الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***
136- وَصَحَّحُوا وَصْلَ مُعَنْعَنٍ سَلِمْ *** مِنْ دُلْسَةِ رَاوِيهِ وَاللِّقَا عُلِمْ 137- وَبَعْضُهُمْ حَكَى بِذَا إِجْمَاعَا *** وَمُسْلِمٌ لَمْ يَشْرِطِ اجْتِمَاعَا 138- لَكِنْ تَعَاصُرًا وَقِيلَ يُشْتَرَطْ *** طُولُ صَحَابَةٍ وَبَعْضُهُمْ شَرَطْ 139- مَعْرِفَةَ الرَّاوِي بِالْأَخْذِ عَنْهُ *** وَقِيلَ كُلُّ مَا أَتَانَا مِنْهُ 140- مُنْقَطِعٌ حَتَّى يَبِينَ الْوَصْلُ *** وَحُكْمُ “ أَنَّ “ حُكْمُ “ عَنْ “ فَالْجُلُّ 141- سَوَّوْا وَلِلْقَطْعِ نَحَا الْبَرْدِيجِي *** حَتَّى يَبِينَ الْوَصْلُ فِي التَّخْرِيجِ 142- قَالَ وَمِثْلَهُ رَأَى ابْنُ شَيْبَهْ *** كَذَا لَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْ صَوْبَهْ 143- قُلْتُ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَا *** رَوَاهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمَا 144- يُحْكَمْ لَهُ بِالْوَصْلِ كَيْفَمَا رَوَى *** بِـ “ قَالَ “ أَوْ “ عَنْ “ أَوْ بِأَنَّ فَسَوَا 145- وَمَا حَكَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلِ *** وَقَوْلِ يَعْقُوبَ عَلَى ذَا نَزِّلِ 146- وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ “ عَنْ “ فِي ذَا الزَّمَنْ *** إِجَازَةً وَهُوَ بِوَصْلٍ مَا قَمِنْ (الْعَنْعَنَةُ) وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِنَ الْمُؤَنَّنِ، وَقَدْ يُقَالُ لَهُ: الْمُؤْنَانُ، لَمَّا انْتَهَى الْمُنْقَطِعُ جَزْمًا أَرْدَفَهُ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَالْعَنْعَنَةُ: فَعْلَلَةٌ مِنْ عَنْعَنَ الْحَدِيثَ إِذَا رَوَاهُ بِـ “ عَنْ “ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِلتَّحْدِيثِ أَوِ الْإِخْبَارِ أَوِ السَّمَاعِ. (وَصَحَّحُوا) أَيِ: الْجُمْهُورُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ (وَصْلَ) سَنَدٍ (مُعَنْعَنٍ) أَتَى عَنْ رُوَاةٍ مُسَمَّيْنَ مَعْرُوفِينَ إِنْ (سَلِمَ مِنْ دُلْسَةٍ) بِضَمِّ الدَّالِ، فُعْلَةٌ مِنْ دَلَّسَ، وَهُوَ قِيَاسُ مَصْدَرِ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَأَصْلُهُ فِي الْأَلْوَانِ وَالْعُيُوبِ، [وَاسْتُعِيرَ هُنَا] أَيْ مِنْ تَدْلِيسِ (رَاوِيهِ، وَاللِّقَا)- الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ السَّمَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَنْعَنَ عَنْهُ (عُلِمْ)، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ؛ بِحَيْثُ أَوْدَعَهُ مُشْتَرِطُو الصَّحِيحِ تَصَانِيفَهُمْ وَقَبِلُوهُ. [هَلِ الْمُعَنْعَنُ مُتَّصِلٌ] وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَنْ عُلِمَ لَهُ- يَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يَظْهَرْ تَدْلِيسُهُ- سَمَاعٌ مِنْ إِنْسَانٍ فَحَدَّثَ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى السَّمَاعِ، حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ مَا حَكَاهُ، وَكُلُّ مَنْ عُلِمَ لَهُ لِقَاءُ إِنْسَانٍ فَحَدَّثَ عَنْهُ، فَحُكْمُهُ هَذَا الْحُكْمُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِنَ الْحُجَّةِ فِي ذَلِكَ وَفِي سَائِرِ الْبَابِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ، لَكَانَ بِإِطْلَاقِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُدَلِّسًا، وَالظَّاهِرُ السَّلَامَةُ مِنْ وَصْمَةِ التَّدْلِيسِ، وَالْكَلَامُ فِيمَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالتَّدْلِيسِ (وَبَعْضُهُمْ) كَالْحَاكِمِ (حَكَى بِذَا) الْمَذْهَبِ (إِجْمَاعًا)، وَعِبَارَتُهُ: الْأَحَادِيثُ الْمُعَنْعَنَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَدْلِيسٌ مُتَّصِلَةٌ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ النَّقْلِ. وَكَذَا قَالَ الْخَطِيبُ: أَهْلُ الْعِلْمِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُحَدِّثِ غَيْرِ الْمُدَلِّسِ: فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ إِذَا كَانَ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ. وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي مُقَدِّمَةِ تَمْهِيدِهِ: أَجْمَعُوا- أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ- عَلَى قَبُولِ الْإِسْنَادِ الْمُعَنْعَنِ، لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذَا جَمَعَ شُرُوطًا ثَلَاثَةً: الْعَدَالَةَ، وَاللِّقَاءَ مُجَالَسَةً وَمُشَاهَدَةً، وَالْبَرَاءَةَ مِنَ التَّدْلِيسِ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ “ عَنْ “ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى الِاتِّصَالِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَيُعْرَفَ الِانْقِطَاعُ فِيهَا، وَسَاقَ الْأَدِلَّةَ، وَادَّعَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ أَيْضًا تَبَعًا لِلْحَاكِمِ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ، وَزَادَ فَاشْتَرَطَ مَا سَيَأْتِي عَنْهُ قَرِيبًا. [الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدِيثُ] وَيَخْدِشُ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ قَوْلُ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ- وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ- مَا حَاصِلُهُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدِيثُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ كُلُّ عَدْلٍ فِي الْإِسْنَادِ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْتُ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَقُولُوا أَوْ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فَلَا، لِمَا عُرِفَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ بِالْعَنْعَنَةِ فِيمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ. إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ رَاجِعٌ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْخِلَافِ السَّابِقِ، فَيَتَخَرَّجُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ فِي ثُبُوتِ الْوِفَاقِ بَعْدَ الْخِلَافِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ: إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا، أَوْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ كَذَا، أَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا- لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. أَفَادَهُ شَيْخُنَا، وَلَا يَتِمُّ الْخَدْشُ بِهِ إِلَّا إِنْ كَانَ قَائِلًا بِاسْتِوَاءِ الِاحْتِمَالَيْنِ [أَوْ تَرْجِيحِ ثَانِيهِمَا]، أَمَّا مَعَ تَرْجِيحِ أَوَّلِهِمَا فَلَا فِيمَا يَظْهَرُ. [الِاشْتِرَاطُ لِلِاتِّصَالِ ثُبُوتُ اللِّقَاءِ] وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ ثُبُوتِ اللِّقَاءِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَجَعَلَاهُ شَرْطًا فِي أَصْلِ الصِّحَّةِ، وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ فِي جَامِعِهِ فَقَطْ، وَكَذَا عَزَا اللِّقَاءَ لِلْمُحَقِّقِينَ النَّوَوِيُّ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، وَاقْتَضَاهُ مَا فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ لِأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ. (وَ) لَكِنْ (مُسْلِمٌ لَمْ يَشْرِطْ) فِي الْحُكْمِ بِالِاتِّصَالِ (اجْتِمَاعًا) بَيْنَهُمَا، بَلْ أَنْكَرَ اشْتِرَاطَهُ فِي مُقَدِّمَةِ (صَحِيحِهِ)، وَادَّعَى أَنَّهُ قَوْلٌ مُخْتَرَعٌ لَمْ يُسْبَقْ قَائِلُهُ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الشَّائِعَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مَا ذَهَبَ هُوَ إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ. (لَكِنْ) اشْتَرَطَ (تَعَاصُرًا) أَيْ: كَوْنُهُمَا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا أَوْ تَشَافَهَا، يَعْنِي تَحْسِينًا لِلظَّنِّ، بِالثِّقَةِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. انْتَهَى. وَوَجْهُهُ فِيمَا يَظْهَرُ مَا عُلِمَ مِنْ تَجْوِيزِ أَهْلِ ذَاكَ الْعَصْرِ لِلْإِرْسَالِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا وَحَدَّثَ بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ- لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدَلِّسٍ فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَ عَنْهُ؛ لِشُيُوعِ الْإِرْسَالِ بَيْنَهُمْ. فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ، لِتُحْمَلَ عَنْعَنَتُهُ عَلَى السَّمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ حِينَئِذٍ عَلَى السَّمَاعِ لَكَانَ مُدَلِّسًا، وَالْفَرْضُ السَّلَامَةُ مِنَ التَّدْلِيسِ، فَبَانَ رُجْحَانُ اشْتِرَاطِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي قِلَابَةَ الْجَرْمِيِّ: إِنَّهُ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ، لَكِنَّهُ عَاصَرَهُمْ، كَأَبِي زَيْدٍ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ، وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ تَدْلِيسٌ، وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا عَقِبَ حِكَايَتِهِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي قِلَابَةَ مِنْ “ تَهْذِيبِهِ “: إِنَّ هَذَا مِمَّا يُقَوِّي مَنْ ذَهَبَ إِلَى اشْتِرَاطِ اللِّقَاءِ غَيْرَ مُكْتَفٍ بِالْمُعَاصَرَةِ، عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا مُوَافِقٌ لِلْجَمَاعَةِ فِيمَا إِذَا عُرِفَ اسْتِحَالَةُ لِقَاءِ التَّابِعِيِّ لِذَلِكَ الصَّحَابِيِّ فِي الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ. وَحِينَئِذٍ فَاكْتِفَاؤُهُ بِالْمُعَاصَرَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ اللِّقَاءُ (وَقِيلَ): إِنَّهُ (يُشْتَرَطُ طُولُ صَحَابَةٍ) بَيْنَ الْمُعَنْعِنِ وَالَّذِي فَوْقَهُ، قَالَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَفِيهِ تَضْيِيقٌ. (وَبَعْضُهُمْ) وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ (شَرَطَ مَعْرِفَةَ الرَّاوِي) الْمُعَنْعِنِ (بِالْأَخْذِ) عَمَّنْ عَنْعَنَ (عَنْهُ)، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْهُ. لَكِنْ بِلَفْظِ: إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ، نَعَمِ الَّذِي حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ قَوْلِ الدَّانِيِّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، مِمَّا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ أَيْضًا اشْتِرَاطُ إِدْرَاكِ النَّاقِلِ لِلْمَنْقُولِ عَنْهُ إِدْرَاكًا بَيِّنًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا وَهِمًا، أَوْ قَالَهُمَا مَعًا، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، بَلْ قَدْ يَحْتَمِلُ الْكِنَايَةَ بِذَلِكَ عَنِ اللِّقَاءِ، إِذْ مَعْرِفَةُ الرَّاوِي بِالْأَخْذِ عَنْ شَيْخٍ بَلْ وَإِكْثَارُهُ عَنْهُ قَدْ يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يَلْقَهُ إِلَّا مَرَّةً. (وَقِيلَ) فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ: (كُلُّ مَا أَتَانَا مِنْهُ) أَيْ: مِنْ سَنَدٍ مُعَنْعَنٍ وُصِفَ رَاوِيهِ بِالتَّدْلِيسِ أَمْ لَا (مُنْقَطِعٌ) لَا يُحْتَجُّ بِهِ (حَتَّى يَبِينَ الْوَصْلُ) بِمَجِيئِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَنْعِنِ نَفْسِهِ بِالتَّحْدِيثِ وَنَحْوِهِ. وَلَمْ يُسَمِّ ابْنُ الصَّلَاحِ قَائِلَهُ، كَمَا وَقَعَ لِلرَّامَهُرْمُزِيِّ فِي كِتَابِهِ “ الْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ “؛ حَيْثُ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ “ عَنْ “ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ، وَيَصِحُّ وُقُوعُهَا فِيمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ، كَمَا إِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنَّا مَثَلًا: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَنَسٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ شُعْبَةُ: كُلُّ إِسْنَادٍ لَيْسَ فِيهَا ثَنَا وَأَنَا فَهُوَ خَلٌّ وَبَقْلٌ. وَقَالَ أَيْضًا: فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ لَيْسَ بِحَدِيثٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ- كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ- مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ. انْتَهَى. وَفِيهِ مِنَ التَّشْدِيدِ مَا لَا يَخْفَى، وَيَلِيهِ اشْتِرَاطُ طُولِ الصُّحْبَةِ، وَمُقَابِلُهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ الِاكْتِفَاءُ بِالْمُعَاصَرَةِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمَذْهَبُ الْوَسَطُ الِاقْتِصَارُ عَلَى اللِّقَاءِ، وَمَا خَدَشَهُ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ وُجُودِ أَحَادِيثَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهَا مَعَ أَنَّهَا مَا رُوِيَتْ إِلَّا مُعَنْعَنَةً وَلَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ قَطُّ أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهَا لَقِيَ شَيْخَهُ- فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ عِنْدَهُ نَفْيُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَكَذَا مَا أَلْزَمَ بِهِ رَدَّ الْمُعَنْعَنِ دَائِمًا؛ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ السَّمَاعِ لَيْسَ بِوَارِدٍ؛ إِذِ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ- كَمَا تَقَدَّمَ- فِي غَيْرِ الْمُدَلِّسِ، وَمَتَى فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مَا عَنْعَنَهُ كَانَ مُدَلِّسًا. فَائِدَةٌ: [إِيرَادُ “ عَنْ “ لِغَيْرِ الرِّوَايَةِ]: قَدْ تَرِدُ “ عَنْ “ وَلَا يُقْصَدُ بِهَا الرِّوَايَةُ، بَلْ يَكُونُ الْمُرَادُ سِيَاقَ قِصَّةٍ؛ سَوَاءٌ أَدْرَكَهَا [أَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا]، وَيَكُونُ هُنَاكَ شَيْءٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عَنْ قِصَّةِ فُلَانٍ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَبْيَنِهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَأْرِيخِهِ: ثَنَا أَبِي، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ- هُوَ السَّبِيعِيُّ- عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ- يَعْنِي عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ- أَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِ خَوَارِجُ فَقَتَلُوهُ. قَالَ شَيْخُنَا: فَهَذَا لَمْ يُرِدْ أَبُو إِسْحَاقَ بِقَوْلِهِ: “ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ “ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَهُ بِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: عَنْ قِصَّةِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ النَّسَائِيُّ فِي الْكُنَى مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ: خَرَجَ أَبُو الْأَحْوَصِ إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ. وَلِذَا قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ- فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْهُ-: كَانَ الْمَشْيَخَةُ الْأُولَى جَائِزًا عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: عَنْ فُلَانٍ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الرِّوَايَةَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عَنْ قِصَّةِ فُلَانٍ، (وَحُكْمُ أَنَّ) بِالتَّشْدِيدِ وَالْفَتْحِ، وَقَدْ تَكُونُ مَكْسُورَةً. (حُكْمُ عَنْ) فِيمَا تَقَدَّمَ (فَالْجُلُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيِ: الْمُعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَالِكٌ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ (سَوَّوْا) بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْحُرُوفِ وَالْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِاللِّقَاءِ وَالْمُجَالَسَةِ وَالسَّمَاعِ يَعْنِي مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ التَّدْلِيسِ، فَإِذَا كَانَ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ صَحِيحًا. كَانَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ بِأَيِّ لَفْظٍ وَرَدَ مَحْمُولًا عَلَى الِاتِّصَالِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ الِانْقِطَاعُ، يَعْنِي مَا لَمْ يُعْلَمِ اسْتِعْمَالُهُ خِلَافَهُ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَتَأَيَّدُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ “ أَنَّ “ وَ “ عَنْ “ بِأَنَّ لُغَةَ بَنِي تَمِيمٍ إِبْدَالُ الْعَيْنِ مِنَ الْهَمْزَةِ (وَ) لَكِنَّ (لِلْقَطْعِ) وَعَدَمِ اتِّصَالِ السَّنَدِ الْآتِي بِأَنْ (نَحَا) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: ذَهَبَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ (الْبَرْدِيجِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ كَمَا هُوَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مَعَ أَنَّهُ نِسْبَةٌ لِبِرْدِيجَ عَلَى مِثَالِ فِعْلِيلٍ بِالْكَسْرِ خَاصَّةً، كَمَا حَكَاهُ الصَّغَانِيُّ فِي الْعُبَابِ. (حَتَّى يَبِينَ) أَيْ: يَظْهَرُ (الْوَصْلُ) بِالتَّصْرِيحِ مِنْهُ بِالسَّمَاعِ وَنَحْوِهِ، لِذَلِكَ الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ، (فِي التَّخْرِيجِ) يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمُتَّصِلَ بِالصَّحَابِيِّ سَوَاءٌ قَالَ فِيهِ الصَّحَابِيُّ: “ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ “ أَوْ “ أَنَّ “ أَوْ “ عَنْ “ أَوْ “ سَمِعْتُ “؛ فَكُلُّهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ. انْتَهَى. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا فِي أَحَادِيثِ الصَّحَابَةِ سَوَاءً اطِّرَادُ ذَلِكَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ الْبَرْدِيجِيَّ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْحَصَّارُ: إِنَّ فِيهَا اخْتِلَافًا، وَالْأَوْلَى أَنْ تُلْحَقَ بِالْمَقْطُوعِ؛ إِذْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى عَدِّهَا فِي الْمُسْنَدِ، وَلَوْلَا إِجْمَاعُهُمْ فِي “ عَنْ “، لَكَانَ فِيهِ نَظَرٌ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا الْخِلَافُ أَيْضًا. قَالَ الذَّهَبِيُّ عَقِبَ قَوْلِ الْبَرْدِيجِيِّ: إِنَّهُ قَوِيٌّ، (قَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ (وَمِثْلَهُ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَيْ: مِثْلَ الَّذِي نَحَاهُ الْبَرْدِيجِيُّ. (رَأَى) الْحَافِظُ الْفَحْلُ (ابْنُ شَيْبَةَ) هُوَ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ فِي مُسْنَدِهِ الْفَحْلُ يَعْنِي الْآتِي فِي أَدَبِ الطَّالِبِ، فَإِنَّهُ حَكَمَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ- بِالِاتِّصَالِ. وَعَلَى رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ عَمَّارًا مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي- بِالْإِرْسَالِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَالَ: “ إِنَّ عَمَّارًا “ وَلَمْ يَقُلْ: “ عَمَّارٌ “ (كَذَا لَهُ) أَيْ: لِابْنِ الصَّلَاحِ؛ حَيْثُ فَهِمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ مِنْ مُجَرَّدِهِمَا. (وَلَمْ يُصَوِّبْ) أَيْ لَمْ يُعَرِّجْ (صَوْبَهُ) أَيْ: صَوْبَ مَقْصِدِ يَعْقُوبَ فِي الْفَرْقِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ عَلَيْهِ بِالْإِرْسَالِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَضَافَ إِلَى الصِّيغَةِ الْفِعْلَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَحَدُ التَّابِعِينَ، وَهُوَ مُرُورُ عَمَّارٍ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ عَمَّارًا مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِنَّ النَّبِيَّ مَرَّ بِعَمَّارٍ، فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي ظُهُورِ الْإِرْسَالِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ حَكَاهَا عَنْ عَمَّارٍ فَكَانَتْ مُتَّصِلَةً، وَلَوْ كَانَ أَضَافَ لِـ “ أَنَّ “ الْقَوْلَ كَأَنْ يَقُولَ: عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، إِنَّ عَمَّارًا قَالَ: مَرَرْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ ظَاهِرَ الِاتِّصَالِ أَيْضًا. وَقَدْ صَرَّحَ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالِانْقِطَاعِ فِيمَا يُشْبِهُ هَذَا بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ: إِنَّ طَلْقًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: “ لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ كَبَعْضِ جَسَدِهِ “. هَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ قَيْسًا لَمْ يَشْهَدْ سُؤَالَ طَلْقٍ. (قُلْتُ) وَبِالْجُمْلَةِ (الصَّوَابُ مَنْ أَدْرَكَ) [لُقِيًّا أَوْ إِمْكَانًا كَمَا مَرَّ] (مَا رَوَاهُ) مِنْ قِصَّةٍ أَوْ وَاقِعَةٍ (بِالشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمَا) وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنَ التَّدْلِيسِ فِيمَنْ دُونَ الصَّحَابِيِّ، (يُحْكَمْ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (لَهُ) أَيْ: لِحَدِيثِهِ (بِالْوَصْلِ كَيْفَ مَا رَوَى بِـ “ قَالَ “ أَوْ) بِـ (“ عَنْ “ أَوْ بِـ “ أَنَّ “) وَكَذَا ذَكَرَ، وَفَعَلَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ يَقُولُ، وَمَا جَانَسَهَا. (فـَ) كُلُّهَا (سَوَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَكَّنَ الْهَمْزَةَ ثُمَّ أَبْدَلَهَا أَلِفًا، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالتَّسْوِيَةِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ اسْتِعْمَالُ خِلَافِهِ كَالْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ يُورِدُ الْحُكْمَ بِالِاتِّصَالِ عَنْ شُيُوخِهِ بِـ “ قَالَ “ مَا يَرْوِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِوَاسِطَةٍ عَنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّعْلِيقِ، وَبِمَنْ عَدَا الْمُتَأَخِّرِينَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ مَا وُجِدَ فِي عِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ- يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ- فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ بِشَرْطِهِ، إِلَّا مَنْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ اسْتِعْمَالُ اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّاقِ: وَهُوَ- أَيِ: التَّقْيِيدُ بِالْإِدْرَاكِ- أَمْرٌ بَيِّنٌ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّمْيِيزِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ فِي انْقِطَاعِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ الْقِصَّةِ فِيهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ فِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ، فَقَدْ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ [مَالِكٍ عَنْ] ضَمْرَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ... الْحَدِيثَ. قَالَ قَوْمٌ: هَذَا مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَقِيَ أَبَا وَاقِدٍ، قَالَ: فَثَبَتَ بِهَذَا الْخَدْشِ فِي الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نُسَلِّمُهُ لِأَبِي عُمَرَ- انْتَهَى. (وَمَا حَكَى) أَيِ: ابْنُ الصَّلَاحِ (عَنْ) الْإِمَامِ (أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلِ) مِنْ أَنَّ قَوْلَ عُرْوَةَ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَوْلَهُ: عَنْ عَائِشَةَ- لَيْسَا بِسَوَاءٍ. (وَ) كَذَا مَا حَكَاهُ عَنْ (قَوْلِ يَعْقُوبَ) بْنِ شَيْبَةَ (عَلَى ذَا) أَيِ: الْمَذْكُورِ مِنَ الْقَاعِدَةِ (نَزِّلِ)، ثُمَّ إِنَّ حُكْمَ يَعْقُوبَ بِالْإِرْسَالِ مَعَ الطَّرِيقِ الْمُتَّصِلَةِ لَا مَانِعَ مِنْهُ، فَعَادَةُ النُّقَّادِ جَارِيَةٌ بِحِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِرْسَالِ وَالْوَصْلِ، وَكَذَا الرَّفْعُ وَالْوَقْفُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرَجِّحُونَ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُهُمْ إِلَيْهِ، وَقَدْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ تَرْجِيحٌ. وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَطِيبَ مَثَّلَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُ الْأُولَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ، وَالثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ هَذَا الْمِثَالُ مُمَاثِلًا لِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِيهِ فِي الْحُكْمِ بِالِاتِّصَالِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى اللِّقَاءِ وَالْإِدْرَاكِ، وَذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُشْتَرَكٌ مُتَرَدِّدٌ؛ لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِعُمَرَ، وَصُحْبَةِ ابْنِ عُمَرَ لَهُمَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَوْنُهُ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي كَوْنِ “ عَنْ “ وَمَا أَشْبَهَهَا مَحْمُولًا عَلَى السَّمَاعِ وَالْحُكْمِ لَهُ بِالِاتِّصَالِ بِالشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ- هُوَ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا أَرَى الْحُكْمَ يَسْتَمِرُّ بَعْدَهُمْ فِيمَا وُجِدَ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي تَصَانِيفِهِمْ مِمَّا ذَكَرُهُ عَنْ مَشَايِخِهِمْ قَائِلِينَ فِيهِ: ذَكَرَ فُلَانٌ، قَالَ فُلَانٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. أَيْ: فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الِاتِّصَالِ، إِلَّا إِنْ كَانَ لَهُ مِنْ شَيْخِهِ إِجَازَةٌ، يَعْنِي فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ سَمِعَ عَلَيْهِ أَوْ أَخَذَ عَنْهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ مِنْهُ إِجَازَةٌ. قَالَ: بَلْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا بَيْنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّعْلِيقِ، وَتَعَمُّدِ حَذْفِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْزُ مَا يَجِيءُ بِهَا لِكِتَابٍ أَصْلًا، يَعْنِي كَأَنْ يُقَالَ فِي الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ عَنْ فُلَانٍ أَشَدُّ. قَالَ: (وَكَثُرَ) بَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْحَدِيثِ (اسْتِعْمَالُ عَنْ فِي ذَا الزَّمَنِ) الْمُتَأَخِّرِ، أَيْ: بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ (إِجَازَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَيَانِ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِهِ: قَرَأْتُ عَلَى فُلَانٍ، عَنْ فُلَانٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَظَنَّ بِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْإِجَازَةِ، (وَهُوَ) مَعَ ذَلِكَ (بِوَصْلٍ مَا) أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْوَصْلِ (قَمَنْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَذَا الْمِيمِ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْكَسْرُ أَيْضًا، أَيْ: حَقِيقٌ وَجَدِيرٌ بِذَلِكَ، عَلَى مَا لَا يَخْفَى. وَإِنَّمَا لَمْ يُثْبِتِ ابْنُ الصَّلَاحِ الْحُكْمَ فِي أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْإِجَازَةِ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ اسْتِعْمَالِهِ لَهَا كَذَلِكَ وَقَبْلَ فُشُوِّهِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَقَرَّرَ وَاشْتُهِرَ فَلْيُجْزَمْ بِهِ. وَقَوْلُ الرَّاوِي: أَنَا فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا حَدَّثَهُ، سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ رَابِعِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ حِكَايَةُ أَنَّ ذَلِكَ إِجَازَةٌ مَعَ النِّزَاعِ فِيهِ.
