلَوْ زَادَ رَجَعَ فِيهِ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ لَا الْمُنْفَصِلَةِ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ زَادَ) الْمَوْهُوبُ (رَجَعَ) الْأَصْلُ (فِيهِ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ) كَسِمَنٍ وَحَرْثِ أَرْضٍ لِزِرَاعَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ.
تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ صُورَتَانِ: الْأُولَى: مَا لَوْ وَهَبَ أَمَةً أَوْ بَهِيمَةً حَائِلًا ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا وَهِيَ حَامِلٌ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا فِي الْأُمِّ دُونَ الْحَمْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيَرْجِعُ فِي الْأُمِّ، وَلَوْ قَبْلَ الْوَضْعِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ صَحَّحَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ. الثَّانِيَةُ: مَا لَوْ وَهَبَهُ نَخْلًا فَأَطْلَعَتْ ثَمَرًا غَيْرَ مُؤَبَّرٍ، فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَاوَضَةَ وَلَا تَرَاضٍ كَالصَّدَاقِ قَالَهُ الْحَاوِي فِي بَابِ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ، لَكِنْ فِي الرَّوْضَةِ فِي التَّفْلِيسِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ التَّبَعِيَّةِ: أَيْ تَبَعِيَّةِ الطَّلْعِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ قِيَاسًا عَلَى الْحَمْلِ (لَا) الزِّيَادَةِ (الْمُنْفَصِلَةِ) كَالْوَلَدِ الْحَادِثِ وَالْكَسْبِ فَلَا يَرْجِعُ الْأَصْلُ فِيهَا بَلْ تَبْقَى لِلْمُتَّهَبِ لِحُدُوثِهِ عَلَى مِلْكِهِ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ الْمُقَارِنِ لِلْهِبَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ وَإِنْ انْفَصَلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْهُوبِ، وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ مُقَارِنًا لِلْهِبَةِ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْأُمِّ فَقَطْ كَانَ رُجُوعًا فِي الْحَمْلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ، وَلَوْ صَبَغَ الْوَلَدُ الثَّوْبَ أَوْ قَصَّرَهُ أَوْ طَحَنَ الْحِنْطَةَ أَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ شَارَكَ وَالِدَهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي الثَّوْبِ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ فَلَا شَرِكَةَ.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ: أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَوْ تَعَلَّمَ عِنْدَ الْوَلَدِ صَنْعَةً فَزَادَتْ قِيمَتُهُ يَفُوزُ بِهَا الْوَالِدُ، وَبِهِ صَرَّحَا هُنَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فَذَكَرَا مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ تَعَلُّمَ الْحِرْفَةِ وَحَرْثَ الْأَرْضِ، لَكِنْ ذَكَرَا فِي بَابِ التَّفْلِيسِ أَنَّ تَعَلُّمَ الْحِرْفَةِ كَالْعَيْنِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ شَرِيكًا فِيهَا بِمَا زَادَ كَالْقِصَارَةِ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ مَا هُنَا تَعَلُّمٌ لَا مُعَالَجَةَ لِلسَّيِّدِ فِيهِ، وَمَا هُنَاكَ تَعَلُّمٌ فِيهِ مُعَالَجَةٌ مِنْهُ، وَلَوْ رَجَعَ الْأَصْلُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي وَهَبَهَا لِلْوَلَدِ، وَقَدْ غَرَسَ الْوَلَدُ، أَوْ بَنَى تَخَيَّرَ الْأَصْلَ بَعْدَ رُجُوعِهِ فِي الْغَرْسِ، أَوْ الْبِنَاءَ بَيْنَ قَلْعِهِ بِأَرْشِ نَقْصِهِ، أَوْ تَمَلُّكَهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ تَبْقِيَتَهُ بِأُجْرَةٍ كَالْعَارِيَّةِ، وَلَوْ نَقَصَ الْمَوْهُوبُ رَجَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَرْشِ نَقْصٍ. فَرْعٌ: لَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ عَيْنًا وَأَقْبَضَهُ إيَّاهَا فِي الصِّحَّةِ فَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ أَنَّ أَبَاهُ رَجَعَ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ وَلَمْ تَذْكُرْ مَا رَجَعَ فِيهِ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهَا وَلَمْ تُنْزَعْ الْعَيْنُ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَرْجُوعِ فِيهِ.
المتن: وَيَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِرَجَعْت فِيمَا وَهَبْتُ أَوْ اسْتَرْجَعْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ إلَى مِلْكِي أَوْ نَقَضْتُ الْهِبَةَ.
الشَّرْحُ: (وَيَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِرَجَعْتُ فِيمَا وَهَبْتُ أَوْ اسْتَرْجَعْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ إلَى مِلْكِي أَوْ نَقَضْتُ الْهِبَةَ) أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، كَأَبْطَلْتُهَا وَفَسَخْتُهَا، وَكُلُّ هَذِهِ صَرَائِحُ، وَيَحْصُلُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ كَأَخَذْتُهُ وَقَبَضْتُهُ، وَكُلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ رُجُوعُ الْبَائِعِ بَعْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي يَحْصُلُ بِهِ الرُّجُوعُ هُنَا.
المتن: لَا بِبَيْعِهِ وَوَقْفِهِ وَهِبَتِهِ وَإِعْتَاقِهِ وَوَطْئِهَا فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: الْمَوْهُوبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِرْدَادٍ لَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الضَّمَانِ، وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا مُنَجَّزًا. فَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ رَجَعْت لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْفُسُوخَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ كَالْعُقُودِ، وَ (لَا) يَحْصُلُ الرُّجُوعُ (بِبَيْعِهِ) أَيْ مَا وَهَبَهُ الْأَصْلُ لِوَلَدِهِ (وَ) لَا (وَقْفِهِ وَ) لَا (هِبَتِهِ وَ) لَا (إعْتَاقِهِ وَ) لَا (وَطْئِهَا) لِكَمَالِ مِلْكِ الْوَلَدِ وَنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا ذُكِرَ، وَقَوْلُهُ: (فِي الْأَصَحِّ) رَاجِعٌ لِلْخَمْسِ صُوَرٍ. وَالثَّانِي: يَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِكُلٍّ مِنْهَا كَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ ضَعِيفٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ الْوَالِدَ بِالْإِتْلَافِ وَالِاسْتِيلَادِ الْقِيمَةُ وَبِالْوَطْءِ الْمَهْرُ، وَتَلْغُو الْبَقِيَّةُ، وَتَحْرُمُ بِهِ الْأَمَةُ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا مَوْطُوءَةُ وَالِدِهِ، وَتُحَرَّمُ مَوْطُوءَةُ الْوَلَدِ الَّتِي وَطِئَهَا الْوَالِدُ عَلَيْهِمَا مَعًا كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَانِعِ النِّكَاحِ، وَلَوْ تَفَاسَخَ الْمُتَوَاهِبَانِ الْهِبَةَ أَوْ تَقَايَلَا حَيْثُ لَا رُجُوعَ لَمْ تَنْفَسِخْ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ. فُرُوعٌ: أَحَدُهَا: لَوْ بَاعَ الْوَلَدُ الْعَيْنَ الْمَوْهُوبَةَ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ ادَّعَى الْأَبُ أَنَّهُ رَجَعَ فِيهَا قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ثَانِيهَا: لَوْ جَهَّزَ شَخْصٌ ابْنَتَهُ بِأَمْتِعَةٍ لَمْ تَمْلِكْهَا إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ إنْ كَانَتْ بَالِغَةً، وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى أَمْتِعَةَ بَيْتِهَا لَمْ تَمْلِكْهَا بِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَاشْتَرَى بِنِيَّتِهَا فَتَمْلِكُ بِذَلِكَ، ثُمَّ إنْ أَنْقَدَ الثَّمَنَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ رَجَعَ وَإِلَّا فَلَا. ثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْوَالِدِ عَيْنٌ وَأَقَرَّ بِأَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، وَهِيَ مِلْكُ وَلَدِهِ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُقِرَّ بِهِ كَانَ هِبَةً مِنْهُ وَأَنَّهُ رَجَعَ فِيهِ وَكَذَّبَهُ الْوَلَدُ صُدِّقَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَلَا رُجُوعَ لِلْأَبِ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا أَفْتَى بِهِ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ أَبُو الطَّيِّبِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالْهَرَوِيُّ مِنْ أَنَّ الْأَبَ هُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ. رَابِعُهَا: لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِ بِثَوْبٍ فَظَنَّ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ أَوْ أَعَارَهُ لَهُ مَلَكَهُ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الدَّافِعِ، فَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ الْمَدْفُوعُ لَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ.
المتن: وَلَا رُجُوعَ لِغَيْرِ الْأُصُولِ فِي هِبَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِنَفْيِ الثَّوَابِ.
الشَّرْحُ: (وَلَا رُجُوعَ لِغَيْرِ الْأُصُولِ فِي هِبَةٍ مُقَيَّدَةٍ بِنَفْيِ الثَّوَابِ) أَيْ الْعِوَضِ لِلْحَدِيثِ الْمَارِّ؛ وَلِأَنَّهُ بَذَلَ مَالَهُ مَجَّانًا كَالْمُتَصَدِّقِ.
تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ كَلَامُهُ صِحَّةَ الْهِبَةِ إذَا قُيِّدَتْ بِنَفْيِ الثَّوَابِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ إسْقَاطُهُ.
المتن: وَمَتَى وَهَبَ مُطْلَقًا فَلَا ثَوَابَ إنْ وَهَبَ لِدُونِهِ، وَكَذَا لِأَعْلَى مِنْهُ فِي الْأَظْهَرِ، وَلِنَظِيرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَإِنْ وَجَبَ فَهُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَمَتَى وَهَبَ) شَيْئًا (مُطْلَقًا) عَنْ تَقْيِيدِهِ بِثَوَابٍ وَعَدَمِهِ (فَلَا ثَوَابَ) أَيْ لَا عِوَضَ (إنْ وَهَبَ لِدُونِهِ) فِي الْمَرْتَبَةِ، كَالْمَلِكِ لِرَعِيَّتِهِ، وَالْأُسْتَاذِ لِغُلَامِهِ، إذْ لَا تَقْتَضِيه لَفْظًا وَلَا عَادَةً.
تَنْبِيهٌ: أَلْحَقَ الْمَاوَرْدِيُّ بِذَلِكَ سَبْعَةَ أَنْوَاعٍ: هِبَةَ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الصِّلَةُ، وَهِبَةَ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ التَّالِفُ، وَهِبَةَ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْعُهُ، وَالْهِبَةَ لِلْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْقُرْبَةُ وَالتَّبَرُّكُ، وَهِبَةَ الْمُكَلَّفِ لِغَيْرِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الِاعْتِيَاضِ مِنْهُ، وَالْهِبَةَ لِلْأَصْدِقَاءِ وَالْإِخْوَانِ لِأَنَّ الْقَصْدَ تَأَكُّدُ الْمَوَدَّةِ، وَالْهِبَةَ لِمَنْ أَعَانَ بِجَاهِهِ أَوْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُكَافَأَتُهُ، وَزَادَ الدَّارِمِيُّ هَدِيَّةَ الْمُتَعَلِّمِ لِمُعَلِّمِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ (وَكَذَا) إنْ وَهَبَ مُطْلَقًا الدُّونَ (لِأَعْلَى مِنْهُ) كَهِبَةِ الْغُلَامِ لِأُسْتَاذِهِ، فَلَا ثَوَابَ (فِي الْأَظْهَرِ) كَمَا لَوْ أَعَارَهُ دَارًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلْحَاقًا لِلْأَعْيَانِ بِالْمَنَافِعِ. وَالثَّانِي يَجِبُ الثَّوَابُ لِاطِّرَادِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ (وَ) كَذَا إنْ وَهَبَ مُطْلَقًا (لِنَظِيرِهِ) فَلَا ثَوَابَ أَيْضًا (عَلَى الْمَذْهَبِ) الْمَقْطُوعِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ مِثْلِهِ: الصِّلَةُ وَتَأَكُّدُ الصَّدَاقَةِ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَالْهَدَايَا فِي ذَلِكَ كَالْهِبَةِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ تَفَقُّهًا، وَنَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ تَصْرِيحِ الْبَنْدَنِيجِيِّ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَثَوَابُهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ الْعِوَضُ فِيهَا مُطْلَقًا. قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ: وَنُقِلَ عَنْ تَصْرِيحِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ (فَإِنْ وَجَبَ) فِي الْهِبَةِ مُطْلَقًا ثَوَابٌ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ (فَهُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ) أَيْ قَدْرُهَا (فِي الْأَصَحِّ)؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا اقْتَضَى الْعِوَضَ وَلَمْ يُسَمَّ فِيهِ شَيْءٌ تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ، وَعَلَى هَذَا، فَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ قِيمَةِ وَقْتِ الْقَبْضِ لَا وَقْتِ الثَّوَابِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ مَا يُعَدُّ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ عَادَةً.
