الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مناسك الحج والعمرة **
الإحرامُ بالحجّ: إذا كان ضُحى يومِ التروية ـ وهو اليومُ الثامنُ من ذي الحجة ـ أحرم من يريد الحجَّ بالحجِّ من مكانه الذي هو نازلٌ فيه. ولا يُسَنّ أن يذهبَ إلى المسجد الحرام أو غيره من المساجد فَيُحرم منه، لأن ذلك لم يرد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ولا عن أصحابه فيما نعلم. ففي "الصحيحين" من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال لهم: ولمسلمٍ عنه رضي الله عنه قال: ويفعل عند إحرامه بالحج كما فعل عند إحرامه بالعمرة، فيغتسل ويتطيب ويصلي سنة الوضوء، ويُهل بالحج بعدها، وصفة الإهلال والتلبية بالحج كصفتهما في العمرة، إلا أنه في الحج يقول: لبيك حجًا، بدل: لبيك عمرة، ويشترطُ أن مَحلِّي حيث حبستني، إن كان خائفًا من عائق يمنعه من إتمام نسكه، وإلا فلا يشترط. الخروج إلى منى: ثم يخرج إلى منى فيُصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرًا من غير جمع؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فعل كذلك. وفي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه قال: وفي "صحيح البخاري" من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ بمنى ركعتين وأبو بكر وعمر وعثمان صَدْرًا من خلافته، ولم يكن ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يجمع في منى بين الصلاتين في الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء، ولو فعل ذلك لنُقلَ كما نُقل جمعه في عرفة ومزدلفة. ويقصر أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كان يُصلي بالناس في حجة الوداع في هذه المشاعر ومعه أهل مكة، ولم يأمرهم بالإتمام، ولو كان الإتمام واجبًا عليهم لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح حين قال لهم: لكن حيث امتد عمران مكة فشمل منى وصارت كأنها حي من أحيائها فإن أهل مكة لا يقصرون فيها. الوقوف بعرفة: فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سارَ من منى إلى عرفة فنزل بنَمِرَة إلى الزوال إن تَيسر له، وإلا فلا حرج عليه؛ لأن النزول بنمرة سنةٌ لا واجب. فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين، يجمع بينهما جمعَ تقديم كما فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . ففي "صحيح مسلم" من حديث جابر رضي الله عنه قال: وأمر ـ يعني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ بقُبة من شعر تُضرب له بنمرة، فسار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلَت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا. ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غَرَبت الشمسُ "الحديث". والقصر والجمع في عرفة لأهل مكة وغيرهم. وإنما كان الجمع جمع تقديم ليتفرغ الناس للدعاء، ويجتمعوا على إمامهم، ثم يتفرقوا على منازلهم، فالسنة للحاج أن يتفرغ في آخر يوم عرفة للدعاء والذكر والقراءة ويحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول: ـ اللَّهُمّ لك الحمد كالذي نقول وخيرًا مما نقول، اللَّهُمّ لك صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي وإليك ربِّ مآبي ولك رب تُراثي. ـ اللَّهُمّ إني أعوذُ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر. ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من شر ما تَجيء به الريحُ. ـ اللَّهُمّ إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلمُ سِرّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيءٌ من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك إبتهال المذنب الذليل، وأدعوكَ دعاءَ من خَضَعت لك رقبته وفاضت لك عيناه، وذلّ لك جسده، ورَغم لك أنفه. ـ اللَّهُمّ لا تجعلني بدعائك ربِّ شقيًا، وكن بي رؤوفًا رحيمًا يا خير المسؤولين ويا خيرَ المعطين. ـ اللَّهُمّ اجعل في قلبي نورًا، وفي سَمعي نورًا وفي بصري نورًا. ـ اللَّهُمّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري، اللَّهُمّ إني أعوذ بك من شرِّ ما يلج في الليل، وشَرِّ ما يلجُ في النهار، وشرِّ ما تهبُّ به الرياحُ، وشرِّ بوائق الدهر. ـ اللَّهُمّ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقِنا عذابَ النار. ـ اللَّهُمّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من جهد البلاء، ومن دَرك الشقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتةِ الأعداء. ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من الهمّ والحَزن، والعجز والكسل، والجُبن والبُخل، وضِلَعِ الدينِ وغَلبة الرجال، وأعوذُ بك من أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العُمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا. ـ اللَّهُمّ إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن شرِّ فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر. ـ اللَّهُمّ اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبَرَد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. فالدعاء يومَ عرفة خيرُ الدعاء. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : وإذا لم يُحط بالأدعية الواردة عن رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ دعا بما يعرفُ من الأدعية المباحة. فإذا حصل له مَللٌ، وأراد أن يستجم بالتحدث مع رفقته بالأحاديث النافعة، أو مُدارسة القرآن، أو قراءة ما تيسر من الكُتب المفيدة، خُصوصًا ما يتعلق بكرم الله تعالى وجزيل هباته، ليقوي جانب الرجاء في هذا اليوم، كان حَسنا ثم يعود إلى الدعاء والتضرع إلى الله، ويحرص على اغتنام آخر النهار بالدعاء. وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبلًا القبلة، وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله، لأن السنة استقبال القبلة، ويرفع يديه، فإن كان في إحداهما مانعٌ رفع السليمة، لحديث أُسامة بن زيد رضي الله عنه قال: ويُظهر الافتقار والحاجة إلى الله عز وجل، ويُلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة. ولا يعتدي في دعائه بأن يسأل ما لا يجوز شرعًا، أو ما لا يُمكن قَدَرًا، فقد قال الله تعالى: فقد استبعد النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ إجابة من يتغذى بالحرام ويلبس الحرام مع توفر أسباب القَبول في حَقه وذلك لأنه يتغذى بالحرام. وإذا تيسر له أن يقف في موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ عند الصخرات فهو أفضل، وإلا وقف فيما تيسر له من عرفة، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: ويجب على الواقف بعرفة أن يتأكد من حدودها، وقد نُصبت عليها علامات يجدها من يتطلبها، فإن كثيرًا من الحجاج يتهاونون بهذا فيقفون خارج حدود عرفة جهلًا منهم، وتقليدًا لغيرهم، وهؤلاء الذين وقفوا خارج حدود عرفة ليس لهم حج؛ لأن الحج عرفة، لما روى عبدالرحمن بن يَعمر: فتجب العناية بذلك، وطلب علامات الحدود حتى يتيقن أنه داخل حدودها. ومن وقف بعرفة نهارًا وجبَ عليه البقاءُ إلى غروب الشمس، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وقف إلى الغروب، وقال: ويَمتد وقتُ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر يوم العيد، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : فإن طلع الفجر يوم العيد قبل أن يقف بعرفة فقد فاته الحج. فإن كان قد اشترط في