147- وَاحْكُمْ لِوَصْلِ ثِقَةٍ فِي الْأَظْهَرِ *** وَقِيلَ بَلْ إِرْسَالُهُ لِلْأَكْثَرِ 148- وَنَسَبَ الْأَوَّلَ لِلنُّظَّارِ *** أَنْ صَحَّحُوهُ وَقَضَى الْبُخَارِي 149- بِوَصْلِ “ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِي “ *** مِعْ كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَهُ كَالْجَبَلِ 150- وَقِيلَ الْأَكْثَرُ وَقِيلَ الْأَحْفَظُ *** ثُمَّ فَمَا إِرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ 151- يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوَاصِلِ أَوْ *** مُسْنِدِهِ عَلَى الْأَصَحِّ وَرَأَوْا 152- أَنَّ الْأَصَحَّ الْحُكْمُ لِلرَّفْعِ وَلَوْ *** مِنْ وَاحِدٍ فِي ذَا وَذَا كَمَا حَكَوْا. وَكَانَ الْأَنْسَبُ ضَمَّهُ لِزِيَادَاتِ الثِّقَاتِ؛ لِتَعَلُّقِهِ- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ- بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا انْجَرَّ الْكَلَامُ فِي الْعَنْعَنَةِ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ الْمَرْوِيِّ مُتَّصِلًا مِنْ وَجْهٍ، وَمُرْسَلًا مِنْ آخَرَ، نَاسَبَ إِرْدَافَهُ بِالْحُكْمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ مُبْتَدِئًا بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: [تَعَارُضُ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ] (وَاحْكُمْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ فِيمَا يَخْتَلِفُ الثِّقَاتِ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ بِأَنْ يَرْوِيَهُ [بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا]، وَبَعْضُهُمْ مُرْسَلًا (لِوَصْلِ ثِقَةٍ) ضَابِطٍ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَالِفُ لَهُ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، أَحَفِظَ أَمْ لَا (فِي الْأَظْهَرِ) الَّذِي صَحَّحَهُ الْخَطِيبُ، وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ لِلْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَمِنْهُمُ الْبَزَّارُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ: “ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ “-: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا، وَأَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَالثَّوْرِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدٍ، وَإِذَا حَدَّثَ بِالْحَدِيثِ ثِقَةٌ فَأَسْنَدَهُ، كَانَ عِنْدِي هُوَ الصَّوَابَ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَلَعَلَّ الْمُرْسَلَ أَيْضًا مُسْنَدٌ عِنْدَ الَّذِينَ رَوَوْهُ مُرْسَلًا أَوْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَرْسَلُوهُ لِغَرَضٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَالنَّاسِي لَا يُقْضَى لَهُ عَلَى الذَّاكِرِ (وَقِيلَ: بَلِ) احْكُمْ لِـ (إِرْسَالِهِ) أَيِ الثِّقَةِ، وَهَذَا عَزَاهُ الْخَطِيبُ (لِلْأَكْثَرِ) مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَسُلُوكُ غَيْرِ الْجَادَّةِ دَالٌّ عَلَى مَزِيدِ التَّحَفُّظِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّسَائِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِرْسَالَ نَوْعُ قَدْحٍ فِي الْحَدِيثِ، فَتَرْجِيحُهُ وَتَقْدِيمُهُ مِنْ قَبِيلِ تَقْدِيمِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ، كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ زِيَادَاتِ الثِّقَاتِ مَعَ مَا فِيهِ (وَنَسَبَ) ابْنُ الصَّلَاحِ الْقَوْلَ (الْأَوَّلَ) مِنْ هَذَيْنِ (لِلنُّظَّارِ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ وَآخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ، [جَمْعُ كَثْرَةٍ لِنَاظِرٍ]، وَهُمْ هُنَا أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ (أَنْ صَحَّحُوهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ “ أَنِ “ الْمَصْدَرِيَّةِ، مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ: تَصْحِيحَهُ، إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَدْلًا. وَكَذَا عَزَاهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ لِاخْتِيَارِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَاخْتَارَهُ هُوَ أَيْضًا، وَارْتَضَاهُ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، لَكِنْ إِذَا اسْتَوَيَا فِي رُتْبَةِ الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ أَوْ تَقَارَبَا. (وَقَضَى) إِمَامُ الصَّنْعَةِ (الْبُخَارِيُّ لِوَصْلِ) حَدِيثِ: “ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ “) الَّذِي اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى رَاوِيهِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ؛ فَرَوَاهُ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ عَنْهُ حَفِيدُهُ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ وَشَرِيكٌ وَأَبُو عَوَانَةَ بِذِكْرِ أَبِي مُوسَى (مَعَ كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَهُ كَالْجَبَلِ)؛ لِأَنَّ لَهُمَا فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. انْتَهَى. وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ أَيْضًا فِي تَقْدِيمِ الرَّفْعِ، بَلْ وَعَلَى إِطْلَاقِ كَثِيرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَوْلَ بِقَبُولِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ- نَصُّ إِمَامِهِمْ فِي شُرُوطِ الْمُرْسَلِ كَمَا تَقَدَّمَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ إِذَا شَارَكَ أَحَدًا مِنَ الْحُفَّاظِ لَا يُخَالِفُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ بِأَنْقَصَ، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّ؛ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ بِالزِّيَادَةِ تَضُرُّ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْعَدْلِ عَنْهُ لَا يَلْزَمُ قَبُولُهَا مُطْلَقًا، وَقِيَاسُ هَذَا هُنَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِمَنْ أَرْسَلَ أَوْ وَقَفَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي رَاوٍ نُرِيدُ اخْتِبَارَ حَالِهِ حَيْثُ لَمْ نَعْلَمْهُ قَبْلُ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الثِّقَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ مَعَ الْجَوَابِ عَنِ اسْتِشْكَالِ عَزْوِ الْخَطِيبِ الْحُكْمَ بِالْإِرْسَالِ لِلْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَنَقْلِهِ تَرْجِيحَ الزِّيَادَةِ مِنَ الثِّقَةِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ. (وَقِيلَ) وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمُعْتَبَرُ مَا قَالَهُ (الْأَكْثَرُ) مِنْ وَصْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ، كَمَا نَقَلَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمَدْخَلِ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ إِلَى الْأَكْثَرِ أَبْعَدُ، (وَقِيلَ) وَهُوَ الرَّابِعُ الْمُعْتَبَرُ مَا قَالَهُ (الْأَحْفَظُ) مِنْ وَصْلٍ أَوْ إِرْسَالٍ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ خَامِسٌ وَهُوَ التَّسَاوِي، قَالَهُ السُّبْكِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ الْأَقْوَالِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَرْجِيحٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ مَا قَدَّمْتُهُ عَنِ ابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ، وَإِلَّا فَالْحَقُّ حَسَبَ الِاسْتِقْرَاءِ مِنْ صَنِيعِ مُتَقَدِّمِي الْفَنِّ- كَابْنِ مَهْدِيٍّ، وَالْقَطَّانِ، وَأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ- عَدَمُ اطِّرَادِ حُكْمٍ كُلِّيٍّ. بَلْ ذَلِكَ دَائِرٌ مَعَ التَّرْجِيحِ، فَتَارَةً يَتَرَجَّحُ الْوَصْلُ، وَتَارَةً الْإِرْسَالُ، وَتَارَةً يَتَرَجَّحُ عَدَدُ الذَّوَاتِ عَلَى الصِّفَاتِ، وَتَارَةً الْعَكْسُ، وَمَنْ رَاجَعَ أَحْكَامَهُمُ الْجُزْئِيَّةَ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَمْ يَحْكُمْ لَهُ الْبُخَارِيُّ بِالْوَصْلِ؛ لِمُجَرَّدِ أَنَّ الْوَاصِلَ مَعَهُ زِيَادَةٌ، بَلْ لِمَا انْضَمَّ لِذَلِكَ مِنْ قَرَائِنَ رَجَّحَتْهُ. كَكَوْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنَيْهِ إِسْرَائِيلَ وَعِيسَى رَوَوْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَوْصُولًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ آلَ الرَّجُلِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، لَا سِيَّمَا وَإِسْرَائِيلُ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَهْدِيٍّ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ حَدِيثَ جَدِّهِ كَمَا يَحْفَظُ سُورَةَ الْحَمْدِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَوَافَقَهُمْ عَلَى الْوَصْلِ عَشْرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي إِسْحَاقَ [مِمَّنْ سَمِعَهُ] مِنْ لَفْظِهِ، وَاخْتَلَفَتْ مَجَالِسُهُمْ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ. وَأَمَّا شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ فَكَانَ أَخْذُهُمَا لَهُ عَنْهُ عَرْضًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الطَّيَالِسِيِّ، ثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ سَأَلَ أَبَا إِسْحَاقَ، أَسَمِعْتَ أَبَا بُرْدَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ “؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: نَعَمْ. وَلَا يَخْفَى رُجْحَانُ الْأَوَّلِ، هَذَا إِذَا قُلْنَا: حِفْظُ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ فِي مُقَابِلِ عَدَدِ الْآخَرِينَ، مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: الْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ. وَيَتَأَيَّدُ كُلُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْبُخَارِيِّ نَفْسِهِ لِلْإِرْسَالِ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ لَقَرَائِنَ قَامَتْ عِنْدَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ لِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ حَدِيثًا وَصَلَهُ، وَقَالَ: إِرْسَالُهُ أَثْبَتُ. هَذَا حَاصِلُ مَا أَفَادَهُ شَيْخُنَا مَعَ زِيَادَةٍ، وَسَبَقَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ: الْعَلَائِيِّ، وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُمَا، وَسَيَأْتِي فِي الْمُعَلَّلِ أَنَّهُ كَثُرَ الْإِعْلَالُ بِالْإِرْسَالِ وَالْوَقْفِ لِلْوَصْلِ وَالرَّفْعِ إِنْ قَوِيَا عَلَيْهِمَا، وَهُوَ شَاهِدٌ لِمَا قَرَّرْنَاهُ. (ثُمَّ) إِذَا مَشَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ فِي الِاعْتِبَارِ بِالْأَحْفَظِ (فَمَا إِرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ يَقْدَحُ) أَيْ: قَادِحًا (فِي أَهْلِيَّةِ الْوَاصِلِ) مِنْ ضَبْطٍ- حَيْثُ لَمْ تَكْثُرِ الْمُخَالَفَةُ-، وَعَدَالَةٍ، (أَوْ) فِي (مُسْنَدِهِ) أَيْ: فِي جَمِيعِ حَدِيثِهِ الَّذِي رَوَاهُ بِسَنَدِهِ لَا فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِلْقَدْحِ فِيهِ بِلَا شَكٍّ، وَ “ أَوْ “ هُنَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ كَالْوَاوِ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ عِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ الْآتِيَةِ. وَحِينَئِذٍ فَهُوَ تَأْكِيدٌ، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ التَّصْرِيحَ بِعَدَمِ الْقَدْحِ فِي الضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ يُغْنِي عَنِ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الْقَدْحِ فِي مَرْوِيِّهِ؛ لِاسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ غَالِبًا. وَ “ مَا “ هِيَ النَّافِيَةُ الْحِجَازِيَّةُ، وَ “ إِرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ “ اسْمُهَا، وَخَبَرُهَا جُمْلَةُ “ يَقْدَحُ “. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اجْتَمَعَ الرَّدُّ لِمُسْنَدِهِ هَذَا، مَعَ عَدَمِ الْقَدْحِ فِي عَدَالَتِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الرَّدَّ لِلِاحْتِيَاطِ، وَعَدَمَ الْقَدْحِ فِيهِ لِإِمْكَانِ إِصَابَتِهِ، وَوَهْمُ الْأَحْفَظِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ خَطَئِهِ مَرَّةً لَا يَكُونُ مُجَرَّحًا بِهِ؛ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا التَّصْرِيحُ بِهِ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَهَذَا الْحُكْمُ (عَلَى الْأَصَحِّ) مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ؛ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ مَنْ وَصَلَهُ وَأَهْلِيَّتِهِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنْ أَسْنَدَ حَدِيثًا قَدْ أَرْسَلَهُ الْحُفَّاظُ، فَإِرْسَالُهُمْ لَهُ يَقْدَحُ فِي مُسْنَدِهِ وَعَدَالَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ. وَعِبَارَةُ الْخَطِيبِ فِي الْأَوَّلِ: لِأَنَّ إِرْسَالَ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ لَيْسَ بِجَرْحٍ لِمَنْ وَصَلَهُ وَلَا تَكْذِيبٍ لَهُ، وَفِي الثَّانِي عَلَى لِسَانِ الْقَائِلِينَ بِهِ: لِأَنَّ إِرْسَالَهُمْ لَهُ يَقْدَحُ فِي مُسْنَدِهِ، فَيَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ. [تَعَارُضُ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ]: (وَرَأَوْا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ، بِأَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ بَعْضُ الثِّقَاتِ مَرْفُوعًا، وَبَعْضُهُمْ مَوْقُوفًا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (أَنَّ الْأَصَحَّ) كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ (الْحُكْمُ لِلرَّفْعِ)؛ لِأَنَّ رَاوِيَهُ مُثْبِتٌ وَغَيْرَهُ سَاكِتٌ، وَلَوْ كَانَ نَافِيًا فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ وَقَفَ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَفِيهَا ثَالِثٌ أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ؛ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا تَرَكَا أَشْيَاءَ تَرْكُهَا قَرِيبٌ، وَأَشْيَاءَ لَا وَجْهَ لِتَرْكِهَا، فَمِمَّا لَا وَجْهَ لِتَرْكِهِ أَنْ يَرْفَعَ الْحَدِيثَ ثِقَةٌ فَيَقِفَهُ آخَرُ، فَتَرْكُ هَذَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، إِلَّا أَنْ يَقِفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَيَرْفَعَهُ وَاحِدٌ، فَالظَّاهِرُ غَلَطُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ حَفِظَ دُونَهُمْ. انْتَهَى. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَاكِمِ: قُلْتُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ: فَخَلَّادُ بْنُ يَحْيَى؟ فَقَالَ: ثِقَةٌ، إِنَّمَا أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، فَرَفَعَهُ وَوَقَفَهُ النَّاسُ، وَقُلْتُ لَهُ: فَسَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، يُحَدِّثُ بِأَحَادِيثَ يُسْنِدُهَا وَغَيْرُهُ يَقِفُهَا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ أَصَحُّ. (وَلَوْ) كَانَ الِاخْتِلَافُ (مِنْ) رَاوٍ (وَاحِدٍ فِي ذَا وَذَا) أَيْ: فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ؛ كَأَنْ يَرْوِيَهُ مَرَّةً مُتَّصِلًا أَوْ مَرْفُوعًا، وَمَرَّةً مُرْسَلًا أَوْ مَوْقُوفًا (كَمَا حَكَوْا) أَيِ: الْجُمْهُورُ، وَصَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِتَصْحِيحِهِ. وَعِبَارَةُ النَّاظِمِ فِي تَخْرِيجِهِ الْكَبِيرِ لِلْإِحْيَاءِ عَقِبَ حَدِيثٍ اخْتَلَفَ رَاوِيهِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ: الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الرَّاوِيَ إِذَا رَوَى الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا فَالْحُكْمُ لِلرَّفْعِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ زِيَادَةً، هَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. انْتَهَى. وَأَمَّا الْأُصُولِيُّونَ فَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ- كَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَأَتْبَاعِهِ- أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرَّاجِحَ مِنْ قَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فِي كِلَيْهِمَا التَّعَارُضُ، عَلَى أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ قَدْ نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ يَحْمِلُ الْمَوْقُوفَ عَلَى مَذْهَبِ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدَ عَلَى أَنَّهُ رِوَايَتُهُ، يَعْنِي فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِيثِ ضَعْفًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابِيُّ يُسْنِدُ الْحَدِيثَ وَيَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً، وَيَذْكُرُ مَرَّةً عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى بِدُونِ رَفْعٍ، فَيُحْفَظُ الْحَدِيثُ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. لَكِنْ خَصَّ شَيْخُنَا هَذَا بِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، أَمَّا مَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ؛ يَعْنِي فِي تَوْجِيهِ الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حُكْمَهُ الرَّفْعُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَفَعَهُ أَيْضًا. ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ- كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي إِذَا- اتَّحَدَ السَّنَدُ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ فَلَا يَقْدَحُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ إِذَا كَانَ ثِقَةً جَزْمًا، كَرِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: “ إِذَا اخْتَلَطُوا، فَإِنَّمَا هُوَ التَّكْبِيرُ وَالْإِشَارَةُ بِالرَّأْسِ “ الْحَدِيثُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ قَوْلِهِ، فَلَمْ يَعُدُّوا ذَلِكَ عِلَّةً لِاخْتِلَافِ السَّنَدَيْنِ فِيهِ، بَلِ الْمَرْفُوعُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِشَيْخِنَا “ بَيَانُ الْفَصْلِ لِمَا رَجَحَ فِيهِ الْإِرْسَالُ عَلَى الْوَصْلِ “، وَ “ مَزِيدُ النَّفْعِ لِمَعْرِفَةِ مَا رَجَحَ فِيهِ الْوَقْفُ عَلَى الرَّفْعِ “.
153- تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ حَدَّثَهُ، وَيَرْتَقِي بِـ “ عَنْ “ وَ “ أَنْ “ 154- وَ “ قَالَ “ يُوهِمُ اتِّصَالًا وَاخْتُلِفْ فِي *** أَهْلِهِ فَالرَّدُّ مُطْلَقًا ثُقِفْ 155- وَالْأَكْثَرُونَ قَبِلُوا مَا صَرَّحَا *** ثِقَاتُهُمْ بِوَصْلِهِ وَصُحِّحَا 156- وَفِي الصَّحِيحِ عِدَّةٌ كَالْأَعْمَشِ *** وَكَهُشَيْمٍ بَعْدَهُ وَفَتِّشِ 157- وَذَمَّهُ شُعْبَةُ ذُو الرُّسُوخِ *** وَدُونَهُ التَّدْلِيسُ لِلشُّيُوخِ 158- أَنْ يَصِفَ الشَّيْخَ بِمَا لَا يُعْرَفُ *** بِهِ وَذَا بِمَقْصِدٍ يَخْتَلِفُ 159- فَشَرُّهُ لِلضَّعْفِ وَاسْتِصْغَارَا *** وَكَالْخَطِيبِ يُوهِمُ اسْتِكْثَارَا 160- وَالشَّافِعِيُّ أَثْبَتَهُ بِمَرَّهْ *** قُلْتُ وَشَرُّهَا أَخُو التَّسْوِيَهْ لَمَّا تَمَّ مَا جَرَّ الْكَلَامُ إِلَيْهِ، رَجَعَ لِبَيَانِ التَّدْلِيسِ الْمُفْتَقِرِ حُكْمُ الْعَنْعَنَةِ لَهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدَّلَسِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الظَّلَامِ، كَأَنَّهُ لِتَغْطِيَتِهِ عَلَى الْوَاقِفِ عَلَيْهِ أَظْلَمَ أَمْرُهُ. [تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ وَأَنْوَاعُهُ]: (تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ) وَهُوَ قِسْمَانِ: أَوَّلُهُمَا أَنْوَاعٌ (كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ حَدَّثَهُ) مِنَ الثِّقَاتِ لِصِغَرِهِ، أَوِ الضُّعَفَاءِ إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ عِنْدَ مَنْ عَدَاهُ، أَيْ: غَيْرِهِ. (وَيَرْتَقِي) لِشَيْخِ شَيْخِهِ فَمَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ عُرِفَ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ، (بِعَنْ وَأَنْ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمُسَكَّنَةِ لِلضَّرُورَةِ، (وَقَالَ) وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّيَغِ الْمُحْتَمِلَةِ لِئَلَّا يَكُونَ كَذِبًا (يُوهِمُ) بِذَلِكَ (اتِّصَالًا)، فَخَرَجَ الْمُرْسَلُ الْخَفِيُّ، فَهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِانْقِطَاعِ. فَالْمُرْسَلُ يَخْتَصُّ بِمَنْ رَوَى عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ لَقِيَهُ، كَمَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا تَبَعًا لِغَيْرِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْمُخَضْرَمِينَ كَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَقَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبِيلِ الْإِرْسَالِ لَا مِنْ قَبِيلِ التَّدْلِيسِ، فَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ الْمُعَاصَرَةِ يُكْتَفَى بِهِ فِي التَّدْلِيسِ، لَكَانَ هَؤُلَاءِ مُدَلِّسِينَ؛ لِأَنَّهُمْ عَاصَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا. وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَلْ لَقُوهُ أَمْ لَا، وَكَنَّى شَيْخُنَا بِاللِّقَاءِ عَنِ السَّمَاعِ لِتَصْرِيحِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي تَعْرِيفِهِ بِالسَّمَاعِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّاظِمُ فِي تَقْيِيدِهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ رِوَايَةُ الرَّاوِي عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ مُوهِمًا أَنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ وَسَمِعَهُ-: قَدْ حَدَّهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ. مِنْهُمُ الْبَزَّارُ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ هَذَا، فَقَالَ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يُتْرَكُ حَدِيثُهُ أَوْ يُقْبَلُ-: هُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ. [الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ] وَكَذَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي بَيَانِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ لَهُ. قَالَ: “ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرْسَالِ هُوَ أَنَّ الْإِرْسَالَ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ، كَانَتْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ كَأَنَّهَا إِيهَامُ سَمَاعِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَدْلِيسًا “. وَارْتَضَاهُ شَيْخُنَا لِتَضَمُّنِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. وَخَالَفَ شَيْخَهُ فِي ارْتِضَائِهِ هُنَا مِنْ شَرْحِهِ حَدَّ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي التَّقْيِيدِ: إِنَّهُ هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: إِنَّ كَلَامَ الْخَطِيبِ فِي كِفَايَتِهِ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. قُلْتُ: وَعِبَارَتُهُ فِيهَا: “ هُوَ تَدْلِيسُ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ الرَّاوِي مِمَّنْ دَلَّسَهُ عَنْهُ بِرِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، وَيَعْدِلُ عَنِ الْبَيَانِ لِذَلِكَ “. قَالَ: “ وَلَوْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الشَّيْخِ الَّذِي دَلَّسَهُ عَنْهُ وَكَشَفَ ذَلِكَ، لَصَارَ بِبَيَانِهِ مُرْسِلًا لِلْحَدِيثِ غَيْرَ مُدَلِّسٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لِلْحَدِيثِ لَيْسَ بِإِيهَامٍ مِنَ الْمُرْسِلِ كَوْنَهُ سَامِعًا مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَمُلْاقِيًا لِمَنْ لَمْ يَلْقَهُ، إِلَّا أَنَّ التَّدْلِيسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُتَضَمِّنٌ الْإِرْسَالَ لَا مَحَالَةَ؛ لِإِمْسَاكِ الْمُدَلِّسِ عَنْ ذِكْرِ الْوَاسِطَةِ “. “ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ حَالَ الْمُرْسِلِ بِإِيهَامِهِ السَّمَاعَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَطْ، وَهُوَ الْمُوهِنُ لِأَمْرِهِ، فَوَجَبَ كَوْنُ التَّدْلِيسِ مُتَضَمِّنًا لِلْإِرْسَالِ، وَالْإِرْسَالُ لَا يَتَضَمَّنُ التَّدْلِيسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِيهَامَ السَّمَاعِ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَذُمَّ الْعُلَمَاءُ مَنْ أَرْسَلَ- يَعْنِي لِظُهُورِ السَّقْطِ- وَذَمُّوا مَنْ دَلَّسَ “. وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: “ التَّدْلِيسُ عِنْدَ جَمَاعَتِهِمُ اتِّفَاقًا هُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَدَّثَ عَنْهُ مِمَّا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ مِمَّنْ تُرْضَى حَالُهُ أَوْ لَا تُرْضَى، عَلَى أَنَّ الْأَغْلَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ حَالُهُ مَرَضِيَّةً لَذَكَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ اسْتَصْغَرَهُ “. قَالَ: “ وَأَمَّا حَدِيثُ الرَّجُلِ عَمَّنْ لَمْ يَلْقَهُ- كَمَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالثَّوْرِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ- فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّهُ تَدْلِيسٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَاءَا لَسَمَّيَا مَنْ حَدَّثَهُمَا، كَمَا فَعَلَا فِي الْكَثِيرِ مِمَّا بَلَغَهُمَا عَنْهُمَا، قَالُوا: وَسُكُوتُ الْمُحَدِّثُ عَنْ ذِكْرِ مَنْ حَدَّثَهُ مَعَ عِلَّةٍ بِهِ دُلْسَةٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنَّمَا هُوَ إِرْسَالٌ، قَالُوا: فَكَمَا جَازَ أَنْ يُرْسِلَ سَعِيدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ تَدْلِيسًا، كَذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: وَلَئِنْ كَانَ هَذَا تَدْلِيسًا، فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا سَلِمَ مِنْهُ إِلَّا شُعْبَةَ وَالْقَطَّانَ؛ فَإِنَّهُمَا لَيْسَا يُوجَدُ لَهُمَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا سِيَّمَا شُعْبَةُ “. انْتَهَى. وَكَلَامُهُ بِالنَّظَرِ لِمَا اعْتَمَدَهُ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ الْخَفِيِّ وَالْجَلِيِّ؛ لِإِدْرَاكِ مَالِكٍ لِسَعِيدٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَدَمِ إِدْرَاكِ الثَّوْرِيِّ لِلنَّخَعِيِّ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَخْصِيصِهِ بِالثِّقَةِ، فَتَخْصِيصُهُ بِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ تَمْهِيدِهِ اقْتِصَارٌ عَلَى الْجَائِزِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنْهُ بِذَمِّهِ فِي غَيْرِ الثِّقَةِ. فَقَالَ: “ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، فَإِنْ دَلَّسَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ فَهُوَ تَدْلِيسٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ إِنْ حَدَّثَ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَقَدْ جَاوَزَ حَدَّ التَّدْلِيسَ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ مَنْ رَخَّصَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى مَا يُنْكِرُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ وَلَا يَحْمَدُونَهُ “. وَسَبَقَهُ لِذَلِكَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ، وَهُوَ مَعَ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: “ إِنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِيمَنْ لَمْ يَلْقَهُ أَقْبَحُ وَأَسْمَجُ “- يَقْتَضِي أَنَّ الْإِرْسَالَ أَشَدُّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَخَفُّ، فَكَأَنَّهُ هُنَا عَنَى الْخَفِيَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ اللُّقِيِّ وَالسَّمَاعِ مَعًا، وَهُنَاكَ عَنَى الْجَلِيَّ لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ فِيهِ. لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْإِرْسَالَ قَدْ يَبْعَثُ عَلَيْهِ أُمُورٌ لَا تُضِيرُهُ، كَأَنْ يَكُونَ سَمِعَ الْخَبَرَ مِنْ جَمَاعَةٍ عَنِ الْمُرْسَلِ عَنْهُ؛ بِحَيْثُ صَحَّ عِنْدَهُ وَوَقَرَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ نَسِيَ شَيْخَهُ فِيهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ عَنِ الْمُرْسَلِ عَنْهُ، أَوْ كَأَنْ أَخَذَهُ لَهُ مُذَاكَرَةً، فَيَنْتَقِلُ الْإِسْنَادُ لِذَلِكَ دُونَ الْإِرْسَالِ، أَوْ لِمَعْرِفَةِ الْمُتَخَاطِبِينَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ وَاشْتِهَارِهِ بَيْنَهُمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْجَلِيِّ. إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَقَدْ أَدْرَجَ الْخَطِيبُ ثُمَّ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْقِسْمِ تَدْلِيسَ التَّسْوِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَوَصَفَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِالتَّدْلِيسِ مَنْ رَوَى عَمَّنْ رَآهُ وَلَمْ يُجَالِسْهُ، بِالصِّيغَةِ الْمُوهِمَةِ، بَلْ وُصِفَ بِهِ مَنْ صَرَّحَ بِالْإِخْبَارِ فِي الْإِجَازَةِ كَأَبِي نُعَيْمٍ، أَوْ بِالتَّحْدِيثِ فِي الْوِجَادَةِ كَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ الْجَزَرِيِّ، وَكَذَا فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ كَفِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ أَحَدِ مَنْ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ مَقْرُونًا. وَلِذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ: يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ فِطْرٍ ثَنَا، وَيَكُونُ مَوْصُولًا؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: أَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ سَجِيَّةً؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَذَا قَالَ الْفَلَّاسُ: إِنَّ الْقَطَّانَ قَالَ لَهُ: وَمَا يُنْتَفَعُ بِقَوْلِ فِطْرٍ " ثَنَا " عَطَاءٌ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْقَطَّانِ: كَانَ فِطْرٌ صَاحِبَ ذِي سَمِعْتُ سَمِعْتُ، يَعْنِي أَنَّهُ يُدَلِّسُ فِيمَا عَدَاهَا، وَلَعَلَّهُ تَجَوَّزَ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ فَأَوْهَمَ دُخُولَهُ. كَقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: “ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ “ وَ “ خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ “ وَأَرَادَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا حِينَ خُطْبَتِهِمَا، وَنَحْوُهُ فِي قَوْلِهِ: “ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ “ وَقَوْلِ طَاوُسٍ: “ قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذٌ الْيَمَنَ “. وَأَرَادَ أَهْلَ بَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، كَمَا سَيَأْتِي الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَلَكِنَّ صَنِيعَ فِطْرٍ فِيهِ غَبَاوَةٌ شَدِيدَةٌ يَسْتَلْزِمُ تَدْلِيسًا صَعْبًا، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا، وَسَبَقَهُ عُثْمَانُ بْنُ خُرَّذَاذَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: إِنَّ أَبَا هِشَامٍ الرِّفَاعِيَّ يَسْرِقُ حَدِيثَ غَيْرِهِ وَيَرْوِيهِ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَعَلَى وَجْهِ التَّدْلِيسِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْكَذِبِ؟ قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ تَدْلِيسًا وَهُوَ يَقُولُ: ثَنَا؟! وَكَذَا مَنْ أَسْقَطَ أَدَاةَ الرِّوَايَةِ أَصْلَا مُقْتَصِرًا عَلَى اسْمِ شَيْخِهِ، وَيَفْعَلُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ كَثِيرًا، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ- وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي التَّمْثِيلِ لِتَدْلِيسِ الْإِسْنَادِ- مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: الزُّهْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: حَدَّثَكَ الزُّهْرِيُّ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: أَسَمِعْتَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ؟ فَقَالَ: لَا، لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَنَحْوُهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الطَّائِفِيِّ: حَدِّثْنَا بِحَدِيثِ: “ مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ “ فَقَالَ: عُقْبَةُ، فَقِيلَ: سَمِعْتَهُ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا، حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَقِيلَ: لِسَعْدٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ، فَقِيلَ: لِزِيَادٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، يَعْنِي عَنْ عُقْبَةَ. وَسَمَّاهُ شَيْخُنَا فِي تَصْنِيفِهِ فِي الْمُدَلِّسِينَ تَدْلِيسَ الْقَطْعِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ مُثِّلَ لَهُ فِي نُكَتِهِ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ بِمَا فِي الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ الطُّنَافِسِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ثَنَا ثُمَّ يَسْكُتُ وَيَنْوِي الْقَطْعَ، ثُمَّ يَقُولُ: هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ نَوْعَانِ، وَنَحْوُهُ تَدْلِيسُ الْعَطْفِ، وَهُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي شَيْخٍ لَهُ، وَيَعْطِفَ عَلَيْهِ شَيْخًا آخَرَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ سَمِعَ ذَلِكَ الْمَرْوِيَّ مِنْهُ، سَوَاءٌ اشْتَرَكَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ- كَمَا قَيَّدَهُ بِهِ شَيْخُنَا لِأَجْلِ الْمِثَالِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَهُوَ أَخَفُّ- أَمْ لَا. فَرَوَى الْحَاكِمُ فِي عُلُومِهِ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ هُشَيْمٍ، فَقَالُوا: لَا نَكْتُبُ عَنْهُ الْيَوْمَ شَيْئًا مِمَّا يُدَلِّسُهُ، فَفَطِنَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: ثَنَا حُصَيْنٌ وَمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسَاقَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هَلْ دَلَّسْتُ لَكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، فَقَالَ: بَلَى، كُلُّ مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ حُصَيْنٍ فَهُوَ سَمَاعِي، وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ مُغِيرَةَ شَيْئًا. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ نَوَى الْقَطْعَ. ثُمَّ قَالَ: وَفُلَانٌ، أَيْ: وَحَدَّثَ فُلَانٌ، [وَقَرِيبٌ مِنْهُ- وَسَمَّاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ خَفِيَّ التَّدْلِيسِ- قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ- يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- ذَكَرَهُ- يَعْنِي: لِي عَنْ أَبِيهِ- وَلَكِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيَّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَأَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ سَمَاعِ أَبِي عُبَيْدَةَ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ إِدْرَاكِهِ لَهُ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ سَمَاعِهِ مِنْهُ]. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ لِهَذَا الْقِسْمِ، (وَاخْتُلِفْ فِي أَهْلِهِ) أَيْ: أَهْلِ هَذَا الْقِسْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِهِ أَيُرَدُّ حَدِيثُهُمْ أَمْ لَا؟ (فَالرَّدُّ) لَهُمْ (مُطْلَقًا) سَوَاءٌ أَبَيَّنُوا السَّمَاعَ أَمْ لَا، دَلَّسُوا عَنِ الثِّقَاتِ أَمْ لَا (ثُقِفْ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا قَافٌ ثُمَّ فَاءٌ، أَيْ: وُجِدَ. كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ عَنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، حَتَّى بَعْضَ مَنِ احْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ، مُحْتَجِّينَ لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّدْلِيسَ نَفْسَهُ جَرْحٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التُّهْمَةِ وَالْغِشِّ، حَيْثُ عَدَلَ عَنِ الْكَشْفِ إِلَى الِاحْتِمَالِ، وَكَذَا التَّشَبُّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ حَيْثُ يُوهِمُ السَّمَاعَ لِمَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَالْعُلُوُّ وَهُوَ عِنْدَهُ بِنُزُولٍ، الَّذِي قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ أَكْثَرُ قَصْدِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهِ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي التَّلْخِيصِ فَقَالَ: التَّدْلِيسُ جَرْحٌ، فَمَنْ ثَبَتَ تَدْلِيسُهُ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ مُطْلَقًا. قَالَ: وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى أُصُولِ مَالِكٍ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ بِمَا إِذَا اسْتُكْشِفَ فَلَمْ يُخْبِرْ بِاسْمِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ. قَالَ: لِأَنَّ التَّدْلِيسَ تَزْوِيرٌ وَإِيهَامٌ لِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي صِدْقِهِ، أَمَّا إِنْ أَخْبَرَ فَلَا. وَالثَّانِي: الْقَبُولُ مُطْلَقًا صَرَّحُوا أَمْ لَا، حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ خَلْقٍ كَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: وَزَعَمُوا أَنَّ نِهَايَةَ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا. وَالثَّالِثُ- وَعَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ-: التَّفْصِيلُ، فَمَنْ كَانَ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنِ الثِّقَاتِ، كَانَ تَدْلِيسُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَقْبُولًا وَ إِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْبَزَّارُ، وَبِهِ أَشْعَرَ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي مُدَلَّسِ الضَّعِيفِ: “ يَجِبُ أَلَّا يُقْبَلَ خَبَرُهُ “، وَبِالتَّفْصِيلِ صَرَّحَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ. وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا فِي حَقِّ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَبَالَغَ ابْنُ حِبَّانَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: “ إِنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ تَدْلِيسٌ قَطُّ، إِلَّا وُجِدَ بِعَيْنِهِ قَدْ بَيَّنَ سَمَاعَهُ فِيهِ مِنْ ثِقَةٍ “؛ يَعْنِي كَمَا قِيلَ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْمُرْسَلِ. وَفِي سُؤَالَاتِ الْحَاكِمِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَدْلِيسِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَقَالَ: يُجْتَنَبُ، وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ يُدَلِّسُ عَنِ الثِّقَاتِ. وَلِذَا قِيلَ: أَمَّا الْإِمَامُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَدَ اغْتَفَرُوا تَدْلِيسَهُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ، وَمِمَّا وَقَعَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ رَوَى بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، ثُمَّ بَيَّنَ حِينَ سُئِلَ أَنَّ بَيْنَهُمَا عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، وَتَقَدَّمَ عَنْهُ التَّدْلِيسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِوَاسَطِتَيْنِ فَقَطْ، لَكِنْ مَعَ حَذْفِ الصِّيغَةِ أَصْلًا. وَكَذَا قِيلَ فِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَنَسٍ إِلَّا الْيَسِيرَ، وَجُلُّ حَدِيثِهِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُدَلِّسُهُ. فَقَالَ الْعَلَائِيُّ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ إِلَّا بِمَا صَرَّحَ فِيهِ-: “ قَدْ تَبَيَّنَ الْوَاسِطَةُ فِيهَا، وَهُوَ ثِقَةٌ مُحْتَجٌّ بِهِ “. وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ وُقُوعُ التَّدْلِيسِ مِنْهُ نَادِرًا، قُبِلَتْ عَنْعَنَتُهُ وَنَحْوُهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ ظَاهِرُ جَوَابِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ؛ فَإِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ شَيْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُدَلِّسُ أَيَكُونُ حُجَّةً فِيمَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ حَدَّثَنَا؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّدْلِيسَ فَلَا. (وَالْأَكْثَرُونَ) مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ (قَبِلُوا) مِنْ حَدِيثِهِمْ (مَا صَرَّحَا ثِقَاتُهُمْ) خَاصَّةً (بِوَصْلِهِ) كَسَمِعْتُ، وَثَنَا، وَشِبْهِهِمَا [وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ، بَلْ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ قَبُولُ عَنْعَنَتِهِمْ إِذَا كَانَ التَّدْلِيسُ نَادِرًا كَمَا حَكَيْتُهُ قَرِيبًا؛ لِأَنَّ التَّدْلِيسَ لَيْسَ كَذِبًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْسِينٌ لِظَاهِرِ الْإِسْنَادِ، كَمَا قَالَ الْبَزَّارُ، وَضَرْبٌ مِنَ الْإِيهَامِ بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ، فَإِذَا صَرَّحَ قَبِلُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ، وَرَدُّوا مَا أَتَى مِنْهُ بِاللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ، وَجَعَلُوا حُكْمَهُ حُكْمَ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ خَامِسُ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ. (وَصُحِّحَا) بِبِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ هَذَا الْقَوْلُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ، فَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ فَتْحُ أَوَّلِهِ أَيْ: صَحَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِحِكَايَتِهِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. وَمِمَّنْ حَكَاهُ الْعَلَائِيُّ، بَلْ نَفَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَعِبَارَتُهُ: “ إِذَا صَرَّحَ الْمُدَلِّسُ الثِّقَةُ بِالسَّمَاعِ قُبِلَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ عَنْعَنَ فَفِيهِ الْخِلَافُ “. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: “ الْمُدَلِّسُ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ حَتَّى يَقُولَ: ثَنَا أَوْ سَمِعْتُ، فَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا “. وَكَأَنَّهُ سَلَفَ النَّوَوِيَّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي حِكَايَتِهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُحْتَجُّ بِخَبَرِهِ إِذَا عَنْعَنَ، وَلَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ بِمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا إِنْ قُيِّدَ بِمَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَكَذَا يُتَعَقَّبُ نَفْيُ ابْنِ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا صَرَّحَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ وَافَقَ عَلَى حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْمُعَنْعَنِ. وَ(فِي) كُتُبِ (الصَّحِيحِ) لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا (عِدَّةٌ) مِنَ الرُّوَاةِ الْمُدَلِّسِينَ مُخَرَّجٌ لِحَدِيثِهِمْ مِمَّا صَرَّحُوا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ (كَالْأَعْمَشِ) مَعَ قَوْلِ مُهَنَّأٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ: لِمَ كَرِهْتَ مَرَاسِيلَهُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِي عَمَّنْ حَدَّثَ (وَكَهُشَيْمٍ)- مُصَغَّرًا ابْنِ بَشِيرٍ- بِالتَّكْبِيرِ- الْوَاسِطِيِّ الْمُتَأَخِّرِ (بَعْدَهُ) وَأَحَدِ الْآخِذِينَ عَنْهُ. فَقَدْ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: إِنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ كَثِيرًا، فَمَا قَالَ فِيهِ: أَنَا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَسُئِلَ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى التَّدْلِيسِ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَشْهَى شَيْءٍ. وَغَيْرِهِمَا كَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، فَإِنَّهُ- كَمَا قَالَ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا-: ثِقَةٌ، كَثِيرُ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّسَ عَلَى أَنَسٍ، وَكَقَتَادَةَ. (وَفَتِّشِ) الصِّحَاحَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ بِهَا التَّخْرِيجَ لِجَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ مِمَّا صَرَّحُوا فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ مُعَنْعَنِهِمْ، وَلَكِنْ هُوَ- كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ- مَحْمُولٌ عَلَى ثُبُوتِ السَّمَاعِ عِنْدَهُمْ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذَا كَانَ فِي أَحَادِيثِ الْأُصُولِ لَا الْمُتَابَعَاتِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِمُصَنِّفِيهَا، يَعْنِي وَلَوْ لَمْ نَقِفْ نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ لَا فِي الْمُسْتَخْرَجَاتِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةٌ لِكَثِيرٍ مِنْهُ وَلَا فِي غَيْرِهَا. وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ- بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ مُعَنْعَنَ الْمُدَلِّسِ كَالْمُنْقَطِعِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ، إِلَّا أَنَّ الْجَرْيَ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَتَخْرِيجَاتِهِمْ صَعْبٌ عَسِيرٌ، يُوجِبُ اطِّرَاحَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّحُوهَا؛ إِذْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْنَا إِثْبَاتُ سَمَاعِ الْمُدَلِّسِ فِيهَا مِنْ شَيْخِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّ الْأَوَّلِينَ اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. انْتَهَى. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ فِي الْقَدَحِ الْمُعَلَّى: “ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُعَنْعَنَاتِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ “، يَعْنِي إِمَّا لِمَجِيئِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِالتَّصْرِيحِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُعَنْعِنِ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ أَوْ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ، أَوْ لِوُقُوعِهَا مِنْ جِهَةِ بَعْضِ النُّقَّادِ الْمُحَقِّقِينَ سَمَاعَ الْمُعَنْعِنِ لَهَا. وَلِذَا اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَقَتَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ شُعْبَةَ خَاصَّةً عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَفَيْتُكُمْ تَدْلِيسَهُمْ، فَإِذَا جَاءَ حَدِيثُهُمْ مِنْ طَرِيقَةٍ بِالْعَنْعَنَةِ، حُمِلَ عَلَى السَّمَاعِ جَزْمًا. وَأَبُو إِسْحَاقَ فَقَطْ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ الْقَطَّانِ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْهُ. وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ اللَّيْثِ خَاصَّةً عَنْهُ، وَالثَّوْرِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ الْقَطَّانِ عَنْهُ، بَلْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَلَا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَلَا عَنْ مَنْصُورٍ وَلَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِهِ تَدْلِيسٌ، مَا أَقَلَّ تَدْلِيسَهُ!. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا مِنْ إِطْلَاقِ تَخْرِيجِ أَصْحَابِ الصَّحِيحِ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، حَيْثُ جَعَلَ مِنْهُمْ قِسْمًا احْتَمَلَ الْأَئِمَّةُ تَدْلِيسَهُ، وَخَرَّجُوا لَهُ فِي الصَّحِيحِ لِإِمَامَتِهِ، وَقِلَّةِ تَدْلِيسِهِ فِي جَنْبِ مَا رَوَى كَالثَّوْرِيِّ، يَتَنَزَّلُ عَلَى هَذَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جُعِلَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَنْ كَانَ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ كَابْنِ عُيَيْنَةَ. وَكَلَامُ الْحَاكِمِ يُسَاعِدُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: “ وَمِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مُخَرَّجٌ حَدِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَبَحِّرَ فِي هَذَا الْعِلْمِ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا سَمِعُوهُ وَبَيْنَ مَا دَلَّسُوهُ “. [قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لِلْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ جَابِرٍ بِالْعَنْعَنَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ لَهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ جَابِرٍ؛ لِتَتَقَوَّى بِهَا الرِّوَايَةُ الْأُولَى]. وَكَذَا يُسْتَثْنَى مِنَ الْخِلَافِ مَنْ أَكْثَرَ التَّدْلِيسَ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ؛ كَبَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ- كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا- عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ إِلَّا بِمَا صَرَّحُوا بِالسَّمَاعِ فِيهِ، أَوْ مَنْ ضَعُفَ بِأَمْرٍ آخَرَ سِوَى التَّدْلِيسِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَدِيثُهُمْ مَرْدُودٌ جَزْمًا، وَلَوْ صَرَّحُوا بِالسَّمَاعِ إِلَّا إِنْ تُوبِعُوا، وَلَوْ كَانَ الضَّعْفُ يَسِيرًا كَابْنِ لَهِيعَةَ. [حُكْمُ التَّدْلِيسِ]: وَأَمَّا حُكْمُهُ: فَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَرَوْنَ بِالتَّدْلِيسِ بَأْسًا، يَعْنِي وَهُمُ الْفَاعِلُونَ لَهُ أَوْ مُعْظَمُهُمْ، (وَذَمَّهُ)- أَيْ: أَصْلَ التَّدْلِيسِ لَا خُصُوصَ هَذَا الْقِسْمِ- (شُعْبَةُ) بْنُ الْحَجَّاجِ (ذُو الرُّسُوخِ) فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ؛ بِحَيْثُ لُقِّبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ، وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْهُ: إِنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا؛ وَلَأَنْ أَسْقُطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ عَنْهُ: لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ: زَعَمَ فُلَانٌ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مِنْهُ. وَلَمْ يَنْفَرِدْ شُعْبَةُ بِذَمِّهِ، بَلْ شَارَكَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَزَادَ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ التَّدْلِيسَ. وَمِمَّنْ أَطْلَقَ عَلَى فَاعِلِهِ الْكَذِبَ أَبُو أُسَامَةَ، وَكَذَا قَرَنَهُ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَقَرَنَهُ آخَرُ بِقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَنْقَرِيُّ: التَّدْلِيسُ وَالْغِشُّ وَالْغُرُورُ وَالْخِدَاعُ وَالْكَذِبُ تُحْشَرُ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فِي نَفَاذٍ وَاحِدٍ بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: طَرِيقٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ: إِنَّهُ ذُلٌّ، يَعْنِي لِسُؤَالِهِ أَسَمِعَ أَمْ لَا؟ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: “ إِنِّي لَأُزَيِّنُ الْحَدِيثَ بِالْكَلِمَةِ، فَأَعْرِفُ مَذَلَّةَ ذَلِكَ فِي وَجْهِي فَأَدَعُهُ “. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: “ هُوَ مُتَشَبِّعٌ بِمَا لَمْ يُعْطَ “، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ: أَقَلُّ حَالَاتِهِ عِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَدِيثِ: “ الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ “. وَقَالَ وَكِيعٌ: الثَّوْبُ لَا يَحِلُّ تَدْلِيسُهُ فَكَيْفَ الْحَدِيثُ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَدْنَى مَا فِيهِ التَّزَيُّنُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: وَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَنَحْنُ نَكْرَهُهُ، زَادَ غَيْرُهُ وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ ضَعِيفًا فَهُوَ حَرَامٌ، وَلَكِنِ اخْتَصَّ شُعْبَةُ مِنْهُ مَعَ تَقَدُّمِهِ بِالْمَزِيدِ كَمَا تَرَى، عَلَى أَنَّ شُعْبَةَ قَدْ عِيبَ بِقَوْلِهِ: لَأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ يَزِيدَ بْنَ أَبَانٍ الرَّقَاشِيِّ. فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ رَاوِي ذَلِكَ عَنْهُ: مَا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ الزِّنَا!. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَهُوَ- أَيِ: التَّدْلِيسُ- دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: “ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا “؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ السَّامِعِينَ أَنَّ حَدِيثَهُ مُتَّصِلٌ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، هَذَا إِنْ دَلَّسَ عَنْ ثِقَةٍ، فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، بَلْ هُوَ- كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ- حَرَامٌ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّدْلِيسُ اسْمٌ ثَقِيلٌ شَنِيعُ الظَّاهِرِ، لَكِنَّهُ خَفِيفُ الْبَاطِنِ، سَهْلُ الْمَعْنَى، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهُ. (وَدُونَهُ) أَيْ: دُونَ الْأَوَّلِ مِنْ قِسْمَيْ تَدْلِيسِ الْإِسْنَادِ، وَفُصِلَ عَنْهُ لِعَدَمِ الْحَذْفِ فِيهِ (التَّدْلِيسُ لِلشِّيُوخِ) ثَانِي قِسْمَيْهِ، لِتَصْرِيحِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِأَنَّ أَمْرَهُ أَخَفُّ، وَهُوَ (أَنْ يَصِفَ) الْمُدَلِّسُ (الشَّيْخَ) الَّذِي سَمِعَ ذَاكَ مِنْهُ (بِمَا لَا يُعْرَفُ) أَيْ: يُشْتَهَرُ (بِهِ) مِنَ اسْمٍ أَوْ كُنْيَةٍ، أَوْ نِسْبَةٍ إِلَى قَبِيلَةٍ، أَوْ بَلْدَةٍ أَوْ صَنْعَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، كَيْ يُوعِرَ مَعْرِفَةَ الطَّرِيقِ عَلَى السَّامِعِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ “ أَنْ “ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: “ التَّدْلِيسُ “. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ الْمُقْرِئِ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، يُرِيدُ بِهِ الْحَافِظَ أَبَا بَكْرِ ابْنَ صَاحِبِ السُّنَنِ الْحَافِظِ أَبِي دَاوُدَ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَنَدٍ، يُرِيدُ بِهِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّقَّاشَ، نِسْبَةً لِجَدٍّ لَهُ. (وَذَا) الْفِعْلُ (بِـ) اخْتِلَافِ (مَقْصِدٍ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، حَامِلٌ لِفَاعِلِهِ عَلَيْهِ (يَخْتَلِفْ) فِي الْكَرَاهَةِ، (فَشَرُّهُ) مَا كَانَتْ تَغْطِيَتُهُ (لِلضَّعْفِ) فِي الرَّاوِي كَمَا فُعِلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ الضَّعِيفِ؛ حَيْثُ قِيلَ: فِيهِ حَمَّادٌ؛ لِتَضَمُّنِهِ الْخِيَانَةَ وَالْغِشَّ وَالْغُرُورَ، وَذَلِكَ حَرَامٌ هُنَا وَفِي الَّذِي قَبْلَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ إِجْمَاعًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثِقَةً عِنْدَ فَاعِلِهِ، فَهُوَ أَسْهَلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ انْفَرَدَ هُوَ بِتَوْثِيقِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَضْعِيفِ النَّاسِ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ أَسْهَلُ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي الْمُرْسَلِ. (وَ) يَكُونُ (اسْتِصْغَارًا) لِسِنِّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ، إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ مِنْهُ أَوْ أَكْبَرَ، لَكِنْ بِيَسِيرٍ أَوْ بِكَثِيرٍ، لَكِنْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ حَتَّى شَارَكَهُ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ. وَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، الْحَافِظِ الشَّهِيرِ صَاحِبِ التَّصَانِيفِ، فَلِكَوْنِ الْحَارِثِ أَكْبَرَ مِنْهُ قَالَ فِيهِ مَرَّةً: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَرَّةً: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ، وَمَرَّةً: أَبُو بَكْرِ بْنُ سُفْيَانَ، وَمَرَّةً: أَبُو بَكْرٍ الْأُمَوِيُّ، قَالَ الْخَطِيبُ: (وَذَلِكَ خِلَافُ مُوجِبِ الْعَدَالَةِ وَمُقْتَضَى الدِّيَانَةِ مِنَ التَّوَاضُعِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَتَرْكِ الْحَمِيَّةِ فِي الْأَخْبَارِ بِأَخْذِ الْعِلْمِ عَمَّنْ أَخَذَهُ). قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ لِلْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ أَخْذِهِ عَنْهُ، وَانْتِشَارِهِ مَعَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُدَلَّسِ عَنْهُ حَيًّا، وَعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْمَحْذُورِ الَّذِي نَهَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ لِأَجْلِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ شَيْخِنَا: أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّحْرَاوِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَعَنَى بِذَلِكَ الْوَلِيَّ أَبَا زُرْعَةَ ابْنَ شَيْخِهِ الزَّيْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْعِرَاقِيِّ، وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ إِلَّا أَفْرَادٌ، مَعَ تَحْدِيثِهِ بِذَلِكَ حَتَّى لِجَمَاعَةٍ مِنْ خَوَاصِّ الْوَلِيِّ وَمُلَازِمِيهِ، وَمَا عَلِمُوهُ. (وَ) يَكُونُ (كَـ) فِعْلِ (الْخَطِيبِ) الْحَافِظِ الْمُكْثِرِ مِنَ الشُّيُوخِ وَالْمَسْمُوعِ فِي تَنْوِيعِ الشَّيْخِ الْوَاحِدِ؛ حَيْثُ قَالَ مَرَّةً: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، وَمَرَّةً: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمَرَّةً: أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ. وَقَالَ مَرَّةً: عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيِّ، وَمَرَّةً: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْفَارِسِيِّ، وَمَرَّةً: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيِّ، وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ. وَقَالَ مَرَّةً: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ، وَمَرَّةً: أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، وَمَرَّةً: أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ، وَمَرَّةً: أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، وَيَصِفُهُ مَرَّةً بِالْقَاضِي، وَمَرَّةً: بِالْمُعَدَّلِ إِلَى غَيْرِهَا. وَمُرَادُهُ بِهَذَا كُلِّهِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْمُحْسِنِ بْنِ عَلِيٍّ التُّنُوخِيُّ الْبَصْرِيُّ الْأَصْلِ الْقَاضِي، وَهُوَ مُكْثِرٌ فِي تَصَانِيفِهِ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا يَقَعُ لِلْبُخَارِيِّ فِي شَيْخِهِ الذُّهَلِيِّ؛ فَإِنَّهُ تَارَةً يَقُولُ: ثَنَا مُحَمَّدٌ وَلَا يَنْسِبُهُ، وَتَارَةً: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَيَنْسِبُهُ إِلَى جَدِّهِ، وَتَارَةً: مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، فَيَنْسِبُهُ إِلَى وَالِدِ جَدِّهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ سَتَأْتِي جُمْلَةٌ مِنْهَا فِيمَنْ ذُكِرَ بِنُعُوتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. (يُوهِمُ) الْفَاعِلُ بِذَلِكَ (اسْتِكْثَارًا) مِنَ الشُّيُوخِ؛ حَيْثُ يُظَنُّ الْوَاحِدُ بِبَادِيَ الرَّأْيِ جَمَاعَةً، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْخَطِيبُ بِقَوْلِهِ: (أَوْ تَكُونُ أَحَادِيثُهُ الَّتِي عِنْدَهُ عَنْهُ كَثِيرَةً، فَلَا يُحِبُّ تَكْرَارَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَيُغَيِّرُ حَالَهُ لِذَلِكَ). قُلْتُ: وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ النَّاظِرِ قَدْ يَتَوَهَّمُ الْإِكْثَارَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِفَاعِلِهِ، بَلِ الظَّنُّ بِالْأَئِمَّةِ- خُصُوصًا مَنِ اشْتُهِرَ إِكْثَارُهُ مَعَ وَرَعِهِ- خِلَافُهُ؛ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّشَبُّعِ وَالتَّزَيُّنِ الَّذِي يُرَاعِي تَجَنُّبَهُ أَرْبَابُ الصَّلَاحِ وَالْقُلُوبِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ يَاقُوتَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ. وَكَانَ مِنْ أَكَابِرَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ قَصْدِهِمُ الِاخْتِبَارَ لِلْيَقَظَةِ، وَالْإِلْفَاتِ إِلَى حُسْنِ النَّظَرِ فِي الرُّوَاةِ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ إِلَى قَبَائِلِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ وَحِرَفِهِمْ وَأَلْقَابِهِمْ وَكُنَاهُمْ، وَكَذَا الْحَالُ فِي آبَائِهِمْ، فَتَدْلِيسُ الشُّيُوخِ دَائِرٌ بَيْنَ مَا وَصَفْنَا. وَقَدْ ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ سَأَلَهُ التَّقِيُّ: مَنْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْهِلَالِيُّ؟ فَقَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، فَأَعْجَبَهُ اسْتِحْضَارُهُ. وَأَلْطَفُ مِنْهُ قَوْلُهُ لَهُ: مَنْ أَبُو الْعَبَّاسِ الذَّهَبِيُّ؟ فَقَالَ: أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ. وَكَذَا مَرَّ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ- وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْ شَيْخِنَا- قَوْلُهُ: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الدِّمَشْقِيُّ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَبَادَرْتُهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْنِي بِذَلِكَ، وَقُلْتُ: هُوَ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جَوْصَاءَ، فَأَعْجَبَهُ الْجَوَابُ دُونَ الْمُبَادَرَةِ لِتَفْوِيتِهَا غَرَضًا لَهُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّ فِي تَدْلِيسِ الشَّيْخِ الثِّقَةِ مَصْلَحَةً، وَهِيَ امْتِحَانُ الْأَذْهَانِ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ وَإِلْقَاؤُهُ إِلَى مَنْ يُرَادُ اخْتِبَارُ حِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالرِّجَالِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي فِعْلِ الْبُخَارِيِّ فِي الذُّهَلِيِّ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ؛ بِحَيْثُ مَنَعَ الذُّهَلِيُّ أَصْحَابَهُ مِنَ الْحُضُورِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَانِعٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنَ التَّخْرِيجِ عَنْهُ؛ لِوُفُورِ دِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَكَوْنِهِ عُذْرَهُ فِي نَفْسِهِ بِالتَّأْوِيلِ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، أَنْ يَكُونَ كَأَنَّهُ بِتَعْدِيلِهِ لَهُ صَدَّقَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَأَخْفَى اسْمَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. وَالْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وُقُوعُهُ مِنَ الرَّاوِي، وَقَدْ يَقَعُ مِنَ الطَّالِبِ بِقَصْدِ التَّغْطِيَةِ عَلَى شَيْخِهِ؛ لِيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ مَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَخْذِهِ فِي حَدِيثِ ذَاكَ الْمُدَلِّسِ؛ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَهُوَ أَخَفُّهَا وَأَظْرَفُهَا، وَيَجْمَعُ الْكُلَّ مَفْسَدَةُ تَضْيِيعِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ؛ وَذَلِكَ حَيْثُ جُهِلَ إِلَّا أَنَّهُ نَادِرٌ فَالْحُذَّاقُ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَنْهُمْ غَالِبًا، فَإِنْ جُهِلَ كَانَ مِنْ لَازِمِهِ تَضْيِيعُ الْمَرْوِيِّ أَيْضًا، بَلْ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يُوَافِقَ مَا دَلَّسَ بِهِ شُهْرَةَ رَاوٍ ضَعِيفٍ مِنْ أَهْلِ طَبَقَتِهِ، وَيَكُونَ الْمُدَلِّسُ ثِقَةً، وَكَذَا بِالْعَكْسِ، وَهُوَ فِيهِ أَشَدُّ. وَبِهَذَا وَكَذَا بِأَوَّلِ الْمَقَاصِدِ بِهَذَا الْقِسْمِ قَدْ يُنَازَعُ فِي كَوْنِهِ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ هَذَا قَلَّ أَنْ يَخْفَى عَلَى النُّقَّادِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَيُعْرَفُ كُلٌّ مِنَ التَّدْلِيسِ وَاللِّقَاءِ بِإِخْبَارِهِ أَوْ بِجَزْمِ بَعْضِ النُّقَّادِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي خَفِيِّ الْإِرْسَالِ (وَالشَّافِعِيْ) بِالْإِسْكَانِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- (أَثْبَتَهُ) أَيْ: أَصْلَ التَّدْلِيسِ لَا خُصُوصَ هَذَا الْقِسْمِ لِلرَّاوِي. (بِمَرَّةٍ)، وَعِبَارَتُهُ: “ وَمَنْ عَرَفْنَاهُ دَلَّسَ مَرَّةً، فَقَدْ أَبَانَ لَنَا عَوْرَتَهُ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْعَوْرَةُ بِكَذِبٍ فَيُرَدُّ بِهَا حَدِيثُهُ “ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: فَقَالَ: “ مَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ مَرَّةً، لَا يُقْبِلُ مِنْهُ مَا يُقْبِلُ مِنْ أَهْلِ النَّصِيحَةِ فِي الصِّدْقِ، حَتَّى يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْتُ، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ “. انْتَهَى. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِثُبُوتِ تَدْلِيسِهِ مَرَّةً، صَارَ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ فِي مُعَنْعَنَاتِهِ، كَمَا أَنَّهُ بِثُبُوتِ اللِّقَاءِ مَرَّةً صَارَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ السَّمَاعَ. وَكَذَا مَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ صَارَ الْكَذِبُ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ، وَسَقَطَ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ حَدِيثِهِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِهِ صَادِقًا فِي بَعْضِهِ. (قُلْتُ: وَشَرُّهَا) أَيْ: أَنْوَاعِ التَّدْلِيسِ، حَتَّى مَا ذَكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ شَرُّهُ (أَخُو) أَيْ: صَاحِبُ (التَّسْوِيَةِ) الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْخَطِيبُ بِقَوْلِهِ: “ وَرُبَّمَا لَمْ يُسْقِطِ الْمُدَلِّسُ اسْمَ شَيْخِهِ الَّذِي حَدَّثَهُ، لَكِنَّهُ يُسْقِطُ مِمَّنْ بَعْدَهُ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا يَكُونُ ضَعِيفًا فِي الرِّوَايَةِ أَوْ صَغِيرَ السِّنِّ، وَيَحْسُنُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ “ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ تَقْرِيبِهِ، وَجَمَاعَةٌ لَيْسَ فِيهِمُ ابْنُ الصَّلَاحِ، مِنْهُمُ الْعَلَائِيُّ وَتِلْمِيذُهُ النَّاظِمُ، لَكِنْ جَعَلَهُ قِسْمًا ثَالِثًا لِلتَّدْلِيسِ. وَحَقَّقَ تِلْمِيذُهُ شَيْخُنَا أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَصَنِيعُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَ(تَقْرِيبِهِ) يَقْتَضِيهِ. وَبِالتَّسْوِيَةِ سَمَّاهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ فَمَنْ بَعْدَهُ، فَقَالَ: سَوَّاهُ فُلَانٌ. وَأَمَّا الْقُدَمَاءُ فَسَمَّوْهُ تَجْوِيدًا؛ حَيْثُ قَالُوا: جَوَّدَهُ فُلَانٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَرْوِيَ الْمُدَلِّسُ حَدِيثًا عَنْ شَيْخٍ ثِقَةٍ بِسَنَدٍ فِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٌ، فَيَحْذِفَهُ الْمُدَلِّسُ مِنْ بَيْنِ الثِّقَتَيْنِ اللَّذَيْنِ لَقِيَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلُهُمَا بِالتَّدْلِيسِ، وَيَأْتِي بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ فَيَسْتَوِي الْإِسْنَادُ كُلُّهُ ثِقَاتٍ. وَيُصَرِّحُ الْمُدَلِّسُ بِالِاتِّصَالِ عَنْ شَيْخِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَلَا يَظْهَرُ فِي الْإِسْنَادِ مَا يَقْتَضِي رَدَّهُ إِلَّا لِأَهْلِ النَّقْدِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْعِلَلِ، وَيَصِيرُ الْإِسْنَادُ عَالِيًا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَازِلٌ، وَهُوَ مَذْمُومٌ جِدًّا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الْغِشِّ وَالتَّغْطِيَةِ، وَرُبَّمَا يَلْحَقُ الثِّقَةَ الَّذِي هُوَ دُونَ الضَّعِيفِ الضَّرَرُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ تَبَيُّنِ السَّاقِطِ بِإِلْصَاقِ ذَلِكَ بِهِ مَعَ بَرَاءَتِهِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: صَحَّ عَنْ قَوْمٍ إِسْقَاطُ الْمَجْرُوحِ وَضَمُّ الْقَوِيِّ إِلَى الْقَوِيِّ؛ تَلْبِيسًا عَلَى مَنْ يُحَدَّثُ، وَغُرُورًا لِمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ، فَهَذَا مَجْرُوحٌ وَفِسْقُهُ ظَاهِرٌ، وَخَبَرُهُ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ سَاقِطُ الْعَدَالَةِ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ كَانَ يَفْعَلُهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَبِالتَّقْيِيدِ بِاللِّقَاءِ خَرَجَ الْإِرْسَالُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَالِكًا سَمِعَ مِنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ أَحَادِيثَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ حَدَّثَ بِهَا بِحَذْفِ عِكْرِمَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ، وَلَا يَرَى الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثِهِ. انْتَهَى. فِي أَمْثِلَةٍ لِذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ بِخُصُوصِهِ، فَلَوْ كَانَتِ التَّسْوِيَةُ بِالْإِرْسَالِ تَدْلِيسًا، لَعُدَّ مَالِكٌ فِي الْمُدَلِّسِينَ، وَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ عَدَّهُ فِيهِمْ، فَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَلَقَدْ ظُنَّ بِمَالِكٍ عَلَى بُعْدِهِ عَنْهُ عَمَلُهُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ مَالِكًا مِمَّنْ عَمِلَ بِهِ وَلَيْسَ عَيْبًا، عِنْدَهُمْ. قُلْتُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَالِكًا ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا الصَّنِيعُ وَإِنِ احْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَمَّنْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ وَكَذَا بِالتَّقْيِيدِ بِالضَّعِيفِ- كَانَ أَخَصَّ مِنَ الْمُنْقَطِعِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ أَدْرَجَ فِي تَدْلِيسِ التَّسْوِيَةِ مَا كَانَ الْمَحْذُوفُ ثِقَةً. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيٍّ فِي تَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالُوا: وَيَحْيَى لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَإِنْ سَمِعَ مِنْهُ غَيْرَهُ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ، وَلَكِنْ هُشَيْمٌ قَدْ سَوَّى الْإِسْنَادَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِ الْخَطِيبِ الَّذِي أَسْلَفْتُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْقِسْمِ: “ أَوْ صَغِيرُ السِّنِّ “. وَيَلْتَحِقُ بِتَدْلِيسِ التَّسْوِيَةِ فِي مَزِيدِ الذَّمِّ مَا حَكَيْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَنْ فِطْرٍ. تَتِمَّةٌ: الْمُدَلِّسُونَ مُطْلَقًا عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ، بَيَّنَهَا شَيْخُنَا- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي تَصْنِيفِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِمُ، الْمُسْتَمَدِّ فِيهِ مِنْ جَامِعِ التَّحْصِيلِ لِلْعَلَائِيِّ وَغَيْرِهِ: مَنْ لَمْ يُوصَفْ بِهِ إِلَّا نَادِرًا، كَالْقَطَّانِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، مَنْ كَانَ تَدْلِيسُهُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا رَوَى مَعَ إِمَامَتِهِ، وَجَلَالَتِهِ، وَتَحَرِّيهِ كَالسُّفْيَانَيْنِ، مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِالثِّقَاتِ، مَنْ كَانَ أَكْثَرُ تَدْلِيسِهِ عَنِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ، مَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ ضَعْفٌ بِأَمْرٍ آخَرَ. [تَدْلِيسُ الْمَتْنِ وَالْبِلَادِ] ثُمَّ إِنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا تَدْلِيسُ الْمَتْنِ فَلَمْ يَذْكُرُوهُ، وَهُوَ الْمُدْرَجُ، وَتَعَمُّدُهُ حَرَامٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، بَلْ فَسَّرَهُ الرُّويَانِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ بِتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، يَعْنِي بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا. وَلَهُمْ أَيْضًا تَدْلِيسُ الْبِلَادِ، كَأَنْ يَقُولَ الْمِصْرِيُّ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ بِالْعِرَاقِ، يُرِيدُ مَوْضِعًا بِأَخْمِيمَ، أَوْ بِزُبَيْدٍ، يُرِيدَ مَوْضِعًا بِقُوصَ، أَوْ بِزُقَاقِ حَلَبَ، يُرِيدُ مَوْضِعًا بِالْقَاهِرَةِ، أَوْ بِالْأَنْدَلُسِ، يُرِيدُ مَوْضِعًا بِالْقَرَافَةِ، أَوْ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، مُوهِمًا دِجْلَةَ، وَهُوَ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِإِيهَامِهِ الْكَذِبَ بِالرِّحْلَةِ، وَالتَّشَبُّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ.
