الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***
وَقُدِّمَ لِاشْتِرَاكِهِ مَعَ الصَّحِيحِ فِي الْحُجِّيَّةِ، وَالْحَسَنُ لَمَّا كَانَ بِالنَّظَرِ لِقِسْمَيْهِ الْآتِيَيْنِ تَتَجَاذَبُهُ الصِّحَّةُ وَالضَّعْفُ- اخْتَلَفَ تَعْبِيرُ الْأَئِمَّةِ فِي تَعْرِيفِهِ، [بِحَيْثُ أَفْرَدَ فِيهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي شُيُوخِ شُيُوخِنَا رِسَالَةً]، فَقِيلَ: هُوَ (الْمَعْرُوفُ مَخْرَجًا) أَيِ: الْمَعْرُوفُ مَخْرَجُهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ شَامِيًّا عِرَاقِيًّا مَكِّيًّا كُوفِيًّا. كَأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ رِاوٍ قَدِ اشْتُهِرَ بِرِوَايَةِ حَدِيثِ أَهْلِ بَلَدِهِ، كَقَتَادَةَ وَنَحْوِهِ فِي الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّ حَدِيثَ الْبَصْرِيِّينَ إِذَا جَاءَ عَنْ قَتَادَةَ وَنَحْوِهِ، كَانَ مَخْرَجُهُ مَعْرُوفًا بِخِلَافِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الِاتِّصَالِ؛ إِذِ الْمُرْسَلُ وَالْمُنْقَطِعُ وَالْمُعْضَلُ- لِعَدَمِ بُرُوزِ رِجَالِهَا- لَا يُعْلَمُ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ مِنْهَا، وَكَذَا الْمُدَلَّسُ- بِفَتْحِ اللَّامِ- وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْهُ بَعْضُهُ، مَعَ إِيهَامِ الِاتِّصَالِ. (وَقَدِ اشْتَهَرَتْ رِجَالُهُ) بِالْعَدَالَةِ، وَكَذَا الضَّبْطُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنِ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَلَّا يَكُونَ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا، لَكِنْ (بِذَاكَ) أَيْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاتِّصَالِ وَالشُّهْرَةِ (حَدَّ الْإِمَامُ) الْحَافِظُ الْفَقِيهُ أَبُو سُلَيْمَانَ (حَمْدٌ)- بِدُونِ هَمْزَةٍ، وَقِيلَ: بِإِثْبَاتِهَا، وَلَا يَصِحُّ- ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُصَنِّفُ أَعْلَامِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ، وَمَعَالِمِ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَدُ شُيُوخِ الْحَاكِمِ، مَاتَ بِـ “ بُسْتَ “ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (388هـ). كَمَا عَرَّفَ الصَّحِيحَ بِأَنَّهُ مَا اتَّصَلَ سَنَدُهُ وَعَدُلَتْ نَقَلَتُهُ، غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِمَزِيدٍ، وَلِأَجْلِ تَعْرِيفِهِ لَهُ فِي مَعَالِمِهِ بِجَانِبِهِ، نَوَّعَ الْعِبَارَةَ، وَتَعَيَّنَ حَمْلُ الِاشْتِهَارِ فِيهِ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ كَمَا قَرَّرْتُهُ. وَتَقَوَّى بِهِ قَوْلُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَكَأَنَّهُ- أَيِ: الْخَطَّابِيَّ- أَرَادَ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الصَّحِيحِ قَالَ: (وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي عِبَارَتِهِ كَبِيرُ تَلْخِيصٍ لِدُخُولِ الصَّحِيحِ فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا قَدْ عُرِفَ مَخْرَجُهُ، وَاشْتُهِرَ رِجَالُهُ). هَذَا مَعَ أَنَّ التَّاجَ التِّبْرِيزِيَّ أَلْزَمَ ابْنَ دَقِيقِ الْعِيدِ بِانْتِقَادِهِ إِدْخَالَ الصَّحِيحِ فِي الْحَسَنِ، مَعَ قَوْلِهِ فِي الْجَوَابِ عَنِ اسْتِشْكَالِ جَمْعِ التِّرْمِذِيِّ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالصِّحَّةِ- كَمَا سَيَأْتِي-: كُلُّ صَحِيحٍ حَسَنٌ- التَّنَاقُضَ. وَقَالَ: (إِنَّ دُخُولَ الْخَاصِّ، وَهُوَ هُنَا الصَّحِيحُ، فِي حَدِّ الْعَامِّ ضَرُورِيٌّ، وَالتَّقْيِيدُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْهُ مُخِلٌّ لِلْحَدِّ). وَقَالَ الشَّارِحُ: (إِنَّهُ مُتَّجِهٌ). انْتَهَى. وَبِهِ أَيْضًا انْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْقُيُودُ كَانَ حَسَنًا، وَمَا كَانَ فِيهِ مَعَهَا قَيْدٌ آخَرُ يَصِيرُ صَحِيحًا، وَلَا شَكَّ فِي صِدْقِ مَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى مَا فِيهِ، إِذَا وُجِدَتْ قُيُودُ الْأَوَّلِ، لَكِنْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ الصَّحِيحِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ وَجْهٍ- كَمَا هُوَ وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ- فَلَا يَرِدُ اعْتِرَاضُ التِّبْرِيزِيُّ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الصَّحِيحِ أَخَصَّ مِنَ الْحَسَنِ مِنْ وَجْهٍ، أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهُ مُطْلَقًا، حَتَّى يَدْخُلَ الصَّحِيحُ فِي الْحَسَنِ. انْتَهَى. وَبَيَانُ كَوْنِهِ وَجِيهًا فِيمَا يَظْهَرُ: أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الصَّحِيحُ لِغَيْرِهِ، وَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الصَّحِيحِ لِذَاتِهِ، وَالْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُبَايَنَةِ الْجُزْئِيَّةِ. ثُمَّ رَجَعَ شَيْخُنَا، فَقَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ؛ لِأَنَّهُمَا قَسِيمَانِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَصْدُقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَلْبَتَّةَ. قُلْتُ: وَيَتَأَيَّدُ التَّبَايُنُ بِأَنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الضَّبْطِ، فَحَقِيقَتُهُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ الْأُخْرَى؛ [لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْمُشَكَّكِ مِنَ اخْتِلَافِ أَفْرَادِهِ، وَأَنَّ مِنْ أَقْسَامِهِ كَوْنَ مَعْنَى الشَّيْءِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَشَدَّ مِنَ الْآخَرِ، وَتَمْثِيلُ ذَلِكَ بِبَيَاضِ الثَّلْجِ وَالْعَاجِ عَلَى مَا بُسِطَ فِي مَحَالِّهِ]. وَهُوَ مِثْلُ مَنْ جَعَلَ الْمُبَاحَ مِنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَأْذُونًا فِيهِ، وَغَفَلَ مَنْ فَصَلَ الْمُبَاحَ، وَهُوَ عَدَمُ الذَّمِّ لِتَارِكِهِ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْحَسَنَ مِنْ جِنْسِ الصَّحِيحِ لِلِاجْتِمَاعِ فِي الْقَبُولِ- غَفَلَ عَنْ فَصْلِ الْحَسَنِ، وَهُوَ قُصُورُ ضَبْطِ رَاوِيهِ. عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ شَيْخِنَا- مِمَّا لَمْ يَصِحَّ عِنْدِي- الِاعْتِنَاءُ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَخَصُّ اسْتِطْرَادًا وَبَحْثًا، بِخِلَافِ مُنَاقَشَتِهِ مَعَ الْخَطَّابِيِّ، فَهِيَ فِي أَصْلِ الْبَابِ، وَمَا يَكُونُ فِي بَابِهِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلِ الْكَلَامَانِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ. (وَقَالَ) الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ (التِّرْمِذِيُّ) بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمِيمِ، وَقِيلَ: بِضَمِّهِمَا وَقِيلَ: بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ، كُلُّهَا مَعَ إِعْجَامِ الذَّالِ، نِسْبَةً لِمَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ عَلَى طَرَفِ جَيْحُونَ نَهْرِ بَلْخَ، أَحَدُ تَلَامِذَةِ الْبُخَارِيِّ، الْآتِي ذِكْرُهُ فِي تَارِيخِ الرُّوَاةِ وَالْوَفَيَاتِ فِي الْعِلَلِ الَّتِي بِآخِرِ (جَامِعِهِ) مِمَّا حَاصِلُهُ: وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَدِيثٌ حَسَنٌ، فَهُوَ عِنْدَنَا (مَا سَلِمَ مِنَ الشُّذُوذِ) يَعْنِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَاضِي فِي الصَّحِيحِ (مَعَ رَاوٍ) أَيْ: مَعَ أَنَّ رُوَاةَ سَنَدِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ. (مَا اتُّهِمْ بِكَذِبٍ) فَيَشْمَلُ مَا كَانَ بَعْضُ رُوَاتِهِ سَيِّئَ الْحِفْظِ مِمَّنْ وُصِفَ بِالْغَلَطِ أَوِ الْخَطَأِ، أَوْ مَسْتُورًا لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ جَرْحٌ وَلَا تَعْدِيلٌ، وَكَذَا إِذَا نُقِلَا وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، أَوْ مُدَلَّسًا بِالْعَنْعَنَةِ، أَوْ مُخْتَلِطًا بِشَرْطِهِ؛ لِعَدَمِ مُنَافَاتِهِمَا اشْتِرَاطَ نَفْيِ الِاتِّهَامِ بِالْكَذِبِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ، مَعَ اقْتِضَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا التَّوَقُّفَ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ؛ لِعَدَمِ الضَّبْطِ فِي سَيِّئِ الْحِفْظِ وَالْجَهْلِ بِحَالِ الْمَسْتُورِ وَالْمُدَلِّسِ، وَكَذَا لِشُمُولِهِ مَا بِهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ ثِقَتَيْنِ حَافِظَيْنِ، وَالْمُرْسَلُ الَّذِي يُرْسِلُهُ إِمَامٌ حَافِظٌ؛ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ الِاتِّصَالَ- اشْتَرَطَ ثَالِثًا فَقَالَ: (وَلَمْ يَكُنْ فَرْدًا وَرَدْ). بَلْ جَاءَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَأَكْثَرَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلَهُ لَا دُونَهُ؛ لِيَتَرَجَّحَ بِهِ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ سَيِّئَ الْحِفْظِ مَثَلًا حَيْثُ يَرْوِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَبَطَ الْمَرْوِيَّ، وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَكُونَ ضَبَطَهُ، فَإِذَا وَرَدَ مِثْلُ مَا رَوَاهُ أَوْ مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ ضَبَطَ. وَكُلَّمَا كَثُرَ الْمُتَابِعُ، قَوِيَ الظَّنُّ، كَمَا فِي أَفْرَادِ الْمُتَوَاتِرِ؛ فَإِنَّ أَوَّلَهَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ لَا تَزَالُ تَكْثُرُ إِلَى أَنْ يُقْطَعَ بِصِدْقِ الْمَرْوِيِّ، وَلَا يَسْتَطِيعُ سَامِعُهُ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ. عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ إِخْرَاجُ اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ مِنَ اشْتِرَاطِ عَدَمِ الِاتِّهَامِ فِي رُوَاتِهِ؛ لِتَعَذُّرِ الْحُكْمِ بِهِ مَعَ الِانْقِطَاعِ، كَمَا مَضَى فِي تَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ الْمَخْرَجِ مَعَهُ، وَلَكِنْ مَا جَزَمْتُ بِهِ هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي جَامِعِهِ، فَقَدْ حَكَمَ بِالْحُسْنِ مَعَ وُجُودِ الِانْقِطَاعِ فِي أَحَادِيثَ، بَلْ وَكَذَا فِي كُلِّ مَا لَا يُنَافِيهِ نَفْيُ الِاتِّهَامِ مِمَّا صَرَّحْتُ بِهِ. وَحِينَئِذٍ فَقَدَ تَبَيَّنَ عَدَمُ كَوْنِ هَذَا التَّعْرِيفِ جَامِعًا لِلْحَسَنِ بِقِسْمَيْهِ، فَضْلًا عَنْ دُخُولِ الصَّحِيحِ بِقِسْمَيْهِ، وَإِنْ زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ، فَرَاوِيهِ لَا يُكْتَفَى فِي وَصْفِهِ بِمَا ذُكِرَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وَصْفِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِتْقَانِ. (قُلْتُ وَ) مَعَ اشْتِرَاطِ التِّرْمِذِيِّ عَدَمَ التَّفَرُّدِ فِيهِ (قَدْ حَسَّنَ) فِي جَامِعِهِ (بَعْضَ مَا انْفَرَدْ) رَاوِيهِ بِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِتَصْرِيحِهِ هُوَ بِذَلِكَ، حَيْثُ يُورِدُ الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَهُ: إِنَّهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ، أَوْ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَكِنْ قَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: بِأَنَّهُ عَرَّفَ مَا يَقُولُ فِيهِ: حَسَنٌ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ أُخْرَى لَا الْحَسَنَ مُطْلَقًا. وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا، مَعَ تَرَدُّدِهِ فِي سَبَبِ اقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ إِمَّا لِغُمُوضِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ جَدِيدٌ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، بَلْ خَصَّهُ بِـ(جَامِعِهِ) فَقَطْ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ حَكَمَ فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ عَلَى حَدِيثٍ بِأَنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نُفَسِّرَ الْحَسَنَ هُنَاكَ بِمَا هُوَ مُفَسَّرٌ بِهِ هُنَا إِلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ، لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ. وَلَكِنْ يَتَأَيَّدُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي الْكَبِيرِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: “ عِنْدَنَا “ حِكَايَةَ اصْطِلَاحِهِ مَعَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَإِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَنَا، أَيْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ. انْتَهَى. وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ: (وَمَا ذَكَرْنَا)، وَكَذَا قَوْلُهُ: “ فَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ “، وَحِينَئِذٍ فَالنُّونُ لِإِظْهَارِ نِعْمَةِ التَّلَبُّسِ بِالْعِلْمِ الْمُتَأَكِّدِ تَعْظِيمُ أَهْلِهِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحَى: 11] مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْإِعْجَابِ وَنَحْوِهِ، الْمَذْمُومِ مَعَهُ مِثْلُ هَذَا، [لَا سِيَّمَا وَالْعَرَبُ- كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ- تُؤَكِّدُ فِعْلَ الْوَاحِدِ، فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ؛ لِيَكُونَ أَثْبَتَ وَأَوْكَدَ]، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ أَلْيَقُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الشَّاذِّ. (وَقِيلَ): مِمَّا عَزَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مُرِيدًا بِهِ الْحَافِظَ أَبَا الْفَرَجِ بْنَ الْجَوْزِيِّ؛ حَيْثُ قَالَ فِي تَصْنِيفَيْهِ (الْمَوْضُوعَاتُ وَالْعِلَلُ الْمُتَنَاهِيَةُ): الْحَسَنُ (مَا ضِعْفٌ قَرِيبٌ مُحْتَمَلْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (فِيهِ). وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعَارِيفِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْحَسَنِ الْمَوْصُوفِ بِالْحُسْنِ إِذَا اعْتَضَدَ بِغَيْرِهِ، حَتَّى لَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ ضَعِيفًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَى عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ صِفَةُ الْحَسَنِ مُطْلَقًا، فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ إِذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ، كَانَ مَرْجُوحًا، وَالصَّحِيحُ رَاجِحًا. فَضَعْفُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ، وَالْحَسَنُ لِغَيْرِهِ أَصْلُهُ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحُسْنُ بِالْعَاضِدِ الَّذِي عَضَدَهُ، فَاحْتَمَلَ لِوُجُودِ الْعَاضِدِ، وَلَوْلَا الْعَاضِدُ لَاسْتَمَرَّتْ صِفَةُ الضَّعْفِ فِيهِ. وَلَكِنْ مَعَ مَا تَكَلَّفْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ (مَا بِكُلٍّ ذَا) أَيْ: مَا تَقَدَّمَ (حَدٌّ) صَحِيحٌ جَامِعٌ لِلْحَسَنِ (حَصَلْ)، بَلْ هُوَ مُسْتَبْهَمٌ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ، يَعْنِي لِعَدَمِ ضَبْطِ الْقَدْرِ الْمُحْتَمَلِ مِنْ غَيْرِهِ بِضَابِطٍ فِي آخِرِهَا، وَكَذَا فِي الشُّهْرَةِ فِي أَوَّلِهَا، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِمَا، وَفِي تَعْرِيفِ التِّرْمِذِيِّ، زَعَمَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ أَجْوَدُهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ اضْطِرَابًا. [لِلْحَسَنِ قِسْمَانِ] (وَقَالَ) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ (بَانَ) أَيْ: ظَهَرَ (لِي بِإِمْعَانِي) أَيْ: بِإِطَالَتِي وَإِكْثَارِي (النَّظَرَ) وَالْبَحْثَ جَامِعًا بَيْنَ أَطْرَافِ كَلَامِهِمْ، مُلَاحِظًا مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالِهِمْ (أَنَّ لَهُ) أَيِ الْحَسَنِ (قِسْمَيْنِ): أَحَدُهُمَا- يَعْنِي وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَسَنِ لِغَيْرِهِ-: أَنْ يَكُونَ فِي الْإِسْنَادِ مَسْتُورٌ لَمْ تَتَحَقَّقْ أَهْلِيَّتُهُ، غَيْرُ مُغَفَّلٍ، وَلَا كَثِيرِ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَا يُتَّهَمُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِيهَا، وَلَا يُنْسَبُ إِلَى مُفَسَّقٍ آخَرَ، وَاعْتَضَدَ بِمُتَابِعٍ أَوْ شَاهِدٍ. وَثَانِيهِمَا- يَعْنِي وَهُوَ الْحَسَنُ لِذَاتِهِ-: أَنْ تَشْتَهِرَ رُوَاتُهُ بِالصِّدْقِ، وَلَمْ يَصِلُوا فِي الْحِفْظِ رُتْبَةَ رِجَالِ الصَّحِيحِ. قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْحَسَنُ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَهُوَ لِكَوْنِهِ يُطْلَقُ عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الضَّعِيفِ- مَجَازٌ، كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ الصَّحِيحِ مَجَازًا عَلَى الثَّانِي. ثُمَّ إِنَّ الْقِسْمَيْنِ (كُلٌّ) مِنَ التِّرْمِذِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ (قَدْ ذَكَرَ) مِنْهُمَا (قِسْمًا)، وَتَرَكَ آخَرَ لِظُهُورِهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كُلٍّ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي التِّرْمِذِيِّ- أَوْ ذُهُولِهِ؛ فَكَلَامُ التِّرْمِذِيِّ يَتَنَزَّلُ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ عَلَى أَوَّلِهِمَا، وَكَلَامُ الْخَطَّابِيِّ عَلَى ثَانِيهِمَا، لَكِنْ لَيْسَ الْأَوَّلُ عِنْدَهُ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ. وَحِينَئِذٍ فَتَرْكُهُ لَهُ لِذَلِكَ، لَا لِمَا تَقَدَّمَ، (وَزَادَ) أَيِ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا (كَوْنَهُ مَا عُلِّلَا وَلَا بِنُكْرٍ أَوْ شُذُوذٍ) أَيْ: بِكُلٍّ مِنْهُمَا (شُمِلَا) بِنَاءً عَلَى تَغَايُرِهِمَا، أَمَّا مَعَ تَرَادُفِهِمَا- كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ- فَاشْتِرَاطُ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا كَافٍ. وَلِذَا اقْتَصَرَ فِي الصَّحِيحِ عَلَى نَفْيِ الشُّذُوذِ فَقَطْ، بَلْ وَكَذَا الْحَسَنُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ، وَحِينَئِذٍ فَزِيَادَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ لَهُ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَطَّابِيِّ خَاصَّةً بِخِلَافِ الْعِلَّةِ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ الْجَابِرِ عَلَى وِفْقِهِ يُغْنِي التِّرْمِذِيَّ عَنِ التَّصْرِيحِ بِنَفْيِهَا. وَلَكِنْ قَدْ قَرَّرَ شَيْخُنَا مَنْعَ اشْتِرَاطِهِ نَفْيَهَا، وَظَهَرَ بِمَا قَرَّرْتُهُ تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ؛ حَيْثُ قَالَ عَقِبَ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَفِيهِ مُبَاحَثَاتٌ وَمُنَاقَشَاتٌ عَلَى بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَلِذَلِكَ مَعَ اخْتِلَالِ غَيْرِهَا مِنْ تَعَارِيفِهِ، قِيلَ: إِنَّهُ لَا مَطْمَعَ فِي تَمْيِيزِهِ. وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ مَنْ خَاضَ بِحَارَ هَذَا الْفَنِّ، سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا؛ وَلِذَا عَرَّفَ الْحَسَنَ لِذَاتِهِ، فَقَالَ: هُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ بِرُوَاةٍ مَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ، فِي ضَبْطِهِمْ قُصُورٌ عَنْ ضَبْطِ رُوَاةِ الصَّحِيحِ، وَلَا يَكُونُ مَعْلُولًا وَلَا شَاذًّا، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهُ هُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ، إِلَّا فِي تَفَاوُتِ الضَّبْطِ. فَرَاوِي الصَّحِيحِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالضَّبْطِ الْكَامِلِ، وَرَاوِي الْحَسَنِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ عَرِيًّا عَنِ الضَّبْطِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِيَخْرُجَ عَنْ كَوْنِهِ مُغَفَّلًا، وَعَنْ كَوْنِهِ كَثِيرَ الْخَطَأِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الصَّحِيحِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ كُلِّهِ فِي النَّوْعَيْنِ. انْتَهَى. وَأَمَّا مُطْلَقُ الْحَسَنِ فَهُوَ الَّذِي اتَّصَلَ سَنَدُهُ بِالصَّدُوقِ الضَّابِطِ الْمُتْقِنِ غَيْرِ تَامِّهِمَا، أَوْ بِالضَّعِيفِ بِمَا عَدَا الْكَذِبَ إِذَا اعْتَضَدَ مَعَ خُلُوِّهِمَا عَنِ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ. [مَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجُ بِالْحَسَنِ] إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مُتَّصِلًا بِتَعْرِيفِهِ السَّابِقِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، لَا أَنَّهُ تَتِمَّتُهُ: وَعَلَيْهِ- أَيِ: الْحَسَنِ- مَدَارُ أَكْثَرِ الْحَدِيثِ- أَيْ: بِالنَّظَرِ لِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ- فَإِنَّ غَالِبَهَا لَا يَبْلُغُ رُتْبَةَ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ: أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ ثُبُوتُهَا بِطَرِيقٍ حَسَنٍ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: (وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ) وَهُوَ وَإِنْ عَبَّرَ بِعَامَّتِهِمْ، فَمُرَادُهُ كُلُّهُمْ (يَسْتَعْمِلُهُ) أَيْ: فِي الِاحْتِجَاجِ وَالْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا (وَالْعُلَمَاءُ) مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ (الْجُلُّ) أَيِ: الْمُعْظَمُ (مِنْهُمْ يَقْبَلُهُ) فِيهِمَا. وَمِمَّنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ؛ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ فَحَسَّنَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْتَجُّ بِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ، فَأُعِيدَ السُّؤَالُ مِرَارًا، وَهُوَ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ حَسَنٌ. وَنَحْوُهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ؟ فَقَالَ: هُوَ حَسَنُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: الْحُجَّةُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ. وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ (وَهُوَ) أَيِ الْحَسَنُ لِذَاتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَا لِغَيْرِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ النَّظْمُ (بِأَقْسَامِ الصَّحِيحِ مُلْحَقٌ حُجِّيَّةً) أَيْ: فِي الِاحْتِجَاجِ (وَإِنْ يَكُنْ) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ (لَا يَلْحَقُ) الصَّحِيحَ فِي الرُّتْبَةِ: [إِمَّا لِضَعْفِ رَاوِيهِ، أَوِ انْحِطَاطِ ضَبْطِهِ، بَلِ الْمُنْحَطُّ لَا يُنْكِرُ مُدْرِجُهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ دُونَهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ؛ فَهَذَا اخْتِلَافٌ إِذَنْ فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ إِنَّ مَا اقْتَضَاهُ النَّظْمُ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ لَهُ بِظَاهِرِ قَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مُتَّصِلًا بِتَعْرِيفِهِ، وَيَصْلُحُ لِلْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ فِيمَا تَكْثُرُ طُرُقُهُ]. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُ مُفْرَدَاتُهَا ضَعِيفَةٌ، فَمَجْمُوعُهَا يُقَوِّي بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَصِيرُ الْحَدِيثُ حَسَنًا وَيُحْتَجُّ بِهِ، وَسَبَقَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَقْوِيَةِ الْحَدِيثِ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ الضَّعِيفَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا الْقِسْمُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ كُلُّهُ، بَلْ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَيُتَوَقَّفُ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، إِلَّا إِذَا كَثُرَتْ طُرُقُهُ، أَوْ عَضَّدَهُ اتِّصَالُ عَمَلٍ، أَوْ مُوَافَقَةُ شَاهِدٍ صَحِيحٍ، أَوْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَاسْتَحْسَنَهُ شَيْخُنَا. وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ الضَّعِيفَ الَّذِي ضَعْفُهُ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ حِفْظِهِ، إِذَا كَثُرَتْ طُرُقُهُ، ارْتَقَى إِلَى مَرْتَبَةِ الْحَسَنِ، وَلَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي شُمُولِ الْحَسَنِ الْمُسَمَّى بِالصَّحِيحِ عِنْدَ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا لِهَذَا. وَكَلَامُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا يُشِيرُ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي إِطْلَاقِ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَسَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي الِاقْتِرَاحِ، إِنَّ هَهُنَا أَوْصَافًا يَجِبُ مَعَهَا قَبُولُ الرِّوَايَةِ، إِذَا وُجِدَتْ فِي الرَّاوِي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ الْمُسَمَّى بِالْحَسَنِ مِمَّا قَدْ وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ عَلَى أَقَلِّ الدَّرَجَاتِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا الْقَبُولُ أَوْ لَا، فَإِنْ وُجِدَتْ فَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَإِنْ سُمِّيَ حَسَنًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَدَّ هَذَا إِلَى أَمْرٍ اصْطِلَاحِيٍّ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا قَبُولُ الرِّوَايَةِ لَهَا مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ، فَأَعْلَاهَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَلِكَ أَوْسَطُهَا، وَأَدْنَاهَا الْحَسَنُ، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، وَيَكُونُ الْكُلُّ صَحِيحًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَالَأَمْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ قَرِيبٌ، لَكِنَّ مَنْ أَرَادَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا سَمَّاهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ حَسَنًا، وَتَحَقَّقَ وُجُودُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا قَبُولُ الرِّوَايَةِ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. قُلْتُ: قَدْ وُجِدَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُنْكَرِ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَدَائِنِيِّ: حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ، وَعَامَّتُهُ حِسَانٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لِشُعْبَةَ: لَأَيِّ شَيْءٍ لَا تَرْوِي عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ، وَهُوَ حَسَنُ الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: مِنْ حُسْنِهِ فَرَرْتُ. وَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَهُوَ حُسْنُ الْمَتْنِ، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْغَرِيبِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا كَرِهُوا أَنْ يُخَرِّجَ الرَّجُلُ حِسَانَ حَدِيثِهِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّهُ عَنَى الْغَرَائِبَ. وَوُجِدَ لِلشَّافِعِيِّ إِطْلَاقُهُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِابْنِ الْمَدِينِيِّ فِي الْحَسَنِ لِذَاتِهِ، وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، وَنَحْوُهُ- فِيمَا يَظْهَرُ- قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ: فُلَانٌ مَجْهُولٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ حَسَنٌ. وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجَوْزَجَانِيِّ فِي الطَّلْحِيِّ: إِنَّهُ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ مَعَ حُسْنِهِ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ إِرَادَتَهُمَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ أَيْضًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالتِّرْمِذِيُّ هُوَ الَّذِي أَكْثَرَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْحَسَنِ، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِ؛ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَلَكِنْ حَيْثُ ثَبَتَ اخْتِلَافُ صَنِيعِ الْأَئِمَّةِ فِي إِطْلَاقِهِ، فَلَا يَسُوغُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ. فَمَا كَانَ مِنْهُ مُنْطَبِقًا عَلَى الْحَسَنِ لِذَاتِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ، أَوِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ فَيُفْصَلُ بَيْنَ مَا تَكْثُرُ طُرُقُهُ فَيُحْتَجُّ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا، وَهَذِهِ أُمُورٌ جُمَلِيَّةٌ تُدْرَكُ تَفَاصِيلُهَا بِالْمُبَاشَرَةِ. (فَإِنْ يَقُلْ) حَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَسَنَ لَا يُشْتَرَطُ فِي ثَانِي قِسْمَيْهِ ثِقَةُ رُوَاتِهِ، وَلَا اتِّصَالُ سَنَدِهِ، وَاكْتُفِيَ فِي عَاضِدِهِ بِكَوْنِهِ مِثْلَهُ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَكَيْفَ (يُحْتَجُّ بِالضَّعِيفِ) مَعَ اشْتِرَاطِهِمْ أَوْ جُمْهُورِهِمُ الثِّقَةَ فِي الْقَبُولِ؟ (فَقُلْ): إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ (إِذَا كَانَ) الْحَدِيثُ (مِنَ الْمَوْصُوفِ رُواتُهُ) وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ (بِسُوءِ حِفْظٍ) أَوِ اخْتِلَاطٍ أَوْ تَدْلِيسٍ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالدِّيَانَةِ فَذَاكَ (يُجْبَرُ بِكَوْنِهِ) أَيِ: الْمَتْنِ (مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ يُذْكَرُ). وَيَكُونُ الْعَاضِدُ الَّذِي لَا يَنْحَطُّ عَنِ الْأَصْلِيِّ مَعَهُ كَافِيًا، مَعَ الْخَدْشِ فِيهِ بِمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ الظَّاهِرِ فِي اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ الَّذِي قَدْ لَا يُنَافِيهِ مَا سَيَجِيءُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُرْسَلِ قَرِيبًا؛ لِاشْتِرَاطِهِ مَا يَنْجَبِرُ بِهِ التَّفَرُّدُ، وَإِنَّمَا انْجَبَرَ؛ لِاكْتِسَابِهِ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمَجْمُوعَةِ قُوَّةً، كَمَا فِي أَفْرَادِ الْمُتَوَاتِرِ وَالصَّحِيحِ لِغَيْرِهِ الْآتِي قَرِيبًا. وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ عَلَى الطَّرِيقِ الْأُولَى بِالضَّعْفِ إِنَّمَا هُوَ لَأَجْلِ الِاحْتِمَالِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ فِي سَيِّئِ الْحِفْظِ مَثَلًا؛ هَلْ ضَبَطَ أَمْ لَا؟ فَبِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ ضَبَطَ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ كُلُّ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ تَعْرِيفِ التِّرْمِذِيِّ. (وَإِنْ يَكُنْ) ضَعْفُ الْحَدِيثِ (لْكَذِبٍ فِي) رَاوِيهِ (أَوْ شَذَّا) أَيْ وَشُذُوذٍ فِي رِوَايَتِهِ بِأَنْ خَالَفَ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ أَوْ أَكْثَرُ (أَوْ قَوِيَ الضَّعْفُ) بِغَيْرِهِمَا بِمَا يَقْتَضِي الرَّدَّ. (فَلَمْ يُجْبَرْ ذَا) أَيِ: الضَّعْفُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَلَوْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ؛ كَحَدِيثِ: “ مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا “، فَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْحُفَّاظِ عَلَى ضَعْفِهِ مِنْ كَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَلَكِنْ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ- الْقَاصِرَةِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ؛ بِحَيْثُ لَا يُجْبَرُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ- يَرْتَقِي عَنْ مَرْتَبَةِ الْمَرْدُودِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ بِحَالٍ، إِلَى رُتْبَةِ الضَّعِيفِ الَّذِي يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ. وَرُبَّمَا تَكُونُ تِلْكَ الطُّرُقُ الْوَاهِيَةُ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا ضَعْفٌ يَسِيرٌ؛ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ مَجِيءُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ يَسِيرٌ، كَانَ مُرْتَقِيًا بِهَا إِلَى مَرْتَبَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ. (أَلَا تَرَى) الْحَدِيثَ (الْمُرْسَلَ) مَعَ ضَعْفِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ (حَيْثُ أُسْنِدَا) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ (أَوْ أَرْسَلُوا) أَيْ: أَوْ أُرْسِلَ مِنْ طَرِيقِ تَابِعِيٍّ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِ رِجَالِ التَّابِعِيِّ الْأَوَّلِ (كَمَا يَجِيءُ) تَقْرِيرُهُ فِي بَابِهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ (اعْتَضَدَا) وَصَارَ حُجَّةً. ثُمَّ كَمَا أَنَّ الْحَسَنَ عَلَى قِسْمَيْنِ، كَذَلِكَ الصَّحِيحُ، فَمَا سَلَفَ هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ (وَ) الْحَدِيثُ (الْحَسَنُ) لِذَاتِهِ وَهُوَ (الْمَشْهُورُ بِالْعِدَالِةِ وَالصِّدْقِ رَاوِيهِ) غَيْرَ أَنَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ مُتَأَخِّرُ الْمَرْتَبَةِ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ عَنْ رَاوِي الصَّحِيحِ. (إِذَا أَتَى لَهُ طُرُقٌ أَخْرَى نَحْوُهَا) أَيْ: نَحْوُ طَرِيقِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْحُسْنِ (مِنَ الطُّرُقِ) الْمُنْحَطَّةِ عَنْهَا (صَحَّحْتَهُ) إِمَّا عِنْدَ التَّسَاوِي أَوِ الرُّجْحَانِ، فَمَجِيئُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَافٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِغَيْرِهِ، وَتَأْخِيرُهُ لِكَوْنِهِ كَالدَّلِيلِ أَيْضًا لِدَفْعِ الْإِيرَادِ قَبْلَهُ. [أَمْثِلَةُ الْحَسَنِ] وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ (كَمَتْنِ) أَيْ حَدِيثِ “ (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ) عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ “. (إِذْ تَابَعُوا مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو) بْنِ عَلْقَمَةَ رَاوِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (عَلَيْهِ) فِي شَيْخِ شَيْخِهِ؛ حَيْثُ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَجِ، أَحَدُهُمْ نَعَمْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، لَكِنَّهُ جَعَلَ صَحَابِيَّ الْحَدِيثِ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ، لَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ قِصَّةٌ. وَكَذَا تَابَعَهُ الْمَقْبُرِيُّ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، فَجَعَلَ الصَّحَابِيَّ عَائِشَةَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَابَعَةٌ قَاصِرَةٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ. (فَارْتَقَى) الْمَتْنُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَلْقَمَةَ بِهَذِهِ الْمُتَابَعَاتِ (الصَّحِيحَ يَجْرِي) إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ إِذَا انْفَرَدَ لَا يَرْتَقِي حَدِيثُهُ عَنِ الْحَسَنِ؛ لِكَوْنِهِ مَعَ صِدْقِهِ وَجَلَالَتِهِ الْمُوثَقِ بِهِمَا كَانَ يُخْطِئُ بِحَيْثُ ضُعِّفَ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ إِلَّا وَهُوَ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَخَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ الَّذِي تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْتُهُ، [وَمِنِ اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ فِي الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا]. وَكَذَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ. تَفَرَّدَ بِهِ عَامِرٌ، وَقَدْ قَوَّاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَيَّنَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَحَكَمَ الْبُخَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ؛ بِأَنَّ حَدِيثَهُ هَذَا حَسَنٌ. وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ: أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عُثْمَانَ، وَصَحَّحَهُ مُطْلَقًا التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ؛ وَذَلِكَ لِمَا عَضَّدَهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ؛ كَحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِّيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ زَوْرَانَ عَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْوَلِيدَ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَحَدٌ. وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيِّ عَنْهُ، وَعُمَرُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَوَاهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ، إِلَّا أَنَّ لَهُ عِلَّةً، لَكِنَّهَا غَيْرُ قَادِحَةٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ حَسَّانِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَهُوَ مَعْلُولٌ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخْرَى دُونَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْتَبَةِ، وَبِمَجْمُوعِ ذَلِكَ حَكَمُوا عَلَى أَصْلِ الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ. وَكُلُّ طَرِيقٍ مِنْهَا بِمُفْرَدِهَا لَا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ. ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ قَدْ سَلَكَ فِي هَذَا الْقِسْمِ شَبِيهَ مَا سَلَكَهُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ؛ حَيْثُ بَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ الصَّحِيحَيْنِ أَصَحُّ كُتُبِهِ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِمَا تُؤْخَذُ مِنْ كَذَا، وَأَمَّا هُنَا فَبَعْدَ أَنْ أَفَادَ إِكْثَارَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ فِي سُنَنِهِ. وَأَنَّ التِّرْمِذِيَّ هُوَ الْمُنَوِّهُ بِهِ وَالْمُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي جَامِعِهِ، مَعَ وُقُوعِهِ فِي كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُ؛ كَشَيْخِهِ الْبُخَارِيِّ، الَّذِي كَأَنَّهُ- كَمَا قَالَ شَيْخِي- اقْتَفَى فِيهِ شَيْخَهُ ابْنَ الْمَدِينِيِّ؛ لِوُقُوعِهِ فِي كَلَامِهِ أَيْضًا. 65- قَالَ وَمِنْ مَظِنَّةٍ لِلْحَسَنِ *** جَمْعُ أَبِي دَاوُدَ أَيْ فِي السُّنَنِ 66- فَإِنَّهُ قَالَ ذَكَرْتُ فِيهِ *** مَا صَحَّ أَوْ قَارَبَ أَوْ يَحْكِيهِ 67- وَمَا بِهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ قُلْتُهُ *** وَحَيْثُ لَا، فَصَالِحٌ خَرَّجْتُهُ 68- فَمَا بِهِ وَلَمْ يُصَحَّحْ وَسَكَتْ عَلَيْهِ *** عِنْدَهُ لَهُ الْحُسْنُ ثَبَتْ 69- وَابْنُ رُشَيْدٍ قَالَ وَهُوَ مُتَّجِهْ *** قَدْ يَبْلُغُ الصِّحَّةَ عِنْدَ مُخْرِجِهْ 70- وَلِلْإِمَامِ الْيَعْمَرِيِّ إِنَّمَا *** قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ يَحْكِي مُسْلِمَا 71- حَيْثُ يَقُولُ جُمْلَةُ الصَّحِيحِ لَا *** تُوجَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالنُّبَلَا 72- فَاحْتَاجَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْإِسْنَادِ *** إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادِ 73- وَنَحْوِهِ وَإِنْ يَكُنْ ذُو السَّبْقِ *** قَدْ فَاتَهُ أَدْرَكَ بِاسْمِ الصِّدْقِ 74- هَلَّا قَضَى عَلَى كِتَابِ مُسْلِمِ *** بِمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالتَّحَكُّمِ 75- وَالْبَغَوِي إِذْ قَسَّمَ الْمَصَابِحَا *** إِلَى الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ جَانِحَا 76- أَنَّ الْحِسَانَ مَا رَوَوْهُ فِي السُّنَنْ *** رُدَّ عَلَيْهِ إِذْ بِهَا غَيْرُ الْحَسَنْ 77- كَانَ أَبُو دَاوُدَ أَقْوَى مَا وُجِدْ *** يَرْوِيهِ وَالضَّعِيفَ حَيْثُ لَا يَجِدْ 78- فِي الْبَابِ غَيْرَهُ فَذَاكَ عِنْدَهْ *** مِنْ رَأْيٍ أَقْوَى قَالَهُ ابْنُ مَنْدَهْ 79- وَالنَّسَّائِيُّ يُخْرِجُ مَنْ لَمْ يُجْمِعُوا *** عَلَيْهِ تَرْكًا مَذْهَبٌ مُتَّسِعُ 80- وَمَنْ عَلَيْهَا أَطْلَقَ الصَّحِيحَا *** فَقَدْ أَتَى تَسَاهُلًا صَرِيحَا 81- وَدُونَهَا فِي رُتْبَةٍ مَا جُعِلَا *** عَلَى الْمَسَانِيدِ فَيُدْعَى الْجَفَلَا [مَظِنَّةُ الْحُسْنِ] (قَالَ: وَمِنْ مَظِنَّةٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ، مَفْعِلَةٌ مِنَ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، أَيْ مَوْضِعٍ وَمَعْدِنٍ (لِلْحُسْنِ) سِوَى مَا ذُكِرَ (جَمْعُ) الْإِمَامِ الْحَافِظِ الْحُجَّةِ الْفَقِيهِ التَّالِي لِصَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، وَالْمَقُولِ فِيهِ: إِنَّهُ أُلِينَ لَهُ الْحَدِيثُ كَمَا أُلِينَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَدِيدُ (أَبِي دَاوُدَ) سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيِّ الْآتِي فِي الْوَفَيَاتِ، (أَيْ فِي) كِتَابِهِ (السُّنَنِ) الشَّهِيرِ الَّذِي صَرَّحَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ بِاكْتِفَاءِ الْمُجْتَهِدِ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي خُطْبَةِ شَرْحِهِ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُشْتَغِلِ بِالْفِقْهِ وَلِغَيْرِهِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، وَبِمَعْرِفَتِهِ الْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ؛ فَإِنَّ مُعْظَمَ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُحْتَجُّ بِهَا فِيهِ، مَعَ سُهُولَةِ تَنَاوُلِهِ، وَتَلْخِيصِ أَحَادِيثِهِ، وَبَرَاعَةِ مُصَنِّفِهِ، وَاعْتِنَائِهِ بِتَهْذِيبِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ وَمُؤَلِّفِهِ. (فَإِنَّهُ قَالَ) مَا مَعْنَاهُ: (ذَكَرْتُ فِيهِ) أَيْ: فِي كِتَابِ (السُّنَنِ) (مَا صَحَّ أَوْ قَارَبَ) الصَّحِيحَ (أَوْ يَحْكِيهِ) أَيْ: يُشْبِهُهُ؛ إِذْ لَفْظُهُ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي تَأْرِيخِ الْخَطِيبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ دَاسَةَ عَنْهُ: ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ. وَ “ أَوْ “ هُنَا لِلتَّقْسِيمِ، أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطْفِ الْمُقْتَضِي لِلْمُغَايَرَةِ، وَلَا شَكَّ فِيهَا هُنَا، فَمَا يُشْبِهُ الشَّيْءَ وَمَا يُقَارِبُهُ لَيْسَ بِهِ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّ الَّذِي يُشْبِهُهُ هُوَ الْحَسَنُ، وَالَّذِي يُقَارِبُهُ الصَّالِحُ، وَلَزِمَ مِنْهُ جَعْلُ الصَّالِحِ قِسْمًا آخَرَ. وَقَوْلُ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ: “ إِسْنَادٌ وَسَطٌ، لَيْسَ بِالثَّبْتِ وَلَا بِالسَّاقِطِ، هُوَ صَالِحٌ “ قَدْ يُسَاعِدُهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي رِسَالَتِهِ فِي وَصْفِ السُّنَنِ مَا مَعْنَاهُ: (وَمَا) كَانَ فِي كِتَابِي مِنْ حَدِيثٍ (بِهِ وَهْنٌ)، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الرِّسَالَةِ: (وَهْيٌ) (شَدِيدٌ) فَقَدَ (قُلْتُهُ) أَيْ: بَيَّنْتُ وَهَنَهُ أَوْ وَهَاءَهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا: وَإِذَا كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، بَيَّنْتُهُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ، وَلَيْسَ عَلَى نَحْوِهِ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. وَتَرَدَّدَ شَيْخِي، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي مَحَلِّ هَذَا الْبَيَانِ؛ أَهُوَ عَقِبَ كُلِّ حَدِيثٍ عَلَى حِدَتِهِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ الْإِسْنَادُ بِعَيْنِهِ مَثَلًا، أَوْ يَكْتَفِي بِالْكَلَامِ عَلَى وَهْنِ إِسْنَادٍ مَثَلًا، فَإِذَا عَادَ لَمْ يُبَيِّنْهُ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَهُ؟ وَقَالَ: هَذَا الثَّانِي أَقْرَبُ عِنْدِي. قُلْتُ: عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ هُنَا لِوُجُودِ مُتَابِعٍ أَوْ شَاهِدٍ. قَالَ شَيْخُنَا: وَقَدْ يَقَعُ الْبَيَانُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا سِيَّمَا رِوَايَةُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ؛ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ كَلَامِ أَبِي دَاوُدَ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ. وَسَبَقَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، فَقَالَ: الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ لِكِتَابِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَيُوجَدُ فِي بَعْضِهَا مِنَ الْكَلَامِ، بَلْ وَالَأَحَادِيثِ، مَا لَيْسَ فِي الْأُخْرَى. قَالَ: وَلَأَبِي عُبَيْدٍ الْآجُرِّيِّ عَنْهُ أَسْئِلَةٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّصْحِيحِ وَالتَّعْلِيلِ كِتَابٌ مُفِيدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ أَحَادِيثُ وَرِجَالٌ قَدْ ذَكَرَهَا فِي سُنَنِهِ [فَقَوْلُهُ: وَمَا سَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ وَمَا سَكَتَ عَلَيْهِ فِي سُنَنِهِ] فَقَطْ أَوْ مُطْلَقًا، وَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَالتَّيَقُّظُ لَهُ. انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَلَكِنْ يَتَعَيَّنُ مُلَاحَظَةُ مَا وَقَعَ فِي غَيْرِهَا مُصَرَّحًا فِيهِ بِالضَّعْفِ الشَّدِيدِ، مِمَّا سَكَتَ عَلَيْهِ فِي السُّنَنُ، لَا مُطْلَقِ الضَّعْفِ، وَكَذَا يَنْبَغِي عَدَمُ الْمُبَادَرَةِ لِنِسْبَةِ السُّكُوتِ، إِلَّا بَعْدَ جَمْعِ الرِّوَايَاتِ وَاعْتِمَادِ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِمَّا تَبِعَهُ فِيهِ النَّوَوِيُّ بِذَلِكَ فِي نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ؛ حَيْثُ قَرَّرَ اخْتِلَافَهَا فِي التَّحْسِينِ وَالتَّصْحِيحِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: (وَحُيْثُ لَا) وَهَنٌ أَيْ: شَدِيدٌ فِيهِ، وَلَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا (فـَ) هُوَ (صَالِحٌ)، وَفِي لَفْظٍ أَوْرَدَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مُمَرَّضًا: فَهُوَ حَسَنٌ (خَرَّجْتُهُ)، بَعْضُهُ أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَعَلَى هَذَا (مَا) وَجَدْنَاهُ مَذْكُورًا (بِهِ) أَيْ: بِالْكِتَابِ (وَلَمْ يُصَحَّحْ) عِنْدَ وَاحِدٍ مِنَ الشَّيْخَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ. (وَسَكَتْ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (عَلَيْهِ) فَهُوَ (عِنْدَهُ) أَيْ: أَبِي دَاوُدَ (لَهُ الْحُسْنُ ثَبَتَ). وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَا مُنْدَرِجٍ فِيمَا حَقَّقْنَاهُ ضَبْطُ الْحَسَنِ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ، لَا سِيَّمَا وَمَذْهَبُ أَبِي دَاوُدَ تَخْرِيجُ الضَّعِيفِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي. انْتَهَى. وَيَتَأَيَّدُ تَسْمِيَتُهُ حَسَنًا بِالرِّوَايَةِ الْمَحْكِيَّةِ لِابْنِ كَثِيرٍ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ (وَ) لِذَلِكَ اعْتَرَضَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ الثِّقَةُ الْمُصَنِّفُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ (ابْنُ رُشَيْدٍ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الْبُسْتِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْمَالِكِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (722هـ) بِـ “ فَاسٍ “ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ- عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ. حَيْثُ (قَالَ) فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ (وَهُوَ مُتَّجِهْ): لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ بِضَعْفٍ، وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِصِحَّةٍ- أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهُ حَسَنٌ، بَلْ (قَدْ يَبْلُغُ الصِّحَّةَ عِنْدَ مُخْرِجِهِ) أَيْ: أَبِي دَاوُدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ كَذَلِكَ، [وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ فِي خُطْبَةِ التَّرْغِيبُ: وَكُلُّ حَدِيثٍ عَزَوْتُهُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. انْتَهَى. فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ الصَّحِيحِ فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي آخِرِ الْفُصُولِ الَّتِي بِأَوَّلِ أَذْكَارِهِ: وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ضَعْفَهُ، فَهُوَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ]، وَيُسَاعِدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ أَفْعَلَ فِي قَوْلِهِ: “ أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ “ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ غَالِبًا. فَالْمَسْكُوتُ عَلَيْهِ إِمَّا صَحِيحٌ أَوْ أَصَحُّ، إِلَّا أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُهُ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اسْتِعْمَالِ “ أَصَحَّ “ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، بَلْ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ كَذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ التِّرْمِذِيُّ؛ فَإِنَّهُ يُورِدُ الْحَدِيثَ مِنْ جِهَةِ الضَّعِيفِ، ثُمَّ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَيَقُولُ عَقِبَ الثَّانِي: إِنَّهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ الضَّعِيفِ. وَصَنِيعُ أَبِي دَاوُدَ يَقْتَضِيهِ لِمَا فِي الْمَسْكُوتِ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعِيفِ بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَكَذَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ حَصْرِهِ التَّبْيِينَ فِي الْوَهَنِ الشَّدِيدِ؛ إِذْ مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الشَّدِيدِ لَا يُبَيِّنُهُ. وَحِينَئِذٍ فَالصَّلَاحِيَةُ فِي كَلَامِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِلِاحْتِجَاجِ أَوِ الِاسْتِشْهَادِ، فَمَا ارْتَقَى إِلَى الصِّحَّةِ ثُمَّ إِلَى الْحُسْنِ، فَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمَا عَدَاهُمَا فَهُوَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَمَا قَصُرَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ، وَقَدِ الْتَزَمَ بَيَانَهُ، وَقَدْ تَكُونُ الصَّلَاحِيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الِاحْتِجَاجِ، وَلَا يُنَافِيهِ وُجُودُ الضَّعِيفِ؛ لِأَنَّهُ- كَمَا سَيَأْتِي- يُخَرِّجُ الضَّعِيفَ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ غَيْرَهُ، وَهُوَ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنْ رَأْيِ الرِّجَالِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ كُلَّ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، لَا سِيَّمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ عِنْدَ غَيْرِهِ- مَا يُومِئُ إِلَى التَّنْبِيهِ لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ رُشَيْدٍ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يُخَالِفَ حُكْمُهُ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي طَرَفٍ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي طَرَفٍ آخَرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِاسْتِلْزَامِهِ نَقْضَ مَا قَرَّرَهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَقْسَامٌ، مِنْهُ مَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ، أَوْ حَسَنٌ لِذَاتِهِ، أَوْ مَعَ الِاعْتِضَادِ، وَهُمَا كَثِيرٌ فِي كِتَابِهِ جِدًّا، وَمِنْهُ مَا هُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَرْكِهِ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَقُّ أَنَّ مَا وَجَدْنَاهُ مِمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ حُسْنِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ- فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى ضَعْفِهِ مَنْ يُعْتَمَدُ، أَوْ رَأَى الْعَارِفُ فِي سَنَدِهِ مَا يَقْتَضِي الضَّعْفَ، وَلَا جَابِرَ لَهُ- حُكِمَ بِضَعْفِهِ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى سُكُوتِهِ. انْتَهَى. وَمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَغَيْرِهِ فِيهِ نَظَرٌ، وَالتَّحْقِيقُ التَّمْيِيزُ لِمَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ، وَرَدُّ الْمَسْكُوتِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ مِنْ صِحَّةٍ وَحُسْنٍ وَغَيْرِهِمَا كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَرَجَّحَهُ هُوَ فِي بَابِهِ، وَإِنْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أَقَرَّ فِي مُخْتَصَرَيْهِ ابْنَ الصَّلَاحِ عَلَى دَعْوَاهُ هُنَا الَّتِي تَقْرُبُ مِنْ صَنِيعِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَلْجَأَهُ إِلَيْهَا مَذْهَبُهُ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا تَمْيِيزٍ، فَالَأَحْوَطُ أَنْ يَقُولَ فِي الْمَسْكُوتِ عَلَيْهِ: صَالِحٌ، كَمَا هِيَ عِبَارَتُهُ، خُصُوصًا وَقَدْ سَلَكَهُ جَمَاعَةٌ (وَكَذَا لِلْإِمَامِ) الْحَافِظِ الثِّقَةِ أَبِي الْفَتْحِ فَتْحِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَيِّدِ النَّاسِ (الْيَعْمُرِيِّ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمِيمِ، حَسْبَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ نُقْطَةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَبِضَمِّ الْمِيمِ أَيْضًا كَمَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ، الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَصْلِ الْقَاهِرِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُؤَلِّفُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، الْمُتَوَفَّى فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (734هـ) عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَالْمَدْفُونُ بِالْقَرَافَةِ، فِي الْقِطْعَةِ الَّتِي شَرَحَهَا مِنَ التِّرْمِذِيِّ. اعْتِرَاضٌ آخَرُ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لَمْ يَرْسُمْ أَبُو دَاوُدَ شَيْئًا بِالْحُسْنِ (إِنَّمَا قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ يَعْنِي: الْمَاضِي وَهُوَ “ ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ “ أَيْ: فِي الصِّحَّةِ “ وَمَا يُقَارِبُهُ “ أَيْ: فِيهَا أَيْضًا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ بَعْضَهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ؛ فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا لِمَا يَقْتَضِيهِ صِيغَةُ أَفْعَلَ فِي الْأَكْثَرِ. (يَحْكِي مُسْلِمًا) أَيْ: يُشْبِهُ قَوْلَ مُسْلِمٍ صَاحِبِ (الصَّحِيحِ حَيْثُ يَقُولُ) أَيْ: مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: (جُمْلَةُ الصَّحِيحِ لَا تُوجَدُ عِنْدَ) الْإِمَامِ (مَالِكٍ وَالنُّبَلَا) كَشُعْبَةَ وَسُفْيَانَ وَالثَّوْرِيِّ (فَاحْتَاجَ) أَيْ: مُسْلِمٌ (أَنْ يَنْزِلَ فِي الْإِسْنَادِ) عَنْ حَدِيثِ أَهْلِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ (إِلَى) حَدِيثِ (يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَنَحْوِهِ)؛ كَلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ مِمَّنْ يَلِيهِمْ فِي ذَلِكَ. (وَإِنْ يَكُنْ ذُو) أَيْ: صَاحِبُ (السَّبْقِ) فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَهُوَ مَالِكٌ مَثَلًا (قَدْ فَاتَهُ) أَيْ: سَبَقَ بِحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ يَزِيدَ مَثَلًا، فَقَدْ (أَدْرَكَ) أَيْ: لَحِقَ الْمَسْبُوقُ السَّابِقَ فِي الْجُمْلَةِ (بِاسْمِ) الْعَدَالَةِ وَ(الصِّدْقِ). وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي “ فَاتَهُ “ لِمُسْلِمٍ، وَيَكُونَ الْمَعْنَى: وَإِنْ يَكُنْ قَدْ فَاتَ مُسْلِمًا وُجُودُ مَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ذِي السَّبْقِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ هُوَ أَوْ ذَاكَ السَّابِقُ، فَقَدْ أَدْرَكَ، أَيْ: بَلَغَ مَقْصُودَهُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ. وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى كَلَامِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَاحِدٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ مُسْلِمًا شَرَطَ الصَّحِيحَ، فَاجْتَنَبَ حَدِيثَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ الضَّعِيفُ الْوَاهِي، وَأَتَى بِالْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَأَبَا دَاوُدَ لَمْ يَشْتَرِطْهُ؛ فَذَكَرَ مَا يَشْتَدُّ وَهَنُهُ عِنْدَهُ، وَالْتَزَمَ بَيَانَهُ فَـ(هَلَّا قَضَى) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ (عَلَى كِتَابِ مُسْلِمٍ بِمَا قَضَى بِهِ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى أَبِي دَاوُدَ أَوْ كِتَابِهِ (بِالتَّحَكُّمِ) الْمَذْكُورِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: (وَهُوَ تَعَقُّبٌ مُتَّجِهٌ، وَرَدَّهُ شَيْخُنَا بِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ تَعَقُّبٌ وَاهٍ جِدًّا لَا يُسَاوِي سَمَاعَهُ). وَهُوَ كَذَلِكَ لِتَضَمُّنِهِ أَحَدَ شَيْئَيْنِ: وُقُوعُ غَيْرِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ، أَوْ تَصْحِيحُ كُلِّ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ بَيَّنَ رَدَّهُ الشَّارِحُ؛ بِأَنَّ مُسْلِمًا شَرَطَ الصَّحِيحَ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ عَلَى حَدِيثٍ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ حَسَنٌ. وَأَبُو دَاوُدَ إِنَّمَا قَالَ: مَا سَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ صَالِحٌ، وَالصَّالِحُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْحُسْنِ. وَبِنَحْوِهِ أَجَابَ عَنِ اعْتِرَاضِ ابْنِ رُشَيْدٍ الْمَاضِي، وَسَبَقَهُ شَيْخُهُ الْعَلَائِيُّ، فَأَجَابَ بِمَا هُوَ أَمْتَنُ مِنْ هَذَا. وَعِبَارَتُهُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ- يَعْنِي: ابْنَ سَيِّدِ النَّاسِ- ضَعِيفٌ، وَقَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ إِذَا تَفَاوَتَتْ، فَلَا يَعْنِي بِالْحَسَنِ إِلَّا الدَّرَجَةَ الدُّنْيَا مِنْهَا، وَالدَّرَجَةُ الدُّنْيَا مِنْهَا لَمْ يُخَرِّجْ مِنْهَا مُسْلِمٌ شَيْئًا فِي الْأُصُولِ، إِنَّمَا يُخَرِّجُهَا فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ. وَارْتَضَاهُ شَيْخُنَا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ يُخَرِّجُ جَمِيعَ أَهْلِ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي الْأُصُولِ، بَلْ وَفِي الْمُتَابَعَاتِ- لَكَانَ كِتَابُهُ أَضْعَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَاهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُورِدْ لِعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ إِلَّا فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَكَوْنِهِ مِنَ الْمُكْثِرِينَ لَيْسَ عِنْدَهُ سِوَى مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ. وَكَذَا لَيْسَ لِابْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ إِلَّا سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، وَهُوَ مَنْ يُجَوِّزُ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يُخَرِّجْ لِلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَلَا لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَلَا لِمُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ إِلَّا مَقْرُونًا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَبِي دَاوُدَ؛ فَإِنَّهُ يُخَرِّجُ أَحَادِيثَ هَؤُلَاءِ فِي الْأُصُولِ مُحْتَجًّا بِهَا، وَلَأَجْلِ ذَا تَخَلَّفَ كِتَابُهُ عَنْ شَرْطِ الصِّحَّةِ. (وَالْبَغَوِيُّ) نِسْبَةً لِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ بَيْنَ مَرْوَ وَهَرَاةَ يُقَالُ لَهَا: بَغُ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْمُفَسِّرُ الْحَافِظُ الْمُلَقَّبُ: مُحْيِي السُّنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ رُكْنُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْفَرَّاءِ لِكَوْنِهَا صَنْعَةَ أَبِيهِ، مُصَنِّفُ مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ فِي التَّفْسِيرِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْمَصَابِيحِ فِي الْحَدِيثِ، [وَالْجَمْعِ بَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ بِإِسْنَادِهِمَا مَعَ حَذْفِ الْمُكَرَّرَاتِ]، وَالتَّهْذِيبِ فِي الْفِقْهِ. وَكَانَ سَيِّدًا زَاهِدًا قَانِعًا، يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَحْدَهُ فَلِيمَ فِي ذَلِكَ، فَصَارَ يَأْكُلُهُ بِالزَّيْتِ، مَاتَ بِمُرْوِ الرُّوذِ، فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتَّ عَشَرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ (516هـ) وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى التِّسْعِينَ ظَنًّا، وَدُفِنَ عِنْدَ شَيْخِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ. (إِذْ قَسَّمَ) كِتَابَهُ (الْمَصَابِحَا) بِحَذْفِ الْيَاءِ تَخْفِيفًا، جَمْعَ مِصْبَاحٍ؛ وَهُوَ السِّرَاجُ (إِلَى الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، جَانِحَا) أَيْ: سَائِرًا إِلَى أَنَّ الصِّحَاحَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا. وَ(الْحِسَانُ مَا رَوَوْهُ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَالنَّسَائِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ (فِي السُّنَنِ) مِنْ تَصَانِيفِهِمْ مِمَّا يَتَضَمَّنُ مُسَاعَدَةَ ابْنِ الصَّلَاحِ؛ لِاسْتِلْزَامِهِ تَحْسِينَ الْمَسْكُوتِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ رُدَّ (عَلَيْهِ) فَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ، وَسَبَقَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فَقَالَ: إِنَّهُ اصْطِلَاحٌ لَا يُعْرَفُ، وَلَيْسَ الْحَسَنُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ، (إِذْ بِهَا) أَيْ: بِكُتُبِ السُّنَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا (غَيْرُ الْحَسَنِ) مِنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ. فَقَدْ (كَانَ أَبُو دَاوُدَ) يَتَتَبَّعُ مِنْ حَدِيثِهِ (أَقْوَى مَا وُجِدْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ كَمَا رَأَيْتُهُ بِخَطِّ النَّاظِمِ، وَيَجُوزُ بِنَاؤُهُ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَنْسَبَ (يَرْوِيهِ وَ) يَرْوِي الْحَدِيثَ (الضَّعِيفَ) أَيْ: مِنْ قِبَلِ سُوءِ حِفْظِ رَاوِيهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ كَالْمَجْهُولِ عَيْنًا أَوْ حَالًا، لَا مُطْلَقَ الضَّعْفِ الَّذِي يَشْمَلُ مَا كَانَ رَاوِيهِ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ. (حَيْثُ لَا يَجِدْ فِي الْبَابِ) حَدِيثًا (غَيْرَهُ فَذَاكَ) أَيِ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ (عِنْدَهُ، مِنْ رَأْيٍ) أَيْ: مِنْ جَمِيعِ آرَاءِ الرِّجَالِ (أَقْوَى) كَمَا (قَالَهُ) أَيْ: كَوْنُهُ يُخَرِّجُ الضَّعِيفَ وَيُقَدِّمُهُ عَلَى الْآرَاءِ، الْحَافِظُ أَحَدُ أَكَابِرِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، مِمَّنْ جَابَ وَجَالَ، وَلَقِيَ الْأَعْلَامَ وَالرِّجَالَ، وَشَرَّقَ وَغَرَّبَ، وَبَعُدَ وَقَرُبَ. أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ابْنُ مَنْدَهْ) وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَبْدِيُّ الْأَصْبِهَانِيُّ، وَ “ مَنْدَهْ “ لَقَبٌ لِوَالِدِهِ يَحْيَى، وَاسْمُهُ فِيمَا يُقَالُ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ. مَاتَ فِي سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (395هـ) عَنْ نَحْوِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. [قَالَ الْبَزْدَوِيُّ: لِأَنَّ الْخَبْرَ فِي الْغَالِبِ يَقِينٌ فِي أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الشُّبْهَةُ فِي نَقْلِهِ، وَالرَّاوِي مُحْتَمِلٌ بِأَصْلِهِ فِي كُلِّ وَصْفٍ عَلَى الْخُصُوصِ، وَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي الرَّأْيِ أَصْلًا، وَفِي الْحَدِيثِ عَارِضًا، وَأَبُو دَاوُدَ تَابَعَ فِي ذَلِكَ شَيْخَهُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ. فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ إِلَيْهِ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ، وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ أَحَبُّ إِلِيَّ مِنَ الرَّأْيِ. قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ بِبَلَدٍ لَا يَجِدُ فِيهَا إِلَّا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا يَدْرِي صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ، وَصَاحِبَ رَأْيٍ فَمَنْ يَسْأَلُ؟ قَالَ: يَسْأَلُ صَاحِبَ الْحَدِيثِ، وَلَا يَسْأَلُ صَاحِبَ الرَّأْيِ. [وَنَحْوُهُ مَا لِلدَّارِمِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا حَدَّثَكَ هَؤُلَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخُذْ بِهِ، وَمَا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ، فَأَلْقِهِ فِي الْحُشِّ. وَلِلْبَغَوِيِّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ: إِنَّمَا الرَّأْيُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَيْهَا أَكَلْتَهَا]. وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ أَحْمَدَ كَانَ يَحْتَجُّ بِعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْتَصِرَ عَلَى مَا صَحَّ عِنْدِي، لَمْ أَرْوِ مِنْ هَذَا الْمُسْنَدِ إِلَّا الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّكَ يَا بُنَيَّ، تَعْرِفُ طَرِيقَتِي فِي الْحَدِيثِ، إِنِّي لَا أُخَالِفُ مَا يَضْعُفُ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ، بَلْ حَكَى الطُّوفِيُّ عَنِ التَّقِيِّ ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: اعْتَبَرْتُ مُسْنَدَ أَحْمَدَ، فَوَجَدْتُهُ مُوافِقًا لِشَرْطِ أَبِي دَاوُدَ. انْتَهَى. وَنَحْوُ مَا حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا سَيَأْتِي فِي الْمُرْسَلِ حِكَايَةً عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ، مِمَّا نَسَبَهُ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ؛ أَنَّ الْمُرْسَلَ يُحْتَجُّ بِهِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلَالَةٌ سِوَاهُ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ جَمِيعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ إِمَامِهِمْ أَيْضًا أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ- كَمَا حَكَاهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَثْنَاءِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَتُرَدُّ مِنَ النُّكَتُ- حَمَلَ قَوْلَ ابْنِ مَنْدَهْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالضَّعِيفِ هُنَا الْحَدِيثُ الْحَسَنُ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَكَلَامُ أَبِي دَاوُدَ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي وَصَفَ فِيهَا كِتَابَهُ، إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ- مُشْعِرٌ بِخِلَافِهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُمْ أَنْ أَذْكُرَ لَكُمُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِي كِتَابِ السُّنَنُ أَهِيَ أَصَحُّ مَا عَرَفْتُ فِي الْبَابِ؟ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ كَذَلِكَ كُلُّهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَقْدَمُ إِسْنَادًا، وَالْآخَرُ صَاحِبُهُ قُدِّمَ فِي الْحِفْظِ، فَرُبَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ، أَيِ: الَّذِي هُوَ أَقْدَمُ إِسْنَادًا، وَلَا أَرَى فِي كِتَابِي مِنْ هَذَا عَشَرَةَ أَحَادِيثَ. وَلَمْ أَكْتُبْ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثًا أَوْ حَدِيثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، فَإِنَّهَا تَكْثُرُ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ قُرْبَ مَنْفَعَتِهِ، فَإِذَا أَعَدْتُ الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيَادَةِ كَلَامٍ فِيهِ، وَرُبَّمَا تَكُونُ فِيهِ كَلِمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَحَادِيثِ. وَرُبَّمَا اخْتَصَرْتُ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ؛ لِأَنِّي لَوْ كَتَبْتُهُ بِطُولِهِ، لَمْ يَعْلَمْ بَعْضُ مَنْ يَسْمَعُهُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَلَا يَفْهَمُ وَضْعَ الْفِقْهِ مِنْهُ، فَاخْتَصَرْتُهُ لِذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَيْسَ فِي كِتَابِ السُّنَنِ الَّذِي صَنَّفْتُهُ عَنْ رَجُلٍ مَتْرُوكِ الْحَدِيثِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَيَّنْتُهُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ، وَلَيْسَ عَلَى نَحْوِهِ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. قَالَ: وَقَدْ أَلَّفْتُهُ نَسَقًا عَلَى مَا صَحَّ عِنْدِي؛ فَإِنْ ذُكِرَ لَكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ لَيْسَ فِيمَا خَرَّجْتُهُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاهٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِي مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، فَإِنِّي لَمْ أُخَرِّجِ الطُّرُقَ؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا جَمَعَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ غَيْرِي...