ابتداء إحرامه إن حبسني حابس فمَحلِّي حيث حَبَستني تحلل من إحرامه ولا شيء عليه، وإن لم يكن اشترط فإنه يتحلل بعمرة فيذهب إلى الكعبة، ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق، وإن كان معه هدي ذبحه، فإذا كان العام القادم قضى الحج الذي فاته، وأهدى هديًا، فإن لم يجد صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، لما روى مالك في "الموطأ" أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا أيوب وهبّار بن الأسود حين فاتهما الحج فأتيا يوم النحر أن يُحِلا بعمرةٍ ثم يرجعا حلالًا ثم يَحجا عامًا قابلًا ويهديا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. المبيت بمزدلفة: ثم بعد الغروب يدفع الواقف بعرفة إلى مزدلفة فَيُصلي بها المغرب والعشاء؛ يُصلي المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين. وفي "الصحيحين" عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: فالسنة للحاج أن لا يُصلي المغرب والعشاء إلا بمزدلفة اقتداءً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ إلا أن يخشى خروج وقت العشاء بمنتصف الليل فإنه يجب عليه أن يُصلي قبل خروج الوقت في أي مكانٍ كان. ويبيت بمزدلفة، ولا يُحيي الليل بصلاة ولا بغيرها، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لم يفعل ذلك. وفي "صحيح البخاري" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: وفي "صحيح مسلم" من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحد وإقامتين، ولم يُسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر. ويجوز للضعفة من رجال ونساء أن يدفعوا من مزدلفة بليل في آخره. ففي "صحيح مسلم" وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وأما مَن ليس ضعيفًا ولا تابعًا لضعيف، فإنه يبقى بمزدلفة حتى يُصلي الفجر اقتداءً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها قالت: وفي رواية أنها قالت: فإذا صلى الفجر أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وهلّله ودعا بما أحب حتى يسفر جدًا. وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : السيرُ إلى منى والنزول فيها: ينصرف الحجاج المقيمون بمزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس عند الانتهاء من الدعاء والذكر، فإذا وصلوا إلى منى عملوا ما يأتي: 1 ـ رمي جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى التي تلي مكة في منتهى منى، فيلقطُ سبع حصيات مثل حصا الخَذفِ، أكبر من الحمص قليلًا، ثم يرمي بهن الجمرة، واحدةً بعد واحدةٍ، ويرمي من بطن الوادي إن تيسر له فيجعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه، لحديثِ ابن مسعود رضي الله عنه ويُكبر مع كل حصاةٍ فيقول: الله أكبر. ولا يجوزُ الرمي بحصاة كبيرة ولا بالخفاف والنعال ونحوها. ويَرمي خاشعًا خاضعًا مُكبرًا الله عز وجل، ولا يفعل ما يفعله كثيرٌ من الجهال من الصياح واللغط والسب والشتم؛ فإن رَمي الجمار من شعائر الله: وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه قال: ولا يندفع إلى الجمرة بعنف وقوة، فيؤذي إخوانه المسلمين أو يضرهم. 2 ـ ثم بعد رمي الجمرة يذبح الهدي إن كان معه هدي، أو يشتريه فيذبحه. وقد تقدم بيان نوع الهدي الواجب وصفته ومكان ذبحه وزمانه وكيفية الذبح، فَليُلاحَظ. 3 ـ ثم بعد ذبحِ الهدي يحلق رأسه إن كان رجلًا، أو يقصّره، والحلق أفضل، لأن الله قدمه فقال: ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ دعا للمُحَلقين بالرحمة والمغفرة ثلاثًا وللمُقَصرين مرة، ولأن الحلق أبلغ تَعظيمًا لله عز وجل حيث يُلقي به جميعَ شعرِ رأسِه. ويجب أن يكون الحلق أو التقصير شاملًا لجميع الرأس لقوله تعالى: والفعل المضاف إلى الرأس يشمل جميعه، ولأن حلق بعض الرأس دون بعض منهي عنه شرعًا لما في "الصحيحين" عن نافع عن ابن عُمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ نهى عن القَزع، فقيل لنافع: ما القزعُ؟ قال: أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضًا، وإذا كان القزعُ منهيًا عنه لم يصحَّ أن يكون قُربة إلى الله، ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ حَلَق جميع رأسه تعبدًا لله عز وجل وقال: وأما المرأة فتقصر من أطراف شعرها بقدر أُنملة فقط. فإذا فعل ما سبق حَلَّ له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء فيحل له الطيب واللباس وقص الشعر والأظافر وغيرها من المحظورات ما عدا النساء. والسنة أن يتطيب لهذا الحِلِّ، لقول عائشة رضي الله عنها: وفي لفظ له: 4 ـ الطواف بالبيت وهو طواف الزيارة والإفاضة لقوله تعالى: وفي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: ثم ركب ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر... الحديث. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: حَجَجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فأفضنا يومَ النحرِ... الحديث متفق عليه. وإذا كان مُتمتعا أتى بالسعي بعد الطواف، لأن سعيه الأول كان للعمرة، فلزمه الإتيان بسعي الحج. وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وفي "صحيح مسلم" عنها أنها قالت: ما أتم الله حج امرىء ولا عُمرته لم يطف بين الصفا والمروة وذكره البخاري تعليقًا. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وإذا كان مفردًا أو قارنًا فإن كان قد سعى بعد طواف القدوم لم يُعِدِ السعي مرة أخرى لقول جابر رضي الله عنه: وإن كان لم يَسْعَ وجب عليه السعي لأنه لا يتمُّ الحج إلا به كما سبق عن عائشة رضي الله عنها. وإذا طاف طواف الإفاضة وسعى للحج بعده أو قبله إن كان مُفردًا أو قارنًا فقد حلّ التحلل الثاني، وحلَّ له جميع المحظورات؛ لما في "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما في صفة حج النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: والأفضل أن يأتي بهذه الأعمال يومَ العيد مُرتبة كما يلي: 1 ـ رمي جمرة العقبة. 2 ـ ذبح الهدي. 3 ـ الحلق أو التقصير. 4 ـ الطواف ثم السعي إن كان متمتعًا أو كان مُفردًا أو قارنًا ولم يَسعَ مع طواف القدوم. لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ رتبها هكذا وقال: فإن قدّم بعضها على بعض فلا بأس لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قيلَ له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: وللبخاري عنه قال: وفي "صحيح مسلم" من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ سُئل عن تقديم الحلقِ على الرمي، وعن تقديم الذبح على الرمي، وعن تقديم الإفاضة على الرمي، فقال: وإذا لم يتيسر له الطواف يومَ العيد جاز تأخيره، والأَولى أن لا يتجاوزَ به أيامَ التشريق إلا من عُذرٍ كمرضٍ وحيضٍ ونفاسٍ. الرجوعُ إلى منى للمبيت ورَميُ الجمار: يرجع الحاج يوم العيد بعد الطواف والسعي إلى منى، فيمكثُ فيها بقيةَ يوم العيد وأيام التشريق ولياليها، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كان يمكث فيها هذه الأيام والليالي، ويلزمه المبيت في منى ليلةَ الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر إن تأخر، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ باتَ فيها. وقال: ويجوز ترك المبيت لعذرٍ يتعلق بمصلحة الحج أو الحجاج؛ لما في (الصحيحين) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه استأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فَأَذِنَ له. وعن عاصم بن عدي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى... الحديث. رواه الخمسة وصححه الترمذي. ويرمي الجمرات الثلاث في كل يومٍ من أيام التشريق كل واحدة بسبع حصيات مُتعاقبات، يكبر مع كل حصاة ويرميها بعد الزوال. فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم يتقدم فيسهّل فيقومُ مستقبل القبلة قيامًا طويلًا فيدعو وهو رافعٌ يديه. ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمال فيسهّل فيقوم مستقبل القبلة قيامًا طويلًا فيدعو وهو رافعٌ يديه. ثم يرمي جمرةَ العقبةِ، ثم ينصرف ولا يقفُ عندها. هكذا رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كان يفعل كذلك. وإذا لم يتيسر له طول القيام بين الجمار، وقَفَ بقدر ما يتيسر له ليحصل إحياء هذه السنة التي تركها أكثرُ الناس، إما جهلًا أو تهاونًا بهذه السنة. ولا ينبغي ترك هذا الوقوف فتضيع السنة، فإن السنة كلما أُضيعت كان فعلها أوكد لحصول فضيلة العمل ونَشِر السنة بين الناس. والرمي في هذه الأيام ـ أعني أيام التشريق ـ لا يجوز إلا بعد زوال الشمس؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لم يَرمِ إلا بعد الزوال، وقد قال: وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون. ففي (صحيح البخاري) أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما سُئل: متى أرمي الجمار؟ قال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. وإذا رمى الجمارَ في اليوم الثاني عشر فقد انتهى من واجب الحج فهو بالخيار إن شاء بقي في منى لليوم الثالث عشر ورمى الجمار بعد الزوال، وإن شاء نفر منها لقوله تعالى: والتأخرُ أفضلُ لأنه فعلُ النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ولأنه أكثر عملًا حيث يحصل له المبيت ليلة الثالث عشر، ورمي الجمار من يومه. لكن إذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر قبل نفره من منى فلا يتعجل حينئذٍ لأن الله سبحانه قال: وفي "الموطأ" عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: من غَرَبت له الشمس من أواسط أيام التشريق وهو بمنى فلا يَنفر حتى يرمي الجمار من الغد، لكن إذا كان تأخره إلى الغروب بغير اختياره مثل أن يتأهب للنفر ويشد رحله فيتأخر خروجه من منى بسبب زحام السيارات أو نحو ذلك فإنه ينفرُ ولا شيء عليه ولو غربت الشمس قبل أن يخرج من منى. الاستنابة في الرمي: رمي الجمار نسك من مناسك الحج، وجزءٌ من أجزائه، فيجب على الحاج أن يقومَ به بنفسه إن استطاع إلى ذلك سبيلًا، سواءٌ كان حجه فريضة أم نافلة، لقوله تعالى: فالحج والعمرة إذا دخل فيهما الإنسان وجب عليه إتمامهما وإن كانا نفلًا. ولا يجوز للحاج أن يُوكل مَنْ يرمي عنه إلا إذا كان عاجزًا عن الرمي بنفسه لمرضٍ أو كِبَر أو صِغَر أو نحوها، فيوكّل من يثق بعلمه ودينه فيرمي عنه سواء لقَطَ المُوَكل الحصا وسلمها للوكيل، أو لقطها الوكيلُ ورمى بها عن موكله. وكيفية الرمي في الوكالة أن يَرمي الوكيل عن نفسه أولًا سبعَ حَصيات، ثم يَرمي عن موكله بعد ذلك، فَيُعينه بالنيةِ. ولا بأس أن يَرمي عن نفسه وعمن وكله في موقفٍ واحدٍ، فلا يلزمه أن يكمل الثلاث عن نفسه، ثم يرجع عن موكله، لعدم الدليل على وجوب ذلك. طواف الوداع: إذا نَفَرَ الحاج من منى وانتهت جميع أعمال الحج، وأراد السفر إلى بلده فإنه لا يخرجُ حتى يطوف بالبيت للوداع سبعةَ أشواط، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ طاف للوداع وكان قد قال: ويجبُ أن يكون هذا الطوافُ آخر شيء يفعلهُ بمكة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الناس ينصرفون في كلِّ وجهٍ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : فلا يجوز البقاء بعده بمكة، ولا التشاغل بشيء إلا ما يتعلق بأغراض السفر وحوائجه؛ كشد الرحل وانتظار الرفقة، أو انتظار السيارة، إذا كان قد وَعَدَهم صَاحبها في وقتٍ معين فتأخر عنه، ونحو ذلك. فإن أقام لغير ما ذُكر وَجَبَ عليه إعادة الطواف ليكون آخرَ عهده بالبيتِ. ولا يجب طواف الوداع على الحائض والنُّفساء لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها قالت: حاضت صفية بنت حُيَيّ بعدما أفاضت، قالت عائشة: فَذَكرت حَيضتها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فقال: مجمل أعمال الحج عمل اليوم الأول وهو اليوم الثامن: 1 ـ يُحرمُ بالحج من مكانه فيغتسل ويتطيب ويلبس ثيابَ الإحرام ويقول: لبَّيْك حجًا، لبيك اللهم لبيك، لبَّيْك لا شريك لك لبَّيْك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. 2 ـ يتوجه إلى منى فيبقى فيها إلى طُلوعِ الشمسِ في اليوم التاسع، ويُصلي فيها الظهر من اليوم الثامن، والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها، ويقصُر الرباعية. عمل اليوم الثاني وهو اليوم التاسع: 1 ـ يتوجه بعد طلوع الشمس إلى عرفة، ويُصلي الظهر والعصر قصرًا وجمعَ تقديمٍ، وينزل قبل الزوال بنمرة إن تيسر له. 2 ـ يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء مستقبل القبلةِ رافعًا يديه إلى غُروب الشمس. 3 ـ يتوجه بعد غروب الشمس إلى مُزدلفة فَيُصلي فيها المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين، ويبيتُ فيها حتى يطلع الفجر. 4 ـ يُصلي الفجر بعد طلوع الفجر، ثم يتفرغ للذكر والدعاء حتى يُسفرَ جدًا. 5 ـ يتوجه قبل طلوع الشمس إلى منى. عمل اليوم الثالث وهو يوم العيد: 1 ـ إذا وصل إلى منى، ذهب إلى جمرة العقبة، فرماها بسبع حَصَياتٍ مُتعاقبات، واحدةً بعد الأخرى، يكبر مع كل حصاة. 2 ـ يذبحُ هَديه إن كان له هديٌ. 3 ـ يحلق رأسه أو يُقصره. ويتحلل بذلك التحلُّلَ الأولَ فيلبس ثيابه ويتطيب وتحِلُّ له جميع محظورات الإحرام سوى النساء. 4 ـ ينزل إلى مكة فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، وهو طوافُ الحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، إن كان متمتعًا، وكذلك إن كان غير متمتع ولم يكن سعى مع طواف القدوم. وبهذا يَحل التحلل الثاني، ويَحل له جميع محظورات الإحرام حتى النساء. 5 ـ يرجع إلى منى فيبيت فيها ليلة الحادي عشر. عمل اليوم الرابع وهو الحادي عشر: 1 ـ يَرمي الجمرات الثلاث، الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات يُكبر مع كل حصاة، يرميهن بعد الزوال ولا يجوز قبله. ويلاحظ الوقوف للدعاء بعد الجمرة الأولى والوسطى. 2 ـ يبيت في منى ليلة الثاني عشر. عمل اليوم الخامس وهو الثاني عشر: 1 ـ يرمي الجمرات الثلاث كما رماهُنَّ في اليوم الرابع. 2 ـ ينفر من منى قبل غروب الشمس إن أراد التعجل، أو يبيت فيها إن أراد التأخر. عمل اليوم السادس وهو الثالث عشر: هذا اليوم خاص بمن تأخر ويعمل فيه: 1 ـ يرمي الجمرات الثلاث كما سبق في اليومين قَبلَه. 2 ـ يَنفر من منى بعد ذلك. وآخر الأعمال طواف الوداع عند سفره، والله أعلم.