المتن: فَإِنْ لَمْ يُثِبْهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَلَوْ وَهَبَ بِشَرْطِ ثَوَابٍ مَعْلُومٍ فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ بَيْعًا عَلَى الصَّحِيحِ، أَوْ مَجْهُولٍ فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ.
الشَّرْحُ: (فَإِنْ لَمْ يُثِبْهُ) هُوَ وَلَا غَيْرُهُ (فَلَهُ) أَيْ الْوَاهِبِ (الرُّجُوعُ) فِي الْمَوْهُوبِ إنْ بَقِيَ، وَبِبَدَلِهِ إنْ تَلِفَ، وَلَوْ أَهْدَى شَخْصٌ لِآخَرَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ لَهُ حَاجَةً أَوْ يَخْدُمَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهَا إنْ بَقِيَتْ وَبَدَلُهَا إنْ تَلِفَتْ كَمَا قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ (وَلَوْ وَهَبَ) شَخْصًا شَيْئًا (بِشَرْطِ ثَوَابٍ مَعْلُومٍ) عَلَيْهِ، كَوَهَبْتُكَ هَذَا عَلَى أَنْ تُثِيبَنِي كَذَا (فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ) هَذَا (الْعَقْدِ) نَظَرًا لِلْمَعْنَى فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِمَالٍ مَعْلُومٍ فَصَحَّ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُك. وَالثَّانِي: بُطْلَانُهُ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ لِتَنَاقُضِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يَقْتَضِي التَّبَرُّعَ (وَيَكُونُ بَيْعًا عَلَى الصَّحِيحِ) نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى، فَعَلَى هَذَا تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ مِنْ الشُّفْعَةِ وَالْخِيَارَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ فِي التَّنْقِيحِ بِلَا خِلَافٍ: وَغَلَطَ الْغَزَالِيُّ فِي إشَارَتِهِ إلَى خِلَافٍ فِيهِ ا هـ. وَمَا صَحَّحَاهُ فِي بَابِ الْخِيَارِ مِنْ أَنَّهُ لَا خِيَارَ فِي الْهِبَةِ ذَاتِ الثَّوَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبَيْعٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هُنَاكَ. وَالثَّانِي: يَكُونُ هِبَةً نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ فَلَا يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ (أَوْ) بِشَرْطِ ثَوَابٍ (مَجْهُولٍ) كَوَهَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِثَوْبٍ (فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ) أَيْ الْعَقْدِ لِتَعَذُّرِ صِحَّتِهِ بَيْعًا لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ وَلِتَعَذُّرِ صِحَّتِهِ هِبَةً لِذِكْرِ الثَّوَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِيه، وَقِيلَ: يَصِحُّ هِبَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ.
تَنْبِيهٌ: لَوْ قَالَ الْمُتَّهَبُ لِلْوَاهِبِ: وَهَبْتَنِي بِلَا ثَوَابٍ، وَقَالَ الْوَاهِبُ: بَلْ بِثَوَابٍ صُدِّقَ الْمُتَّهَبُ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذِكْرِ الْبَدَلِ.
المتن: وَلَوْ بَعَثَ هَدِيَّةً فِي ظَرْفٍ فَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ كَقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ فَهُوَ هَدِيَّةٌ أَيْضًا، وَإِلَّا فَلَا، وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا فِي أَكْلِ الْهَدِيَّةِ مِنْهُ إنْ اقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ بَعَثَ) شَخْصٌ لِآخَرَ (هَدِيَّةً فِي ظَرْفٍ) وَهُوَ الْوِعَاءُ (فَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ كَقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ) وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى الْأَفْصَحِ: وِعَاءُ التَّمْرِ، وَلَا تُسَمَّى بِذَلِكَ إلَّا وَفِيهَا التَّمْرُ وَإِلَّا فَهِيَ زِنْبِيلٌ (فَهُوَ) أَيْ الظَّرْفُ (هَدِيَّةٌ أَيْضًا) تَحْكِيمًا لِلْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ، وَمِثْلُهُ عُلَبُ الْحَلْوَاءِ وَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهِمَا (وَإِلَّا) بِأَنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِرَدِّ الظَّرْفِ أَوْ اضْطَرَبَتْ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الْمُقْرِي (فَلَا) يَكُونُ هَدِيَّةً بَلْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ تَخْتَلِفَ الْعَادَةُ فِي رَدِّ الظُّرُوفِ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِ النَّاسِ وَعَادَةِ الْبِلَادِ وَمَا يُحْمَلُ مِنْهَا إلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ دُونَ مُهَادَاةِ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَكَذَا الْإِهْدَاءُ إلَى الْمُلُوكِ، وَلَا سِيَّمَا مَا يُحْمَلُ إلَيْهِمْ مِنْ النَّوَاحِي الْبَعِيدَةِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنْ لَا تُرَدَّ ظُرُوفُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ عُرْفُهَا، وَفِي كُلِّ قَوْمٍ عُرْفُهُمْ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ.