إِلَى آخِرِ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ عَرَضَ سُنَنَهُ عَلَى شَيْخِهِ أَحْمَدَ، فَاسْتَحْسَنَهُ. وَكَذَا فِيمَا حَكَى ابْنُ مَنْدَهْ أَيْضًا مِمَّا سَمِعَهُ بِمِصْرَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْبَارُودِيِّ، كَانَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ (النَّسَائِيُّ) صَاحِبُ السُّنَنِ وَالْآتِي فِي الْوَفَيَاتِ، لَا يَقْتَصِرُ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِمْ. بَلْ (يُخْرِجُ) حَدِيثَ (مَنْ لَمْ يُجْمِعُوا) أَيْ: أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ (عَلَيْهِ تَرْكًا) أَيْ: عَلَى تَرْكِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُخَرِّجُ لِلْمَجْهُولِينَ حَالًا وَعَيْنًا؛ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِمْ- كَمَا سَيَأْتِي- وَهُوَ كَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ، (مَذْهَبٌ مُتَّسِعُ) يَعْنِي: إِنْ لَمْ يَرِدْ إِجْمَاعٌ خَاصٌّ، كَمَا قَرَّرُهُ شَيْخُنَا؛ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ كُلَّ طَبَقَةٍ مِنْ نُقَّادِ الرِّجَالِ لَا تَخْلُو مِنْ مُتَشَدِّدٍ وَمُتَوَسِّطٍ؛ فَمِنَ الْأُولَى شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ أَشَدُّهُمَا. وَمِنَ الثَّانِيَةِ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَيَحْيَى أَشَدُّهُمَا، وَمِنَ الثَّالِثَةِ ابْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ أَشَدُّهُمَا، وَمِنَ الرَّابِعَةِ أَبُو حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ أَشَدُّهُمَا. فَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَا يُتْرَكُ الرَّجُلُ عِنْدِي حَتَّى يَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ، فَأَمَّا إِذَا وَثَّقَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يُتْرَكُ؛ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَشْدِيدِ يَحْيَى وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي النَّقْدِ. وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ ابْنِ مَنْدَهْ: “ وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ يَأْخُذُ مَأْخَذَ النَّسَائِيِّ “ يَعْنِي فِي عَدَمِ التَّقَيُّدِ بِالثِّقَةِ، وَالتَّخْرِيجِ لِمَنْ ضُعِّفَ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ صَنِيعُهُمَا. وَقَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ لَهُ حِكَايَةً عَنِ ابْنِ مَنْدَهْ: إِنَّ شَرْطَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ إِخْرَاجُ حَدِيثِ قَوْمٍ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَرْكِهِمْ، إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ بِاتِّصَالِ الْإِسْنَادِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَلَا إِرْسَالٍ- مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا، وَإِلَّا فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ أَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، تَجَنَّبَ النَّسَائِيُّ إِخْرَاجَ حَدِيثِهِ، بَلْ تَجَنَّبَ النَّسَائِيُّ إِخْرَاجَ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ رِجَالِ الشَّيْخَيْنِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّ شَرْطَهُ فِي الرِّجَالِ أَشَدُّ مِنْ شَرْطِهِمَا. عَلَى أَنَّهُ قَدِ انْتَصَرَ التَّاجُ التِّبْرِيزِيُّ لِلْبَغَوِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، بَلْ تَخْطِئَةُ الْمَرْءِ فِي اصْطِلَاحِهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَالْبَغَوِيُّ قَدْ صَرَّحَ فِي ابْتِدَاءِ كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: أَعْنِي بِالصِّحَاحِ كَذَا، وَبِالْحِسَانِ كَذَا، وَمَا قَالَ: أَرَادَ الْمُحَدِّثُونَ بِهِمَا كَذَا، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ خُصُوصًا. وَقَدْ قَالَ: وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ضَعِيفٍ أَوْ غَرِيبٍ، أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَأَعْرَضْتُ عَمَّا كَانَ مُنْكَرًا أَوْ مَوْضُوعًا، وَأَيَّدَهُ شَيْخُنَا بِحُكْمِهِ فِي قِسْمِ الْحِسَانِ بِصِحَّةِ بَعْضِ أَحَادِيثِهِ تَارَةً، إِمَّا نَقْلًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَضَعَّفَهُ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ لَوْ أَرَادَ بِالْحِسَانِ الِاصْطِلَاحَ الْعَامَّ، مَا نَوَّعَهُ. وَلَا تَضُرُّ الْمُنَاقَشَةُ لَهُ فِي ذِكْرِهِ مَا يَكُونُ مُنْكَرًا بَعْدَ الْتِزَامِهِ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ؛ كَقَوْلِهِ فِي بَابِ السَّلَامِ مِنَ الْأَدَبِ: وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ. وَهَذَا مُنْكَرٌ، وَلَا تَصْرِيحُهُ بِالصِّحَّةِ وَالنَّكَارَةِ فِي بَعْضِ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْحِسَانَ. كَمَا لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ حِكَايَةِ تَنْصِيصِ التِّرْمِذِيِّ فِي بَعْضِهَا بِالصِّحَّةِ أَحْيَانًا، وَلَا إِدْخَالُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمُسَمَّى بِالصِّحَاحِ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ لَيْسَتْ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا فِي أَحَدِهِمَا مَعَ الْتِزَامِهِ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَأَمْرٍ خَارِجِيٍّ يَرْجِعُ إِلَى الذُّهُولِ وَنَحْوِهِ، بَلْ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا فِي الْعُذْرِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخِيرِ فَقَطْ أَنَّهُ يَذْكُرُ أَصْلَ الْحَدِيثِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا. ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ لَفْظِهِ، وَلَوْ بِزِيَادَةٍ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْخَبَرِ يَكُونُ بَعْضُ مَنْ خَرَّجَ السُّنَنَ أَوْرَدَهَا، فَيُشِيرُ هُوَ إِلَيْهَا لِكَمَالِ الْفَائِدَةِ. (وَمَنْ عَلَيْهَا) أَيِ: السُّنَنِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا (أَطْلَقَ الصَّحِيحَا) كَالْحَاكِمِ وَالْخَطِيبِ؛ حَيْثُ أَطْلَقَا الصِّحَّةَ عَلَى التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَنْدَهْ وَابْنِ السَّكَنِ عَلَى كِتَابَيْ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَالْحَاكِمِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ عَلَى كِتَابِ النَّسَائِيِّ؛ حَتَّى شَذَّ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ، فَفَضَّلَهُ عَلَى كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، كَمَا قَدَّمْتُهُ فِي “ أَصَحِّ كُتُبِ الْحَدِيثِ “ مَعَ رَدِّهِ. بَلْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ اتِّفَاقَ عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ عَلَى صِحَّةِ الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ (فَقَدْ أَتَى تَسَاهُلًا صَرِيحًا)؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا صَرَّحُوا بِكَوْنِهِ ضَعِيفًا أَوْ مُنْكَرًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الضَّعِيفِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ بِانْقِسَامِ مَا فِي كِتَابِهِ إِلَى صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ مُصَرِّحٌ فِيمَا فِي كِتَابِهِ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ. وَأَمَّا حَمْلُ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ فِي شَرْحِهِ لِلتِّرْمِذِيِّ قَوْلَ السِّلَفِيِّ عَلَى مَا لَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ فِيهِ مِنْ مُخَرِّجِهَا وَغَيْرِهِ بِالضَّعْفِ- فَيَقْتَضِي كَمَا قَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ- أَنَّ مَا كَانَ فِي الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَلَمْ يُصَرَّحْ بِضَعْفِهِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَلَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ صَحِيحًا، بَلْ فِي كُتُبِ السُّنَنِ أَحَادِيثُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا التِّرْمِذِيُّ أَوْ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا كَلَامًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ ضَعِيفَةٌ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: مُرَادُ السِّلَفِيِّ: أَنَّ مُعْظَمَ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ يُحْتَجُّ بِهِ، أَيْ: صَالِحٌ لَأَنْ يُحْتَجَّ بِهِ؛ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَى إِطْلَاقِ عِبَارَتِهِ الْمَنْسُوخُ أَوِ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرِ الضَّعِيفَ الَّذِي فِيهَا؛ لِقِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعَيْنِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَكِتَابُ النَّسَائِيِّ أَقَلُّهَا بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثًا ضَعِيفًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ رُشَيْدٍ: إِنَّهُ أَبْدَعُ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي السُّنَنِ تَصْنِيفًا، وَأَحْسَنُهَا تَرْصِيفًا، وَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، مَعَ حَظٍّ كَبِيرٍ مِنْ بَيَانِ الْعِلَلِ. بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ مِنْ شُيُوخِ ابْنِ الْأَحْمَرِ: إِنَّهُ أَشْرَفُ الْمُصَنَّفَاتِ كُلِّهَا، وَمَا وُضِعَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ. انْتَهَى. وَيُقَارِبُهُ كِتَابُ أَبِي دَاوُدَ، بَلْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يُصَنَّفْ فِي عِلْمِ الدِّينِ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ وَصْفًا، وَأَكْثَرُ فِقْهًا مِنَ الصَّحِيحَيْنِ. وَيُقَارِبُهُ كِتَابُ التِّرْمِذِيِّ، بَلْ كَانَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ قَالَ: هُوَ عِنْدِي أَنْفَعُ مِنْ كِتَابَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقِفُ عَلَى الْفَائِدَةِ مِنْهَا إِلَّا الْمُتَبَحِّرُ الْعَالِمُ، وَهُوَ يَصِلُ إِلَى الْفَائِدَةِ مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. فَأَمَّا كِتَابُ ابْنِ مَاجَهْ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِأَحَادِيثَ عَنْ رِجَالٍ مُتَّهَمِينِ بِالْكَذِبِ وَسَرِقَةِ الْأَحَادِيثِ، مِمَّا حُكِمَ عَلَيْهَا بِالْبُطْلَانِ أَوِ السُّقُوطِ أَوِ النَّكَارَةِ، حَتَّى كَانَ الْعَلَائِيُّ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كِتَابُ الدَّارِمِيِّ سَادِسًا لِلْخَمْسَةِ بَدَلَهُ، فَإِنَّهُ قَلِيلُ الرِّجَالِ الضُّعَفَاءِ، نَادِرُ الْأَحَادِيثِ الْمُنْكَرَةِ وَالشَّاذَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُرْسَلَةً وَمَوْقُوفَةً، فَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْهُ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ كَرُزَيْنٍ السَّرَقُسْطِيِّ وَتَبِعَهُ الْمَجْدُ بْنُ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَكَذَا غَيْرُهُ جَعَلُوا السَّادِسَ الْمُوَطَّأَ. وَلَكِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَضَافَ ابْنَ مَاجَهْ إِلَى خَمْسَةٍ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ؛ حَيْثُ أَدْرَجَهُ مَعَهَا فِي الْأَطْرَافِ، وَكَذَا فِي شُرُوطِ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ، ثُمَّ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي كِتَابِ (الْكَمَالِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ) الَّذِي هَذَّبَهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ، وَقَدَّمُوهُ عَلَى الْمُوَطَّأِ؛ لِكَثْرَةِ زَوَائِدِهِ عَلَى الْخَمْسَةِ، بِخِلَافِ الْمُوَطَّأِ. (وَدُونَهَا) أَيْ: كُتُبِ السُّنَنِ (فِي رُتْبَةٍ) أَيْ: رُتْبَةِ الِاحْتِجَاجِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ بَقِيَّةِ الْمُبَوِّبِينَ (مَا جُعِلَا عَلَى الْمَسَانِيدِ) الَّتِي مَوْضُوعُهَا جَعْلُ حَدِيثِ كُلِّ صَحَابِيٍّ عَلَى حِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِالْمُحْتَجِّ بِهِ، (فـَ) بِهَذَا السَّبَبِ (يُدْعَى) فِيهِ الْحَدِيثُ الدَّعْوَةَ (الْجَفَلَا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْفَاءِ مَقْصُورًا، أَيِ: الْعَامَّةَ لِلْمُحْتَجِّ بِهِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ، يُقَالُ: دَعَا فُلَانٌ الْجَفَلَا، إِذَا عَمَّ بِدَعْوَتِهِ، وَلَمْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، وَالنَّقَرَى وَزْنُهُ أَيْضًا هِيَ الْخَاصَّةُ. وَكَانَ الرُّكُونُ لَأَجْلِ هَذَا لِمَا يُورِدُ فِي تِلْكَ أَكْثَرَ، لَا سِيَّمَا وَاسْتِخْرَاجُ الْحَاجَةِ مِنْهَا أَيْسَرُ، وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَةُ هَذِهِ بِجَلَالَةِ مُؤَلِّفِيهَا، وَتَقَدُّمِ تَأْرِيخِ مَنْ سَأُسَمِّيهِ مِنْهُمْ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّصْنِيفِ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالتَّرَاجِمِ. فَقَالَ: التَّرَاجِمُ يُذْكَرُ فِيهَا مَا رَوَى الصَّحَابِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ: ذِكْرُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُتَرْجِمُ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْنَدَ، فَيَقُولُ: ذِكْرُ مَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، فَيُورِدُ جَمِيعَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحًا كَانَ أَوْ سَقِيمًا. وَأَمَّا الْأَبْوَابُ فَإِنَّ مُصَنِّفَهَا يَقُولُ: كِتَابُ الطَّهَارَةِ مَثَلًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: ذِكْرُ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ ثُمَّ يُورِدُهَا. انْتَهَى. 82- كَمُسْنَدِ الطَّيَالِسِي وَأَحْمَدَا *** وَعَدُّهُ لِلدَّارِمِيِّ انْتُقِدَا. وَالْمَسَانِيدُ كَثِيرَةٌ (كَمُسْنَدِ) الْحَافِظِ الثِّقَةِ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْجَارُودِ الْقُرَشِيِّ الْفَارِسِيِّ الْأَصْلِ الْبَصْرِيِّ (الطَّيَالِسِيِّ) نِسْبَةً إِلَى الطَّيَالِسَةِ الَّتِي تُجْعَلُ عَلَى الْعَمَائِمِ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ أَوْ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ (203 أَوْ 204هـ) عَنْ نَحْوِ سَبْعِينَ سَنَةً. وَهَذَا الْمُسْنَدُ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ، فَقَدْ كَانَ يَحْفَظُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ تَصْنِيفِهِ هُوَ لَهُ، إِنَّمَا تَوَلَّى جَمْعَهُ بَعْضُ حُفَّاظِ الْأَصْبَهَانِيِّينَ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ الرَّاوِي عَنْهُ. وَكَمُسْنَدِ أَبِي مُحَمَّدٍ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْعَبْسِيِّ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ مُسَدَّدِ بْنِ مُسَرْهَدٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبِي يَعْقُوبَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَالْإِمَامِ الْمُبَجَّلِ (أَحْمَدَ) الْآتِي ذِكْرُهُ فِي الْوَفَيَاتِ، وَابْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْكَشِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَاصَرَهُمْ، أَوْ كَانَ بَعْدَهُمْ. وَلَكِنْ (عَدَّهُ) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِهِ (لِلدَّارِمِيِّ) أَيْ: لِمُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ، نِسْبَةً إِلَى دَارِمِ بْنِ مَالِكٍ، بَطْنٍ كَبِيرٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَهُوَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ، تُوُفِّيَ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَدُفِنَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ (255هـ)، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، فِي الْمَسَانِيدِ (انْتُقِدَا) عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى الْأَبْوَابِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْتُهُ قَرِيبًا، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ- عَلَى بُعْدٍ- أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مُسْنَدَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي تَصَانِيفِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ صَنَّفَ الْمُسْنَدَ وَالتَّفْسِيرَ وَالْجَامِعَ. وَكَذَا انْتَقَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ- كَمَا قَرَأْتُهُ بِخَطِّ الشَّارِحِ- تَفْضِيلَ كُتُبِ السُّنَنِ عَلَى “ مُسْنَدِ أَحْمَدَ “ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ هَذِهِ الْمَسَانِيدِ بَلْ مُطْلَقًا، وَأَحْسَنُهَا سِيَاقًا، مُتَمَسِّكًا بِكَوْنِهِ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ إِلَّا مَا يُحْتَجُّ بِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَدَمُ اسْتِيعَابِ مَا عِنْدَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَاهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، وَقَالَ: مَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الصِّحَّةَ. وَالْحَقُّ أَنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ضَعِيفَةً، وَبَعْضَهَا أَشَدُّ فِي الضَّعْفِ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى إِنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي “ مَوْضُوعَاتِهِ “، وَلَكِنْ قَدْ تَعَقَّبَهُ فِي بَعْضِهَا الشَّارِحُ وَفِي سَائِرِهَا أَوْ جُلِّهَا شَيْخُنَا، وَحَقَّقَ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ نَفْيَ الْوَضْعِ عَنْ جَمِيعِ أَحَادِيثِهِ، وَأَنَّهُ أَحْسَنُ انْتِقَاءً وَتَحْرِيرًا مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ تَلْتَزِمِ الصِّحَّةَ فِي جَمْعِهَا. قَالَ: وَلَيْسَتِ الْأَحَادِيثُ الزَّائِدَةُ فِيهِ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَكْثَرِ ضَعْفًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ فِي “ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ “ وَالتِّرْمِذِيِّ عَلَيْهِمَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَسَبِيلُ مَنْ أَرَادَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثٍ مِنَ السُّنَنِ، لَا سِيَّمَا ابْنُ مَاجَهْ وَمُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِمَّا الْأَمْرُ فِيهَا أَشَدُّ، أَوْ بِحَدِيثٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَاحِدٍ؛ إِذْ جَمِيعُ ذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ مِنْ جَمْعِهِ الصِّحَّةُ وَلَا الْحُسْنُ خَاصَّةً. وَهَذَا الْمُحْتَجُّ إِنْ كَانَ مُتَأَهِّلًا لِمَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِحَدِيثٍ مِنَ السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ فِي اتِّصَالِ إِسْنَادِهِ، وَحَالِ رُوَاتِهِ. كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِحَدِيثٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ، حَتَّى يُحِيطَ عِلْمًا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَأَهِّلٍ لِدَرْكِ ذَلِكَ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنْ وَجَدَ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ صَحَّحَهُ أَوْ حَسَّنَهُ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ، فَلَا يُقْدِمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، فَيَكُونُ كَحَاطِبِ لَيْلٍ، فَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. 83- وَالْحُكْمُ لِلْإِسْنَادِ بِالصِّحَّةِ أَوْ *** بِالْحُسْنِ دُونَ الْحُكْمِ لِلْمَتْنِ رَأَوْا 84- وَاقْبَلْهُ إِنْ أَطْلَقَهُ مَنْ يُعْتَمَدْ *** وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِضَعْفٍ يُنْتَقَدْ 85- وَاسْتُشْكِلَ الْحُسْنُ مَعَ الصِّحَّةِ فِي *** مَتْنٍ فَإِنْ لَفْظًا يَرِدْ فَقُلْ صِفِ 86- بِهِ الضَّعِيفَ أَوْ يَرِدْ مَا يَخْتَلِفْ *** سَنَدُهُ فَكَيْفَ إِنْ فَرْدٌ وُصِفْ 87- وَلَأَبِي الْفَتْحِ فِي الِاقْتِرَاحِ *** إِنَّ انْفِرَادَ الْحُسْنِ ذُو اصْطِلَاحِ 88- وَإِنْ يَكُنْ صَحَّ فَلَيْسَ يَلْتَبِسْ *** كُلُّ صَحِيحٍ حَسَنٌ لَا يَنْعَكِسْ 89- وَأَوْرَدُوا مَا صَحَّ مِنْ أَفْرَادِ *** حَيْثُ اشْتَرَطْنَا غَيْرَ مَا إِسْنَادِ. [عَدَمُ التَّلَازُمِ بَيْنَ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ] وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ بِانْفِرَادِهِ، نَاسَبَ إِرْدَافَهُمَا بِمَسْأَلَتَيْنِ مُتَعَلِّقَتَيْنِ بِهِمَا؛ فَلِذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ (وَالْحُكْمُ) الصَّادِرُ مِنَ الْمُحَدِّثِ (لِلْإِسْنَادِ بِالصِّحَّةِ) كَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ (أَوْ بِالْحُسْنِ) كَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ (دُونَ الْحُكْمِ) مِنْهُ بِذَلِكَ (لِلْمَتْنِ) كَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ. كَمَا (رَأَوْا) حَسَبَ مَا اقْتَضَاهُ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ؛ إِذْ قَدْ يَصِحُّ السَّنَدُ أَوْ يَحْسُنُ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ مِنَ الِاتِّصَالِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالضَّبْطِ دُونَ الْمَتْنِ؛ لِشُذُوذٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَلَا يَخْدِشُ فِي عَدَمِ التَّلَازُمِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، مُرَادُهُمْ بِهِ اتِّصَالُ سَنَدِهِ مَعَ سَائِرِ الْأَوْصَافِ فِي الظَّاهِرِ لَا قَطْعًا؛ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ الْحُكْمَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَسَانِيدِ ذَاكَ الْحَدِيثِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالتَّقْيِيدُ بِالْإِسْنَادِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي صِحَّةِ الْمَتْنِ وَلَا ضَعْفِهِ، بَلْ هُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ، إِنْ صَدَرَ مِمَّنْ لَمْ يَطَّرِدْ لَهُ عَمَلٌ فِيهِ، أَوِ اطَّرَدَ فِيمَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ صِحَّةُ مَتْنِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مُنْحَطَّ الرُّتْبَةِ عَنِ الْحُكْمِ لِلْحَدِيثِ. (وَاقْبَلْهُ) أَيِ: الْحُكْمَ لِلْإِسْنَادِ بِالصِّحَّةِ أَوِ الْحُسْنِ فِي الْمَتْنِ أَيْضًا (إِنْ أَطْلَقَهُ) أَيِ: الْحُكْمَ لِلْإِسْنَادِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا (مَنْ يُعْتَمَدْ) أَيْ: مِمَّنْ عُرِفَ بِاطِّرَادِ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ الْحَامِلُ لِابْنِ الصَّلَاحِ عَلَى التَّفْرِقَةِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: غَيْرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ الْمُعْتَمَدَ مِنْهُمْ... إِلَى آخِرِهِ. فَكَأَنَّهُ خَصَّ الْأَوَّلَ بِمَنْ لَمْ يُصَنِّفْ مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ الْكَلَامُ عَلَى الْأَحَادِيثِ إِجَابَةً لِمَنْ سَأَلَهُ، أَوْ صَنَّفَ لَا عَلَى الْأَبْوَابِ، بَلْ عَلَى الْمَشْيَخَاتِ وَالْمَعَاجِمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ، فَقَدْ قِيلَ بِنَحْوِهِ فِي الْعَزْوِ لَأَصْلِ الْمُسْتَخْرَجَاتِ مِمَّا يُنْقَلُ مِنْهَا بِدُونِ مُقَابَلَةٍ عَلَيْهِ؛ حَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَ التَّصْنِيفِ عَلَى الْأَبْوَابِ وَغَيْرِهَا. وَلَمْ يُرِدِ ابْنُ الصَّلَاحِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ؛ إِذْ غَيْرُ الْمُعْتَمَدِ لَا يُعْتَمَدُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْكُلُّ مُعْتَمَدُونَ؛ غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَشَدُّ اعْتِمَادًا. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْغَايَةِ فِي الْعُمْدَةِ بِالْجِهْبِذِ (وَ) ذَلِكَ حَيْثُ (لَمْ يُعَقِّبْهُ) أَيِ: الْحُكْمَ لِلْإِسْنَادِ (بِضَعْفٍ يُنْتَقَدْ) بِهِ الْمَتْنُ إِمَّا نَقْلًا عَنْ غَيْرِهِ أَوْ بِنَقْدِهِ هُوَ وَتَصَرُّفِهِ؛ إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ الْمُصَنِّفِ- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ- الْحُكْمُ لَهُ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، أَيْ: فِي نَفْسِ الْمَتْنِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ، أَيْ: فِي هَذَا الْمَتْنِ خَاصَّةً، نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْمُصَنِّفَ إِنَّمَا أَطْلَقَ بَعْدَ الْفَحْصِ عَنِ انْتِقَاءِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ عَدَمُ الْعِلَّةِ وَالْقَادِحِ هُوَ الْأَصْلُ مُطْلَقًا، مَا اشْتُرِطَ عَدَمُهُ فِي الصَّحِيحِ. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ الْحُكْمُ لِلْإِسْنَادِ بِالضَّعْفِ؛ إِذْ قَدْ يَضْعُفُ لِسُوءِ حِفْظٍ وَانْقِطَاعٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلِلْمَتْنِ طَرِيقٌ آخَرُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، كَمَا سَيَأْتِي أَوَّلَ التَّنْبِيهَاتِ التَّالِيَةِ لِلْمَقْلُوبِ، وَلَكِنَّ الْمُحَدِّثَ الْمُعْتَمَدَ لَوْ لَمْ يَفْحَصْ عَنِ انْتِفَاءِ الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، مَا أَطْلَقَ. ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ مَا تَقَرَّرَ قَدْ يَدِّعِي أَرْجَحِيَّةَ مَا نَصَّ فِيهِ عَلَى الْمَتْنِ؛ لِمَا عُلِمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِالْعِبَارَةِ وَالنَّصِّ عَلَى مَا هُوَ بِالظُّهُورِ وَاللُّزُومِ. وَمِمَّا يَشْهَدُ لِعَدَمِ التَّلَازُمِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: “ تَسَحَّرُوا؛ فِإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً “، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَأَحْسَبُ الْغَلَطَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَكَذَا أَوْرَدَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ غَيْرَ حَدِيثٍ يَحْكُمُ عَلَى إِسْنَادِهِ بِالصِّحَّةِ، وَعَلَى الْمَتْنِ بِالْوَهَاءِ؛ لِعِلَّتِهِ أَوْ شُذُوذِهِ، إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَذَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَالْمِزِّيِّ؛ حَيْثُ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْحُكْمُ بِصَلَاحِيَةِ الْإِسْنَادِ وَنَكَارَةِ الْمَتْنِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا: “ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ “، وَقَالَ بَعْدَهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، وَنَحْوُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ، مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَفَعَهُ: “ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ... “، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَالَ عَقِبَهُ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَلَكِنْ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِقَوِيٍّ.