مناسك الحج و العمرة الفصل الثامن: الواجبات في الحج محمد بن صالح العثيمين الواجبات في الحج قسمان: قسمٌ لا يصحُّ الحجُّ بدونها، وقسمٌ يصح الحج بدونها. فالتي لا يصح بدونها تُسمى الأركان، وهي: 1 ـ الإحرام وهو نية الدخول في الحج لقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : وأمكنة الأحرام المُعينة خمسة وهي: * ذو الحليفة (وتسمى أبيار علي) لأهل المدينة. * الجحفة (وهي قرية قرب رابغ) وقد خَربت، فجعل الإحرام من (رابغ) بدلًا عنها لأهل الشام. * يلملم (وهو جبل أو مكان في طريق اليمن إلى مكة) لأهل اليمن، وتُسمى (السعدية). * قرن المنازل (ويسمى السيل) لأهل نجد. * وذات عرق (وتسمى الضريبة) لأهل العراق. من مر بهذه المواقيت فهي ميقات له وإن لم يكن من أهلها. 2 ـ الوقوف بعرفة لقول الله تعالى: ووقته من زوال الشمس من اليوم التاسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من اليوم العاشر، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وقف بعد زوال الشمس وقال: وقيل: يبتدىء وقته من طلوع الفجر من اليوم التاسع، ومكانه عرفة كلها لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : 3 ـ الطواف بالبيت لقوله تعالى: ووقته بعد الوقوفِ بعرفة ومزدلفة لقوله تعالى: 4 ـ السعي بين الصفا والمروة لقوله تعالى: ووقته للمتمتع بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة وطواف الإفاضة، فإن قدّمه عليه فلا حرج، لا سيما إن كان ناسيًا أو جاهلًا، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وأما القارن والمفرد فلهما السعي بعد طواف القدوم. فهذه الأربعة: الإحرامُ، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة لا يصح الحج بدونها. وأما الواجبات التي يصح الحج بدونها فتسمى اصطلاحًا بـ (الواجبات) وهي: 1 ـ أن يكون الإحرام من الميقات المُعتبر شرعًا، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : والروايتان في "البخاري" عن ابن عمر رضي الله عنهما. 2 ـ استمرار الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس يوم التاسع من ذي الحجة، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وقف إلى الغروب وقال: 3 ـ المبيت بمزدلفة ليلة عيد النحر، لقوله تعالى: ويجوز الدفع في آخر الليل إلى منى للضعفة من النساء والصبيان ممن يشق عليهم زحام الناس ليرموا الجمرة قبل وصول الناس إلى منى؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُقدّم ضعفة أهله فمنهم من يَقدُم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يَقدُم بعد ذلك، فإذا قَدمُوا رَموا الجمرة، وكان يقول: أَرخَصَ في أولئك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما 4 ـ رمي جمرة العقبة يوم العيد، ورمي الجمرتين الأُخريين معها في أيام التشريق في أوقاتها، لقوله تعالى: والأيام المعدودات: أيام التشريق. ورمي الجمار من ذكر الله تعالى لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : 5 ـ الحلق أو التقصير للرجال، والتقصير فقط للنساء، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : 6 ـ المبيت بمنى ليلتين، ليلة إحدى عشرة وليلة اثنتي عشرة لمن تعجل، فإن تأخر فليلةَ ثلاثَ عشرة أيضًا، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ بات بها، وقال: وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه استأذن من النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له. وفي لفظ: فرخص له. والتعبير بالرخصة دليل على وجوب المبيت لغير عذر. فهذه الأمور الستة واجبة في الحج، لكن الحج يصح بدونها. وفي تركها عند الجمهور من العلماء فدية شاة أو سُبع بدنة أو سُبع بقرة تُذبح في مكة وتُعطى فقراء أهلها، والله أعلم. فأما طواف الوداع فهو واجب على كل من خرج من الحجاج من مكة إلى بلده، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: وثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه طاف بالبيت حين خُروجه من مكة في حَجة الوداع.
مناسك الحج و العمرة الفصل التاسع: أخطاء يرتكبها بعض الحجاج محمد بن صالح العثيمين
قال الله تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: وقال تعالى: فكل ما خالف هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وطريقته فهو باطل وضلال مردود على فاعله، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : وإن بعض المسلمين ـ هداهم الله ووفقهم ـ يفعلون أشياء في كثير من العبادات غير مبنية على كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ولا سيما في الحج الذي يَكثر فيه المقدمون على الفُتيا بدون علم، ويُسارعون فيها حتى صار مقامُ الفتيا مَتجرًا عند بعض الناس للسمعة والظهور، فحصل بذلك من الضلال والإضلال ما حصل. والواجب على المسلم أن لا يُقدِمَ على الفُتيا إلا بعلمٍ يواجه به الله عز وجل، لأنه في مقام المُبلغ عن الله تعالى القائل عنه، فليتذكر عند الفُتيا قوله تعالى في نبيه ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : وأكثر الأخطاء من الحجاج ناتجة عن هذا ـ أعني عن الفُتيا بغير علم ـ وعن تقليد العامة بعضهم بعضًا دون برهان. ونحن نُبين بعون الله تعالى السنة في بعض الأعمال التي يَكثُر فيها الخطأ، مع التنبيه على الأخطاء، سائلين الله أن يُوفقنا للحق، وأن ينفع بذلك إخواننا المسلمين إنه جوادٌ كريمٌ. الإحرام والأخطاء فيه ثبت في "الصحيحين" وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحفة ولأهل نجد قرنَ المنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَم، وقال: وعن عائشة رضي الله عنها وثبت في "الصحيحين" أيضًا من حديث عبدالله بن عُمر رضي الله عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: فهذه المواقيت التي وقتها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ حدود شرعية توقيفيَّة موروثةٌ عن الشارع، لا يَحلُّ لأحدٍ تغييرها أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة، فإن هذا من تعدي حدود الله، وقد قال الله تعالى: والإهلالُ: رفع الصوتِ بالتلبية، ولا يكونُ إلا بعد عقدِ الإحرامِ. فالإحرامُ من هذه المواقيت واجبٌ على من أراد الحج أو العُمرةَ إذا مرَّ بها أو حاذاها، سواءُ أتى من طريق البرِّ أو البحر أو الجوِّ. فإن كان من طريق البر نزل فيها إن مر بها أو فيما حاذاها إن لم يمر بها، وأتى بما ينبغي أن يأتي به عند الإحرام، من الاغتسال وتطييب بدنهِ ولُبس ثياب إحرامه، ثم يُحرم قبل مغادرته. وإن كان من طريق البحر، فإن كانت الباخرة تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه حال وقوفها، ثم أحرم قبل سيرها، وإن كانت لا تقف عند محاذاة الميقات اغتسل وتطيب ولبس ثياب إحرامه قبل أن تُحاذيه، ثم يُحرم إذا حاذَته. وإن كان من طريق الجو، اغتسل عند ركوب الطائرة، وتطيب، ولبس ثوب إحرامه قبل مُحاذاة الميقات، ثم أحرم قُبيلَ مُحاذاته، ولا ينتظرُ حتى يُحاذيه، لأن الطائرة تمر به سريعةً فلا تُعطي فرصةً، وإن أحرَم قبلَه احتياطًا فلا بأس. والخطأ الذي يرتكبه بعض الناس أنهم يمرون من فوق الميقات في الطائرة أو من فوق محاذاته ثم يُؤخرون الإحرام حتى ينزلوا في مطار جدة فَيُحرمون منها، وهذا مخالفٌ لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وتعدٍّ لحدود الله تعالى. وفي "صحيح البخاري" عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المِصران ـ يعني البصرة والكوفة ـ أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ حدَّ لأهل نجد قرنًا، وإنه جَورٌ عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قَرنًا شقّ علينا، قال: فانظروا إلى حَذوها من طريقكم. فجعل أمير المؤمنين أحدُ الخلفاء الراشدين ميقات من لم يمر بالميقات إذا حاذاه، ومَنْ حاذاه جوًا فهو كمن حاذاه برًّا، ولا فرق. فإن وقع الإنسان في هذا الخطأ، فنزل جُدّةَ قبل أن يُحرم فعليه أن يَرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة فَيُحرم منه، فإن