تَنْبِيهٌ: أَلْحَقَ الْمُتَوَلِّي بِذَلِكَ الْكِتَابَ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْإِنْسَانُ لِصَاحِبِهِ: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ غَائِبًا أَمْ حَاضِرًا، فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ، فَإِنَّهُ هَدِيَّةٌ إلَّا أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ أَنْ اُكْتُبْ لِي الْجَوَابَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ وَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَيْهِ (وَ) إذَا لَمْ يَكُنْ الظَّرْفُ هَدِيَّةً (يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ) لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ (إلَّا فِي أَكْلِ الْهَدِيَّةِ مِنْهُ إنْ اقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ) عَمَلًا بِهَا، وَيَكُونُ عَارِيَّةً حِينَئِذٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ رَدُّهُ حَالًا لِخَبَرِ {اسْتَبِقُوا الْهَدَايَا بِرَدِّ الظُّرُوفِ} قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالِاسْتِحْبَابُ الْمَذْكُورُ حَسَنٌ، وَفِي جَوَازِ حَبْسِهِ بَعْدَ تَفْرِيغِهِ نَظَرٌ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ رِضَا الْمُهْدِي بِهِ، وَهَلْ يَكُونُ إبْقَاؤُهَا فِيهِ مَعَ إمْكَانِ تَفْرِيغِهِ عَلَى الْعَادَةِ مُضَمِّنًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لَا لَفْظًا وَلَا عُرْفًا أَمْ لَا؟ وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي مَا يُفْهِمُ الْأَوَّلَ وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فَلَا أَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا. وَلَوْ خَلَصَ شَخْصٌ آخَرُ مِنْ يَدِ ظَالِمٍ ثُمَّ أَنْفَذَ إلَيْهِ شَيْئًا هَلْ يَكُونُ رِشْوَةً أَوْ هَدِيَّةً. قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ: يُنْظَرُ إنْ كَانَ أَهْدَى إلَيْهِ مَخَافَةَ أَنَّهُ رُبَّمَا لَوْ لَمْ يَبَرَّهُ بِشَيْءٍ لَنَقَضَ جَمِيعَ مَا فَعَلَهُ كَانَ رِشْوَةً، وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ خِيَانَتَهُ بِأَنْ لَا يَنْقُضَ ذَلِكَ بِحَالٍ كَانَ هِبَةً.
خَاتِمَةٌ: أَفْضَلُ الْبِرِّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا وَفِعْلِ مَا يَسُرُّهُمَا مِنْ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} وَمِنْ بِرِّهِمَا الْإِحْسَانُ إلَى صَدِيقِهِمَا، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ {إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ} وَمِنْ الْكَبَائِرِ عُقُوقُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ أَنْ يُؤْذِيَهُ أَذًى لَيْسَ بِالْهَيِّنِ مَا لَمْ يَكُنْ مَا أَذَاهُ بِهِ وَاجِبًا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِذَا كَانَ فِي مَالِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ شُبْهَةٌ وَدَعَاهُ لِلْأَكْلِ مِنْهُ فَلْيَتَلَطَّفْ فِي الِامْتِنَاعِ، فَإِنْ عَجَزَ فَلْيَأْكُلْ وَيُقَلِّلْ بِتَصْغِيرِ اللُّقْمَةِ وَتَطْوِيلِ الْمَضْغَةِ. قَالَ: وَكَذَا إذَا أَلْبَسَهُ ثَوْبًا مِنْ شُبْهَةٍ وَكَانَ يَتَأَذَّى بِرَدِّهِ فَلْيَقْبَلْهُ وَلْيَلْبَسْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْزِعُهُ إذَا غَابَ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ فِيهِ إلَّا بِحَضْرَتِهِ. وَصِلَةُ الْقَرَابَةِ، وَهِيَ فِعْلُكَ مَعَ قَرِيبِكَ مَا تُعَدُّ بِهِ وَاصِلًا مَأْمُورٌ بِهَا وَتَحْصُلُ بِالْمَالِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالزِّيَارَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ بِالسَّلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ وَفَاءِ الْعَهْدِ كَمَا يَتَأَكَّدُ كَرَاهَةُ إخْلَافِهِ. وَيُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا وَهَبَهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: لَوْ طَلَبَ إنْسَانٌ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَهَبَهُ مَالًا فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ فَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ مَا أَعْطَاهُ لَهُ فَوَهَبَهُ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ كَالْمُصَادَرِ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ لِاتِّقَاءِ شَرِّهِ أَوْ سِعَايَتِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَدِيَّةٍ حَتَّى يَأْمُرَ صَاحِبَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا لِلشَّاةِ الَّتِي أُهْدِيَتْ إلَيْهِ يَعْنِي الْمَسْمُومَةَ بِخَيْبَرَ} وَهَذَا أَصْلٌ لِمَا يَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ فِي ذَلِكَ وَيَلْحَقُ بِهِمْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}؟. أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَوْ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تُنَافِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ، كَمَا أَنَّ إخْبَارَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ لَا يُنَافِي جِهَادَهُ وَأَمْرَهُ بِالْقِتَالِ، فَمِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ سُلُوكُ الْأَسْبَابِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ.
