الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***
676- وَإِنْ رَسُولٌ بِنَبِيٍّ أُبْدِلَا *** فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ كَعَكْسٍ فُعِلَا 677- وَقَدْ رَجَا جَوَازَهُ ابْنُ حَنْبَلِ *** وَالنَّوَوِي صَوَّبَهُ وَهْوَ جَلِي الْفَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ: (إِبْدَالُ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ وَعَكْسُهُ). (وَإِنْ رَسُولٌ) وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ بِأَنْ قِيلَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِنَبِيٍّ) أَيْ: بِلَفْظِ النَّبِيِّ (أُبْدِلَا) وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَوِ الْأَدَاءِ أَوِ الْكِتَابَةِ، (فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ) مِنْهُ، وَالتَّقَيُّدُ بِمَا فِي الرِّوَايَةِ (كَعَكْسٍ فُعِلَا) بِأَنْ يُبْدَلَ مَا الرِّوَايَةُ فِيهِ بِلَفْظِ النَّبِيِّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ جَازَتِ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى هُنَا مُخْتَلِفٌ. يَعْنِي بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ تَسَاوِي مَفْهُومَيْهِمَا. وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا سَمِعَ مِنْ لَفْظِ الْمُحَدِّثِ “ رَسُولَ اللَّهِ “ ضَرَبَ مِنْ كِتَابِهِ “ نَبِيَّ اللَّهِ “، وَكَتَبَ ذَلِكَ بَدَلَهُ، لَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ، بَلْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي اتِّبَاعِ الْمُحَدِّثِ فِي لَفْظِهِ. (وَقَدْ رَجَا جَوَازَهُ ابْنُ حَنْبَلِ) نَفْسُهُ حَيْثُ قَالَ- إِذْ سَأَلَهُ ابْنُهُ صَالِحٌ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ “ رَسُولُ اللَّهِ “ فَيَجْعَلُ الْإِنْسَانُ بَدَلَهُ “ النَّبِيَّ “-: أَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَكَذَا جَوَّزَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، بَلْ قَالَ لِعَفَّانَ وَبَهْزٍ لَمَّا جَعَلَا يُغَيِّرَانِ “ النَّبِيَّ “- يَعْنِي الْوَاقِعَ فِي الْكِتَابِ- بِـ “ رَسُولِ اللَّهِ “- يَعْنِي الْوَاقِعَ مِنَ الْمُحَدِّثِ-: أَمَّا أَنْتُمَا فَلَا تَفْقَهَانِ أَبَدًا. وَالْإِمَامُ (النَّوَوِي) بِالسُّكُونِ، أَيْضًا (صَوَّبَهُ) أَيِ الْجَوَازَ (وَهْوَ جَلِي) وَاضِحٌ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ. وَقَوْلُ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ. لَا يَمْنَعُهُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إِسْنَادُ الْحَدِيثِ إِلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّفَتَيْنِ، وَلَيْسَ الْبَابُ بَابَ تَعَبُّدٍ بِاللَّفْظِ لَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَعَنِ الْبَدْرِ بْنِ جَمَاعَةَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِالْجَوَازِ فِي إِبْدَالِ النَّبِيِّ بِالرَّسُولِ خَاصَّةً لَمَا بَعُدَ؛ لَأَنَّ فِي الرَّسُولِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى النَّبِيِّ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، إِذْ كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ النُّبُوَّةَ مِنَ النَّبَأِ، وَهُوَ الْخَبَرُ، فَالنَّبِيُّ فِي الْعُرْفِ هُوَ الْمُنَبَّأُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ بِأَمْرٍ يَقْتَضِي تَكْلِيفًا، فَإِنْ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ رَسُولٌ، وَإِلَّا فَهُوَ نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ. وَحِينَئِذٍ فَالنَّبِيُّ وَالرَّسُولُ اشْتَرَكَا فِي أَمْرٍ عَامٍّ وَهُوَ النَّبَأُ، وَافْتَرَقَا فِي الرِّسَالَةِ، فَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ رَسُولٌ. تَضَمَّنَ أَنَّهُ نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَإِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ نَبِيٌّ. لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنَّهُ رَسُولٌ. وَلَكِنْ قَدْ نَازَعَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ. حَيْثُ قَالَ: هُوَ كَلَامٌ يُطْلِقُهُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُكْرَمِينَ بِالرِّسَالَةِ رُسُلٌ لَا أَنْبِيَاءُ. قُلْتُ: وَلِذَا قَيَّدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ بِالرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ. وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ فِي تَعَلُّمِ مَا يُقَالُ عِنْدَ النَّوْمِ، إِذْ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ إِبْدَالَهُ لَفْظَ “ النَّبِيِّ “ بِـ “ الرَّسُولِ “، فَقَالَ: (لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ تَغْيِيرِ “ النَّبِيِّ “ خَاصَّةً، بَلِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِمُجَرَّدِ الْمَنْعِ مَمْنُوعٌ بِأَنَّ أَلْفَاظَ الْأَذْكَارِ تَوْقِيفِيَّةٌ، فَلَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ، بَلْ تَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ، إِذْ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ خَاصِّيَّةٌ وَسِرٌّ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَهُوَ إِذَنْ أَكْمَلُ فَائِدَةً، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِقَوْلِهِ: (وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ). وَأَيْضًا فَالْبَلَاغَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِذَلِكَ لِعَدَمِ تَكْرِيرِ اللَّفْظِ لِوَصْفٍ وَاحِدٍ فِيهِ. زَادَ بَعْضُهُمْ: أَوْ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ (بِرَسُولِكَ) يُدْخِلُ جِبْرِيلَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ.
678- ثُمَّ عَلَى السَّامِعِ بِالْمُذَاكَرَهْ *** بَيَانُهُ كَنَوْعِ وَهْنٍ خَامَرَهْ 679- وَالْمَتْنُ عَنْ شَخْصَيْنِ وَاحِدٌ جُرِحْ *** لَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ لَهُ لَكِنْ يَصِحْ 680- وَمُسْلِمٌ عَنْهُ كَنَى فَلَمْ يُوَفْ *** وَالْحَذْفُ حَيْثُ وُثِّقَا فَهْوَ أَخَفْ 681- وَإِنْ يَكُنْ عَنْ كُلِّ رَاوٍ قِطْعَهْ *** أَجِزْ بِلَا مَيْزٍ بِخَلْطٍ جَمْعَهْ 682- مَعَ الْبَيَانِ كَحَدِيثِ الْإِفْكِ *** وَجَرْحُ بَعْضٍ مُقْتَضٍ لِلتَّرْكِ 683- وَحَذْفَ وَاحِدٍ مِنَ الْإِسْنَادِ *** فِي الصُّورَتَيْنِ امْنَعْ لِلِازْدِيَادِ
الْفَصْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: (السَّمَاعُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْوَهْنِ أَوْ) بِإِسْنَادٍ قُرِنَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ (عَنْ رَجُلَيْنِ) فَأَكْثَرَ، (ثُمَّ) بَعْدَ اسْتِحْضَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحَرِّي فِي الْأَدَاءِ (عَلَى السَّامِعِ) مِنْ حِفْظِ الْمُحَدِّثِ (بِالْمُذَاكَرَهْ) أَيْ: فِي الْمُذَاكَرَةِ، (بَيَانُهُ) عَلَى الْوَجْهِ الْوَاقِعِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَنَا فُلَانٌ مُذَاكَرَةً. وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ. وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ الْوُجُوبَ، فَقَدْ فَعَلَهُ بِدُونِ بَيَانٍ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي الْعُلَمَاءِ، بَلْ يُقَالُ مِمَّا الظَّاهِرُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ آخِرَ رَابِعِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ: إِنَّ مَا يُورِدُهُ الْبُخَارِيُّ فِي (صَحِيحِهِ) عَنْ شُيُوخِهِ بِصِيغَةِ: قَالَ لِي. أَوْ: قَالَ لَنَا. أَوْ: زَادَنَا. أَوْ: زَادَنِي. أَوْ: ذَكَرَ لَنَا. أَوْ: ذَكَرَ لِي. وَنَحْوِهَا مِمَّا حَمَلَهُ عَنْهُمْ فِي الْمُذَاكَرَةِ. (كَنَوْعِ وَهْنٍ خَامَرَهُ) أَيْ خَالَطَهُ، بِأَنْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، أَوْ كَانَ هُوَ أَوْ شَيْخُهُ يَتَحَدَّثُ أَوْ يَنْعُسُ أَوْ يَنْسَخُ فِي وَقْتِ الْإِسْمَاعِ، أَوْ كَانَ سَمَاعُهُ أَوْ سَمَاعُ شَيْخِهِ بِقِرَاءَةِ لَحَّانٍ أَوْ مُصَحِّفٍ، أَوْ كِتَابَةُ التَّسْمِيعِ حَيْثُ لَمْ يَكِنِ الْمَرْءُ ذَاكِرًا لِسَمَاعِ نَفْسِهِ بِخَطِّ مَنْ فِيهِ نَظَرٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو دَاوُدَ فِي (سُنَنِهِ) عَنْ شَيْخِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ حَدِيثًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: لَمْ أَفْهَمْ إِسْنَادَهُ مِنَ ابْنِ الْعَلَاءِ كَمَا أُحِبُّ. وَكَذَا أَوْرَدَ فِيهَا أَيْضًا عَنْ بُنْدَارٍ حَدِيثًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: خَفِيَ عَلَيَّ مِنْهُ بَعْضُهُ. لِمُشَارَكَةِ السَّمَاعِ فِي الْمُذَاكَرَةِ غَالِبًا لِهَذِهِ الصُّوَرِ فِي الْوَهْنِ، إِذِ الْحِفْظُ خَوَّانٌ، وَرُبَّمَا يَقَعُ فِيهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّسَاهُلُ، بَلْ أَدْرَجَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ فِيمَا فِيهِ بَعْضُ الْوَهْنِ. وَلِذَا مَنَعَ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمُ مِنَ التَّحَمُّلِ عَنْهُمْ فِيهَا، وَامْتَنَعَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ رِوَايَةِ مَا يَحْفَظُونَهُ إِلَّا مِنْ كُتُبِهِمْ. وَفِي إِغْفَالِ الْبَيَانِ إِيهَامٌ وَإِلْبَاسٌ يَقْرُبُ مِنَ التَّدْلِيسِ، وَكَمَا يُسْتَحَبُّ الْبَيَانُ فِيمَا تَقَدَّمَ، كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ بَيَانُ مَا فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَزِيدِ ضَبْطٍ وَإِتْقَانٍ، كَتَكَرُّرِ سَمَاعِهِ لِلْمَرْوِيِّ، وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَيَقُولُونَ: ثَنَا فُلَانٌ غَيْرَ مَرَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (وَالْمَتْنُ عَنْ شَخْصَيْنِ) مَقْرُونَيْنِ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ أَوْ مِمَّنْ فَوْقَهُمْ (وَاحِدٌ) مِنْهُمَا (جُرِحْ)، وَالْآخَرُ وُثِّقَ، كَحَدِيثٍ لِأَنَسٍ يَرْوِيهِ عَنْهُ مَثَلًا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَأَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ (لَا يَحْسُنُ) لِلرَّاوِي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ (الْحَذْفُ لَهُ) أَيْ: لِلْمَجْرُوحِ وَهُوَ أَبَانٌ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ثَابِتٍ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ أَبَانٍ خَاصَّةً، وَحَمَلَ الْمُحَدِّثُ عَنْهُمَا أَوْ مَنْ دُونَهُ لَفْظَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. قَالَهُ الْخَطِيبُ. (لَكِنْ يَصِحْ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ-: اتِّفَاقُ الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ الِاحْتِمَالِ نَادِرٌ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ مِنَ الْإِدْرَاجِ الَّذِي لَا يَجُوزُ تَعَمُّدُهُ. نَعَمْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ مِثْلِهِ فَقَالَ فِيهِ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ حَرْبِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّ أَحْمَدَ قِيلَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذَا: أَتُجَوِّزُ أَنْ أُسَمِّيَ ثَابِتًا وَأَتْرُكَ أَبَانًا؟ قَالَ: لَا، لَعَلَّ فِي حَدِيثِ أَبَانٍ شَيْئًا لَيْسَ فِي حَدِيثِ ثَابِتٍ. وَقَالَ: إِنْ كَانَ هَكَذَا فَأُحِبُّ أَنْ أُسَمِّيَهُمَا. وَهَذَا مُحْتَمِلٌ. وَيَتَأَيَّدُ الِاسْتِحْبَابُ بِسُلُوكِ مُسْلِمٍ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الْأَلْفَاظِ لَهُ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ فِي النِّكَاحِ مِنْ (صَحِيحِهِ) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حَدِيثَ: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ). فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَيْوَةَ، وَذَكَرَ آخَرَ، كِلَاهُمَا عَنْ شُرَحْبِيلَ بِهِ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ) مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِيسَى الْبِسْطَامِيِّ، عَنِ الْمُقْرِئِ، عَنْ حَيْوَةَ وَذَكَرَ آخَرَ قَالَا: ثَنَا شُرَحْبِيلُ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئِ، عَنْ حَيْوَةَ وَابْنِ لَهِيعَةَ قَالَا: ثَنَا شُرَحْبِيلُ. إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ تَشْدِيدِ مُسْلِمٍ حَيْثُ حَذَفَ الْمَجْرُوحَ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الثِّقَةِ إِنْ لَمْ يَتَّحِدْ لَفْظُهُمَا. وَنَحْوُهُ مَا وَقَعَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ (صَحِيحِهِ) حَيْثُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حَدِيثَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ). وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ، بَلْ أَحَالَ بِهِ عَلَى طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْمَشْهُورَةِ، فَتَبَيَّنَ مِنْ تَصْنِيفِ ابْنِ وَهْبٍ فِيمَا أَفَادَهُ ابْنُ طَاهِرٍ أَنَّ اللَّفْظَ لِابْنِ لَهِيعَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ. وَسَاقَ الْإِسْنَادَ وَالْمَتْنَ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِأَنْ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ بِذَلِكَ. لَكِنْ أَفَادَ شَيْخُنَا فِي هَذَا الْمَتْنِ بِخُصُوصِهِ أَنَّ حَذْفَ ابْنِ لَهِيعَةَ مِنَ ابْنِ وَهْبٍ لَا مِنْ مُسْلِمٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ شَيْخَيْهِ تَارَةً، وَيُفْرِدُ ابْنَ شُرَيْحٍ أُخْرَى، بَلْ لِابْنِ وَهْبٍ فِيهِ شَيْخَانِ آخَرَانِ بِسَنَدٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ فِي (بَيَانِ الْعِلْمِ) لَهُ مِنْ طَرِيقِ سَحْنُونٍ: ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ: ثَنَا مَالِكٌ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ. وَ (مُسْلِمٌ) أَيْضًا (عَنْهُ) أَيْ عَنِ الْمَجْرُوحِ رُبَّمَا (كَنَى) حَيْثُ يُصَرِّحُ بِالثِّقَةِ ثُمَّ يَقُولُ: وَآخَرُ. وَهُوَ مِنْهُ قَلِيلٌ بِخِلَافِهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِي تَفْسِيرِ النِّسَاءِ وَآخِرِ الطَّلَاقِ وَالْفِتَنِ وَعِدَّةِ أَمَاكِنَ، مِنْ طَرِيقِ حَيْوَةَ وَغَيْرِهِ. وَفِي (الِاعْتِصَامِ) مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ وَغَيْرِهِ. وَالْغَيْرُ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا هُوَ ابْنُ لَهِيعَةَ بِلَا شَكٍّ، وَكَذَا أَوْرَدَ فِي الطِّبِّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا هُوَ، لَكِنْ فِيمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ. وَفِي الْعِتْقِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ فُلَانٍ كِلَاهُمَا، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ. وَالْمُبْهَمُ هُنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادَةَ بْنِ سَمْعَانَ. وَكَذَا أَكْثَرَ مِنْهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ (فَلَمْ يُوَفْ) مُسْلِمٌ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْمَجْرُوحِ إِنِ اخْتَصَّ عَنِ الثِّقَةِ بِزِيَادَةٍ، لَكِنَّ الظَّنَّ الْقَوِيَّ بِالشَّيْخَيْنِ أَنَّهُمَا عَلِمَا اتِّفَاقَهُمَا وَلَوْ بِالْمَعْنَى. وَلِهَذَا الصَّنِيعِ حِينَئِذٍ فَائِدَتَانِ، وَهُمَا الْإِشْعَارُ بِضَعْفِ الْمُبْهَمِ وَكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ، وَكَثْرَةُ الطُّرُقِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَإِنْ أَشَارَ الْخَطِيبُ إِلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، قَالَ: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ مَا اعْتَلَلْنَا بِهِ فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، إِذْ إِثْبَاتُ ذِكْرِهِ وَإِسْقَاطُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ عَوَّلَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ هُوَ بِهِ؛ فَلِمَاذَا ذَكَرَهُ بِالْكِنَايَةِ عَنْهُ، وَلَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْأَمَانَةِ عِنْدَهُ. قَالَ: وَلَا أَحْسَبُ اسْتِجَازَةَ إِسْقَاطِهِ ذِكْرَهُ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الثِّقَةِ إِلَّا لِأَنَّ الظَّاهِرَ اتِّفَاقُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ. يَعْنِي مِمَّنْ يَحْرِصُ عَلَى الْأَلْفَاظِ، كَمُسْلِمٍ الَّذِي الِاحْتِجَاجُ بِصَنِيعِهِ فِيهِ أَعْلَى أَوْ فِي مَعْنَاهُ، إِنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِاللَّفْظِ، وَاحْتَاطَ فِي ذَلِكَ بِذِكْرِ الْكِنَايَةِ عَنْهُ مَعَ الثِّقَةِ تَوَرُّعًا، وَإِنْ كَانَ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي (مَدْخَلِهِ) إِلَى أَنَّهُ فِي (مُسْتَخْرَجِهِ) تَارَةً يَحْذِفُ الضَّعِيفَ، وَتَارَةً يُنَبِّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَإِذَا كَتَبْتُ الْحَدِيثَ- فِيهِ أَيْ فِي (الْمُسْتَخْرَجِ)- عَنْ رَجُلٍ يَرْوِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَأَحَدُهُمْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ؛ فَإِمَّا أَنْ أَتْرُكَ ذِكْرَهُ وَأَكْتَفِيَ بِالثِّقَةِ الَّذِي الضَّعِيفُ مَقْرُونٌ إِلَيْهِ، أَوْ أُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ مَحْكِيٌّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكِتَابِ. انْتَهَى. وَإِذَا تَقَرَّرَتْ صِحَّةُ حَذْفِ الْمَجْرُوحِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ صِحَّةِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ؛ لِمَا قَدْ يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ تَضْعِيفِ الْمَتْنِ وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لِلْقَاصِرِ أَوِ الْمُسْتَرْوِحِ، وَفِيهِ مِنَ الضِّرَرِ مَا لَا يَخْفَى. [حُكْمُ إِسْقَاطِ أَحَدُ الثِّقَتَيْنِ]: (وَ) أَمَّا (الْحَذْفُ) لِأَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ (حَيْثُ وُثِّقَا) كَمَا وَقَعَ لِلْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ كِلَاهُمَا، عَنْ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ حَدِيثًا. وَفَسَّرَ الْغَيْرَ بِأَنَّهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ الَّذِي لَمْ يُخْرِجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ شَيْئًا، (فَهْوَ أَخَفْ) مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَطَرَّقَ مِثْلُ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا إِلَيْهِ، وَهُوَ كَوْنُ شَيْءٍ مِنْهُ عَنِ الْمَحْذُوفِ خَاصَّةً فَمَحْذُورُ الْإِسْقَاطِ فِيهِ أَقَلُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِ الرَّاوِي ثِقَةً كَمَا إِذَا قَالَ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ. فَإِنَّهُ إِنْ كَانَا ثِقَتَيْنِ فَالْحُجَّةُ بِهِ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ ثِقَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ ثِقَةٍ، وَهُوَ نَحْوُ الصُّورَةِ الْأُولَى، لَا يَكُونُ الْخَبَرُ حُجَّةً، لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنَ الْمُحْتِرَيْ خِلَافَهُ كَمَا قُرِّرَ. [كَيْفَ يُرْوَى الْحَدِيثُ إِذَا كَانَ مُنْتَهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مُلَفَّقًا]: ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا يَكُونُ جَمِيعُ الْمَتْنِ عَنْهُمَا، (وَإِنْ يَكُنْ) مَجْمُوعُهُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الرُّوَاةِ مُلَفَّقًا بِأَنْ كَانَ (عَنْ كُلِّ رَاوٍ) مِنْهُمْ (قِطْعَهْ) مِنْهُ، فَـ(أَجِزْ بِلَا مَيْزٍ) أَيْ: تَمْيِيزٍ لِمَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْهُ أَيْضًا (بِخَلْطِ جَمْعَهْ) لَكِنْ (مَعَ الْبَيَانِ) لِذَلِكَ إِجْمَالًا، وَأَنَّ عَنْ كُلِّ رَاوٍ بَعْضَهُ. (كَحَدِيثِ الْإِفْكِ) فَإِنَّهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ أَوَعَى مِنْ بَعْضٍ وِأَثْبَتُهُ اقْتِصَاصًا. وَفِي لَفْظٍ: وَبَعْضُ الْقَوْمِ أَحْسَنُ سِيَاقًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِ يُصَدِّقُ بَعْضًا، زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ. وَسَاقَهُ بِطُولِهِ، وَلَفْظُ ابْنِ إِسْحَاقَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ الَّذِي حَدَّثُونِي. وَلَمَّا ضَمَّ ابْنُ إِسْحَاقَ إِلَى رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْأَرْبَعَةِ رِوَايَتَهُ هُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ كِلَاهُمَا، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: وَكُلُّ حَدِيثِ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَدِّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدِّثْ صَاحِبُهُ، وَكُلٌّ كَانَ ثِقَةً، فَكُلٌّ حَدَّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ. وَذَكَرَهُ. وَنَحْوُ صَنِيعِ الزُّهْرِيِّ مَا فِي الْوَكَالَةِ مِنَ (الْبُخَارِيِّ) ثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ، يَعْنِي كَأَبِي الزُّبَيْرِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، لَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ جَابِرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ فِي (الْمُسْتَخْرَجِ) لَمْ يُبَلِّغْهُ كُلَّهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرَ حَدِيثًا، وَفَعَلَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عِيَاضٌ، فَقَالَ فِي (الشِّفَاءِ): وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ، يَعْنِي ابْنَ عَلِيٍّ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ، فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ. وَكَثِيرًا مَا يَسْتَعْمِلُهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ. وَجَازَفَ عَصْرِيٌّ مِمَّنْ كَثُرَتْ مَنَاكِيرُهُ فَاسْتَعْمَلَهُ فِي أَمْرٍ بَشِيعٍ شَنِيعٍ يَحْرُمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَلَكَهُ إِجْمَاعًا، فَقَالَ: وَفِي (إِنْجِيلِ مَتَّى وَلُوقَا وَمُرْقُصَ) يَزِيدُ أَحَدُهُمْ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ جَمَعْتُ بَيْنَ أَلْفَاظِهِمْ. وَحَاصِلُ مَا فَعَلَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ أَنَّ جَمِيعِ الْحَدِيثِ عَنْ مَجْمُوعِهِمْ لَا أَنَّ مَجْمُوعَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْ مُجَرَّدِ السِّيَاقِ الْقَدْرُ الَّذِي رَوَاهُ مِنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيْنَ. نَعَمْ رُبَّمَا يُعْرَفُ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ أَوْ كُلِّهِمْ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ ذَاكَ الرَّاوِي، بَلْ وَمِنْ طَرِيقِهِ أَيْضًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي التَّفْسِيرِ مِنَ (الصَّحِيحِ) أَيْضًا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ الَّذِي حَدَّثَنِي عُرْوَةُ. فَفَهِمَ الْبُلْقِينِيُّ وَبَعْضُ أَتْبَاعِهِ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ بِجَمِيعِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِالْبَعْضِ حَتَّى تَلَفَّقَ مَنْ عَدَاهُ، وَصَارَتْ صُورَةً أُخْرَى غَيْرَ الْأُولَى، وَلَكِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي ذَلِكَ، بَلْ تَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي حَدَّثَهُ عُرْوَةُ أَوَّلَ شَيْءٍ مِنْهُ، خَاصَّةً مِمَّا زَادَهَا اللَّيْثُ عَنْ سَائِرِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ صَحَّ كَوْنُ الزُّهْرِيِّ اسْتَعْمَلَ التَّلْفِيقَ، وَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ قَالَ عِيَاضٌ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّنِ اسْتَعْمَلَهُ كَمَا أَسْلَفْتُهُ: إِنَّهُمُ انْتَقَدُوا عَلَيْهِ صَنِيعَهُ لَهُ، وَقَالُوا: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْرِدَ حَدِيثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ. انْتَهَى. وَالْأَمْرُ فِيهِ سَهْلٌ، فَالْكُلُّ ثِقَاتٌ، وَلَا يَخْرُجُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ صَحِيحًا. (وَجَرْحُ بَعْضٍ) مِنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ، وَضَعْفُهُ أَنْ لَوِ اتَّفَقَ مَعَ عَدَمِ التَّفْصِيلِ (مُقْتَضٍ لِلتَّرْكِ) لِجَمِيعِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ قِطْعَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ عَنْ ذَاكَ الرَّاوِي الْمَجْرُوحِ. (وَ) لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وُجُوبًا (حَذْفَ) بِالنَّصْبِ، مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، (وَاحِدٍ مِنْ) الرُّوَاةِ الْمُجْتَمِعِينَ فِي (الْإِسْنَادِ) أَوْ بَعْضِ الْحَدِيثِ (فِي) هَاتَيْنِ (الصُّورَتَيْنِ) الثِّقَاتِ كُلِّهِمْ، وَالضَّعِيفِ بَعْضِهِمْ، (امْنَعْ لِلِازْدِيَادِ) أَيْ: لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ عَلَى بَقِيَّةِ الرُّوَاةِ لِمَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِمْ، أَوْ إِسْقَاطِ مَا اخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَنِ الْبَاقِينَ. فَائِدَةٌ: لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِي “ بَابِ كَيْفَ كَانَ يَعِيشُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ “ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ. بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي كَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ جَمِيعَهُ مِنْهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْوِجَادَةِ أَوِ الْإِجَازَةِ، أَوْ حَمَلَهُ عَنْ شَيْخٍ آخَرَ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ غَيْرِ أَبِي نُعَيْمٍ، أَوْ سَمِعَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ مِنْ شَيْخٍ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَكُونُ مِنَ التَّعَالِيقِ، وَلِذَا أَوْرَدَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُخْتَصِّ بِهَا.
684- وَصَحِّحِ النِّيَّةَ فِي التَّحْدِيثِ *** وَاحْرِصْ عَلَى نَشْرِكَ لِلْحَدِيثِ 685- ثُمَّ تَوَضَّأْ وَاغْتَسِلْ وَاسْتَعْمِلِ *** طِيبًا وَتَسْرِيحًا وَزَبْرَ الْمُعْتَلِي 686- صَوْتًا عَلَى الْحَدِيثِ وَاجْلِسْ بِأَدَبْ *** وَهَيْبَةٍ بِصَدْرِ مَجْلِسٍ وَهَبْ 687- لَمْ يُخْلِصِ النِّيَّةَ طَالِبٌ فَعُمْ *** وَلَا تُحَدِّثْ عَجِلًا أَوْ أَنْ تَقُمْ 688- أَوْ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ حَيْثُ احْتِيجَ لَكْ *** فِي شَيْءٍ ارْوِهْ وَابْنُ خَلَّادٍ سَلَكْ 689- بِأَنَّهُ يَحْسُنُ لِلْخَمْسِينَا *** عَامًا وَلَا بَأْسَ لِأَرْبَعِينَا 690- وَرُدَّ وَالشَّيْخُ بِغَيْرِ الْبَارِعِ *** خَصَّصَ لَا كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِي 691- وَيَنْبَغِي الْإِمْسَاكُ إِذْ يَخْشَى الْهَرَمْ *** وَبِالثَّمَانِينَ ابْنُ خَلَّادٍ جَزَمْ 692- فَإِنْ يَكُنْ ثَابِتَ عَقْلٍ لَمْ يُبَلْ *** كَأَنَسٍ وَمَالِكٍ وَمَنْ فَعَلْ 693- وَالْبَغَوِيِّ وَالْهُجَيْمِي وَفِئَهْ *** كَالطَّبَرِيِّ حَدَّثُوا بَعْدَ الْمِائَهْ 694- وَيَنْبَغِي إِمْسَاكُ الَاعْمَى إِنْ يَخَفْ *** وَأَنَّ مَنْ سِيلَ بِجُزْءٍ قَدْ عَرَفْ 695- رُجْحَانَ رَاوٍ فِيهِ دَلَّ فَهْوَ حَقْ *** وَتَرْكُ تَحْدِيثٍ بِحَضْرَةِ الْأَحَقْ 696- وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ الْأَخْذَ عَنْهُ *** بِبَلَدٍ وَفِيهِ أَوْلَى مِنْهُ 697- وَلَا تَقُمْ لِأَحَدٍ وَأَقْبِلِ *** عَلَيْهِمِ وَلِلْحَدِيثِ رَتِّلِ 698- وَاحْمَدْ وَصَلِّ مِعْ سَلَامٍ *** وَدُعَا فِي بَدْءِ مَجْلِسٍ وَخَتْمِهِ مَعَا (آدَابُ) الشَّيْخِ (الْمُحَدِّثِ) عِنْدَ إِرَادَةِ الرِّوَايَةِ، وَمَعَ الطَّالِبِ وَفِي الرِّوَايَةِ وَالْإِمْلَاءِ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْمُسْتَمْلِي، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ. وَقُدِّمَتْ عَلَى آدَابِ الطَّالِبِ الَّتِي كَانَ الْأَلْيَقُ تَقْدِيمَهَا؛ إِمَّا لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ، أَوْ لِمُنَاسَبَتِهَا لِأَكْثَرِ الْفُرُوعِ الَّتِي فِي صِفَةِ الرِّوَايَةِ وَالْأَدَاءِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْخَطِيبُ كِتَابًا حَافِلًا لِآدَابِ كُلٍّ مِنْهُمَا سَمَّاهُ (الْجَامِعَ لِآدَابِ الرَّاوِي وَأَخْلَاقِ السَّامِعِ) قَرَأْتُهُ، وَكَذَا لِأَبِي سَعْدِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ (أَدَبُ الْإِمْلَاءِ وَالِاسْتِمْلَاءِ).
(وَصَحِّحِ) أَيُّهَا الْمُرِيدُ الرِّوَايَةَ (النِّيَّةَ فِي التَّحْدِيثِ) وَقَدِّمْهَا عَلَيْهِ بِحَيْثُ تَكُونُ فِي ذَلِكَ مُخْلِصًا لِلَّهِ لَا يَشُوبُكَ فِيهِ غَرَضٌ دُنْيَوِيٌّ، بَلْ طَاهِرَ الْقَلْبِ مِنْ أَعْرَاضِهَا وَأَدْنَاسِهَا، بَعِيدًا عَنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَرُعُونَاتِهَا وَدَسَائِسِهَا، كَالْعُجْبِ وَالطَّيْشِ وَالْحُمْقِ وَالدَّعْوَى بِحَقٍّ، فَضْلًا عَنْ بَاطِلٍ، لَا تُحِبُّ أَنْ يَحْمَدَكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا تُرِيدُ بِهِ مَعْنًى سِوَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَمَا صَنَعْتَ شَيْئًا، وَلَا تَأْمَنُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ قَوْلِكَ: (تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ)-: (كَذَبْتَ، وَلَكِنْ لِيُقَالَ: قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ). ثُمَّ يُؤْمَرُ بِمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ فَيُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يُلْقَى فِي النَّارِ، إِذِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ. وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعِلْمِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ، وَصَغَّرَهُ وَحَقَّرَهُ). وَ(رُبَّ قَائِمٍ، أَوْ صَائِمٍ، حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ، أَوْ صِيَامِهِ، السَّهَرُ، أَوِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ) نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. وَمِنْ هُنَا وَقَفَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ عَنِ التَّحْدِيثِ إِلَّا بَعْدَ نِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ لَمَّا سَأَلَهُ الثَّوْرِيُّ التَّحْدِيثَ: حَتَّى تَجِيءَ النِّيَّةُ. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ لِمَنْ سَأَلَهُ أَيْضًا: لَيْسَتْ لِي نِيَّةٌ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُؤْجَرُ، فَقَالَ: يُمَنُّونَنِي الْخَيْرَ الْكَثِيرَ وَلَيْتَنِي *** نَجَوْتُ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا وَقَالَ كُلْثُومُ بْنُ هَانِئٍ- وَقَدْ قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا سَهْلٍ حَدِّثْنَا-: إِنَّ قَلْبِي لَا خَيْرَ فِيهِ، مَا أَكْثَرَ مَا سَمِعَ وَنَسِيَ. هَذَا وَهُوَ لَوْ شَاءَ فَعَلَ، كَمَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ السَّيْبَانِيُّ، وَلَكِنَّهُ أَشْفَقَ مِنَ الزَّهْوِ وَالْعُجْبِ حِينَ نَصَّبُوهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، إِنَّ لِذِكْرِ الْإِسْنَادِ فِي الْقَلْبِ خُيَلَاءَ. وَتَصْحِيحُ النِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ، إِلَّا أَنَّ عَادَةَ الْعُلَمَاءِ تَقْيِيدُ مَسْأَلَتِنَا بِهِ، لِكَوْنِهِ قَدْ يَتَسَاهَلُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ أَوْ يَغْفُلُ عَنْهُ، لَا سِيَّمَا وَالْحَدِيثُ عِلْمٌ شَرِيفٌ يُنَاسِبُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنَ الشِّيَمِ، وَيُنَافِرُ مَسَاوِئَ الْأَخْلَاقِ وَمَشَائِنَ الشِّيَمِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَالنِّيَّةُ تَعِزُّ فِيهِ لِشَرَفِهِ. وَيَسْتَفِزَّ صَاحِبَهُ اللَّعِينُ بِهَدَفِهِ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَنْ رُزِقَهُ بِشَرْطِهِ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا، وَنَالَ أَجْرًا كَبِيرًا، وَهُوَ مِنْ عُلُومِ الْآخِرَةِ لَا مِنْ عُلُومِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِذَاتِهِ لَا صِنَاعَةٌ. وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ: لَيْسَ طَلَبُ الْحَدِيثِ مِنْ عُدَّةِ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّهُ عِلَّةٌ يَتَشَاغَلُ بِهِ الرِّجَالُ. إِذْ طَلَبُ الْحَدِيثِ- كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ: شَيْءٌ غَيْرُ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَهُوَ اسْمٌ عُرْفِيٌّ لِأُمُورٍ زَائِدَةٍ عَلَى تَحْصِيلِ مَاهِيَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا مَرَاقٍ إِلَى الْعِلْمِ، وَأَكْثَرُهَا أُمُورٌ يَشْغَفُ بِهَا الْمُحَدِّثُ، مِنْ تَحْصِيلِ النُّسَخِ الْمَلِيحَةِ، وَتَطَلُّبِ الْإِسْنَادِ الْعَالِي، وَتَكْثِيرِ الشُّيُوخِ، وَالْفَرَحِ بِالْأَلْقَابِ، وَتَمَنِّي الْعُمُرِ الطَّوِيلِ لِيَرْوِيَ، وَحُبِّ التَّفَرُّدِ، إِلَى أُمُورٍ عَدِيدَةٍ لَازِمَةٍ لِلْأَغْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ لَا لِلْأَعْمَالِ الرَّبَّانِيَّةِ. قَالَ: فَإِذَا كَانَ طَلَبُكَ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ مَحْفُوفًا بِهَذِهِ الْآفَاتِ، فَمَتَى خَلَاصُكَ مِنْهَا إِلَى الْإِخْلَاصِ؟ وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الْآثَارِ مَدْخُولًا، فَمَا ظَنُّكَ بِعُلُومِ الْأَوَائِلِ الَّتِي تَنْكُثُ الْأَيْمَانَ وَتُورِثُ الشُّكُوكَ؟ وَلَمْ تَكُنْ- وَاللَّهِ- فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، بَلْ كَانَتْ عُلُومُهُمُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ. انْتَهَى. عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمُ الثَّوْرِيُّ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ: لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. فَيُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا خَلَصَ مِنْ هَذِهِ الشَّوَائِبِ كَمَا هُوَ صَرِيحُهُ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
(وَاحْرِصْ) مَعَ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ (عَلَى نَشْرِكَ لِلْحَدِيثِ)، وَاجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرَ هَمِّكَ، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً). قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَلَا خَفَاءَ بِمَا فِي تَبْلِيغِ الْعِلْمِ مِنَ الْأُجُورِ، لَا سِيَّمَا وَبِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ يَدْخُلُ الرَّاوِي فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا). انْتَهَى. وَلِأَنَّهُ كَمَا يُرْوَى فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمْ. (مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عِلْمًا ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ كَمَثَلِ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا فَكَنَزَهُ وَلَمْ يُنْفِقْ مِنْهُ). وَفِي لَفْظٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: (عِلْمٌ لَا يُقَالُ بِهِ كَكَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ). وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ الْعُلَمَاءَ يُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- يَعْنِي عَنْ تَبْلِيغِهِمْ- كَمَا يُسْأَلُ الْأَنْبِيَاءُ. وَرُئِيَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قِيلَ: بِأَيِ شَيْءٍ؟ قَالَ: بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي نَشَرْتُهُ فِي النَّاسِ. وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَلِذَا كَانَ عُرْوَةُ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ عَلَى حَدِيثِهِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ الصَّامِتُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ أَخَذْنَا عَنْ أَصْحَابِهِمْ يَطُوفُ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَكَاتِبِ فَيُحَدِّثُهُمْ، بَلْ رَحَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى بِلَادٍ أُخْرَى لِذَلِكَ، مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ حَنْبَلٌ الرُّصَافِيُّ، فَإِنَّهُ سَافَرَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الشَّامِ بِقَصْدِ خِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَةِ أَحَادِيثِهِ فِي بَلَدٍ لَا تُرْوَى فِيهِ، وَحَدَّثَ بِـ(مُسْنَدِ أَحْمَدَ)، فَاجْتَمَعَ بِمَجْلِسِهِ لِهَذِهِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْخَلَائِقِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي مَجْلِسٍ قَبْلَهُ بِدِمَشْقَ، كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ. وَكَذَا كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ الصَّيْرَفِيُّ- وَهُوَ مِنَ الدِّينِ عَلَى نِهَايَةٍ- يَسْأَلُ مَنْ يَقْصِدُهُ عَنْ مَدِينَةٍ بَعْدَ مَدِينَةٍ: هَلْ بَقِيَ فِيهَا مَنْ يُحَدِّثُ؟ فَإِذَا عَلِمَ خُلُوَ بَلَدٍ عَنْ مُحَدِّثٍ خَرَجَ إِلَيْهَا فِي السِّرِّ لِرَغْبَتِهِ فِي بَذْلِ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ. حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَأْرِيخِهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُقْصَدُ فِي هَذَا الْعِلْمِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّعَبُّدُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ، وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا عِنْدَ اللَّفْظِ بِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ. وَالثَّانِي: قَصْدُ الِانْتِفَاعِ وَالنَّفْعِ لِلْغَيْرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ- وَقَدِ اسْتُكْثِرَ كَثْرَةُ الْكِتَابَةِ مِنْهُ-: لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِيهَا نَجَاتِي لَمْ أَسْمَعْهَا إِلَى الْآنِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى هَذَيْنَ لَمَّا قَلَّ الِاحْتِيَاجُ إِلَى عِلْمِ الْحَدِيثِ، لِتَدْوِينِ الْأَحَادِيثِ فِي الْكُتُبِ وَانْقِطَاعِ الِاجْتِهَادِ غَالِبًا، وَإِلَّا فَالْفَائِدَةُ الْعُظْمَى حِفْظُ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهَا. وَمِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِهِ الْآنَ شَيْئًانِ: أَحَدُهُمَا: ضَبْطُ أَلْفَاظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْرَارِ سَمَاعِهَا، إِذْ لَوْ تُرِكَ السَّمَاعُ لَبَعُدَ الْعَهْدُ بِهَا، وَتَطَرَّقَ التَّحْرِيفُ لَهَا، كَمَا جَرَى فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ كِبَارِ مُلُوكِهِمْ أَرَادَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ (صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ) فَلَمْ يَجِدْ فِي مَمْلَكَتِهِ مَنْ يُحْسِنُ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الْمِصْرِ عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَصَارَ يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ فِي الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا لَا يُحْصَى. ثَانِيهِمَا: حِفْظُ السُّنَّةِ مِنْ أَعْدَائِهَا الْمُدْخِلِينَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَقَدِ اقْتَحَمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا عَظِيمًا، وَنَسَبُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْبُو السَّمْعُ عَنْهُ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَفِظَ الشَّرِيعَةَ بِنُقَّادِ الْحَدِيثِ لَاضْمَحَلَّ الدِّينُ وَتَهَدَّمَتْ أَرْكَانُهُ، وَلَوْلَا بَقَايَا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ لَوَقَعَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيفِ لِكَلَامِهِ مَا اللَّهُ بِهِ عَالِمٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْمَرْوِيِّ، لِقَوْلِ الثَّوْرِيِّ: تَعَلَّمُوا هَذَا الْحَدِيثَ، فَإِذَا عَلِمْتُمُوهُ فَتَحَفَّظُوهُ، فَإِذَا حَفِظْتُمُوهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، فَإِذَا عَمِلْتُمْ بِهِ فَانْشُرُوهُ. بَلْ يُرْوَى فِي الْمَعْنَى مِمَّا هُوَ مَرْفُوعٌ: (مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْعِلْمَ فَيَعْمَلَ بِهِ ثُمَّ يُعَلَّمَهُ).