لم يفعل وأحرم من جدة فعليه عند أكثر العلماء فدية يذبحها في مكة ويُفرقها كلها على الفقراء فيها، ولا يأكل منها، ولا يُهدي منها لغنيٍّ لأنها بمنزلة الكفارة. الطوافُ والأخطاء الفعلية فيه ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه ابتدأ الطواف من الحجَرِ الأسود في الركن اليماني الشرقي من البيت، وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحجر، وأنه رَمَلَ في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أولَ ما قَدِمَ مكة، وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويُقبله، واستلمه بيده وقبلها، واستلمه بمحجن كان معه وقبل المحجن وهو راكبٌ على بعيره، وطاف على بعيره فجعل يُشير إلى الركن ـ يعني الحجَر ـ كلما مر به. وثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه كان يستلم الركن اليماني. واختلاف الصفات في استلام الحجَرِ إنما كان ـ والله أعلم ـ حَسَبَ السهولة، فما سَهُل عليه منها فعله، وكلُّ ما فعله من الاستلام والتقبيل والإشارة إنما هو تعبد لله تعالى، وتعظيم له، لا اعتقادَ أن الحجَر ينفعُ أو يضر. وفي "الصحيحين" عن عمر رضي الله عنه أنه كان يُقبّل الحجَر ويقول: الأخطاء التي تقعُ من بعض الحُجَّاجِ 1 ـ ابتداء الطواف قبل الحجر الأسود، أي: بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وهو يُشبه من بعض الوجوه تقدم رمضان بيومٍ أو يومين، وقد ثبت النهي عنه. وادعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطًا غير مقبول منه، فالاحتياط الحقيقي النافع هو اتباع الشريعة، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله. 2 ـ طوافهم عند الزحام من داخل الحجر، بحيث يدخل من باب الحِجر إلى الباب المُقابل، ويدَع بقية الحِجر عن يمينه، وهذا خطأٌ عظيم لا يصحُّ الطواف إذا فعله، لأن الحقيقة أنه لم يَطُف بالبيتِ، وإنما طاف ببعضِه. 3 ـ الرَّملُ في جميعِ الأشواط السبعة. 4 ـ المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجَرِ لتقبيله، حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المُقاتلة والمشاتمة، فيحصل من التضارب والأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا العمل، ولا بهذا المكان في مسجد الله الحرام، وتحت ظل بيته، فينقصُ بذلك الطواف، بل النسك كله، لقوله تعالى: وهذه المزاحمة تُذهِبُ الخشوع وتُنسي ذكرَ الله تعالى، وهما من أعظمِ المقصود في الطواف. 5 ـ اعتقادهم أن الحجَرَ الأسودَ نافع بذاته، ولذلك تجدهم إذا استلموه مَسَحوا بأيديهم على بقية أجسامهم، أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم !!. وكلُّ هذا جهل وضلالٌ، فالنفع والضرر من الله وحده، وقد سبق قول أمير المؤمنين عُمر رضي الله عنه: 6 ـ استلامهم ـ أعني بعض الحجاج ـ لجميع أركان الكعبة، ورُبما استلموا جميع جدران الكعبة، وتمسحوا بها، وهذا جهل وضلال، فإن الاستلام عبادةٌ وتعظيم لله عز وجل، فيجب الوقوف فيها على ما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ولم يستلم النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ من البيت سوى الركنين اليمانيين وفي "مسند الإمام أحمد" عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها، قال ابن عباس: لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيءٌ من البيت مهجورًا. فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة. فقال معاوية: صدقت. الطواف والأخطاء القولية فيه ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه كان يُكَبر الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود. وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: وقال: إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله. والخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين في هذا، تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره، حتى إنه إذا أتم الشوط قبل تمام الدعاء قطعه ولو لم يَبق عليه إلا كلمةٌ واحدة، ليأتي بالدعاء الجديد للشوط الذي يليه، وإذا أتم الدعاء قبل تمام الشوط سكت. ولم يَرد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ في الطواف دعاءٌ مُخصص لكل شوط. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وليس فيه ـ يعني الطواف ـ ذكرٌ محدود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثيرٌ من الناس من دعاء مُعين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصلَ له. وعلى هذا فيدعو الطائفُ بما أحب من خيري الدنيا والاخرة، ويذكر الله تعالى بأي ذكرٍ مشروع من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير أو قراءة قرآن. ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين أن يأخذَ هذه الأدعية المكتوبة فيدعو بها وهو لا يعرف معناها، وربما يكون فيها أخطاءٌ من الطابع أو الناسخ تَقلبُ المعنى رأسًا على عَقِبٍ، وتجعل الدعاء للطائف دعاءً عليه، فيدعو على نفسه من حيث لا يشعر، وقد سمعنا من هذا العَجَبَ العجاب. ولو دعا الطائف ربه بما يريده ويعرفه، فيقصد معناه لكان خيرًا له وأنفع، ولرسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أكثرَ تأسيًا وأتبع. ومن الخطأ الذي يرتكبه بعضُ الطائفين أن يجتمع جماعةٌ على قائد يطوف بهم ويُلقِّنهم الدعاء بصوت مرتفع فيتبعه الجماعة بصوتٍ واحد، فتعلوا الأصوات، وتحصل الفوضى، ويتشوش بقية الطائفين، فلا يدرون ما يقولون، وفي هذا إذهابٌ للخشوعِ، وإيذاءٌ لعباد الله في هذا المكان الامن. وقد خَرَجَ النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ على الناس وهم يُصلون ويجهرون بالقراءة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا أقبل بهم على الكعبة وقف بهم وقال: إفعلوا كذا، قولوا كذا، ادعوا بما تُحبون، وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطئ منهم أحد، فطافوا بخشوع وطمأنينة، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، وتضرعًا وخُفية بما يحبونه، وما يعرفون معناه ويقصدونه، وسَلِمَ الناسُ من أذاهم. الركعتان بعد الطواف والخطأ فيهما ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: والخطأ الذي يفعله بعض الناس هنا ظنهم أنه لا بد أن تكون صلاة الركعتين قريبًا من المقام، فيزدحمون على ذلك، ويُؤذون الطائفين في أيام الموسم، ويُعوقون سير طوافهم، وهذا الظن خطأ، فالركعتان بعد الطواف تُجزيان في أي مكان من المسجد، ويُمكن المصلي أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة، وإن كان بعيدًا عنه، فيُصلي في الصحن أو في رُواق المسجد، ويسلم من الأذية فلا يُؤذي ولا يُؤذى، وتحصلُ له الصلاة بخشوع وطمأنينة. ويا حبذا لو أن القائمين على المسجد الحرام منعوا من يؤذون الطائفين بالصلاة خلف المقام قريبًا منه، وبَيَّنوا لهم أن هذا ليس بشرط للركعتين بعد الطواف. ومن الخطأ أن بعض الذين يُصلون خلف المقام يُصلون عدة ركعاتٍ كثيرة بدون سبب، مع حاجة الناس الذين فَرغوا من الطواف إلى مكانهم. ومن الخطأ أن بعض الطائفين إذا فرغ من الركعتين وقف بهم قائدهم يدعو بهم بصوتٍ مرتفع فيُشوشون على المُصلين خلف المقام، فيَعتدون عليهم، وقد قال الله تعالى: صعود الصفا والمروة والدعاء فوقهما والسعـي بـين العلمـين والخطأ في ذلك ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه حين دنا من الصفا قرأ: والخطأ الذي يفعله بعض الساعين هنا