الشَّرْحُ: كِتَابُ اللُّقَطَةِ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ. وَحَكَى ابْنُ مَالِكٍ فِيهَا أَرْبَعَ لُغَاتٍ: لُقَاطَةٌ، وَلُقْطَةٌ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الْقَافِ، وَلُقَطَةٌ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَلَقَطٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ بِلَا هَاءٍ، وَنَظَمَهَا فِي بَيْتٍ، فَقَالَ: لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ وَلُقَطَهْ لَقَطٌ مَا لَاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ وَيُقَالُ: اللُّقَطَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ اسْمٌ لِلْمُلْتَقِطِ بِكَسْرِهَا أَيْضًا، وَهِيَ لُغَةً مَا وُجِدَ عَلَى تَطَلُّبٍ قَالَ تَعَالَى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} وَشَرْعًا: مَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ مِنْ مَالٍ أَوْ مُخْتَصٍّ ضَائِعٍ مِنْ مَالِكِهِ بِسُقُوطٍ أَوْ غَفْلَةٍ وَنَحْوِهَا لِغَيْرِ حَرْبِيٍّ لَيْسَ بِمُحْرَزٍ وَلَا مُمْتَنِعٍ بِقُوَّتِهِ وَلَا يَعْرِفُ الْوَاجِدُ مَالِكَهُ، فَخَرَجَ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ مَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، فَإِنَّهُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ إنْ ادَّعَاهُ، وَإِلَّا فَلِمَنْ مَلَكَ مِنْهُ، وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمُحْيِي، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لُقَطَةً، وَبِسُقُوطٍ أَوْ غَفْلَةٍ مَا إذَا أَلْقَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي حِجْرِهِ مَثَلًا أَوْ أَلْقَى فِي حِجْرِهِ هَارِبٌ كِيسًا وَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ يَحْفَظُهُ، وَلَا يَتَمَلَّكُهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَالِ الضَّائِعِ، بِأَنَّ الضَّائِعَ مَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِحِرْزِ مِثْلِهِ كَالْمَوْجُودِ فِي مُودَعِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْمُغْلَقَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ، وَاللُّقَطَةُ مَا وُجِدَ ضَائِعًا بِغَيْرِ حِرْزٍ، وَاشْتِرَاطُ الْحِرْزِ فِيهِ دُونَهَا إنَّمَا هُوَ لِلْغَالِبِ، وَإِلَّا فَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ مُحْرَزًا كَمَا مَرَّ فِي إلْقَاءِ الْهَارِبِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُحْرَزًا كَمَا لَوْ وَجَدَ دِرْهَمًا فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَدْرِي أَهُوَ لَهُ أَوْ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ، فَعَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْقَفَّالُ أَنْ يُعَرِّفَهُ لِمَنْ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، وَبِغَيْرِ حَرْبِيٍّ مَا وُجِدَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُخَمَّسُ، وَلَيْسَ لُقَطَةً، وَمَا خَرَجَ بِبَقِيَّةِ الْحَدِّ وَاضِحٌ، وَدَخَلَ فِيهِ صِحَّةُ الْتِقَاطِ الْهَدْيِ، وَفَائِدَتُهُ: جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالنَّحْرِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَالْمَوْقُوفُ وَفَائِدَتُهُ تَمَلُّكُ مَنَافِعِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ. يُرَدُّ عَلَيْهِ وَلَدُ اللُّقَطَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ، وَالرِّكَازُ الَّذِي هُوَ دَفِينُ الْإِسْلَامِ يَصِحُّ لَقْطُهُ، وَلَيْسَ مَالًا ضَائِعًا وَالْخَمْرُ غَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ، فَيَصِحُّ الْتِقَاطُهَا وَلَا مَالَ وَلَا اخْتِصَاصَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ اللُّقَطَةَ بَعْدَ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، وَذَكَرَهُمَا فِي التَّنْبِيهِ بَعْدَ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ مِنْ الشَّارِعِ، وَلَوْ ذُكِرَتْ عَقِبَ الْقَرْضِ لَكَانَ مُنَاسِبًا؛ لِأَنَّهُ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَهُ، وَالشَّرْعُ أَقْرَضَهُ الْمُلْتَقَطَةَ. وَالْأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ الْآيَاتُ الْآمِرَةُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إذْ فِي أَخْذِهَا لِلْحِفْظِ وَالرَّدِّ بِرٌّ وَإِحْسَانٌ، وَخَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ لُقَطَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ، فَقَالَ: اعْرَفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تُعَرِّفْهَا فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ، فَأَدِّهَا إلَيْهِ، وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا، وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: مَا لَك وَلَهَا دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا، وَسُئِلَ عَنْ الشَّاةِ فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ} وَفِي الِالْتِقَاطِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ وَالْوِلَايَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُلْتَقِطَ أَمِينٌ فِيمَا الْتَقَطَهُ، وَالشَّرْعُ وَلَّاهُ حِفْظَهُ كَالْوَلِيِّ فِي مَالِ الطِّفْلِ، وَفِيهِ مَعْنَى الِاكْتِسَابِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ التَّمَلُّكَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَهُوَ الْمُغَلَّبُ؛ لِأَنَّهُ مَآلُ الْأَمْرِ.
المتن: يُسْتَحَبُّ الِالْتِقَاطُ لِوَاثِقٍ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ، وَقِيلَ يَجِبُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ وَاثِقٍ، وَيَجُوزُ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: وَأَرْكَانُهَا ثَلَاثَةٌ: الْتِقَاطٌ وَمُلْتَقِطٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَمُلْتَقَطٌ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ شَرَعَ فِي الْأَوَّلِ، فَقَالَ: (يُسْتَحَبُّ الِالْتِقَاطُ لِوَاثِقٍ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ) وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الْمُخْتَصَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبِرِّ، وَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ {وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ} وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ لِئَلَّا يَقَعَ فِي يَدِ خَائِنٍ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ أَوْ كَسْبٌ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً (وَقِيلَ: يَجِبُ) عَلَيْهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ صِيَانَةً لِلْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا، وَحَمَلَ النَّصَّيْنِ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ. وَقَالَ: لَا يَتَحَقَّقُ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ أَحَدٍ وَالنَّقْلُ أَمَانَةٌ، فَإِنَّا لَوْ سُئِلْنَا عَمَّنْ قَالَ بِهِ لَمْ نَجِدْ مَنْ نَنْقُلُهُ عَنْهُ (وَلَا يُسْتَحَبُّ) الِالْتِقَاطُ قَطْعًا (لِغَيْرِ وَاثِقٍ) بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ فِي الْحَالِ آمِنٌ خَشْيَةَ الضَّيَاعِ أَوْ طُرُوِّ الْخِيَانَةِ (وَ) لَكِنْ (يَجُوزُ) الِالْتِقَاطُ (فِي الْأَصَحِّ)؛ لِأَنَّ خِيَانَتَهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا، وَعَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ، وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ خَشْيَةَ اسْتِهْلَاكِهَا.
تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ كَلَامُهُ كَغَيْرِهِ حُرْمَةَ الِالْتِقَاطِ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْخِيَانَةَ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ سُرَاقَةَ فَقَالَ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ.