(ثُمَّ) عِنْدَ إِرَادَتِكَ نَشْرَ الْحَدِيثِ بِالنِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (تَوَضَّأْ) وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، (وَاغْتَسِلْ) اغْتِسَالَكَ مِنَ الْجَنَابَةِ بِحَيْثُ تَكُونُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، وَتَسَوَّكْ، وَقُصَّ أَظْفَارِكَ، وَخُذْ شَارِبَكَ، (وَاسْتَعْمِلْ) مَعَ ذَلِكَ (طِيبًا) وَبَخُورًا فِي بَدَنِكَ وَثِيَابِكَ، فَقَدْ قَالَ أَنَسٌ: (كُنَّا نَعْرِفُ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيحِ الطِّيبِ). وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَجْمِرْ بِالْأَلُوَّةِ غَيْرَ الْمُطَرَّاةِ وَكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَهَا). (وَ) كَذَا اسْتَعْمِلْ مَعَهُ (تَسْرِيحًا) لِلِحْيَتِكَ وَتَمْشِيطًا لِشَعْرِكَ إِنْ كَانَ، بِأَنْ تُرْسِلَهُ وَتَحُلَّهُ قَبْلَ الْمَشْطِ؛ لِمَا فِي الشَّمَائِلِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ. وَالْبِسْ أَحْسَنَ ثِيَابِكَ، وَأَفْضَلُهَا الْبَيَاضُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ، فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ يُحِبَّانِ الْجَمَالَ. (وَ) كَذَا اسْتَعْمِلْ فِي حَالِ تَحْدِيثِكَ (زَبْرَ) أَيْ: نَهْرَ (الْمُعْتَلِي صَوْتًا) أَيْ: صَوْتَهُ (عَلَى) قِرَاءَةِ (الْحَدِيثِ)، وَالْإِغْلَاظَ لَهُ، لِشُمُولِ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ فَوْقَ صَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَالِكٌ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَ حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّمَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَاجْلِسْ) حِينَئِذٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُتَمَكِّنًا بِمَقْعَدَتِكَ مِنَ الْأَرْضِ لَا مُقْعِيًا وَنَحْوَهُ، (بِأَدَبْ) وَوَقَارٍ (وَهَيْبَةٍ بِصَدْرِ مَجْلِسٍ) يَكُونُ الْقَوْمُ فِيهِ، بَلْ وَعَلَى فِرَاشٍ مُرْتَفِعٍ يَخُصُّكَ أَوْ مِنْبَرٍ، لِمَا رُوِّينَا عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا أَتَوْا مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ خَرَجَتْ إِلَيْهِمُ الْجَارِيَةُ فَتَقُولُ لَهُمْ: يَقُولُ لَكُمُ الشَّيْخُ: تُرِيدُونَ الْحَدِيثَ أَوِ الْمَسَائِلَ؟ فَإِنْ قَالُوا: الْمَسَائِلَ. خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ قَالُوا: الْحَدِيثَ. دَخَلَ مُغْتَسَلَهُ فَاغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ ثِيَابًا جُدُدًا وَتَعَمَّمَ وَلَبِسَ سَاجَهُ، وَتُلْقَى لَهُ مِنَصَّةٌ فَيَخْرُجُ فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ الْخُشُوعُ، وَلَا يَزَالُ يُبَخَّرُ بِالْعُودِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ يَجْلِسُ عَلَى تِلْكَ الْمِنَصَّةِ إِلَّا إِذَا حَدَّثَ. قَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: (أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أُحَدِّثُ بِهِ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ مُتَمَكِّنًا). وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ يَخْرُجُ إِلَى مَجْلِسِ تَحْدِيثِهِ وَهُوَ طَيِّبُ الرِّيحِ حَسَنُ الثِّيَابِ، فَلَقَّبَهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ لِذَلِكَ مُشْكُدَانَةَ، إِذِ الْمُشْكُ، بِضَمِ الْمِيمِ، وَبِالْمُعْجَمَةِ، بِالْفَارِسِيَّةِ الْمِسْكُ، بِالْكَسْرِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ وِعَاءُ الْمِسْكِ تَجَوُّزٌ، وَدَانَةُ الْحَبَّةُ وَمَعْنَاهُ حَبَّةُ مِسْكٍ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ. وَكَرِهَ قَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ التَّحْدِيثَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، حَتَّى كَانَ الْأَعْمَشُ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهَا يَتَيَمَّمُ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَحْكِيَّةَ عَنْ مَالِكٍ لَا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ فِيهَا إِلَّا لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِي خُلُوصِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تَعْظِيمًا لِلْحَدِيثِ لَا لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ لِلشَّيْطَانِ دَسَائِسَ فِي مَثَلِ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ، فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ نِيَّتَكَ فِيهَا كَنِيَّةٍ مَالِكٍ فَافْعَلْهَا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى نِيَّتِكَ غَيْرُ اللَّهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي (الْعَذْبَةِ): إِنْ فَعَلَهَا بِقَصْدِ السُّنَّةِ أُجِرَ، أَوْ لِلتَّمَشْيُخِ وَالشُّهْرَةِ حُرِمَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ حُرْمَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمَهُ وَتَوْقِيرَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَذِكْرِ حَدِيثِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ وَسِيرَتِهِ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِ، وَكَذَا مُعَامَلَةُ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ وَتَعْظِيمُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَصَحَابَتِهِ لَازِمٌ، وَرُبَّمَا تَعْرِضُ لِلْمُحَدِّثِ ضَرُورَةٌ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهَا مِنَ الْجُلُوسِ، فَلَا حَرَجَ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الْفُرَاوِيِّ فَمَرِضَ، فَنَهَاهُ الطَّبِيبُ عَنِ الْإِقْرَاءِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ مَرَضِهِ، فَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ مُلْقًى عَلَى فِرَاشِهِ إِلَى أَنْ عُوفِيَ. وَكَذَا قَرَأَ السِّلَفِيُّ وَهُوَ مُتَّكِئٌ لَدَمَامِلَ أَوْ نَحْوِهَا كَانَتْ فِي مَقْعَدَتِهِ عَلَى شَيْخِهِ أَبِي الْخَطَّابِ بْنِ الْبَطِرِ، وَغَضِبَ الشَّيْخُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْعُذْرِ. وَسَوِّ بَيْنَ مَنْ قَصَدَكَ لِلتَّحْدِيثِ، (وَهَبْ لَمْ يُخْلِصِ النِّيَّةَ) بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ (طَالِبٌ فَـ) لَا تَمْنَعْ مِنْ تَحْدِيثِهِ، بَلْ (عُمْ) جَمِيعَ مَنْ سَأَلَكَ أَوْ حَضَرَ مَجْلِسَكَ، اسْتِحْبَابًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) إِذِ التَّأَهُّلُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَقَدْ قَالَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ: كُنْتُ امْتَنَعْتُ أَنْ أُحَدِّثَ فَأَتَانِي آتٍ فِي النَّوْمِ فَقَالَ: مَا لَكَ لَا تُحَدِّثُ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا يَطْلُبُونَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى. فَقَالَ: حَدِّثْ أَنْتَ، يُنْفَعْ مَنْ نُفِعَ، وَيُضَرَّ مَنْ ضُرَّ. وَفِي (زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ) مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ صِغَارًا تَنْتَفِعُوا بِهِ كِبَارًا، تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ يَصِيرُ لِذَاتِ اللَّهِ. وَعِنْدَ الْخَطِيبِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ قَالَ: مَا سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَعِيبُ الْعِلْمَ قَطُّ وَلَا مَنْ يَطْلُبُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَتْ لَهُمْ نِيَّةٌ. فَيَقُولُ: طَلَبُهُمْ لِلْعِلْمِ نِيَّةٌ. وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ وَمَعْمَرٍ أَنَّهُمَا قَالَا: طَلَبْنَا الْحَدِيثَ وَمَا لَنَا فِيهِ نِيَّةٌ، ثُمَّ رَزَقَ اللَّهُ النِّيَّةَ بَعْدُ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: الرَّجُلُ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ. وَجَاءَ قَوْمٌ إِلَى سِمَاكٍ يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ فَقَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ: مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا رَغْبَةَ لَهُمْ وَلَا نِيَّةَ. فَقَالَ لَهُمْ سِمَاكٌ: (قُولُوا خَيْرًا، فَقَدْ طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ اللَّهَ بِهِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ مِنْهُ حَاجَتِي دَلَّنِي عَلَى مَا يَنْفَعُنِي وَحَجَزَنِي عَمَّا يَضُرُّنِي). وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ قَالَا: (طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ). وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: طَلَبْنَا الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَعْقَبَنَا اللَّهُ مَا تَرَوْنَ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَدَلَّنَا عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: مَاتَ وَالِدِي وَخَلَّفَ لِي وَلِأَخِي شَيْئًا يَسِيرًا، فَلَمْا فَنِيَ وَتَعَذَّرَ الْقُوتُ عَلَيْنَا صِرْنَا إِلَى بَعْضِ الدُّرُوسِ مُظْهِرِينَ لِطَلَبِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سِوَى تَحْصِيلِ الْقُوتِ، وَكَانَ تَعَلُّمُنَا الْعِلْمَ لِذَلِكَ لَا لِلَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ. عَلَى أَنَّهُ قَالَ فِي (الْإِحْيَاءِ): هَذِهِ الْكَلِمَةُ اغْتَرَّ بِهَا قَوْمٌ فِي تَعَلُّمِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ رُجُوعِهِمْ إِلَى اللَّهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَائِلُ هُوَ عِلْمُ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَمَعْرِفَةِ سِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ، فَإِنَّ فِيهِ التَّخْوِيفَ وَالتَّحْذِيرَ، وَهُوَ سَبَبٌ لِإِثَارَةِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْحَالِ أَثَّرَ فِي الْمَآلِ. فَأَمَّا الْكَلَامُ وَالْفِقْهُ الْمُجَرَّدُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِفَتَاوَى الْمُعَامَلَاتِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتُ الْمَذْهَبُ مِنْهُ وَالْخِلَافُ، فَلَا يَرُدُّ الرَّاغِبَ فِيهِ لِلدُّنْيَا إِلَى اللَّهِ، بَلْ لَا يَزَالُ مُتَمَادِيًا فِي حِرْصِهِ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ أَبَى وَامْتَنَعَ عَلَيْنَا فَلَمْ يَنْكَشِفْ لَنَا حَقِيقَتُهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَنَا حَدِيثُهُ وَأَلْفَاظُهُ. وَامْتَنَعَ بَعْضُ الْوَرِعِينَ مِنْ ذَلِكَ، فَرَوَى الْخَطِيبُ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلَّا تُحَدِّثُنَا تُؤْجَرْ؟ قَالَ: عَلَى أَيِ شَيْءٍ أُؤْجَرُ؟ عَلَى شَيْءٍ تَتَفَكَّهُونَ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ. وَنَحْوُهُ مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَثَّامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: النَّاسُ لَا يُؤْتَوْنَ مِنْ حِلْمٍ، يَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَسْأَلُ، فَإِذَا أَخَذَ غَلِطَ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَأْخُذُ ثُمَّ يُصَحِّفُ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَأْخُذُ لِيُمَارِيَ صَاحِبَهُ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَأْخُذُ لِيُبَاهِيَ بِهِ، وَلَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أُعَلِّمَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَجُلٌ يَجِيئُنِي فَيَهْتَمُّ لِأَمْرِ دِينِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَسَعُنِي أَنْ أَمْنَعَهُ. وَقَدْ أَسْلَفْتُ فِي “ مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ “ شَيْئًا مِنْ تَوَقُّفِ بَعْضِ الْوَرِعِينَ. وَلَكِنْ قَدْ فَصَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي (أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ) لَهُ تَفْصِيلًا حَسَنًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لِلطَّلَبِ دِينِيًّا وَجَبَ عَلَى الشَّيْخِ إِسْعَافُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا، كَرَجُلٍ دَعَاهُ طَلَبُ الْعِلْمِ إِلَى حُبِّ النَّبَاهَةِ وَطَلَبِ الرِّيَاسَةِ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَعْطِفُهُ عَلَى الدِّينِ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي مَحْظُورًا، كَرَجُلٍ دَعَاهُ طَلَبُ الْعِلْمِ إِلَى شَرٍّ كَامِنٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي شُبَهٍ دِينِيَّةٍ، وَحِيَلٍ فِقْهِيَّةٍ لَا يَجِدُ أَهْلُ السَّلَامَةِ مِنْهَا مَخْلَصًا، وَلَا عَنْهَا مَدْفَعًا، فَيَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ طَلِبَتِهِ، وَيَصْرِفَهُ عَنْ بُغْيَتِهِ، وَلَا يُعِينُهُ عَلَى إِمْضَاءِ مَكْرِهِ وَإِعْمَالِ شَرِّهِ، فَفِي الْحَدِيثِ (وَاضِعُ الْعِلْمِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ اللُّؤْلُؤَ وَالْجَوْهَرَ وَالذَّهَبَ) انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: ارْثِ لِرُومِيَّةٍ تَوَسَّطَهَا خِنْزِيرُ *** وَابْكِ لِعِلْمٍ حَوَاهُ شِرِّيرُ وَكَذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَمْتَنِعُ مِنْ إِلْقَاءِ الْعِلْمِ لِمَنْ لَا يَفْهَمُهُ، فَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ تِلْمِيذًا سَأَلَ عَالِمًا عَنْ عِلْمٍ فَلَمْ يُفِدْهُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ مَنَعْتَهُ؟ فَقَالَ: لِكُلِّ تُرْبَةٍ غَرْسٌ، وَلِكُلِّ بِنَاءٍ إِسٌّ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الطَّبَّاخِ الْحَاذِقِ، يَعْمَلُ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعَامِ. وَعَنْ بَعْضِ الْبُلَغَاءِ قَالَ: لِكُلِّ ثَوْبٍ لَابِسُ *** وَلِكُلِّ عِلْمٍ قَابِسُ
(وَلَا تُحَدِّثْ عَجِلًا) بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مُسْتَعْجِلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى السُّرْعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ النَّاشِئِ عَنْهَا الْهَذْرَمَةُ غَالِبًا (أَوْ أَنْ تَقُمْ) أَيْ: فِي حَالِ قِيَامِكَ. (أَوْ فِي الطَّرِيقِ) مَاشِيًا كُنْتَ أَوْ جَالِسًا، فَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أَتَفَهَّمَ مَا أُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بَلْ قِيلَ لَهُ: لِمَ لَمْ تَكْتُبْ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؟ قَالَ: أَتَيْتُهُ وَالنَّاسُ يَكْتُبُونَ عَنْهُ قِيَامًا، فَأَجْلَلْتُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَكْتُبَهُ وَأَنَا قَائِمٌ. وَاتَّفَقَ لَهُ مَعَ أَبِي حَازِمٍ أَيْضًا نَحْوَهُ، وَكَذَا صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِالْكَرَاهَةِ فَقَالَ: يُكْرَهُ التَّحْدِيثُ فِي حَالَتَيِ الْمَشْيِ وَالْقِيَامِ حَتَّى يَجْلِسَ الرَّاوِي وَالسَّامِعُ مَعًا وَيَسْتَوْطِنَا، فَذَلِكَ أَحَضَرُ لِلْقَلْبِ، وَأَجْمَعُ لِلْفَهْمِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، وَلِلْحَدِيثِ مَوَاضِعُ مَخْصُوصَةٌ شَرِيفَةٌ دُونَ الطُّرُقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الدَّنِيَّةِ. قَالَ: وَهَكَذَا يُكْرَهُ التَّحْدِيثُ مُضْطَجِعًا. وَحَكَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَحِينَ يَكُونُ مَغْمُومًا أَوْ مَشْغُولًا، قَالَ: وَلَوْ حَدَّثَ مُحَدِّثٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمْ يَكُنْ مَأْثُومًا، وَلَا فَعَلَ أَمْرًا مَحْظُورًا، وَأَجَلُّ الْكُتُبِ كِتَابُ اللَّهِ، وَقِرَاءَتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ جَائِزَةٌ، فَالْحَدِيثُ فِيهَا بِالْجَوَازِ أَوْلَى. قُلْتُ: وَقَدْ فَعَلَهُ فِيهِمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَبَالَغَ بَعْضُ الْمُتَسَاهِلِينَ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْمَاشِي حَالَ كَوْنِهِ رَاكِبًا، وَذَلِكَ قَبِيحٌ مِنْهُمَا.