أنهم إذا صعدوا الصفا والمروة استقبلوا الكعبة فكبروا ثلاث تكبيراتٍ يرفعون أيديهم ويومئون بها كما يفعلون في الصلاة، ثم ينزلون، وهذا خلاف ما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فإما أن يفعلوا السنة كما جاءت إن تيسر لهم، وإما أن يدعوا ذلك ولا يُحدثوا فعلًا لم يفعله النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . ومن الخطأ الذي يفعله بعض الساعين أنهم يَسعون من الصفا إلى المروة، أعني أنهم يشتدون في المشي ما بين الصفا والمروة كله، وهذا خلاف السنة، فإن السعي فيما بين العلمين فقط، والمشي في بقية المسعى، وأكثرُ ما يقع ذلك إما جهلًا من فاعله، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي، والله المستعان. ومن الخطأ أن بعض النساء يَسعين بين العلمين، أي يُسرعن في المشي بينهما كما يفعل الرجال، والمرأة لا تسعى، وإنما تمشي المشيةَ المعتادة، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ليس على النساء رَمَلٌ بالبيت ولا بين الصفا والمروة. ومن الخطأ أن بعض الساعين يقرأ قوله تعالى: ومن الخطأ أنّ بعضَ الساعين يُخصص لكل شوطٍ دعاءً معينًا، وهذا لا أصل له. الوقوف بعرفة والخطأ فيه ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه مكثَ يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم ركب، ثم نزلَ في بطن وادي عُرنة، فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمعَ تقديم، بأذانٍ واحد وإقامتين، ثم ركب حتى أتى موقفه فوقف، وقال: ومن الأخطاء التي يرتكبها بعضُ الحجاج في الوقوف: 1 ـ أنهم ينزلون خارج حدود عرفة، ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس، ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأٌ عظيم يفوت به الحج، فإن الوقوف بعرفة ركنٌ لا يصحُّ الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : وسبب هذا الخطأ الفادح أن الناس يغتر بعضهم ببعض، لأن بعضهم ينزل قبل أن يَصِلها ولا يتفقد علاماتها، فيفوت على نفسه الحج ويغرُّ غيره. ويا حبذا لو أن القائمين على الحج أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم، وبلغات متعددة، وعهدوا إلى المطوفين بتحذير الحجاج من ذلك، ليكون الناس على بصيرة من أمرهم، ويؤدوا حجهم على الوجه الذي تبرأ به الذمة. 2 ـ أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا حرامٌ لأنه خلافُ سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ حيث وقف إلى أن غربت الشمس وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عملُ أهل الجاهلية. 3 ـ أنهم يستقبلون الجبل ـ جبل عرفة ـ عند الدعاء، ولو كانت القِبلة خلف ظهورهم أو على أيمانهم أو شمائلهم، وهذا خلافُ السنة، فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . رمي الجمرات والخطأ فيه ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه رمى جمرة العقبة وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات، ضُحى يوم النحر، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصا الخذَفِ أي فوق الحمص قليلًا. وفي "سنن النسائي" من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما ـ وكان رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ من مزدلفة إلى منى ـ قال: فهبط ـ يعني النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ محسرًا وقال: عليكم بحصا الخذف الذي تُرمى به الجمرة، قال: والنبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يشير بيده كما يخذفُ الإنسان. وفي "مسند الإمام أحمد" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يحيى: لا يدري عوفٌ عبدالله أو الفضل: قال: وعن أُم سليمان بن عمرو بن الأحوص رضي الله عنها قالت: وفي "صحيح البخاري" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يُكبر على إثر كل حصاةٍ ثم يتقدم حتى يسهلَ فيقومَ مستقبلَ القِبلة فيقومَ طويلًا ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذُ ذات الشمالِ فيسهل ويقومُ مستقبل القبلة فيقوم طويلًا، ويدعو ويرفعُ يديه، ثم يرمي جمرة العقبة من بَطنِ الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرفُ فيقولُ: هكذا رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يفعله. وروى أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: والأخطاء التي يفعلها بعضُ الحجاج هي: 1 ـ اعتقادهم أنه لا بد ـ من أخذِ الحصا من مزدلفة فيتعبون أنفسهم بلقطها في الليل واستصحابها في أيام منى حتى إن الواحد منهم إذا أضاعَ حصاةً حزِنَ حُزنًا كبيرًا، وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضلِ ما معهم من حصا مزدلفة. وقد عُلم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وأنه أمر ابن عباس رضي الله عنهما بِلَقْطِ الحصا له وهو واقفٌ على راحلته، والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة، إذ لم يُحفظ عنه أنه وقف بعد مسيرهِ من مزدلفة قبل ذلك، ولأن هذا وقت الحاجة إليه فلم يكن ليأمرَ بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه وتكلف حمله. 2 ـ اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطانَ، ولهذا يُطلقون اسم الشياطين على الجِمارِ، فيقولون: رمينا الشيطان الكبير أو الصغير أو رمينا أبا الشياطين يَعنون به الجمرة الكبرى جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر. وتراهم أيضًا يرمون الحصا بشدة وعنف وصراخ وسب وشتم لهذه الشياطين على زعمهم حتى شاهدنا من يصعد فوقها يبطش بها ضربًا بالنعل والحصا الكبار بغضب وانفعال ! والحصا تصيبه من الناس، وهو لا يزداد إلا غضبًا وعنفًا في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون كأن المشهد مشهد مسرحية هزليّة ! شاهدنا هذا قبل أن تُبنى الجسورُ وترتفع أنصابُ الجمرات، وكلُّ هذا مبنيٌّ على هذه العقيدة أن الحجاج يرمون شياطين، وليس لها أصلٌ صحيحٌ يعتمد عليه. وقد علمتَ مما سبقَ الحكمةَ في مشروعيةَ رمي الجمار، وأنه إنما شرع لإقامة ذكر الله عز وجل، ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يكبر على إثرِ كل حصاة. 3 ـ رميهم الجمرات بحصا كبيرةِ. وبالحذاء (النعل)، والخفاف (الجزمات)، والأخشاب!! وهذا خطأٌ كبير مخالف لما شرعه النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لأُمته بفعله وأمره، حيث رمى ـ صلى الله عليه وسلّم ـ بمثل حصا الخذف، وأمر أُمته أن يرموا بمثله، وحذرهم من الغلو في الدين، وسبب هذا الخطأ الكبير ما سبق من اعتقادهم أنهم يرمون شياطين. 4 ـ تقدمهم إلى الجمرات بعنفٍ وشدةٍ، لا يخشعون لله تعالى، ولا يَرحمون عباد الله، فيحصلُ بفعلهم هذا من الأذية للمسلمين والإضرار بهم، والمشاتمة والمضاربة ما يقلب هذه العبادة وهذا المشعر إلى مشهد مشاتمة ومقاتلة، ويخرجها عما شُرعت من أجله، وعما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . ففي "المسند" عن قُدامة بن عبدالله بن عمار قال: 5 ـ تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق، وقد علمَت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كان يقفُ بعد رميها مستقبل القبلة، رافعًا يديه يدعو دعاءً طويلًا. وسبب ترك الناس لهذا الوقوف الجهل بالسنة، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من العبادة. ويا حبذا لو أن الحاج تعلم أحكام الحج قبل أن يحج، ليعبد الله تعالى على بصيرة، ويحقق متابعة النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . ولو أن شخصًا أراد أن يُسافر إلى بلدٍ لرأيته يسألُ عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالةٍ، فكيف بمن أراد أن يَسلُك الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وإلى جنته، أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلُكها ليصل إلى المقصود!؟ 