المتن: وَيُكْرَهُ لِفَاسِقٍ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى الِالْتِقَاطِ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ الْإِشْهَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ ظَالِمًا يَخْشَى أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِهَا أَخَذَهَا. (وَيُكْرَهُ) الِالْتِقَاطُ تَنْزِيهًا كَمَا عَزَاهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَأَصْلِهَا لِلْجُمْهُورِ (لِفَاسِقٍ) لِئَلَّا تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْخِيَانَةِ، وَقِيلَ تَحْرِيمًا كَمَا فِي الْبَسِيطِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ شَاذٌّ أَوْ مُؤَوَّلٌ. وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ (وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى الِالْتِقَاطِ) كَالْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ لِتَمَلُّكٍ أَمْ حِفْظٍ كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الرَّافِعِيِّ: لَكِنْ يُسَنُّ، وَقِيلَ: يَجِبُ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد {مَنْ الْتَقَطَ فَلْيُشْهِدْ ذَا أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ} وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُ عَلَى النَّدْبِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَيَذْكُرُ فِي الْإِشْهَادِ بَعْضَ صِفَاتِ اللُّقَطَةِ لِيَكُونَ فِي الْإِشْهَادِ فَائِدَةٌ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ رُبَّمَا طَمِعَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَشْهَدَ أَمِنَ، وَلَا يَسْتَوْعِبُهَا لِئَلَّا يَتَوَصَّلَ إلَيْهَا كَاذِبٌ، بَلْ يَصِفُهَا لِلشُّهُودِ بِأَوْصَافٍ يَحْصُلُ بِالْإِشْهَادِ بِهَا فَائِدَةٌ، وَيُكْرَهُ اسْتِيعَابُهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْقَمُولِيُّ عَنْ الْإِمَامِ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ.
تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ الْإِشْهَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ ظَالِمًا يَخْشَى أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِهَا أَخَذَهَا، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ الْإِشْهَادُ، وَكَذَا التَّعْرِيفُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ.
المتن: وَأَنَّهُ يَصِحُّ الْتِقَاطُ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْ الْفَاسِقِ وَيُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ تَعْرِيفُهُ، بَلْ يُضَمُّ إلَيْهِ رَقِيبٌ، وَيَنْزِعُ الْوَلِيُّ لُقَطَةَ الصَّبِيِّ وَيُعَرِّفُ وَيَتَمَلَّكُهَا لِلصَّبِيِّ إنْ رَأَى ذَلِكَ حَيْثُ يَجُوزُ الِاقْتِرَاضُ لَهُ، وَيَضْمَنُ الْوَلِيُّ إنْ قَصَّرَ فِي انْتِزَاعِهِ حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِ الصَّبِيِّ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ الِاكْتِسَابُ لَا الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّهُ مَآلُ الْأَمْرِ كَمَا مَرَّ، فَقَالَ: (وَ) الْمَذْهَبُ (أَنَّهُ يَصِحُّ الْتِقَاطُ الْفَاسِقِ) وَالْمُرْتَدِّ إنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالسَّفِيهِ (وَالصَّبِيِّ) وَالْمَجْنُونِ (وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) وَفِي مَعْنَاهُ الْمُسْتَأْمَنُ وَالْمُعَاهَدُ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ كَاصْطِيَادِهِمْ وَاحْتِطَابِهِمْ، وَشَرَطَ الْإِمَامُ فِي صِحَّةِ الْتِقَاطِ الصَّبِيِّ التَّمْيِيزَ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَمِثْلُهُ الْمَجْنُونُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي تَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي اللُّقَطَةِ الِاكْتِسَابُ، فَيَصِحُّ، أَوْ الْوِلَايَةُ وَالْأَمَانَةُ، فَلَا يَصِحُّ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِ الَّذِي يُوجِبُ فِسْقُهُ حَجْرًا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ا هـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا يُقَالُ إنَّ مَسْأَلَةَ الْفَاسِقِ مُكَرَّرَةٌ مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَيُكْرَهُ لِفَاسِقٍ. فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّحَّةِ هُنَا أَنَّ أَحْكَامَ اللُّقَطَةِ هَلْ تَثْبُتُ لَهُ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ الْأَخْذَ. أَمَّا الْتِقَاطُ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْكُفَّارِ فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُنَا، وَخَرَجَ بِهِ الْحَرْبِيُّ يَجِدُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهَا تُنْزَعُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ: أَيْ، وَمَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ كَانَ لَهُ تَعْرِيفُهَا وَتَمَلُّكُهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ، وَقِيلَ: تَكُونُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَتُرَدُّ لُقَطَتُهُ عَلَى الْإِمَامِ وَتَكُونُ فَيْئًا إنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، فَإِنْ أَسْلَمَ فَحُكْمُهُ كَالْمُسْلِمِ (ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ) أَيْ الْمُلْتَقَطُ (يُنْزَعُ) أَيْ يَنْزِعُهُ الْقَاضِي (مِنْ الْفَاسِقِ، وَيُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ) لِأَنَّ مَالَ وَلَدِهِ لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ فَكَيْفَ مَالُ الْأَجَانِبِ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ التَّمَلُّكِ: أَيْ إنْ أُمِنَتْ غَائِلَتُهُ، وَلَكِنْ يُضَمُّ إلَيْهِ عَدْلٌ مُشْرِفٌ، وَأُجْرَةُ الْعَدْلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا فِي الْأَنْوَارِ تَبَعًا لِلدَّارِمِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمِنْ الْوَاجِدِ الْفَاسِقِ (وَ) الْأَظْهَرُ (أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ تَعْرِيفُهُ بَلْ يُضَمُّ إلَيْهِ) عَدْلٌ (رَقِيبٌ) خَشْيَةً مِنْ التَّفْرِيطِ فِي التَّعْرِيفِ، وَالثَّانِي: يُعْتَمَدُ مِنْ غَيْرِ رَقِيبٍ؛ لِأَنَّهُ الْمُلْتَقِطُ. قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: وَمُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَاسِقَ يُعَرِّفُ، وَالْعَدْلُ يُرَاقِبُهُ، وَفِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمَا: يَجْتَمِعَانِ عَلَى التَّعْرِيفِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَمَّ التَّعْرِيفُ، فَلِلْمُلْتَقِطِ التَّمَلُّكُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِغُرْمِهَا إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِذَا لَمْ يَتَمَلَّكْهَا تُرِكَتْ بِيَدِ الْأَمِينِ.