(ثُمَّ) بَعْدَ تَحَرِّيكَ فِي تَصْحِيحِ النِّيَّةِ وَاسْتِحْضَارِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ التَّقَيُّدِ فِي الطَّلَبِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الْفَهْمُ، فَلَا تَقَيُّدَ فِي الْأَدَاءِ أَيْضًا بِسِنٍّ، بَلْ (حَيْثُ احْتِيجَ لَكَ فِي شَيْءٍ) وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَلَعَلَّكَ تَكُونُ فِي بِلَادٍ مَشْهُورَةٍ كَثِيرَةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهَا إِلَى مَا عِنْدَكَ، وَلَوْ كُنْتَ فِي بِلَادٍ مَهْجُورَةٍ احْتِيجَ إِلَيْكَ فِيهِ؛ فَحِينَئِذٍ (ارْوِهْ) وُجُوبًا حَسْبَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) فَقَالَ: فَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ يَعْلُوَ سِنُّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَدِّثَ وَلَا يَمْتَنِعَ؛ لِأَنَّ نَشْرَ الْعِلْمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لَازِمٌ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ عَاصٍ آثِمٌ. وَسَاقَ حَدِيثَ: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ نَافِعٍ فَكَتَمَهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ). وَحَدِيثَ: (مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عِلْمًا ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ). وَقَدْ مَضَى قَرِيبًا، وَقَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}. قَالَ: هَذَا فِي الْعِلْمِ، لَيْسَ لِلدُّنْيَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَوْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنْ بَخِلَ بِالْعِلْمِ ابْتُلِيَ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ إِمَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَذْهَبَ عِلْمُهُ، أَوْ يَنْسَاهُ، أَوْ يَتَّبِعَ سُلْطَانًا. وَقَوْلَ رَبِيعَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَهُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: إِنَّمَا حَمَلَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَلَى التَّحْدِيثِ أَنَّهُ رَأَى فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَفِيهَا كَرَاسِيُّ مَوْضُوعَةٌ، عَلَى كُرْسِيٍّ مِنْهَا زَائِدَةُ، وَعَلَى آخَرَ فُضَيْلٌ، وَذَكَرَ رِجَالًا، وَكُرْسِيٌّ مِنْهَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ: فَأَهَوَيْتُ نَحْوَهُ فَمُنِعْتُ، فَقُلْتُ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابِي أَجْلِسُ إِلَيْهِمْ. فَقِيلَ لِي: إِنَّ هَؤُلَاءِ بَذَلُوا مَا اسْتُودِعُوا، وَإِنَّكَ مَنَعْتَهُ. فَأَصْبَحَ يُحَدِّثُ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ الَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّهُ مَتَى احْتِيجَ إِلَى مَا عِنْدَهُ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدِّي لِرِوَايَتِهِ وَنَشْرِهِ فِي أَيِّ سِنٍّ كَانَ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونُ يُخَالِفُ الْخَطِيبَ فِي الْوُجُوبِ، أَوْ يَكُونَ الِاسْتِحْبَابُ فِي التَّصَدِّي بِخُصُوصِهِ. عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ ابْنَ الْمُصَنِّفِ قَالَ: وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ إِلَّا عِنْدَهُ، وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحْدِيثُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. [قَوْلُ الرَّامَهُرْمُزِيِّ فِي تَحْدِيدِ السِّنِّ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ]: (وَ) عَلَى كُلِّ حَالٍ فَأَبُو مُحَمَّدِ (ابْنُ خَلَّادٍ) الرَّامَهُرْمُزِيُّ قَدْ (سَلَكْ) فِي كِتِابِهِ (الْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ) التَّحْدِيدَ، حَيْثُ صَرَّحَ (بِأَنَّهُ يَحْسُنُ) أَنْ يُحَدِّثَ (لِلْخَمْسِينَا عَامًا) أَيْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهَا. وَقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ؛ لِأَنَّهَا انْتِهَاءُ الْكُهُولَةِ، وَفِيهَا مُجْتَمَعُ الْأَشُدِّ، قَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ الرِّيَاحِيُّ: أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي *** وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةٌ الشُّئُونِ يَعْنِي: أَحَنَكَتْنِي مُعَالَجَةُ الْأُمُورِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) بِهِ (لِأَرْبَعِينَا) عَامًا، أَيْ بَعْدَهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَنْكَرٍ؛ لِأَنَّهَا حَدُّ الِاسْتِوَاءِ، وَمُنْتَهَى الْكَمَالِ، نُبِّئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ تَتَنَاهَى عَزِيمَةُ الْإِنْسَانِ وَقُوَّتُهُ، وَيَتَوَفَّرُ عَقْلُهُ وَيَجُودُ رَأْيُهُ. انْتَهَى. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}. قَالَ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، {وَاسْتَوَى}. قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ فِي الْأَشُدِّ غَيْرُ ذَلِكَ، (وَ) قَدْ (رُدَّ) هَذَا عَلَى ابْنِ خَلَّادٍ حَيْثُ لَمْ يَعْكِسْ صَنِيعَهُ، وَيَجْعَلِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي وَصَفَهَا مِمَّا ذُكِرَ حَدًّا لِمَا يُسْتَحْسَنُ، وَالْخَمْسِينَ الَّتِي يَأْخُذُ صَاحِبُهَا غَالِبًا فِي الِانْحِطَاطِ وَضَعْفِ الْقُوَى حَدًّا لِمَا لَا يُسْتَنْكَرُ، أَوْ يَجْعَلَ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي لِلْجَوَازِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُرْدِفَ بِالْخَمْسِينَ الَّتِي لِلِاسْتِحْسَانِ. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَهْلٌ، بَلْ رُدَّ عَلَيْهِ مُطْلَقُ التَّحْدِيدِ، فَقَالَ عِيَاضٌ فِي (إِلْمَاعِهِ) وَاسْتِحْسَانِهِ: هَذَا لَا يَقُومُ لَهُ حُجَّةٌ بِمَا قَالَ. قَالَ: وَكَمْ مِنَ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا السِّنِّ وَلَا اسْتَوْفَى فِي هَذَا الْعُمْرِ، وَمَاتَ قَبْلَهُ. وَقَدْ نَشَرَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ مَا لَا يُحْصَى، هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ تُوُفِّيَ وَلَمْ يُكْمِلِ الْأَرْبَعِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَمْ يَبْلُغِ الْخَمْسِينَ، وَكَذَا إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَهَذَا مَالِكٌ قَدْ جَلَسَ لِلنَّاسِ ابْنَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ، وَشُيُوخُهُ رَبِيعَةُ وَابْنُ شِهَابٍ وَابْنُ هُرْمُزَ وَنَافِعٌ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَغَيْرُهُمْ أَحْيَاءٌ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ ابْنُ شِهَابٍ حَدِيثَ الْفُرَيْعَةِ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ قَدْ أُخِذَ عَنْهُ الْعِلْمُ فِي سِنِّ الْحَدَاثَةِ، وَانْتَصَبَ لِذَلِكَ فِي آخَرِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. انْتَهَى. وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ قَالَ: كَتَبَ عَنِّي خَمْسَةُ قُرُونٍ، وَسَأَلُونِي التَّحْدِيثَ وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أُحَدِّثَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجْتُهُمْ إِلَى الْبُسْتَانِ فَأَطْعَمْتُهُمُ الرُّطَبَ وَحَدَّثْتُهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْيَنِ قَالَ: كَتَبْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ عَلَى بَابِ الْفِرْيَابِيِّ وَمَا فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ. فَقُلْتُ: ابْنُ كَمْ كَانَ؟ قَالَ: ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ حَدَّثْتُ أَنَا وَلِي عِشْرُونَ سَنَةً حِينَ قَدِمْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ، كَتَبَ عَنِّي شَيْخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيُّ أَشْيَاءَ أَدْخَلَهَا فِي تَصَانِيفِهِ، وَسَأَلَنِي فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (412هـ). قُلْتُ: وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ اسْتَوْفَى عَشَرَ سِنِينَ مِنْ حِينَ طَلَبَهُ، فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلَ مَا سَمِعْتُ الْحَدِيثَ وَلِي إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً؛ لِأَنِّي وُلِدْتُ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (392)، وَأَوَّلُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (403). وَكَذَا حَدَّثَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُظَفَّرٍ وَسِنُّهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ، سَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي السَّنَةِ الَّتِي ابْتَدَأَ الطَّلَبَ فِيهَا، وَهِيَ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ (693هـ)، وَحَدَّثَ عَنْهُ فِي (مُعْجَمِهِ) بِحَدِيثٍ مِنَ (الْأَفْرَادِ) لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ عَقِبَهُ: أَمْلَاهُ عَلَيَّ ابْنُ مُظَفَّرٍ وَهُوَ أَمْرَدُ. وَحَدَّثَ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ خَلِيفَةَ الْمَنْبَجِيُّ وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، سَمِعَ مِنْهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ أَحَادِيثَ مِنْ (فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) لِأَبِي عُبَيْدٍ، وَحَدَّثَ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (745) وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، سَمِعَ مِنْهُ الشِّهَابُ أَبُو مَحْمُودٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ، وَكَذَا سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ شَيْخُهُ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي آخَرِينَ كَالْمُحِبِّ بْنِ الْهَائِمِ، حَيْثُ حَدَّثَ وَدَرَّسَ وَقَرَّظَ لِشَيْخِنَا بَعْضَ تَصَانِيفِهِ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ: الْجَاهِلُ صَغِيرٌ وَإِنْ كَانَ شَيْخًا، وَالْعَالِمُ كَبِيرٌ وَإِنْ كَانَ حَدَثًا. [تَأْوِيلُ كَلَامِ الرَّامَهُرْمُزِيِّ مِنَ ابْنِ الصَّلَاحِ]: (وَ) لَكِنِ (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ قَدْ حَمَلَ كَلَامَ ابْنِ خَلَّادٍ عَلَى مَحْمَلٍ صَحِيحٍ، حَيْثُ (بِغَيْرِ الْبَارِعِ) فِي الْعِلْمِ (خَصَّصَ) تَحْدِيدَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلَّادٍ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ فِيمَنْ يَتَصَدَّى لِلتَّحْدِيثِ ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ بَرَاعَةٍ فِي الْعِلْمِ تَعَجَّلَتْ لَهُ قَبْلَ السِّنِّ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَهَذَا إِنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ السِّنِّ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى مَا عِنْدَهُ، (لَا كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِي) وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرَهُمْ عِيَاضٌ مِمَّنْ حَدَّثَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ لِبَرَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ تَقَدَّمَتْ ظَهَرَ لَهُمْ مَعَهَا الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِمْ، فَحَدَّثُوا قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ سُئِلُوا ذَلِكَ، إِمَّا بِصَرِيحِ السُّؤَالِ، وَإِمَّا بِقَرِينَةِ الْحَالِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْخَطِيبِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّى صَاحِبُ الْحَدِيثِ لِلرِّوَايَةِ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ فِي السِّنِّ، وَأَمَّا فِي الْحَدَاثَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ. ثُمَّ سَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ أَنَّهُ قَالَ: جَهْلُ الشَّبَابِ مَعْذُورٌ، وَعِلْمُهُ مَحْقُورٌ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ خَالِدًا يُحَدِّثُ، فَقَالَ: عَجِلَ خَالِدٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَوَقْتُ التَّحْدِيثِ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَاجَةِ أَوْ سِنٍّ مَخْصُوصٍ، وَهَلْ لَهُ أَمَدٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا، فَقَالَ عِيَاضٌ وَابْنُ الصَّلَاحِ: (وَيَنْبَغِي) لَهُ، أَيِ: اسْتِحْبَابًا (الْإِمْسَاكُ) عَنِ التَّحْدِيثِ، (إِذْ) أَيْ: حَيْثُ (يُخْشَى الْهَرَمْ) النَّاشِئُ عَنْهُ غَالِبًا التَّغَيُّرُ، وَخَوْفُ الْخَرَفِ وَالتَّخْلِيطِ بِحَيْثُ يَرْوِي مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَالنَّاسُ فِي السِّنِّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْهَرَمُ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ. يَعْنِي: فَلَا ضَابِطَ حِينَئِذٍ لَهُ. (وَ) لَكِنْ (بِالثَّمَانِينَ) أَبُو مُحَمَّدِ (ابْنُ خَلَّادٍ) الرَّامَهُرْمُزِيُّ أَيْضًا (جَزَمْ) حَيْثُ حَدَّهُ بِهَا، وَعِبَارَتُهُ: فَإِذَا تَنَاهَى الْعُمُرُ بِالْمُحَدِّثِ فَأَعْجَبُ إِلَى أَنْ يُمْسِكَ فِي الثَّمَانِينَ، فَإِنَّهُ حَدُّ الْهَرَمِ. قَالَ: وَالتَّسْبِيحُ وَالذِّكْرُ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَوْلَى بِأَبْنَاءِ الثَّمَانِينَ. قَالَ: (فَإِنْ يَكُنْ ثَابِتَ عَقْلٍ) مُجْتَمِعَ رَأْيٍ، يَعْرِفُ حَدِيثَهُ وَيَقُومُ بِهِ، وَتَحَرَّى أَنْ يُحَدِّثَ احْتِسَابًا، (لَمْ يُبَلْ) أَيْ لَمْ يُبَالَ بِذَلِكَ، بَلْ رَجَوْتُ لَهُ خَيْرًا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا، أَيِ التَّقْيِيدُ بِالسِّنِّ، عِنْدَمَا تَظْهَرُ مِنْهُ أَمَارَةُ الِاخْتِلَالِ، وَيُخَافُ مِنْهَا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ الِامْتِنَاعُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ النَّاسُ إِلَى رِوَايَتِهِ. يَعْنِي كَمَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (كَأَنَسٍ) هُوَ ابْنُ مَالِكٍ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، حَيْثُ حَدَّثَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِائَةِ. وَلِجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَمِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَاللَّيْثِ، (وَمَالِكٍ) هُوَ ابْنُ أَنَسٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، (وَمَنْ فَعَلَ) ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ هَذِهِ الطِّبَاقِ وَبَعْدَهَا، وَمِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ. (وَ) أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (الْبَغَوِيُّ)، (وَ) أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ (الْهُجَيْمِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَةً لِهُجَيْمِ بْنِ عَمْرٍو، (وَفِئَهْ) أَيْ جَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ (كَـ) الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (الطَّبَرِيِّ)، وَالْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ كُلُّهُمْ (حَدَّثُوا بَعْدَ الْمِائَهْ). وَاخْتَصَّ الْهُجَيْمِيُّ عَمَّنْ ذُكِرَ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ بِأَنَّهُ كَانَ آلَى أَلَّا يُحَدِّثَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ قَدْ تَعَمَّمَ وَرَدَّ عَلَى رَأْسِهِ مِائَةً وَثَلَاثَ دَوَرَاتٍ، فَعُبِّرَ لَهُ أَنْ يَعِيشَ سِنِينَ بِعَدَدِهَا فَكَانَ كَذَلِكَ. وَمِمَّنْ قَارَبَ الْمِائَةَ مِنْ شُيُوخِنَا وَهُوَ عَلَى جَلَالَتِهِ فِي قُوَّةِ الْحَافِظَةِ وَالِاسْتِحْضَارِ، الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ بْنُ الدِّيرِيِّ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، بَلْ سَاعَدَهُمُ التَّوْفِيقُ، وَصَحِبَتْهُمُ السَّلَامَةُ، وَظَهَرَ بِذَلِكَ مِصْدَاقُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَخْرَفُ الْكَذَّابُونَ. يَعْنِي غَالِبًا، حَتَّى إِنَّ الْقَارِئَ قَرَأَ يَوْمًا عَلَى الْهُجَيْمِيِّ بَعْدَ أَنْ جَاوَزَ الْمِائَةَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحُمَّى أَصَابَتْ أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا أَوْ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، وَكَانُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ؟ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ *** إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ كُلُّ امْرِئٍ مُجَاهِدٌ بِطَوْقِهِ *** كَالثَّوْرِ يَحْمِي جِسْمَهُ بِرَوْقِهِ فَقَالَ: كَالْكَلْبِ. بَدَلَ قَوْلِهِ: كَالثَّوْرِ. وَرَامَ اخْتِبَارَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْهُجَيْمِيُّ: قُلْ: كَالثَّوْرِ. يَا ثَوْرُ، فَإِنَّ الْكَلْبَ لَا رَوْقَ لَهُ، إِذِ الرَّوْقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ ثُمَّ السُّكُونِ الْقَرْنُ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِصِحَّةِ عَقْلِهِ وَجَوْدَةِ حِسِّهِ. قَالَ عِيَاضٌ: وَإِنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ لِأَصْحَابِ الثَّمَانِينَ التَّحْدِيثَ لِكَوْنِ الْغَالِبِ عَلَى مَنْ يَبْلُغُ هَذَا السِّنَّ اخْتِلَالَ الْجِسْمِ وَالذِّكْرِ، وَضَعْفَ الْحَالِ وَتَغَيُّرَ الْفَهْمِ وَحُلُولَ الْخَرَفِ، فَخِيفَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ التَّغَيُّرُ وَالِاخْتِلَالُ فَلَا يُفْطَنَ لَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ جَازَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ فَقَالَ: مَنْ بَلَغَ الثَّمَانِينَ ضَعُفَ حَالُهُ فِي الْغَالِبِ، وَخِيفَ عَلَيْهِ الِاخْتِلَالُ وَالْإِخْلَالُ، وَأَلَّا يُفْطَنَ لَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلِطَ، كَمَا اتَّفَقَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ. عَلَى أَنَّ الْعِمَادَ ابْنَ كَثِيرٍ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ اعْتِمَادُهُ فِي حَدِيثِهِ عَلَى حِفْظِهِ وَضَبْطِهِ. فَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنَ اخْتِلَاطِهِ إِذَا طَعَنَ فِي السِّنِّ، أَوْ لَا، بَلِ الِاعْتِمَادُ عَلَى كِتَابِهِ أَوِ الضَّابِطِ الْمُفِيدِ عَنْهُ، فَهَذَا كُلَّمَا تَقَدَّمَ فِي السِّنِّ كَانَ النَّاسُ أَرْغَبَ فِي السَّمَاعِ، مِنْهُ كَالْحَجَّارِ، فَإِنَّهُ جَازَ الْمِائَةَ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ (الْبُخَارِيَّ) عَلَى ابْنِ الزُّبَيْدِيِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَسْمَعَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَكَانَ عَامِّيًّا لَا يَضْبِطُ شَيْئًا، وَلَا يَتَعَقَّلُ كَثِيرًا، وَمَعَ هَذَا تَدَاعَى الْأَئِمَّةُ وَالْحُفَّاظُ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ إِلَى السَّمَاعِ مِنْهُ، لِأَجْلِ تَفَرُّدِهِ، بِحَيْثُ سَمِعَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. قُلْتُ: وَقَدْ أَفْرَدَ الذَّهَبِيُّ كُرَّاسَةً أَوْرَدَ فِيهَا عَلَى السِّنِينِ مَنْ جَازَ الْمِائَةَ، وَكَذَا جَمَعَ شَيْخُنَا كِتَابًا فِي ذَلِكَ عَلَى الْحُرُوفِ، وَلَكِنْ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، بَلْ وَمَا أَظُنُّهُ بُيِّضَ. وَيُوجَدُ فِيهِمَا جُمْلَةٌ مِنْ أَمْثِلَةِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ ابْنِ النَّقَّاشِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَوْقَ مِائَةِ سَنَةٍ، مُتَمَسِّكًا بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي (الصَّحِيحِ): (مَا عَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةٌ سَنَةٍ) حَسْبَمَا سَمِعَهُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ مِنَ النَّاظِمِ عَنْهُ. (وَ) كَذَا (يَنْبَغِي) اسْتِحْبَابًا (إِمْسَاكُ الَاعْمَى) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، سَوَاءٌ الْقَدِيمُ عَمَاهُ أَوِ الْحَادِثُ، عَنِ الرِّوَايَةِ، (إِنْ يُخَفْ) أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ حَافِظٍ، بَلْ وَلَوْ كَانَ حَافِظًا، كَمَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ حَسْبَمَا قَدَّمْتُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَأَدَائِهِ مَعَ الْإِمْعَانِ فِيهِ وَفِي الْأُمِّيِّ، مَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ. وَيَنْبَغِي اسْتِحْبَابًا أَيْضًا حَيْثُ بَانَ الْحَضُّ عَلَى نَشْرِ الْحَدِيثِ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَيْهَا أَلَّا تَحْمِلَهُ الرَّغْبَةُ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ مُصِيبَةٌ يُبْتَلَى بِهَا بَعْضُ الشُّيُوخِ، وَهِيَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى إِخْفَاءِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مِنَ الرُّوَاةِ مِمَّنْ لَا يُوَازِيهِ.