6 ـ رميهم الحصا جميعًا بكفٍّ واحدة، وهذا خطأ فاحشٌ، وقد قال أهل العلم إنه إذا رمى بكفٍّ واحدةٍ أكثرَ من حصاةٍ لم يُحتَسب له سوى حصاةٍ واحدة. فالواجب أن يرمي الحصا واحدة فواحدةً، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . 7 ـ زيادتهم دعواتٍ عند الرمي لم ترد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ مثل قولهم: اللهم اجعلها رضا للرحمن، وغَضَبًا للشيطان، وربما قال ذلك وتركَ التكبير الواردَ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . والأولى الاقتصار على الوارد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ من غير زيادةٍ ولا نقصٍ. 8 ـ تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يُوَكّلون من يرمي عنهم مع قُدرَتهِم على الرمي ليُسقطوا عن أنفسهم مُعاناةَ الزحامِ ومشقةَ العمل، وهذا مخالفٌ لما أمر الله تعالى به من إتمام الحج، حيث يقول سبحانه: فليتق الحاج ربه، وليتم نُسكه، كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. طواف الوداع والأخطاء فيه ثبت في "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: وفي لفظٍ لمسلم عنه قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : ورواه أبو داود بلفظ: وفي "الصحيحين" عن أُم سلمة رضي الله عنها قالت: وللنسائي عنها أنها قالت: وفي (صحيح البخاري) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وفي (الصحيحين) وفي "الموطأ" عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال: وفيه عن يحيى بن سعيد أنّ عمرَ رضي الله عنه رَدّ رجلًا مِن مرِّ الظهران لم يكن وَدّع البيتَ حتى ودّع. والخطأ الذي يرتكبه بعضُ الناس هنا: 1 ـ نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات، فيطوفوا للوداع ثم يَرجعوا إلى منى فيرموا الجمرات، ثم يُسافروا إلى بلادهم من هناك. وهذا لا يجوز، لأنه مخالف لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أن يكون آخرَ عهدِ الحاجّ بالبيت، فإن من رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخرَ عهده بالجمار لا بالبيتِ، ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لم يَطُف للوداع إلا عند خروجه حين استكمل جميعَ مناسكِ الحج، وقد قال: وأثرُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريحٌ في أن الطواف بالبيت آخرُ النسك، فمن طافَ للوداع ثم رمى بعده فطوافه غيرُ مجزئ لوقوعه في غير مَحَلِّه، فيجبُ عليه إعادتُه بعد الرمي، فإن لم يُعد كان حُكمُه حُكم مَن تركه. 2 ـ مُكثهم بمكة بعد طواف الوداع، فلا يكونُ آخرَ عهدهم بالبيت وهذا خلاف ما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وبينه لأُمته بفعله، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أمرَ أن يكون آخرَ عهدِ الحاج بالبيت، ولم يَطُف للوداع إلا عند خروجه، وهكذا فعل أصحابه، ولكن رخّص أهلُ العلم في الإقامةِ بعد طوافِ الوداع للحاجةِ إذا كانت عارضةً، كما لو أُقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها، أو حضرت جنازةٌ فصلى عليها أو كان له حاجةٌ تتعلق بسفره كشراء متاعٍ وانتظار رفقةٍ ونحو ذلك. فمن أقام بعد طواف الوداع إقامةً غيرَ مرخصٍ فيها وجبت عليه إعادتهُ. 3 ـ خروجهم من المسجد بعد طواف الوداعٍ على أقفيتهم يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلافُ السنة، بل هو من البدع التي حذَّرنا منها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وقال فيها: والبدعة: كل ما أُحدث من عقيدة أو عبادةٍ على خلافِ ما كان عليه رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وخُلفاؤه الراشدون، فهل يظنُّ هذا الراجعُ على قفاه تعظيمًا للكعبة على زعمهِ أنه أشدُّ تعظيما لها من رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أو يظنّ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لم يكن يعلمُ أنّ في ذلك تعظيمًا لها، لا هو ولا خُلفاؤه الراشدون؟!! 4 ـ التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة، وهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ولا عن خُلفائه الراشدين، وكل ما قُصد به التعبُّد لله تعالى وهو مما لم يَردْ به الشرعُ فهو باطلٌ مردودٌ على صاحبه، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن يكونَ في عباداته مُتبعـًا لما جاء عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته، كما قال تعالى: واتباعُ النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كما يكونُ في مفعولاته يكونُ كذلك في متروكاته. فمتى وُجد مقتضى الفعل في عهده ولم يفعله كان ذلك دليلًا على أن السنة والشريعة تركه، فلا يجوز إحداثهُ في دين الله تعالى، ولو أحبه الإنسان وهواه. قال الله تعالى: وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : نسألُ الله أن يهدينا صراطَه المستقيم، وأن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهبَ لنا منه رحمةً إنه هو الوهاب. مناسك الحج و العمرة الفصل العاشر: في زيارة المسجد النبوي محمد بن صالح العثيمين زيارة المسجد النبوي من الأمور المشروعة المستحبة، فهو ثاني المساجد الثلاثة التي تُشد الرحال إليها للصلاة فيها والعبادة. ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: زاد الإمام أحمدُ من حديث عبدالله بن الزبير: وعن ميمونةَ زوجِ النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قالت: وعن أبي هُريرة رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: فَيُسن للحاج وغيرهِ زيارةُ مسجدِ النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ والصلاةُ فيه قبل الحج أو بعده، وليست هذه الزيارة من شروط الحج ولا أركانه ولا واجباته، ولا تعلُّق لها به. فإذا دخل المسجد قدّم رِجلَه اليُمنى، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللَّهُمّ اغفر لي ذنُوبي وافتح لي أبواب رحمتِك، أعوذُ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. ثم يُصَلي ركعتين تحية المسجد لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : وفي "الصحيحين" من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: وأصبح رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قادمًا، وكان إذا قَدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجدِ فيركعُ فيه ركعتين. وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: كنتُ مع رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ في سفرٍ فلّما قدمنا المدينة قال: وينبغي أن يتحرى الصلاة في الروضة إن تيسر له من أجل فضيلتها، وإن لم يتيسر له صلى في أي جهةٍ من المسجد تتيسر له، وهذا في غير صلاةِ الجماعة، أما في صلاة الجماعة فليُحافظ على الصف الأول الذي يلي الإمام لأنه أفضل؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : زيارةُ قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وقبري صاحبيه رضي الله عنهما بعد أن يُصلي في المسجد النبوي أول قدومه ما شاء الله أن يُصلي، يذهبُ للسلام عن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وصاحبيه أبي بكر وعُمر رضي الله عنهما. 