تَنْبِيهٌ: اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْفَاسِقِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَنْزِعُ مِنْ يَدِ الذِّمِّيِّ بَلْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ، وَلَيْسَ مُرَادًا، فَفِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا إلْحَاقُهُ بِالْفَاسِقِ، وَيَلْحَقُ بِهِ أَيْضًا الْمُرْتَدُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ وَالْمُعَاهَدُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ أَمِينًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا لَمْ تُنْزَعْ مِنْهُ، وَعَضَّدَهُ الْحَاكِمُ بِأَمِينٍ يَقْوَى بِهِ عَلَى الْحِفْظِ وَالتَّعْرِيفِ (وَيَنْزِعُ الْوَلِيُّ) وُجُوبًا (لُقَطَةَ الصَّبِيِّ) وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ لِحَقِّهِمْ وَحَقِّ الْمَالِكِ، وَتَكُونُ يَدُهُ نَائِبَةً عَنْهُمْ كَمَا نَابَ عَنْهُمْ فِي مَالِهِمْ (وَيُعَرِّفُ) هَا الْوَلِيُّ لَا مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ لِيَبِيعَ جُزْءًا مِنْ اللُّقَطَةِ لِمُؤْنَةِ التَّعْرِيفِ، وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ كَوْنِ مُؤْنَةِ التَّعْرِيفِ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ.
تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ تَعْرِيفَ الصَّبِيِّ لَا يَصِحُّ، وَمِثْلُهُ الْمَجْنُونُ، وَأَمَّا السَّفِيهُ، فَيَصِحُّ تَعْرِيفُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِ وَلِيِّهِ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ (وَيَتَمَلَّكُهَا لِلصَّبِيِّ) وَنَحْوِهِ (إنْ رَأَى ذَلِكَ) مَصْلَحَةً (حَيْثُ يَجُوزُ الِاقْتِرَاضُ لَهُ)؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ فِي مَعْنَى الِاقْتِرَاضِ فَإِنْ لَمْ يَرَهُ مَصْلَحَةً لَهُ حَفِظَهُ أَمَانَةً أَوْ دَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي (وَ) عَلَى صِحَّةِ الْتِقَاطِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ (يَضْمَنُ الْوَلِيُّ إنْ قَصَّرَ فِي انْتِزَاعِهِ) أَيْ الْمُلْتَقَطِ (حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِ الصَّبِيِّ) وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ لِتَقْصِيرِهِ كَمَا لَوْ قَصَّرَ فِي حِفْظِ مَا احْتَطَبَهُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيَهُ الْحَاكِمُ فَالْأَشْبَهُ عَدَمُ ضَمَانِهِ ا هـ. وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي انْتِزَاعِهَا ضَمِنَ الصَّبِيُّ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالتَّلَفِ بِلَا تَقْصِيرٍ، وَيَعْرِفُ التَّالِفُ الْمَضْمُونَ وَيُتَمَلَّكُ لِلصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ الْقِيمَةُ بَعْدَ قَبْضِ الْحَاكِمِ لَهَا. أَمَّا مَا فِي الذِّمَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ تَمَلُّكُهُ لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْوَلِيُّ حَتَّى بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ رَشَدَ السَّفِيهُ كَانَ كَمَا لَوْ وَجَدَهَا بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ سَوَاءٌ اسْتَأْذَنَ الْحَاكِمَ، فَأَقَرَّهَا فِي يَدِهِ أَمْ لَا كَمَا هُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ لِلصَّيْمَرِيِّ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ.
المتن: وَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُ الْتِقَاطِ الْعَبْدِ وَلَا يُعْتَدُّ بِتَعْرِيفِهِ فَلَوْ أَخَذَهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ كَانَ الْتِقَاطًا.
الشَّرْحُ: (وَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُ الْتِقَاطِ الْعَبْدِ) إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ السَّيِّدُ، وَلَمْ يَنْهَهُ؛ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ أَمَانَةٌ وَوِلَايَةٌ ابْتِدَاءً وَتَمْلِيكٌ انْتِهَاءً، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِمَا، وَالثَّانِي: صِحَّتُهُ وَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ كَاحْتِطَابِهِ وَاصْطِيَادِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ كَقَوْلِهِ مَتَى وَجَدْتَ لُقَطَةً، فَأْتِنِي بِهَا صَحَّ جَزْمًا، وَإِنْ نَهَاهُ امْتَنَعَ جَزْمًا عِنْدَ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَقَوَّاهُ الْمُصَنِّفُ وَطَرَدَ غَيْرُهُ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْإِذْنُ فِي الِاكْتِسَابِ إذْنٌ فِي الِالْتِقَاطِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الزَّرْكَشِيّ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ بُطْلَانِ الْتِقَاطِ الْعَبْدِ نُثَارُ الْوَلِيمَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَيَمْلِكُهُ سَيِّدُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ آخِرَ الْوَلِيمَةِ، وَكَذَا الْحَقِيرُ كَتَمْرَةٍ وَزَبِيبَةٍ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَعْرِيفَ فِيهِ وَلَا تَمَلُّكَ، فَهُوَ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ (وَ) عَلَى بُطْلَانِ الْتِقَاطِهِ (لَا يُعْتَدُّ بِتَعْرِيفِهِ)؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَقِطٍ، وَيَضْمَنُ الْمُلْتَقَطَ فِي رَقَبَتِهِ، وَعَلَى صِحَّةِ الْتِقَاطِهِ يُعْتَدُّ بِتَعْرِيفِهِ، وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فِي الْأَصَحِّ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لِنَفْسِهِ بَلْ يَتَمَلَّكُهُ لِسَيِّدِهِ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالْمُدَبَّرُ وَمُعَلَّقُ الْعِتْقِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ إلَّا أَنَّ الضَّمَانَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ يَتَعَلَّقُ بِسَيِّدِهَا لَا بِرَقَبَتِهَا عَلِمَ سَيِّدُهَا أَمْ لَا (فَإِنْ أَخَذَهُ) أَيْ الْمُلْتَقَطَ (سَيِّدُهُ) أَوْ أَجْنَبِيٌّ (مِنْهُ) أَيْ الْعَبْدِ (كَانَ الْتِقَاطًا) لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ السَّيِّدُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْعَبْدِ الضَّمَانُ، وَفِي مَعْنَى أَخْذِ السَّيِّدِ إقْرَارُهُ اللُّقَطَةَ فِي يَدِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ أَمِينًا إذْ يَدُهُ كَيَدِهِ، فَإِنْ اسْتَحْفَظَهُ، وَهُوَ غَيْرُ أَمِينٍ أَوْ أَهَمَلَهُ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْعَبْدِ وَسَائِرِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ، وَلَوْ أَفْلَسَ السَّيِّدُ قُدِّمَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ أَخَذَهُ سَيِّدُهُ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ بَعْدَ أَنْ الْتَقَطَ لَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلِلْعَتِيقِ تَمَلُّكُهَا وَكَأَنَّهُ الْتَقَطَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ.