(وَأَنَّ مَنْ سِيلَ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ لِلضَّرُورَةِ، أَنْ يُحَدِّثَ (بِجُزْءٍ) أَوْ كِتَابٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، (قَدْ عَرَفْ رُجْحَانَ رَاوٍ) مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ بِبَلَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا، (فِيهِ) إِمَّا لِكَوْنِهِ أَعْلَى أَوْ مُتَّصِلَ السَّمَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ التَّرْجِيحَاتِ، وَلَوْ بِالْعِلْمِ وَالضَّبْطِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْخُهُ فِيهِ حَيًّا، (دَلَّ) السَّائِلَ لَهُ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ عَنْهُ، أَوْ يَسْتَدْعِيَ مِنْهُ الْإِجَازَةَ إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، وَلَمْ تُمْكِّنْهُ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ. (فَهْوَ) أَيِ التَّنْبِيهُ بِالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ (حَقْ) وَنَصِيحَةٌ فِي الْعِلْمِ، لِكَوْنِ الرَّاجِحِ بِهِ أَحَقَّ، وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ. قَالَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْمَسْحِ، يَعْنِي عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتِ: ائْتِ عَلِيًّا، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: جَلَسْتُ إِلَى ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ فَقَالَ لِي: أَرَاكَ تُحِبُّ الْعِلْمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَعَلَيْكَ بِذَاكَ الشَّيْخِ، يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ. قَالَ: فَلَزِمْتُ سَعِيدًا سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى عُرْوَةَ فَتَفَجَّرْتُ مِنْهُ بَحْرًا. وَقَالَ حَمْدَانُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ: ذَهَبْنَا إِلَى أَحْمَدَ فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُحَدِّثَنَا، فَقَالَ: تَسْمَعُونَ مِنِّي وَمِثْلُ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْحَيَاةِ. أَخْرَجَهُمَا الْخَطِيبُ، وَنَحْوُهُ مَا عِنْدَهُ فِي (الرِّحْلَةِ) لَهُ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عَمَّنْ تَرَى أَنْ يُكْتَبَ الْحَدِيثُ؟ فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ فَإِنَّهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ. فِي آخَرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ فَإِنَّهُ دَلَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمَكِّيِّينَ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ الْمَدَنِيِّ حِينَ قَدِمَهَا عَلَيْهِمْ، كَمَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ فِي الْحَجِّ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) هَذَا بَعْدَ لَقْيِ عَمْرٍو لِصَالِحٍ وَأَخْذِهِ عَنْهُ مَعَ كَوْنِ عَمْرٍو أَقْدَمَ مِنْهُ. وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ يُحِيلُ غَالِبًا مَنْ يَسْأَلُ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عَلَى الزَّيْنِ الزَّرْكَشِيِّ، وَقَالَ مَرَّةً لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: إِذَا سَمِعْتَ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، وَعَلَى فُلَانٍ كَذَا، وَعَلَى فُلَانٍ كَذَا، كُنْتَ مُسَاوِيًا لِي فِيهَا فِي الْعَدَدِ. بَلْ كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا أَخَصَّ مِنْ هَذَا؛ حَيْثُ يُحْضِرُ مَنْ يَعْلَمُ انْفِرَادَهُ مِنَ الْمُسْمَعِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَوَالِي مَجْلِسَهُ لِأَجْلِ سَمَاعِ الطَّلَبَةِ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ لَهُ، وَرُبَّمَا قَرَأَ لَهُمْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَفَعَلَ الْوَلِيُّ ابْنُ النَّاظِمِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ خَصَّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِيمَا عَدَا الصِّفَةَ الْمُرَجِّحَةَ، أَمَّا مَعَ التَّفَاوُتِ، بِأَنْ يَكُونَ الْأَعْلَى عَامِّيًّا لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالصَّنْعَةِ، وَالْأَنْزَلُ عَارِفًا ضَابِطًا، فَهَذَا يُتَوَقَّفُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِرْشَادِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ هَذَا الْعَامِّيِّ مَا يُوجِبُ خَلَلًا. انْتَهَى. فَإِنْ أَحْضَرَهُ الْعَالِمُ إِلَى مَجْلِسِهِ كَمَا فَعَلَ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ، أَوْ أَكْرَمَهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الْقَارِئُ أَوْ بَعْضُ السَّامِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْفَنِّ، فَلَا نِزَاعَ حِينَئِذٍ فِي اسْتِحْبَابِ الْإِعْلَامِ. (وَ) كَذَا يَنْبَغِي اسْتِحْبَابًا (تَرْكُ تَحْدِيثٍ بِحَضْرَةِ الْأَحَقْ) وَالْأَوْلَى مِنْهُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ كَانَ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الشَّعْبِيِّ لَا يَتَكَلَّمُ إِبْرَاهِيمُ بِشَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَا. (وَبَعْضُهُمْ كَرِهَ الْأَخْذَ) بِالنَّقْلِ، (عَنْهُ بِبَلَدٍ وَفِيهِ) مَنْ هُوَ لِسِنِّهِ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ ضَبْطِهِ أَوْ إِسْنَادِهِ، (أَوْلَى مِنْهُ) لِحَدِيثِ سَمُرَةَ: (لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ وَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَاهُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي). وَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: كَانَ زِرٌّ أَكْبَرَ مِنْ أَبِي وَائِلٍ، فَكَانَا إِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يُحَدِّثْ أَبُو وَائِلٍ مَعَ زِرٍّ. وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُحَدِّثُنَا، فَإِذَا طَلَعَ رَبِيعَةُ قَطَعَ يَحْيَى حَدِيثَهُ إِجْلَالًا لَهُ وَإِعْظَامًا. وَعَنْ حُسَيْنِ بْنِ الْوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيِّ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ الْمُكَبَّرُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ فَقَالَ: أَمَا أَبُو عُثْمَانَ- يَعْنِي أَخَاهُ عُبَيْدَ اللَّهِ الْمُصَغَّرَ- حَيٌّ فَلَا. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ: مَا لَكَ لَا تُحَدِّثُ؟ فَقَالَ: أَمَّا وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّاظِمِ لَمَّا سُئِلَ أَنْ يُحَدِّثَ بِـ(مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ): أَمَّا وَالشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ التَّنُوخِيُّ حَيٌّ فَلَا. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمُعَيْطِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ بِمَكَّةَ، وَأَتَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَبَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي مَا دَامَ هَذَا الشَّيْخُ- يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ- قَاعِدًا. وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَلَّالِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ مُعْتَمِرٍ وَهُوَ يُحَدِّثُنَا إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، فَقَطَعَ مُعْتَمِرٌ حَدِيثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا. فَقَالَ: إِنَّا لَا نَتَكَلَّمُ عِنْدَ كُبَرَائِنَا. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّحْدِيثِ مِنْهُ أَحْمَقُ، وَأَنَا إِذَا حَدَّثْتُ فِي بَلَدٍ فِيهِ مِثْلُ أَبِي مُسْهِرٍ- يَعْنِي الَّذِي كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ- فَيَجِبُ لِلِحْيَتِي أَنْ تُحْلَقَ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: وَأَنَا إِذَا حَدَّثْتُ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا مِثْلُ أَبِي الْوَلِيدِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ- يَعْنِي الَّذِي كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ- فَيَجِبُ لِلِحْيَتِي أَنْ تُحْلَقَ. وَعَنِ السِّلَفِيِّ قَالَ: كَتَبْتُ بِالْإِسْنَادِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَدَّثَ فِي بَلْدَةٍ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالرِّوَايَةِ مِنْهُ فَهُوَ مُخْتَلٌّ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَوَيَّةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فِي الْإِسْنَادِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ فِي الْكَرَاهَةِ الْجُلُوسُ لِلْإِفْتَاءِ أَوْ لِإِقْرَاءِ عِلْمٍ بِبَلَدٍ فِيهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ؟ الظَّاهِرُ لَا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْجِيرِ وَالتَّضْيِيقِ الَّذِي النَّاسُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ عَلَى خِلَافِهِ. حَتَّى إِنَّ الْعِزَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَمَاعَةَ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ الْمُحِبِّ نَاظِرِ الْجَيْشِ أَنَّهُ شَاهَدَ بِمِصْرَ قَبْلَ الْفَنَاءِ الْكَبِيرِ مِائَةَ حَلْقَةٍ فِي النَّحْوِ، سِتِّينَ مِنْهَا بِجَامِعِ عَمْرٍو، وَبَاقِيَهَا بِجَامِعِ الْحَاكِمِ. وَقَدْ عَقَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَابًا لِفَتْوَى الصَّغِيرِ بَيْنَ يَدَيِ الْكَبِيرِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّلَبَةَ تَتَفَاوَتُ أَفْهَامُهُمْ، فَالْقَاصِرُ لَا يَفْهَمُ عِبَارَةَ الْأَوْلَى وَيَفْهَمُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ عَالَمٍ رَبَّانِيًّا، وَالسَّمَاعُ إِنَّمَا يُرْغَبُ فِيهِ لِلْأَعْلَى وَالْأَوْلَى، فَبُولِغَ فِي الِاعْتِنَاءِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى جَانِبِ الرِّوَايَةِ. عَلَى أَنَّ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ قَالَ: هَكَذَا قَالُوا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِأَلَّا يُعَارِضَ هَذَا الْأَدَبُ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَيْهِ. يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
(وَلَا تَقُمْ) اسْتِحْبَابًا إِذَا كُنْتَ فِي مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّحْدِيثُ بِلَفْظِكَ أَوْ بِقِرَاءَةِ غَيْرِكَ، وَلَا الْقَارِئُ أَيْضًا (لِأَحَدٍ) إِكْرَامًا لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ بِقِيَامٍ. فَقَدْ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو زَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ فِي “ جُزْءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْخِرَقِيِّ “: إِذَا قَامَ الْقَارِئُ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. هَذَا إِذَا لَمْ يَنْضَمَّ لِذَلِكَ مَحَبَّةُ مَنْ يُقَامُ لَهُ لِذَلِكَ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَآكَدُ، بَلْ هُوَ حَرَامٌ لِلتَّرْهِيبِ عَنْهُ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَذَّلِ وَغَيْرُهُ بِدَارِ الْمُتَوَكِّلِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْمُتَوَكِّلُ فَلَمْ يَقُمْ لَهُ أَحْمَدُ خَاصَّةً، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَزِيرَهُ فَاعْتَذَرَ عَنْهُ بِسُوءِ بَصَرِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ذَلِكَ. وَقَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ: إِنَّمَا نَزَّهْتُكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَسَاقَ لَهُ حَدِيثَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). فَجَاءَ الْمُتَوَكِّلُ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ.
وَكَذَا لَا تَخُصَّ أَحَدًا بِمَجْلِسٍ، بَلْ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَا تُقِمْ أَحَدًا لِأَجْلِ أَحَدٍ، لِحَدِيثِ: (لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَوَسَّعُوا). (لَا تُجْلِسْهُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا). وَدَخَلَ الْحَيْصُ بَيْصُ الشَّاعِرُ عَلَى الشَّرِيفِ عَلِيِّ بْنِ طَرَّادٍ الْوَزِيرِ فَقَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ بْنُ طَرَّادٍ، يَا رَفِيعَ الْعِمَادِ، يَا خَالِدَ الْأَجْوَادِ، انْقَضَى الْمَجْلِسُ فَأَيْنَ أَجْلِسُ؟ فَقَالَ الْوَزِيرُ: مَكَانَكَ. فَقَالَ: أَعَلَى قَدْرِي أَمْ عَلَى قَدْرِكَ؟ فَقَالَ: لَا عَلَى قَدْرِي وَلَا عَلَى قَدْرِكَ، وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ الْوَقْتِ. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ إِكْرَامَهُ الْمَشَايِخَ وَالْعُلَمَاءَ وَذَوِي الْأَنْسَابِ، لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ كُلٍّ مَنْزِلَتَهُ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: كُنَّا نَجْلِسُ إِلَى رَبِيعَةَ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا أَتَى ذُو السِّنِّ وَالْفَضْلِ قَالُوا لَهُ: هَهُنَا. حَتَّى يَجْلِسَ قَرِيبًا مِنْهُمْ. قَالَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ رُبَّمَا أَتَاهُ الرَّجُلُ لَيْسَ لَهُ ذَاكَ السِّنَّ، فَيَقُولُ لَهُ: هَهُنَا. وَلَا يَرْضَى حَتَّى يُجْلِسَهُ إِلَى جَنْبِهِ، كَأَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ لِفَضْلِهِ عِنْدَهُ. وَلَا تُقَدِّمْ أَحَدًا فِي غَيْرِ نَوْبَتِهِ، بَلْ تَأَسَّ بِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَيْثُ حَضَرَ إِلَيْهِ الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَهُوَ ابْنُ الْوَزِيرِ، وَقَدْ سَبَقَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ الطَّبَرِيُّ لِلرَّجُلِ: أَلَا تَقْرَأُ؟ فَأَشَارَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ الْوَزِيرِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبَرِيُّ: إِذَا كَانَتِ النَّوْبَةُ لَكَ، فَلَا تَكْتَرِثْ بِدِجْلَةَ وَلَا الْفُرَاتِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا- مِنْ لَطَائِفِ ابْنِ جَرِيرٍ وَبَلَاغَتِهِ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِ لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا. (وَ) كَذَا لَا تَخُصَّ وَاحِدًا بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، بَلْ (أَقْبِلِ عَلَيْهِمِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، جَمِيعًا إِذَا أَمْكَنَ، فَذَاكَ مُسْتَحَبٌّ؛ لِقَوْلِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ: كَانُوا يُحِبُّونَ إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ أَلَّا يُقْبِلَ عَلَى الْوَاحِدِ فَقَطْ، وَلَكِنْ لِيَعُمَّهُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ. وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَلَّا تَخُصَّ أَحَدًا بِالتَّحْدِيثِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَرَفَّعُ عَنِ الْجُلُوسِ مَعَ مَنْ يَرَاهُ دُونَهُ، فَضْلًا عَنْ مَجِيئِكَ إِلَيْهِ، وَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيَّ أَنْ يُحَدِّثَ ابْنَهُ فَقَالَ: إِذَا جَاءَ مَعَ الْجَمَاعَةِ حَدَّثْنَاهُ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ جِهَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيِّ عَنْهُ: الْعِلْمُ مِنْ شَرْطِهِ لِمَنْ خَدَمَهْ *** أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ خَدَمَهْ وَوَاجِبٌ صَوْنُهُ عَلَيْهِ كَمَا *** يَصُونُ فِي النَّاسِ عِرْضَهُ وَدَمَهْ وَلَا تَجْلِسْ فِي الظِّلِّ وَهُمْ فِي الشَّمْسِ، وَاخْفِضْ صَوْتَكَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَجْلِسِ سَيِّئُ السَّمْعِ.
(وَلِلْحَدِيثِ رَتِّلِ) اسْتِحْبَابًا إِنْ لَمْ يُخَفْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا تَسْرُدْهُ سَرْدًا، أَيْ لَا تُتَابِعِ الْحَدِيثَ اسْتِعْجَالًا، بَعْضَهُ إِثْرَ بَعْضٍ؛ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ أَوْ يَمْنَعَ السَّامِعَ مِنْ إِدْرَاكِ بَعْضِهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: (لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدَكُمْ). زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: (إِنَّمَا كَانَ حَدِيثُهُ فَهْمًا تَفْهَمُهُ الْقُلُوبُ). وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ مِمَّا قَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ: (وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ). وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَسْرُدُونَ الْحَدِيثَ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ بَعْضُهُ، بَلِ اعْتُذِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ، بِأَنَّهُ كَانَ لِكَوْنِهِ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ، لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَهْلِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتَصِرَ فَتَزَاحَمُ الْقَوَافِي عَلَى فِيِّ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ، فَإِذَا خَفِيَ الْبَعْضُ فَأَوْلَى أَنْ يُنْكَرَ، وَلِذَا قِيلَ كَمَا سَلَفَ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ: (شَرُّ الْقِرَاءَةِ الْهَذْرَمَةُ). وَقَدْ قَالَ النَّحَّاسُ فِي (صِنَاعَةِ الْكِتَابِ): قَوْلُهُمْ: سَرَدَ الْكَاتِبُ قِرَاءَتَهُ. مَعْنَاهُ: أَحْكَمَهَا. مُشْتَقٌّ مِنْ سَرَدَ الدِّرْعَ إِذَا أَحْكَمَهَا، وَجَعَلَ حِلَقَهَا وَلَاءً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَحْسَنَ صَنْعَةَ الْمَسَامِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرَّاءَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ، بَلْ وَحَكَاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، أَيْضًا قَدْ تَسَامَحُوا فِي ذَلِكَ، وَصَارَ الْقَارِئُ يَسْتَعْجِلُ اسْتِعْجَالًا يَمْنَعُ السَّامِعَ مِنْ إِدْرَاكِ حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ بَلْ كَلِمَاتٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي خَامِسِ الْفُرُوعِ التَّالِيَةِ لِثَانِي أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ. وَلَا تُطِلِ الْمَجْلِسَ، بَلِ اجْعَلْهُ مُتَوَسِّطًا، وَاقْتَصِدْ فِيهِ حَذَرًا مِنْ سَآمَةِ السَّامِعِ وَمَلَلِهِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى فُتُورِهِ عَنِ الطَّلَبِ وَكَسَلِهِ، إِلَّا إِنْ عَلِمْتَ أَنَّ الْحَاضِرِينَ لَا يَتَبَرَّمُونَ بِطُولِهِ، فَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِذَا طَالَ الْمَجْلِسُ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَنْ أَطَالَ الْحَدِيثَ وَأَكْثَرَ الْقَوْلَ، فَقَدْ عَرَّضَ أَصْحَابَهُ لِلْمَلَالِ وَسُوءِ الِاسْتِمَاعِ، وَلَأَنْ يَدَعَ مِنْ حَدِيثِهِ فَضْلَةً يُعَادُ إِلَيْهَا، أَصْلَحُ مِنْ أَنْ يَفْضُلَ عَنْهُ مَا يَلْزَمُ الطَّالِبَ اسْتِمَاعُهُ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ فِيهِ وَلَا نَشَاطٍ لَهُ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: قَلِيلُ الْمَوْعَظَةِ مَعَ نَشَاطِ الْمُوعَظِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ وَافَقَ مِنَ الْأَسْمَاعِ نَبْوَةً، وَمِنَ الْقَلْبِ مَلَالَةً. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ كَلَامٍ كَثُرَ عَلَى السَّمْعِ وَلَمْ يُطَاوِعْهُ الْفَهْمُ، ازْدَادَ بِهِ الْقَلْبُ عَمًى، وَإِنَّمَا يَقَعُ السَّمْعُ فِي الْآذَانِ إِذَا قَوِيَ فَهْمُ الْقَلْبِ فِي الْأَبْدَانِ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مَزِيدٍ الْبَيْرُوتِيُّ: الْمُسْتَمِعُ أَسْرَعُ مَلَالَةً مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، وَصَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمَهُ وَإِنُ قَلَّ).