161- وَذُو الشُّذُوذِ مَا يُخَالِفُ الثِّقَهْ فِيهِ *** الْمَلَا فَالشَّافِعِيُّ حَقَّقَهْ 162- وَالْحَاكِمُ الْخِلَافَ فِيهِ مَا اشْتَرَطْ *** وَلِلْخَلِيلِيْ مُفْرَدَ الرَّاوِي فَقَطْ 163- وَرَدَّ مَا قَالَا بِفَرْدِ الثِّقَهْ *** كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَا وَالْهِبَهْ 164- وَقَوْلِ مُسْلِمٍ رَوَى الزُّهْرِيُّ *** تِسْعِينَ فَرْدًا كُلُّهَا قَوِيُّ 165- وَاخْتَارَ فِيمَا لَمْ يُخَالَفْ أَنَّ مَنْ *** يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ فَفَرْدُهُ حَسَنْ 166- أَوْ بَلَغَ الضَّبْطَ فَصَحِّحْ أَوْ بَعُدْ *** عَنْهُ فَمِمَّا شَذَّ فَاطْرَحْهُ وَرُدْ. لَمَّا كَانَ تَعَارُضُ الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ مُفْتَقِرًا لِبَيَانِ الْحُكْمِ فِيمَا يُقَابِلُ الرَّاجِحَ مِنْهُمَا، نَاسَبَ بَعْدَ التَّدْلِيسِ الْمُقَدَّمِ مُنَاسَبَتُهُ ذِكْرُ الشَّاذِّ ثُمَّ الْمُنْكَرِ. [مَعْنَى الشَّاذِّ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا وَالْخِلَافُ فِيهِ] وَالشَّاذُّ لُغَةً: الْمُنْفَرِدُ عَنِ الْجُمْهُورِ، يُقَالُ: شَذَّ يَشُذُّ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا شُذُوذًا إِذَا انْفَرَدَ، (وَذُو الشُّذُوذِ) يَعْنِي الشَّاذَّ. اصْطِلَاحًا: (مَا يُخَالِفُ) الرَّاوِي (الثِّقَةُ فِيهِ) بِالزِّيَادَةِ أَوِ النَّقْصِ فِي السَّنَدِ أَوْ فِي الْمَتْنِ (الْمَلَا) بِالْهَمْزِ وَسُهِّلَ تَخْفِيفًا، أَيِ الْجَمَاعَةَ الثِّقَاتِ مِنَ النَّاسِ؛ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. (فَالشَّافِعِيُّ) بِهَذَا التَّعْرِيفِ (حَقَّقَهُ)، وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِلْوَاحِدِ الْأَحْفَظِ كَافِيَةٌ فِي الشُّذُوذِ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ؛ حَيْثُ قَالَ: (فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ لِذَلِكَ وَأَضْبَطُ، كَانَ مَا انْفَرَدَ بِهِ شَاذًّا مَرْدُودًا). وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا: (فَإِنْ خُولِفَ- أَيِ: الرَّاوِي- بِأَرْجَحَ مِنْهُ لِمَزِيدِ ضَبْطٍ أَوْ كَثْرَةِ عَدَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ- فَالرَّاجِحُ يُقَالُ لَهُ: الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ وَهُوَ الْمَرْجُوحُ، يُقَالُ لَهُ: الشَّاذُّ). وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِي تَعَارُضِ الْوَصْلِ وَالرَّفْعِ مَعَ الْإِرْسَالِ وَالْوَقْفِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ إِنْ كَانَ مَنْ أَرْسَلَ أَوْ وَقَفَ مِنَ الثِّقَاتِ أَرْجَحَ قُدِّمَ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ. مِثَالُ الشُّذُوذِ فِي السَّنَدِ: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَوْسَجَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا مَوْلًى هُوَ أَعْتَقَهُ.... الْحَدِيثَ. فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ رَوَاهُ عَنْ عَمْرٍو مُرْسَلًا بِدُونِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ قَدْ تَابَعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى وَصْلِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْمَحْفُوظُ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ هَذَا، مَعَ كَوْنِ حَمَّادٍ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ، وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ رِوَايَةَ مَنْ هُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْهُ. وَمِثَالُهُ فِي الْمَتْنِ: زِيَادَةُ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي حَدِيثِ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ بِدُونِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ بِهَا مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. قَالَ الْأَثْرَمُ: وَالْأَحَادِيثُ إِذَا كَثُرَتْ كَانَتْ أَثْبَتَ مِنَ الْوَاحِدِ الشَّاذِّ، وَقَدْ يَهِمُ الْحَافِظُ أَحْيَانًا. عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّحَ حَدِيثَ مُوسَى هَذَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَةٍ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لِإِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى حَاضِرِي عَرَفَةَ وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَيَّدَ التَّفَرُّدَ بِقَيْدَيْنِ: الثِّقَةِ، وَالْمُخَالَفَةِ. (وَالْحَاكِمُ) صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ وَالْمَعْرِفَةِ (الْخِلَافُ) لِلْغَيْرِ (فِيهِ) أَيْ: فِي الشَّاذِّ (مَا اشْتَرَطَ) بَلْ هُوَ عِنْدَهُ مَا انْفَرَدَ بِهِ ثِقَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِمُتَابِعٍ لِذَلِكَ الثِّقَةِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى قَيْدِ الثِّقَةِ وَحْدَهُ، وَبَيَّنَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُغَايِرُ الْمُعَلَّلَ؛ مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَاكَ وَقَفَ عَلَى عِلَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى جِهَةِ الْوَهْمِ فِيهِ، مِنْ إِدْخَالِ حَدِيثٍ فِي حَدِيثٍ، أَوْ وَصْلٍ مُرْسَلٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي. وَالشَّاذُّ لَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى عِلَّةٍ أَيْ مُعَيَّنَةٍ؛ وَهَذَا يُشْعِرُ بِاشْتِرَاكِ هَذَا مَعَ ذَاكَ فِي كَوْنِهِ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ النَّاقِدِ أَنَّهُ غَلَطٌ، وَقَدْ تَقْصُرُ عِبَارَتُهُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَاهُ، وَإِنَّهُ مِنْ أَغْمِضِ الْأَنْوَاعِ وَأَدَقِّهَا، وَلَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْفَهْمَ الثَّاقِبَ، وَالْحِفْظَ الْوَاسِعَ، وَالْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ بِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، وَالْمَلَكَةَ الْقَوِيَّةَ بِالْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ. وَهُوَ كَذَلِكَ، بَلِ الشَّاذُّ- كَمَا نُسِبَ لِشَيْخِنَا- أَدَقُّ مِنَ الْمُعَلَّلِ بِكَثِيرٍ. ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا التَّعْرِيفِ، بَلْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: “ إِنَّهُ مَذْهَبُ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ “. (وَلِلْخَلِيلِيِّ) نِسْبَةً لِجَدِّهِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَلِيلِ الْقَزْوِينِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِيهِ (مُفْرَدُ الرَّاوِي فَقَطْ) ثِقَةً كَانَ أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ، خَالَفَ أَوْ لَمْ يُخَالِفْ، فَمَا انْفَرَدَ بِهِ الثِّقَةُ يُتَوَقَّفُ فِيهِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَكِنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا، وَمَا انْفَرَدَ بِهِ غَيْرُ الثِّقَةِ فَمَتْرُوكٌ. وَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْخَلِيلِيَّ يُسَوِّي بَيْنَ الشَّاذِّ وَالْفَرْدِ الْمُطْلَقِ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّاذِّ الصَّحِيحُ وَغَيْرُ الصَّحِيحِ، فَكَلَامُهُ أَعَمُّ، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَلَامُ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ تَفَرُّدَ غَيْرِ الثِّقَةِ، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّحِيحِ الشَّاذُّ وَغَيْرُ الشَّاذِّ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ فَرْدًا [وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ فَرْدًا]، بَلِ اعْتَمَدَ ذَلِكَ فِي صَنِيعِهِ؛ حَيْثُ ذَكَرَ فِي أَمْثِلَةِ الشَّاذِّ حَدِيثًا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي حَكَمَ عَلَيْهِ بِالشُّذُوذِ. وَأَخَصُّ مِنْهُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ لِتَقْيِيدِهِ بِالْمُخَالَفَةِ، مَعَ كَوْنِهِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَرْجُوحٌ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الرَّاجِحَةَ أَوْلَى، وَهَلْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ؟ مَحَلُّ تَوَقُّفٍ، أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنَّهُ يَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ لَا فِي التَّسْمِيَةِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِالْمِثَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ مَعَ كَوْنِهِ فِي الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ شَاذًّا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ. [الرَّدُّ عَلَى الْحَاكِمِ وَالْخَلِيلِيِّ] (وَ) لَكِنْ (رَدَّ) ابْنُ الصَّلَاحِ (مَا قَالَا) أَيِ: الْحَاكِمُ وَالْخَلِيلِيُّ (بِفَرْدِ الثِّقَةِ) الْمُخَرَّجِ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ الْمُشْتَرَطِ فِيهِ نَفْيُ الشُّذُوذِ، لِكَوْنِ الْعَدَدِ غَيْرَ شَرْطٍ فِيهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بَلِ الصِّحَّةُ تُجَامِعُ الْغَرَابَةَ. وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ فِيهَا كَثِيرَةٌ؛ (كَـ) حَدِيثِ (النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَا) بِالْقَصْرِ لِلضَّرُورَةِ (وَالْهِبَةِ)؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، حَتَّى قَالَ مُسْلِمٌ عَقِبَهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِيَالٌ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّاعِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي حِصَارِ الطَّائِفِ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ [الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ] عَنْ عَمْرٍو، وَعَمْرٌو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. (وَ) كَذَا رَدَّهُ بِـ (قَوْلِ مُسْلِمٍ) هُوَ ابْنُ الْحَجَّاجِ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ (صَحِيحِهِ) (رَوَى الزُّهْرِيُّ) نَحْوَ (تِسْعِينَ) بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ (فَرْدًا) لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي رِوَايَتِهَا (كُلُّهَا) إِسْنَادُهَا (قَوِيُّ) هَذَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَوَابِ عَنِ الْحَاكِمِ بِمَا أَشْعَرَ بِهِ اقْتِصَارُهُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعَلَّلِ؛ مِنْ كَوْنِ الشَّاذِّ أَيْضًا يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ النَّاقِدِ أَنَّهُ غَلَطٌ؛ حَيْثُ يُقَالُ: مَا فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْأَفْرَادِ مُنْتَفٍ عَنْهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْخَلِيلِيُّ فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ أَيْضًا، لَا سِيَّمَا وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَشْتَرِطُ الْعَدَدَ فِي الصَّحِيحِ. [الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ] (وَ) بَعْدَ أَنْ رَدَّ ابْنُ الصَّلَاحِ كَلَامَهُمَا (اخْتَارَ) مِمَّا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَئِمَّةِ (فِيمَا لَمْ يُخَالِفْ) الثِّقَةُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا أَتَى بِشَيْءٍ انْفَرَدَ بِهِ (أَنَّ مَنْ يَقْرُبُ مِنْ ضَبْطٍ) تَامٍّ (فَفَرْدُهُ حَسَنٌ). وَمِنْهُ حَدِيثُ إِسْرَائِيلَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ، قَالَ: غُفْرَانَكَ، فَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ تَخْرِيجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ يُوسُفَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ. قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا حَدِيثَ عَائِشَةَ (أَوْ بَلَغَ الضَّبْطَ) التَّامَّ (فَصَحِّحْ) فَرْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثَالُهُ، (أَوْ بَعُدَ) عَنْهُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ ضَابِطًا أَصْلًا (فـَ) فَرْدُهُ (مِمَّا شَذَّ فَاطْرَحْهُ وَرُدَّ) مَا وَقَعَ لَكَ مِنْهُ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. وَحِينَئِذٍ فَالشَّاذُّ الْمَرْدُودُ- كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ- قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحَدِيثُ الْفَرْدُ الْمُخَالِفُ، وَهُوَ الَّذِي عَرَّفَهُ الشَّافِعِيُّ. وَثَانِيهِمَا: الْفَرْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي رَاوِيهِ مِنَ الثِّقَةِ وَالضَّبْطِ مَا يَقَعُ جَابِرًا لِمَا يُوجِبُ التَّفَرُّدَ وَالشُّذُوذَ مِنَ النَّكَارَةِ وَالضَّعْفِ. انْتَهَى. وَتَسْمِيَةُ مَا انْفَرَدَ بِهِ غَيْرُ الثِّقَةِ شَاذًّا كَتَسْمِيَةِ مَا كَانَ فِي رُوَاتِهِ ضَعِيفٌ أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مُعَلَّلًا، وَذَلِكَ فِيهِمَا مُنَافٍ لِغُمُوضِهِمَا، فَالْأَلْيَقُ فِي حَدِّ الشَّاذِّ مَا عَرَّفَهُ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَلِذَا اقْتَصَرَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْأَلْيَقَ فِي الْحَسَنِ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ.
|