المتن: قُلْتُ: الْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْتِقَاطِ الْمُكَاتَبِ كِتَابَةً صَحِيحَةً.
الشَّرْحُ: (قُلْتُ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ: فِي الشَّرْحِ (الْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْتِقَاطُ الْمُكَاتَبِ كِتَابَةً صَحِيحَةً) كَالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، فَيُعَرِّفُ وَيَتَمَلَّكُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّبَرُّعِ وَالْحِفْظِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ، فَهُوَ كَالْقِنِّ لَكِنْ لَا يَأْخُذُهَا السَّيِّدُ مِنْهُ، وَإِنْ أَوْهَمَتْهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ بَلْ يَأْخُذُهَا الْقَاضِي وَيَحْفَظُهَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ كَالْحُرِّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ تَمَلَّكَهَا الْمُكَاتَبُ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ كَانَ بَدَلُهَا فِي كَسْبِهِ وَلَا يُقَدَّمُ مَالِكُهَا بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُنَا، وَيَنْبَغِي جَرَيَانُهُمَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فِي الْحُرِّ الْمُفْلِسِ أَوْ الْمَيِّتِ، فَلَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ قَبْلَ تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ لَمْ يَأْخُذْهَا السَّيِّدُ؛ لِأَنَّ الْتِقَاطَ الْمُكَاتَبِ لَا يَقَعُ لِسَيِّدِهِ، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْتِقَاطُهُ اكْتِسَابًا، لِأَنَّ لَهُ يَدًا كَالْحُرِّ، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَخْذُهَا مِنْهُ بَلْ يَحْفَظُهَا الْحَاكِمُ لِلْمَالِكِ. أَمَّا الْمُكَاتَبُ كِتَابَةً فَاسِدَةً، فَلَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ كَالْقِنِّ.
المتن: وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ، وَهِيَ لَهُ وَلِسَيِّدِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مُهَايَأَةً فَلِصَاحِبِ النَّوْبَةِ فِي الْأَظْهَرِ، وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ النَّادِرِ مِنْ الْأَكْسَابِ وَالْمُؤَنِ إلَّا أَرْشَ الْجِنَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ: (وَ) الْمَذْهَبُ صِحَّةُ الْتِقَاطِ (مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ) وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّهُ كَالْحُرِّ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالذِّمَّةِ، وَقِيلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقِنِّ (وَ) عَلَى الْأَوَّلِ (هِيَ) أَيْ اللُّقَطَةُ (لَهُ وَلِسَيِّدِهِ) فَيُعَرِّفَانِهَا وَيَتَمَلَّكَانِهَا. هَذَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً (فَإِنْ كَانَتْ مُهَايَأَةً) بِالْهَمْزِ: أَيْ مُنَاوَبَةً (فَلِصَاحِبِ النَّوْبَةِ فِي الْأَظْهَرِ) بِنَاءً عَلَى دُخُولِ الْكَسْبِ النَّادِرِ فِي الْمُهَايَأَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالثَّانِي: تَكُونُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ فِيهَا، فَعَلَى الْأَظْهَرِ مَنْ وَقَعَتْ فِي نَوْبَتِهِ عَرَّفَهَا وَتَمَلَّكَهَا، وَالِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ الِالْتِقَاطِ عَلَى الْأَصَحِّ.
تَنْبِيهٌ: هَلْ يُحْتَاجُ إلَى إذْنِ السَّيِّدِ فِيمَا إذَا كَانَتْ مُهَايَأَةً وَفِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً أَوْ لَا؟ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ فِي نَوْبَةِ سَيِّدِهِ كَالْقِنِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ. وَأَمَّا فِي نَوْبَةِ نَفْسِهِ، فَهُوَ كَالْحُرِّ. وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً فَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنٍ تَغْلِيبًا لِلْحُرِّيَّةِ (وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ) أَيْ بَاقِي (النَّادِرِ مِنْ الْأَكْسَابِ) الْحَاصِلَةِ لِلْمُبَعِّضِ كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالرِّكَازِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَذَا زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُهَايَأَةِ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا وَقَعَ فِي نَوْبَتِهِ (وَ) حُكْمُ النَّادِرِ مِنْ (الْمُؤَنِ) كَأُجْرَةِ طَبِيبٍ وَثَمَنِ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ حَمَّامٍ إلْحَاقًا لِلْغُرْمِ بِالْغُنْمِ فَالْأَكْسَابُ لِمَنْ حَصَلَتْ فِي نَوْبَتِهِ، وَالْمُؤَنُ عَلَى مَنْ وَجَدَ سَبَبَهَا فِي نَوْبَتِهِ فِي الْأَظْهَرِ فِيهِمَا، وَمُقَابِلُهُ يَشْتَرِكَانِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ النَّادِرَةَ مَجْهُولَةٌ، وَرُبَّمَا لَا تَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ التَّهَايُؤِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِهَا (إلَّا أَرْشَ الْجِنَايَةِ) الْمَوْجُودَةِ مِنْ الْمُبَعَّضِ أَوْ عَلَيْهِ كَمَا شَمَلَتْهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَبَحَثَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَخْتَصُّ أَرْشُهَا بِصَاحِبِ النَّوْبَةِ بَلْ يَكُونُ الْأَرْشُ بَيْنَ الْمُبَعَّضِ وَالسَّيِّدِ جَزْمًا (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّ الْأَرْشَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً فَيَشْتَرِكَانِ فِي سَائِرِ النَّادِرِ مِنْ الْأَكْسَابِ وَالْمُؤَنِ.
|