(وَاحْمَدْ) اللَّهَ تَعَالَى (وَصَلِّ) عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَعْ سَلَامٍ) عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْكَرَاهَةِ الَّتِي صَرَّحَ بِهَا النَّوَوِيُّ فِي إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا، حَسْبَمَا قَدَّمْتُهُ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ فِي مُهِمَّاتٍ تُسْتَحْضَرُ هُنَا. (وَ) كَذَا مَعَ (دُعَا) يَلِيقُ بِالْحَالِ (فِي بَدْءِ) كُلِّ (مَجْلِسٍ وَ) فِي (خَتْمِهِ مَعَا) سِرًّا وَجَهْرًا، فَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، إِذْ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ. زَادَ بَعْضُهُمْ: وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَةِ قَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. وَمِنْ أَبْلَغِ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، كُلَّمَا ذَكَرَكَ الذَّاكِرُونَ، وَكُلَّمَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ الْغَافِلُونَ، وَصَلِّ عَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلَيْنَ، وَآلِ كُلٍّ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ، نِهَايَةَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ السَّائِلُونَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَسْتَعِيذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَسْتَعِيذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَسْتَعِيذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ. وَخُصَّ الْخَتْمَ بِقَوْلِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا. اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتِنَا، وَاجْعَلْ ذَلِكَ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ. قَدْ نُوزِعَ فِيهِ، فَاقْتَصِرْ عَلَى هَذَا.
699- وَاعْقِدْ لِلِامْلَا مَجْلِسًا فَذَاكَ مِنْ *** أَرْفَعِ الِاسْمَاعِ وَالْأَخْذِ ثُمَّ إِنْ 700- تَكْثُرْ جُمُوعٌ فَاتَّخِذْ مُسْتَمْلِيَا *** مُحَصِّلًا ذَا يَقْظَةٍ مُسْتَوِيَا 701- بِعَالٍ أَوْ فَقَائِمًا يَتْبَعُ مَا *** يَسْمَعُهُ مُبَلِّغًا أَوْ مُفْهِمَا 702- وَاسْتَحْسَنُوا الْبَدْءَ بِقَارِئٍ تَلَا *** وَبَعْدَهُ اسْتَنْصَتَ ثُمَّ بَسْمَلَا 703- فَالْحَمْدُ فَالصَّلَاةُ ثُمَّ أَقْبَلْ *** يَقُولُ مَنْ أَوْ مَا ذَكَرْتَ وَابْتَهَلْ 704- لَهُ وَصَلَّى وَتَرَضَّى رَافِعَا *** وَالشَّيْخُ تَرْجَمَ الشُّيُوخَ وَدَعَا 705- وَذِكْرُ مَعْرُوفٍ بِشَيْءٍ مِنْ لَقَبْ *** كَغُنْدَرٍ أَوْ وَصْفِ نَقْصٍ أَوْ نَسَبْ 706- لِأُمِّهِ فَجَائِزٌ مَا لَمْ يَكُنْ *** يَكْرَهُهُ كَابْنِ عُلَيَّةٍ فَصُنْ 707- وَارْوِ فِي الْإِمْلَا عَنْ شُيُوخٍ قَدِّمِ *** أَوْلَاهُمُ وَانْتَقِهِ وَأَفْهِمِ 708- مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ وَلَا تَزِدْ *** عَنْ كُلِّ شَيْخٍ فَوْقَ مَتْنٍ وَاعْتَمِدْ 709- عَالِيَ إِسْنَادٍ قَصِيرَ مَتْنِ *** وَاجْتَنِبِ الْمُشْكِلَ خَوْفَ الْفَتْنِ 710- وَاسْتُحْسِنَ الْإِنْشَادُ فِي الْأَوَاخِرِ *** بَعْدَ الْحِكَايَاتِ مَعَ النَّوَادِرِ 711- وَإِنْ يُخَرِّجْ لِلرُّوَاةِ مُتْقِنُ *** مَجَالِسَ الْإِمْلَاءِ فَهْوَ حَسَنُ 712- وَلَيْسَ بِالْإِمْلَاءِ حِينَ يَكْمُلُ *** غِنًى عَنِ الْعَرْضِ لِزَيْغٍ يَحْصُلُ (وَاعْقِدْ) إِنْ كُنْتَ مُحَدِّثًا عَارِفًا (لِلِامْلَا) بِالنَّقْلِ وَبِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ، فِي الْحَدِيثِ (مَجْلِسًا) مِنْ كِتَابِكَ أَوْ حِفْظِكَ، وَالْحِفْظُ أَشْرَفُ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي التَّحْدِيثِ مِنَ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ. (فَذَاكَ) أَيِ: الْإِمْلَاءُ (مِنْ أَرْفَعِ) وُجُوهِ (الِاسْمَاعِ) بِالنَّقْلِ أَيْضًا، مِنَ الْمُحَدِّثِ، (وَالْأَخْذِ) أَيِ: التَّحَمُّلِ لِلطَّالِبِ، بَلْ هُوَ أَرْفَعُهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَا بَيَّنْتُهُ مَعَ تَعْلِيلِهِ فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ السِّلَفِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ: وَاظِبْ عَلَى كَتْبِ الْأَمَالِيَ جَاهِدًا *** مِنْ أَلْسُنِ الْحُفَّاظِ وَالْفُضَلَاءِ فَأَجَلُّ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ بِأَسْرِهَا *** مَا يَكْتُبُ الْإِنْسَانُ فِي الْإِمْلَاءِ قَالَ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ): إِنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الرَّاوِينَ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَذَاهِبِ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ خِصَالِ الدِّينِ وَالِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ. انْتَهَى. وَمِنْ فَوَائِدِهِ اعْتِنَاءُ الرَّاوِي بِطُرُقِ الْحَدِيثِ وَشَوَاهِدِهِ وَمُتَابِعِهِ وَعَاضِدِهِ بِحَيْثُ بِهَا يَتَقَوَّى، وَيُثْبِتُ لِأَجْلِهَا حُكْمَهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا يَتَرَوَّى، وَيُرَتِّبُ عَلَيْهَا إِظْهَارَ الْخَفِيِّ مِنَ الْعِلَلِ، وَيُهَذِّبُ اللَّفْظَ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ. وَيَتَّضِحُ مَا لَعَلَّهُ يَكُونُ غَامِضًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَيُفْصِحُ بِتَعْيِينٍ مَا أُبْهِمَ أَوْ أُهْمِلَ أَوْ أُدْرِجَ، فَيَصِيرُ مِنَ الْجَلَيِّاتِ، وَحِرْصُهُ عَلَى ضَبْطِ غَرِيبِ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ، وَفَحْصُهُ عَنِ الْمَعَانِي الَّتِي فِيهَا نَشَاطُ النَّفْسِ بِأَتَمَّ مُسْتَنَدٍ، وَبَعُدَ السَّمَاعُ فِيهَا عَنِ الْخَطَأِ وَالتَّصْحِيفِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يَعْرَى عَنْهُ لَبِيبٌ أَوْ حَصِيفٌ. وَزِيَادَةُ التَّفَهُّمِ وَالتَّفْهِيمِ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَجْلِ تَكَرُّرِ الْمُرَاجَعَةِ فِي تَضَاعِيفِ الْإِمْلَاءِ وَالْكِتَابَةِ وَالْمُقَابَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ، وَحَوْزُ فَضِيلَتَيِ التَّبْلِيغِ وَالْكِتَابَةِ، وَالْفَوْزُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَطَابَةِ، كَمَا قَرَّرَهُ الرَّافِعِيُّ وَبَيَّنَهُ وَنَشَرَهُ وَعَيَّنَهُ. يُقَالُ: أَمْلَيْتُ الْكِتَابَ إِمْلَاءً وَأَمْلَلْتُ إِمْلَالًا. جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِمَا جَمِيعًا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} فَهَذَا مِنْ “ أَمَلَّ “، وَقَالَ تَعَالَى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} فَهَذَا مِنْ “ أَمْلَى “. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللُّغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ “ أَمْلَيْتُ “ أَمْلَلْتُ، فَاسْتُثْقِلَ الْجَمْعُ بَيْنَ حَرْفَيْنِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَأَبْدَلُوا مِنْ أَحَدِهِمَا يَاءً كَمَا قَالُوا: تَظَنَّنْتُ. يَعْنِي: حَيْثُ أَبْدَلُوا مِنْ إِحْدَى النُّونَيْنِ يَاءً فَقَالُوا: التَّظَنِّي. وَهُوَ إِعْمَالُ الظَّنِّ، وَكَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَى اللَّهُ لَهُ. أَيْ أَطَالَ عُمْرَهُ. فَمَعْنَى: أَمْلَيْتُ الْكِتَابَ عَلَى فُلَانٍ: أَطَلْتُ قِرَاءَتِي عَلَيْهِ. قَالَهُ النَّحَّاسُ فِي (صِنَاعَةِ الْكِتَابِ) وَهُوَ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ. وَقَدْ أَمْلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتُبَ إِلَى الْمُلُوكِ وَفِي الْمُصَالَحَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمْلَى وَاثِلَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَمَا رَوَاهُ مَعْرُوفٌ الْخَيَّاطُ- الْأَحَادِيثَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَكْتُبُونَهَا عَنْهُ، وَمِمَّنْ أَمْلَى؛ شُعْبَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَهَمَّامٌ، وَوَكِيعٌ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، وَجَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ، وَالْهُجَيْمِيُّ، فِي خَلْقٍ يَطُولُ سَرْدُهُمْ، وَيَتَعَسَّرُ عَدُّهُمْ، مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ كَابْنِ بِشْرَانَ، وَالْخَطِيبِ، وَالسِّلَفِيِّ، وَابْنِ عَسَاكِرَ، وَالرَّافِعِيِّ، وَابْنِ الصَّلَاحِ، وَالْمِزِّيِّ، وَالنَّاظِمِ. وَكَانَ الْإِمْلَاءُ انْقَطَعَ قَبْلَهُ دَهْرًا، وَحَاوَلَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ، ثُمَّ وَلَدُهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ، عَلَى إِحْيَائِهِ، فَكَانَ يَتَعَلَّلُ بِرَغْبَةِ النَّاسِ عَنْهُ، وَعَدَمِ مَوْقِعِهِ مِنْهُمْ، وَقِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، إِلَى أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَاتَّفَقَ شُرُوعُهُ فِيهِ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ عَقَدَهُ بِالْقَاهِرَةِ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ. وَكَذَا أَمْلَى يَسِيرًا فِي زَمَنِهِ السِّرِاجُ بْنُ الْمُلَقِّنِ، وَلَمْ يَرْتَضِ شَيْخُنَا صَنِيعَهُ فِيهِ، وَبَعْدَهُمَا الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ بِالْحَرَمَيْنِ وَعِدَّةِ مَدَارِسَ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَشَيْخُنَا بِالشَّامِ وَحَلَبَ وَمِصْرَ وَبِالْقَاهِرَةِ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ، وَاقْتَدَيْتُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بِإِشَارَةِ بَعْضِ مُحَقِّقِي شُيُوخِي، فَأَمْلَيْتُ بِمَكَّةَ وَبِعِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنَ الْقَاهِرَةِ، وَبَلَغَ عِدَّةُ مَا أَمْلَيْتُهُ مِنَ الْمَجَالِسِ إِلَى الْآنِ نَحْوَ السِّتِّمِائَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. وَاخْتَلَفَ صَنِيعُهُمْ فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لِذَلِكَ، وَكَذَا فِي تَعَدُّدِ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ، وَعَيَّنَ شَيْخُنَا لِذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَاصَّةً، وَقَبْلَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بَعْدَ صَلَاتِهَا، وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِشَرَفِهِمَا، فَقَدْ قَالَ كَعْبٌ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ الْأَيْامَ فَجَعَلَ مِنْهُنَّ الْجُمُعَةَ، وَالْبِقَاعَ فَجَعَلَ مِنْهُنَّ الْمَسَاجِدَ). وَقَالَ عَلِيٌّ: (الْمَسَاجِدُ مَجَالِسُ الْأَنْبِيَاءِ، وَحِرْزٌ مِنَ الشَّيْطَانِ). وَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ: (الْمَسَاجِدُ مَجَالِسُ الْكِرَامِ). وَيُرْوَى فِي الْمَرْفُوعِ: (الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ). وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَمْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِنَشْرِهِ فِي الْمَسَاجِدِ فَإِنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ قَدْ أُمِيتَتْ. وَاجْلِسْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ مُسْتَعْمِلًا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي نَفْسِكَ وَمَعَ أَصْحَابِكَ، وَعِنْدَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَفِي خِفَّةِ الْمَجْلِسِ، فَلَا فَرْقَ.
|