1 ـ فيقفُ أمامَ قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ مُستقبلًا للقبر مُستدبرًا للقبلةِ، فيقولُ: السلامُ عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، وإن زاد شيئًا مناسبًا فلا بأس مثل أن يقول: السلامُ عليكَ يا خليل الله وأمينه على وحيه، وخيرتَه من خلقِهِ، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونَصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده. وإن أقتصر على الأول فَحَسَنٌ. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلم يقول: السلامُ عليك يا رسول الله، السلامُ عليك يا أبا بكر، السلامُ عليك يا أَبَتِ، ثم ينصرفُ. 2 ـ ثم يخطو خطوةً عن يمينه ليكون أمام أبي بكر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، السلامُ عليك يا خليفةَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ في أُمته، رضي الله عنك وجزاك عن أُمة محمدٍ خيرًا. 3 ـ ثم يخطو خطوةً عن يمينهِ ليكونَ أمام عُمَرَ رضي الله عنه فيقول: السلامُ عليك يا عمر، السلام عليك يا أمير المؤمنين، رضي الله عنك وجزاكَ عن أُمّة محمدٍ خيرًا. وليكن سلامُهُ على النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وصاحبيه بأدبٍ، وخفض صوت، فإن رفع الصوت في المساجد منهيٌّ عنه، لا سيما في مسجد رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وعند قبره. وفي "صحيح البخاري" عن السائب بن يزيد قال: كنت قائما أو نائمًا في المسجد فَحصبني رجلٌ فنظرتُ فإذا عُمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئتهُ بهما فقال: مَن أنتما؟ قالا: من أهلِ الطائفِ، قال: لو كنتُما من أهل البلد لأوجعتكما جَلدًا، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ . ولا ينبغي إطالة الوقوف والدعاء عند قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وقبري صاحبيه، فقد كرهه مالكٌ وقال: هو بدعةٌ لم يفعلها السلف، ولن يُصلح آخِرَ هذه الأمةِ إلا ما أصلح أولها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكره مالكٌ لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي إلى قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون فيه خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهم يقولون في الصلاة: السلامُ عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، ثم إذا قَضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلامِ لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل. قال: وكان أصحابه خيرَ القرون، وهم أعلمُ الأمة بسنتِهِ، وأطوعُ الأمة لأمره. قلت: وأقواهم في تعظيمه ومحبته، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهبُ أحدٌ منهم إلى قبره، لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحُجرة في زمانهم يُدخَلُ إليها من الباب إلى أن بُني الحائط الاخرُ، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه، لا لسلامٍ، ولا لصلاةٍ عليه، ولا لدعاء لأنفُسهم، ولا لسؤالٍ عن حديثٍ أو علم! ولم يكن أحدٌ من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه ويسألهُ عن بعض ما تنازعوا فيه، كما أنهم أيضًا لم يطمع الشيطان فيهم فيقولُ: اطلبوا منه أن يأتي لكم بالمطر، ولا أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفرَ كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستنصَر لهم. قال: وكان الصحابةُ إذا أراد أحدٌ أن يدعُوَ لنفسه، استقبل القبلة ودعا في مسجده كما كانوا يفعلون في حياته، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة، ولا يدخل أحدهم إلى القبر. قال: وكانوا يَقدُمون من الأسفارِ للاجتماعِ بالخلفاء الراشدين وغير ذلك، فَيُصلون في مسجده، ويُسَلّمون عليه في الصلاة، وعند دخولهم المسجدَ والخروج منه، ولا يأتون القبرَ؛ إذ كان هذا عندهم مما لم يأمرهم به. ولكن ابن عمر كان يأتيه فَيُسلّم عليه وعلى صاحبيه عند قدومهِ من السفر، وقد يكون فَعله غير ابن عمر أيضًا ولم يكن جمهورُ الصحابة يفعلون كما فَعَلَ ابنُ عمر رضي الله عنهما. ولا يتمسح بجدار الحجرة، ولا يقبله، فإن ذلك إن فعله عبادةً لله وتعظيمًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فهو بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ، وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على مُعاوية رضي الله عنه مَسحَ الركنينِ الشامي والغربي من الكعبة، مع أن جنسَ ذلك مشروعٌ في الركنين اليمانيين. وليس تعظيمُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ومحبته بمسح جدران حُجرةٍ لم تُبْنَ إلا بعد عهده بقرونٍ، وإنما محبته وتعظيمه باتباعهِ ظاهرًا وباطنًا، وعدمِ الابتداع في دينه ما لم يشرعه. قال الله تعالى: وأمّا إن كان مسحُ جدار الحجرة وتقبيله مُجرد عاطفةٍ أو عبثٍ فهو سفهٌ وضلالٌ لا فائدةَ فيه، بل فيه ضررٌ وتغريرٌ للجهال. ولا يدعو رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ بجلبِ منفعةٍ له، أو دفعِ مضرةٍ، فإن ذلك من الشركِ، قال الله تعالى: وَأَمَره سبحانه أن يُعلن لأمتهِ أنّه لا يملكُ مثل ذلك لهم، فقال تعالى: وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: ولا يَطلب من النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أن يدعو له، أو يستغفرَ له، فإن ذلك قد انقطع بموتهِ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لِما ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه قال: فأما قوله تعالى: فهذا ما ينبغي في زيارة قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وقبري صاحبيه والسلام عليهم. وينبغي أن يزورَ مقبرةَ البقيع، فَيُسلّم على مَن فيها من الصحابة والتابعين، مثل عُثمان بن عَفان رضي الله عنه، فيقفُ أمامه ويُسلم عليه فيقول: السلام عليك يا عثمان بن عفان، السلامُ عليك يا أميرَ المؤمنين، رضي الله عنك وجزاك عن أُمة محمدٍ خيرًا. وإذا دخلَ المقبرة فَليقُلْ ما علّمه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أُمّته كما في "صحيح مسلم" عن بُريدة رضي الله عنه قال: وفيه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يخرجُ من آخرِ الليل إلى البقيعِ، فيقولُ: وإنْ أحبّ أن يخرجَ إلى أُحُدٍ ويزورَ الشهداءَ هناك فَيُسلّم عليهم ويدعو لهم ويتذكر ما حَصل في تلك الغزوةِ من الحكَمِ والأسرارِ فَحَسَنُ. وينبغي أن يَخْرُجَ إلى مسجدِ قُباء، فيُصلّي فيه لقوله تعالى: وفي "صحيح البخاري" عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: وروى النسائي عن سهل بن حُنيف رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: وإذا انصرف إلى بلاده وأقبلَ عليها قال: آيبونَ تائبون عابِدون لربّنا حامدون. حتى يَقدُمَ كما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يفعل ذلك. وليحمدِ الحاجُّ الذي يسّر الله له الحجَّ وزيارة المدينة، ليحمدِ الله على ذلك، وليقم بشكرهِ، ويستقم على أمره، فاعلًا ما أمرَ الله به ورسولُه، تاركًا ما نهى الله عنه ورسولُه، ليكونَ من عبادِ الله الصالحين، وأوليائهِ المتقين. والحمدُ لله رَبّ العالمين، وصلّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
|