(وَ) الثَّانِيَةُ (اسْتُشْكِلَ الْحُسْنُ) الْوَاقِعُ جَمْعُهُ فِي كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ كَثِيرًا وَغَيْرِهِ كَالْبُخَارِيِّ (مَعَ الصِّحَّةِ فِي مَتْنٍ) وَاحِدٍ، كَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ؛ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْحَسَنَ قَاصِرٌ عَنِ الصَّحِيحِ، فَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ جَمْعٌ بَيْنَ نَفْيِ ذَلِكَ الْقُصُورِ وَإِثْبَاتِهِ، وَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَائِلُ أَرَادَ الْحُسْنَ الِاصْطِلَاحِيَّ أَوِ اللُّغَوِيَّ. (فَإِنْ لَفْظًا يُرِدْ) أَيْ: فَإِنْ يُرِدِ الْقَائِلُ بِهِ اللَّفْظَ؛ لِكَوْنِهِ مِمَّا فِيهِ بُشْرَى لِلْمُكَلَّفِ، وَتَسْهِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَيْسِيرٌ لَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَا يَأْبَاهُ الْقَلْبُ، وَهُوَ اللُّغَوِيُّ، فَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ غَيْرُ مُسْتَنْكَرِ الْإِرَادَةِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ. وَلَكِنْ قَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ حُسْنُ اللَّفْظِ فَقَطْ، (فَقُلْ صِفْ بِهِ) أَيْ: بِالْحَسَنِ (الضَّعِيفَ) وَلَوْ بَلَغَ رُتْبَةَ الْوَضْعِ، يَعْنِي كَمَا هُوَ قَصْدُ الْوَاضِعِينَ غَالِبًا، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِذَا جَرَوْا عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ، بَلْ صَرَّحَ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِطْلَاقُهُ فِي الْمَوْضُوعِ، يَعْنِي وَلَوْ خَرَجُوا عَنِ اصْطِلَاحِهِمْ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَوْقَعَ فِي لَبْسٍ، وَأَيْضًا فَحُسْنُ لَفْظِهِ مُعَارَضٌ بِقُبْحِ الْوَضْعِ أَوِ الضَّعْفِ. لَكِنْ أَجَابَ بِمَنْعِ وُرُودِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ، الَّذِي هُوَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَلِذَلِكَ تَبِعَهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ فِيهِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي أَنَّ تَقْيِيدَ التِّرْمِذِيِّ بِالْإِسْنَادِ؛ حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ بِحُسْنِ إِسْنَادِهِ- يَدْفَعُ إِرَادَةَ حُسْنِ اللَّفْظِ، وَلَكِنْ لَا يَأْتِي هَذَا إِذَا مَشَيْنَا عَلَى أَنَّ تَعْرِيفَهُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَقُولُ فِيهِ، حَسَنٌ فَقَطْ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ فِي دَفْعِ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ: حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُ حَسَنُ الْأَلْفَاظِ، بَلِيغُ الْمَعَانِي، يَعْنِي فَلِمَ يَخُصَّ بِالْوَصْفِ بِذَلِكَ بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ، فَهُوَ كَذَلِكَ جَزْمًا، لَكِنَّ فِيهِ مَا هُوَ فِي التَّرْهِيبِ وَنَحْوِهِ؛ كَـ “ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ “ وَمَا هُوَ فِي التَّرْغِيبِ وَالْفَضَائِلِ؛ كَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنَ النَّصِّ فِي الثَّانِي وَنَحْوِهِ عَلَى الْحُسْنِ اللُّغَوِيِّ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ فِي التِّرْمِذِيِّ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِيهِ، وَالِانْفِصَالَ عَنْهُ- كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ- أَنَّ الْوَصْفَ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ بِالتَّرْهِيبِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ بِالَأَسَالِيبِ الْبَدِيعَةِ. وَحِينَئِذٍ فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ، (أَوْ) إِنْ (يُرِدْ مَا يَخْتَلِفُ سَنَدُهُ)؛ بِأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ بِإِسْنَادَيْنِ: أَحَدُهُمَا حَسَنٌ، وَالْآخَرُ صَحِيحٌ، فَيَسْتَقِيمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْإِسْنَادَيْنِ. وَهَذَا الْجَوَابُ لِابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا. وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا بِأَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ فِيمَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ لِاخْتِلَافِ مَخْرَجِهِ (فَكَيْفَ) يُمْكِنُ (إِنْ) حَدِيثٌ (فَرْدٌ وُصِفْ) بِذَلِكَ؟! كَمَا يَقَعُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ نَفْسِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَوْ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ فُلَانٍ. وَتَبِعَهُ فِي رَدِّ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ تِلْمِيذُهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، قَالَ: وَأَيْضًا فَلَوْ أَرَادَ أَيِ: الْجَامِعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ وَاحِدًا مِنْهُمَا، لَحَسُنَ أَنْ يَأْتِيَ بِوَاوِ الْعَطْفِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَيَقُولَ: حَسَنٌ وَصَحِيحٌ؛ لِتَكُونَ أَوْضَحَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، أَوِ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. (وَلِأَبِي الْفَتْحِ) التَّقِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُطِيعِ بْنِ أَبِي الطَّاعَةِ الْقُشَيْرِيِّ الْمَنْفَلُوطِيِّ ثُمَّ الْقَاهِرِيِّ الْمَالِكِيِّ ثُمَّ الشَّافِعِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَهُوَ الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ الشَّهِيرُ أَعْلَمُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِفِقْهِ الْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ، وَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ. وَمَعْرِفَةِ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ، مَعَ تَقَدُّمِهِ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْوِلَايَةِ؛ بِحَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْخَوَاطِرِ، وَنَاهِيكَ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ: مَا تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ، وَلَا فَعَلْتُ فِعْلًا، إِلَّا أَعْدَدْتُ لِذَلِكَ جَوَابًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. ذُو التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْفُنُونِ، وَأَحَدُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ مِصْرَ، وَفَاقَ فِي الْقِيَامِ بِالْحَقِّ، وَالصَّلَابَةِ فِي الْحُكْمِ، وَعَدَمِ الْمُحَابَاةِ، بَلْ كَانَ إِذَا تَخَاصَمَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدَّوْلَةِ، بَالَغَ فِي التَّشَدُّدِ وَالتَّثَبُّتِ، فَإِنْ سَمِعَ مَا يَكْرَهُهُ عَزَلَ نَفْسَهُ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا وَهُوَ يُعَادُ. وَكَانَ يَقُولُ: ضَابِطُ مَا يُطْلَبُ مِنِّي مِمَّا يَجُوزُ شَرْعًا لَا أَبْخَلُ بِهِ. وَاسْتَمَرَّ فِي الْقَضَاءِ حَتَّى مَاتَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ (702هـ)، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَمَوْلِدُهُ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةِ (625هـ) (فِي كِتَابِهِ الِاقْتِرَاحِ) فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي نَظَمَهُ النَّاظِمُ وَشَرَحْتُهُ، بَعْدَ رَدِّهِمَا- كَمَا تَقَدَّمَ- فِي الْجَوَابِ عَنِ الْإِشْكَالِ مَا حَاصِلُهُ (أَنَّ انْفِرَادَ الْحُسْنِ) فِي سَنَدٍ أَوْ مَتْنٍ، الْحَسَنُ فِيهِ (ذُو اصْطِلَاحِ) أَيِ: الِاصْطِلَاحِيُّ الْمُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُصُورُ عَنِ الصِّحَّةِ. (وَإِنْ يَكُنِ) الْحَدِيثُ (صَحَّ) أَيْ: وُصِفَ مَعَ الْحُسْنِ بِالصِّحَّةِ (فَلَيْسَ يَلْتَبِسْ) حِينَئِذٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، بَلِ الْحُسْنُ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ تَبَعًا لِلصِّحَّةِ. وَشَرْحُ هَذَا وَبَيَانُهُ: أَنَّ هَهُنَا صِفَاتٍ لِلرُّوَاةِ تَقْتَضِي قَبُولَ الرِّوَايَةِ، وَلِتِلْكَ الصِّفَاتِ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ كَالتَّيَقُّظِ وَالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ مَثَلًا، وَوُجُودُ الدَّرَجَةِ الدُّنْيَا كَالصِّدْقِ مَثَلًا وَعَدَمِ التُّهْمَةِ بِالْكَذِبِ- لَا يُنَافِيهِ وُجُودُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ؛ كَالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِذَا وُجِدَتِ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا، لَمْ يُنَافِ ذَلِكَ وُجُودَ الدُّنْيَا؛ كَالْحِفْظِ مَعَ الصِّدْقِ. فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا: إِنَّهُ حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الصِّفَةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ الصِّدْقُ مَثَلًا، صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ الْعُلْيَا، وَهِيَ الْحِفْظُ وَالْإِتْقَانُ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا (كُلُّ صَحِيحٍ حَسَنٌ لَا يَنْعَكِسُ) أَيْ: وَلَيْسَ كُلُّ حَسَنٍ صَحِيحًا، وَيَتَأَيَّدُ الشِّقُّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَسَبَقَهُ ابْنُ الْمَوَّاقِ، فَقَالَ: لَمْ يَخُصَّ التِّرْمِذِيُّ- يَعْنِي فِي تَعْرِيفِهِ السَّابِقِ- الْحَسَنَ بِصِفَةٍ تُمَيِّزُهُ عَنِ الصَّحِيحِ؛ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا إِلَّا هُوَ غَيْرُ شَاذٍّ، وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا حَتَّى تَكُونَ رُوَاتُهُ غَيْرَ مُتَّهَمِينَ، بَلْ ثِقَاتٍ. قَالَ: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُسْنَ عِنْدَهُ صِفَةٌ لَا تَخُصُّ هَذَا الْقِسْمَ، بَلْ قَدْ يَشْرِكُهُ فِيهَا الصَّحِيحُ، فَكُلُّ صَحِيحٍ عِنْدَهُ حَسَنٌ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَقُولُ فِي حَدِيثٍ يُصَحِّحُهُ إِلَّا: حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَ) لَكِنْ قَدْ (أَوْرَدُوا) أَيِ: ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ- كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ أَوَّلَ الْقِسْمِ- (مَا صَحَّ مِنْ) أَحَادِيثَ (أَفْرَادٍ)، أَيْ: لَيْسَ لَهَا إِلَّا إِسْنَادٌ وَاحِدٌ؛ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ فِي الصَّحِيحِ (حَيْثُ اشْتَرَطْنَا) كَالتِّرْمِذِيِّ فِي الْحَسَنِ (غَيْرَ مَا إِسْنَادِ) أَيْ: غَيْرَ إِسْنَادٍ، فَانْتَفَى حِينَئِذٍ- كَمَا قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ- أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَحِيحٍ حَسَنًا. قَالَ: نَعَمْ قَوْلُهُ: وَلَيْسَ كُلُّ حَسَنٍ صَحِيحًا، صَحِيحٌ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ تَعَقُّبٌ وَارِدٌ، وَرَدٌّ وَاضِحٌ. انْتَهَى. لَكِنْ قَدْ سَلَفَ قَوْلُ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ نَفْسِهِ: أَنَّ التِّرْمِذِيَّ عَرَّفَ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الْحَسَنِ؛ يَعْنِي: فَمَا عَدَاهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ، كَالصَّحِيحِ. وَحِينَئِذٍ فَالْعُمُومُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقٌ، وَبِالْحَمْلِ عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ كَلَامُهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ وَجِيهًا فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ. هَذَا مَعَ أَنَّ شَيْخَنَا صَرَّحَ بِأَنَّ جَوَابَ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ مَا قَالَهُ أَيْضًا- كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْخَطَّابِيِّ- أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ، وَلِذَا مَشَى فِي تَوْضِيحِ النُّخْبَةِ عَلَى ثَانِي الْأَجْوِبَةِ، إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّفَرُّدُ. وَذَكَرَ آخَرَ عِنْدَ التَّفَرُّدِ أَصْلُهُ لِابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ، وَعِبَارَتُهُ: وَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَرَدُّدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي حَالِ نَاقِلِهِ اقْتَضَى لِلْمُجْتَهِدِ أَلَّا يَصِفَهُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، فَيُقَالُ فِيهِ: “ حَسَنٌ “ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ عِنْدَ قَوْمٍ، “ صَحِيحٌ “ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ التَّرَدُّدِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَقُولَ: حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ، وَهَذَا كَمَا حَذَفَ حَرْفَ الْعَطْفِ، يَعْنِي مِنَ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا فَمَا قِيلَ فِيهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، دُونَ مَا قِيلَ فِيهِ: “ صَحِيحٌ “؛ لِأَنَّ الْجَزْمَ أَقْوَى مِنَ التَّرَدُّدِ، وَهَذَا حَيْثُ التَّفَرُّدِ، وَإِلَّا فَإِطْلَاقُ الْوَصْفَيْنِ مَعًا عَلَى الْحَدِيثِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ: أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ، وَالْآخَرُ حَسَنٌ. وَعَلَى هَذَا فَمَا قِيلَ فِيهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ فَوْقَ مَا قِيلَ فِيهِ: “ صَحِيحٌ “ فَقَطْ، إِذَا كَانَ فَرْدًا؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الطُّرُقِ تُقَوِّيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|